04 لا تبلغه الأوهام ولا تدركه الأفهام

وَاعْلَمْ أَنَّ الْمُخَاطَبَ لَا يَفْهَمُ الْمَعَانِيَ الْمُعَبَّرَ عَنْهَا بِاللَّفْظِ إِلَّا أَنْ يَعْرِفَ عَيْنَهَا أَوْ مَا يُنَاسِبُ عَيْنَهَا، وَيَكُونُ بَيْنَهَا قَدْرٌ مُشْتَرَكٌ وَمُشَابَهَةٌ فِي أَصْلِ الْمَعْنَى، وَإِلَّا فَلَا يُمْكِنُ تَفَهُّمُ الْمُخَاطَبِينَ بِدُونِ هَذَا قَطُّ، حَتَّى فِي أَوَّلِ تَعْلِيمِ مَعَانِي الْكَلَامِ بِتَعْلِيمِ مَعَانِي الْأَلْفَاظِ الْمُفْرَدَةِ، مِثْل: تَرْبِيَة الصَّبِيِّ الَّذِي يُعَلَّمُ الْبَيَانَ وَاللُّغَةَ، يُنْطَقُ لَهُ بِلَفْظِ الْمُفْرَدِ له، وَيُشَارُ لَهُ إِلَى مَعْنَاهُ إِنْ كَانَ مَشْهُودًا بِالْإِحْسَاسِ الظَّاهِرِ أَوِ الْبَاطِنِ، فَيُقَالُ لَهُ: لَبَنٌ، خُبْزٌ، أُمٌّ، أَبٌ، سَمَاءٌ، أَرْضٌ، شَمْسٌ، قَمَرٌ، مَاءٌ، وَيُشَارُ لَهُ مَعَ الْعِبَارَةِ إِلَى كُلِّ مُسَمًّى مِنْ هَذِهِ الْمُسَمَّيَاتِ، وَإِلَّا لَمْ يَفْهَمْ مَعْنَى اللَّفْظِ وَمُرَادَ النَّاطِقِ بِهِ، وَلَيْسَ أَحَدٌ مِنْ بَنِي آدَمَ يَسْتَغْنِي عَنِ التَّعْلِيمِ السَّمْعِيِّ، كَيْفَ وَآدَمُ أَبُو الْبَشَرِ أَوَّلُ مَن عَلَّمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أُصُولَ الْأَدِلَّةِ السَّمْعِيَّةِ، وَهِيَ الْأَسْمَاءُ كُلُّهَا، وَكَلَّمَهُ وَعَلَّمَهُ بِخِطَابِ الْوَحْيِ مَا لَمْ يَعْلَمْهُ بِمُجَرَّدِ الْعَقْلِ؟

فَدَلَالَةُ اللَّفْظِ عَلَى الْمَعْنَى هِيَ بِوَاسِطَةِ دَلَالَتِهِ عَلَى مَا عَنَاهُ الْمُتَكَلِّمُ وَأَرَادَهُ، وَإِرَادَتُهُ وَعِنَايَتُهُ فِي قَلْبِهِ، ولَا يُعْرَفُ بِاللَّفْظِ ابْتِدَاءً، وَلَكِنْ لَا يُعْرَفُ الْمَعْنَى بِغَيْرِ اللَّفْظِ حَتَّى يَعْلَمَ أَوَّلًا أَنَّ هَذَا الْمَعْنَى الْمُرَادَ هُوَ الَّذِي يُرَادُ بِذَلِكَ اللَّفْظِ وَيُعْنَى بِهِ، فَإِذَا عَرَفَ ذَلِكَ ثُمَّ سَمِعَ اللَّفْظَ مَرَّةً ثَانِيَةً عَرَفَ الْمَعْنَى الْمُرَادَ بِلَا إِشَارَةٍ إِلَيْهِ.

الشيخ: والمقصود من هذا كله بيان أنَّ أسماء الرب عزَّ وجل وصفاته لها أصول لبني آدم معروفة؛ ولهذا عرفوا المعنى: فالسميع معروف عند بني آدم، ما هو السميع؟ والعليم كذلك، والبصير، والقادر، أراد، شاء، اليد، الوجه، جنس هذه الأصول معروفة، فإذا جاءت في صفات الله جلَّ وعلا: السميع العليم، والعزيز الحكيم، وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ [الرحمن:27]، ظهر للمُخاطب هذه المعاني مما عرفه سابقًا في لغة العرب التي يُخاطب بها قومه، ويُخاطبه بها قومه، وهكذا في اللُّغات الأخرى التي يتخاطبون بها، فإنَّ لها أناسًا يعرفون هذه المعاني، ولكن لا يلزم أن تكون المعاني في مثل تلك المعاني من كل الوجوه، لكن فيه التَّشابه في الأصل -أصل المعنى- ولا يلزم إذا قلت: أن الذَّرة سميعة بصيرة، وأن الإنسان سميع بصير، لا يلزم من هذا أن يكون الإنسانُ شبيهًا بالذرة، أو الذرة شبيهة بالإنسان، وهكذا أشباه ذلك، فإن أكمل التَّفاوت موجود حتى في المخلوقات، تفاوت عظيم بين الذرة وبين الإنسان، وبين البعير وبين الذرة، وأشباه ذلك.

فالتفاوت الذي بين أسماء الله وصفاته وبين صفات المخلوقين أعظم وأكبر، فلا يلتقي هذا مع هذا، بل بينهما بون عظيم، وإن كان أصل الاشتراك في المعاني معروفًا؛ إذ به عُرف المعنى، فالسمع معروف للأصوات، والبصر للمرئيات، بهذا يُعرف المعنى: وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ [الحج:61]، معناه أنه يسمع الأصوات، ويرى الأشياء، كما أن ابن آدم يسمع ويرى، ولكن ليس السميع كالسميع، وليس البصير كالبصير، وهكذا كونه عليمًا والإنسان عليم، فالله يُسمَّى: عالمًا، والله جلَّ وعلا قال: وَأُولُو الْعِلْمِ [آل عمران:18]، ولكن ليس العليم كالعليم، وهكذا العبد له إرادة: مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ [آل عمران:152]، وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ [الإنسان:30]، هذا له مشيئة، وهذا له مشيئة، هذا له إرادة، وهذا له إرادة، معروف المعنى ما هو، لكن ليست إرادةُ الله الآتي فيها كل شيءٍ، وهو قادر على كل شيءٍ؛ مثل إرادة المخلوق الضَّعيفة المحدودة، وهكذا بقية الصِّفات.

وهذا الذي اشتبه على الجهمية والمعتزلة، وظنوا أنَّ هذا القدر المشترك، وأن هذا الأصل الذي هو المضاف أنَّ هذا يُوجب التَّشبيه؛ فأبطلوا هذا ونفوه حتى عطَّلوا الله من صفاته؛ حذرًا من هذا التَّشبيه بزعمهم.

وأولئك الجهلة الآخرون ظنوا أنَّ هذا الأصل المشترك وهذا القدر المشترك يُوجب التَّشبيه فقالوا: يد كأيدينا، ووجه كوجوهنا، وعلم كعلومنا، وسمع كأسماعنا. فوقعوا في التَّشبيه الباطل الذي أبطله الله بقوله: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى:11]، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ [الإخلاص:4]، فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ [النحل:74]، فهؤلاء حادوا عن الصواب لغلوهم في الإثبات، والجهمية وأشباههم حادوا عن الصواب لغلوهم في التَّنزيه، فلا أفلح هؤلاء ولا هؤلاء.

أما أهل السنة ففازوا بالتوفيق، وفازوا بالفلاح، وأثبتوا القدر المشترك، وأثبتوا الأصول، ونفوا المشابهة والتَّمثيل.

وَإِذا كَانَتِ الْإِشَارَةُ إِلَى مَا يُحَسُّ بِالْبَاطِنِ، مِثْل: الْجُوعِ وَالشِّبَعِ، وَالرِّيِّ وَالْعَطَشِ، وَالْحُزْنِ وَالْفَرَحِ، فَإِنَّهُ لَا يَعْرِفُ اسْمَ ذَلِكَ حَتَّى يَجِدَهُ مِنْ نَفْسِهِ، فَإِذَا وَجَدَهُ أُشير له إِلَيْهِ، وَعُرِّفَ أَنَّ اسْمَهُ كَذَا، وَالْإِشَارَةُ تَارَةً تَكُونُ إِلَى جُوعِ نَفْسِهِ، أَوْ عَطَشِ نَفْسِهِ، مِثْل: أَنْ يَرَاهُ أَنَّهُ قَدْ جَاعَ فَيَقُولُ لَهُ: جُعْتَ، أَنْتَ جَائِعٌ.

الشيخ: جعت من جاع، يجوع ........

فَيَسْمَعُ اللَّفْظَ وَيَعْلَمُ مَا عَيَّنَهُ بِالْإِشَارَةِ أَوْ مَا يَجْرِي مَجْرَاهَا مِنَ الْقَرَائِنِ الَّتِي تُعَيِّنُ الْمُرَادَ، مِثْل: نَظَرِ أُمِّهِ إِلَيْهِ فِي حَالِ جُوعِهِ، وَإِدْرَاكِهِ بِنَظَرِهَا أَوْ نَحْوِهِ أَنَّهَا تَعْنِي جُوعَهُ، أَوْ يَسْمَعُهُمْ يُعَبِّرُونَ بِذَلِكَ عَنْ جُوعِ غَيْرِهِ.

وإِذَا عُرِفَ ذَلِكَ فَالْمُخَاطَبُ الْمُتَكَلِّمُ.

الشيخ: ...... المخاطَب غير المتكلم المُخاطَب والمتكلم أو المخاطِب المتكلم.

إِذَا أَرَادَ بَيَانَ مَعَانٍ فَلَا يَخْلُو إِمَّا أَنْ يَكُونَ مِمَّا أَدْرَكَهَا الْمُخَاطَبُ الْمُسْتَمِعُ بِإِحْسَاسِهِ وَشُهُودِهِ، أَوْ بِمَعْقُولِهِ، وَإِمَّا أَنْ لَا يَكُونَ كَذَلِكَ.

فَإِنْ كَانَتْ مِنَ الْقِسْمَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ لَمْ تَحْتَجْ إِلَّا إِلَى مَعْرِفَةِ اللُّغَةِ؛ بِأَنْ يَكُونَ قَدْ عَرَفَ مَعَانِيَ الْأَلْفَاظِ الْمُفْرَدَةِ، وَمَعْنَى التَّرْكِيبِ، فَإِذَا قِيلَ لَهُ بَعْدَ ذَلِكَ: أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ ۝ وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ [البلد:8- 9]، أَوْ قِيلَ لَهُ: وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [النحل:78]، وَنَحْو ذَلِكَ، فَهِمَ الْمُخَاطَبُ بِمَا أَدْرَكَهُ بِحِسِّهِ.

وَإِنْ كَانَتِ الْمَعَانِي الَّتِي يُرَادُ تَعْرِيفُهُ بِهَا لَيْسَتْ مِمَّا أَحَسَّهُ وَشَهِدَهُ بِعَيْنِهِ، وَلَا بِحَيْثُ صَارَ لَهُ مَعْقُولٌ كُلِّيٌّ يَتَنَاوَلُهَا حَتَّى يَفْهَمَ بِهِ الْمُرَادَ بِتِلْكَ الْأَلْفَاظِ، بَلْ هِيَ مِمَّا لَا يُدْرِكُهُ بِشَيْءٍ مِنْ حَوَاسِّهِ الْبَاطِنَةِ وَالظَّاهِرَةِ، فَلَا بُدَّ فِي تَعْرِيفِهِ مِنْ طَرِيقِ الْقِيَاسِ وَالتَّمْثِيلِ وَالِاعْتِبَارِ بِمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَعْقُولَاتِ الْأُمُورِ الَّتِي شَاهَدَهَا مِنَ التَّشَابُهِ وَالتَّنَاسُبِ، وَكُلَّمَا كَانَ التَّمْثِيلُ أَقْوَى كَانَ الْبَيَانُ أَحْسَنَ، وَالْفَهْمُ أَكْمَلَ.

.........

فَالرَّسُولُ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ لَمَّا بَيَّنَ لَنَا أُمُورًا لَمْ تَكُنْ مَعْرُوفَةً قَبْلَ ذَلِكَ، وَلَيْسَ فِي لُغَتِهِمْ لَفْظٌ يَدُلُّ عَلَيْهَا بِعَيْنِهَا؛ أَتَى بِأَلْفَاظٍ تُنَاسِبُ مَعَانِيهَا تِلْكَ الْمَعَانِيَ، وَجَعَلَهَا أَسْمَاءَ لَهَا، فَيَكُونُ بَيْنَهَا قَدْرٌ مُشْتَرَكٌ: كَالصَّلَاةِ، وَالزَّكَاةِ، وَالصَّوْمِ، وَالْإِيمَانِ، وَالْكُفْرِ، وَكَذَلِكَ لَمَّا خبرنَا بِأُمُورٍ تَتَعَلَّقُ بِالْإِيمَانِ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَهُمْ لَمْ يَكُونُوا يَعْرِفُونَهَا قَبْلَ ذَلِكَ حَتَّى يَكُونَ لَهُمْ أَلْفَاظٌ تَدُلُّ عَلَيْهَا بِعَيْنِهَا؛ أَخَذَ مِنَ اللُّغَةِ الْأَلْفَاظَ الْمُنَاسِبَةَ لِتِلْكَ بِمَا تَدُلُّ عَلَيْهِ مِنَ الْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ بَيْنَ تِلْكَ الْمَعَانِي الْغَيْبِيَّةِ وَالْمَعَانِي الشُّهُودِيَّةِ الَّتِي كَانُوا يَعْرِفُونَهَا، وَقَرَنَ بِذَلِكَ مِنَ الْإِشَارَةِ وَنَحْوِهَا مَا يُعْلَمُ بِهِ حَقِيقَةُ الْمُرَادِ، كَتَعْلِيمِ الصَّبِيِّ، كَمَا قَالَ رَبِيعَةُ ابْنُ أَبِي عَبْدِالرَّحْمَنِ: "النَّاسُ فِي حُجُورِ عُلَمَائِهِمْ كَالصِّبْيَانِ فِي حُجُورِ آبَائِهِمْ".

وَأَمَّا مَا يُخْبِرُ بِهِ الرَّسُولُ مِنَ الْأُمُورِ الْغَائِبَةِ: فَقَدْ يَكُونُ مِمَّا أَدْرَكُوا نَظِيرَهُ بِحِسِّهِمْ وَعَقْلِهِمْ: كَإِخْبَارِهِمْ بِأَنَّ الرِّيحَ أَهْلَكَتْ عَادًا، فَإِنَّ عَادًا مِنْ جِنْسِهِمْ، وَالرِّيحَ مِنْ جِنْسِ رِيحِهِمْ، وَإِنْ كَانَتْ أَشَدَّ.

وَكَذَلِكَ غَرَقُ فِرْعَوْنَ فِي الْبَحْرِ، وَكَذَا بَقِيَّةُ الْأَخْبَارِ عَنِ الْأُمَمِ الْمَاضِيَةِ؛ وَلِهَذَا كَانَ الْإِخْبَارُ بِذَلِكَ فِيهِ عِبْرَةٌ لَنَا، كَمَا قَالَ تَعَالَى: لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ [يوسف:111].

وَقَدْ يَكُونُ الَّذِي يُخْبِرُ بِهِ الرَّسُولُ مَا لَمْ يُدْرِكُوا مِثْلَهُ الْمُوَافِقَ لَهُ فِي الْحَقِيقَةِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، لَكِنَّ فِي مُفْرَدَاتِهِ مَا يُشْبِهُ مُفْرَدَاتِهِمْ مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ؛ كَمَا إِذَا أَخْبَرَهُمْ عَنِ الْأُمُورِ الْغَيْبِيَّةِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، فَلَا بُدَّ أَنْ يَعْلَمُوا مَعْنًى مُشْتَرَكًا وشبهًا بَيْنَ مُفْرَدَاتِ تِلْكَ الْأَلْفَاظِ وَبَيْنَ مُفْرَدَاتِ الْأَلْفَاظِ مما عَلِمُوهُ فِي الدُّنْيَا بِحِسِّهِمْ وَعَقْلِهِمْ.

الشيخ: مثلما تقدم في: السميع والبصير، والقدير، والعليم، فإنَّ جنس هذه الأشياء معروفة معلومة لهم، ويعرفون قدرًا مميزًا بين هذه الأسماء، مُشتركًا بين هذه الأسماء، وإن كان الذي يختص بالله سبحانه خاصًّا به، وكذلك ما يكون للمخلوقين خاصًّا بهم، ولكن بين الجميع قدر مُشترك به فُهم المعنى.

كذلك ما في الجنة من الحرير، والحور العين، والرمان، والعنب، وأشباه ذلك، له وجوده في الدنيا، هذا القدر مُشترك: رمان ورمان، نخل ونخل، حرير وحرير، وإن كان الذي في الجنة لا يُشبه ما في الدنيا في الحقيقة، الذي في الجنة أعظم وأكمل مما في الدنيا، وأحسن وأنفع، ولكن جنس القدر المشترك عُرف به هذا من هذا، نعرف أنَّ الحرير غير الصوف، وغير القطن، وكذلك يعرف أنَّ ما في الجنة من العنب والرمان وأنواع الفواكه ليس من مثله في الدنيا، كما قال ابن عباسٍ: "ليس في الجنَّة مما في الدنيا إلا الأسماء"، الأسماء مُشتركة، أما الحقائق فغير الحقائق، الحقائق التي في الجنة أكمل وأعظم؛ فلبن الجنَّة غير لبن الدنيا، حور الجنة غير حور الدنيا، عسلها غير عسل الدنيا، وهكذا، إنما هي أسماء تجانس في اللفظ ما في الدنيا، وهناك بينهما قدر مُشترك؛ فالعسل شيء حلو، واللبن شيء معروف، والخمر شيء معروف، لكن ما في الدنيا غير ما في الآخرة في الجنة، لا يقتضي بولًا، ولا غائطًا، ولا مضرَّةً، والخمر لا تضر العقول، ولا تضر الأبدان، أما خمر الدنيا فتضر الأبدان والعقول، ولبن الدنيا وعسلها وفواكهها كلها تُسبب في الدنيا بولًا وغائطًا وأشياء أخرى، والذي في الجنة لا يُسبب ذلك، بل كله نعيم دائم، ليس فيه أذى، ولا يُفضي إلى غائطٍ، ولا بولٍ، ولا بصاقٍ، ولا مخاطٍ، ولا غير ذلك، بل إنما هو جشاء ورشح المسك بدون أي أذًى.

فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ الْمَعْنَى الَّذِي فِي الدُّنْيَا لَمْ يَشْهَدُوهُ بَعْدُ، وَيُرِيدُ أَنْ يَجْعَلَهُمْ يَشْهَدُوهُ مُشَاهَدَةً كَامِلَهً لِيَفْهَمُوا بِهِ الْقَدْرَ الْمُشْتَرَكَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَعْنَى الْغَائِبِ؛ أَشْهَدَهُمْ إِيَّاهُ، وَأَشَارَ لَهُمْ إِلَيْهِ، وَفَعَلَ قَوْلًا يَكُونُ حِكَايَةً لَهُ وَشَبَهًا بِهِ، يَعْلَمُ الْمُسْتَمِعُونَ أَنَّ مَعْرِفَتَهُمْ بِالْحَقَائِقِ الْمَشْهُودَةِ هِيَ الطَّرِيقُ الَّتِي يَعْرِفُونَ بِهَا الْأُمُورَ الْغَائِبَةَ.

فَيَنْبَغِي أَنْ تُعْرفَ هَذِهِ الدَّرَجَاتُ:

أَوَّلُهَا: إِدْرَاكُ الْإِنْسَانِ الْمَعَانِيَ الْحِسِّيَّةَ الْمُشَاهَدَةَ.

وَثَانِيهَا: عَقْلُهُ لِمَعَانِيهَا الْكُلِّيَّةِ.

وَثَالِثُهَا: تَعْرِيفُ الْأَلْفَاظِ الدَّالَّةِ عَلَى تِلْكَ الْمَعَانِي الْحِسِّيَّةِ وَالْعَقْلِيَّةِ.

فَهَذِهِ الْمَرَاتِبُ الثَّلَاثُ لَا بُدَّ مِنْهَا فِي كُلِّ خِطَابٍ، فَإِذَا أَخْبَرنَا عَنِ الْأُمُورِ الْغَائِبَةِ فَلَا بُدَّ مِنْ تَعْرِيفِنَا الْمَعَانِيَ الْمُشْتَرَكَةَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْحَقَائِقِ الْمَشْهُودَةِ، وَالِاشْتِبَاهَ الَّذِي بَيْنَهُمَا، وَذَلِكَ بِتَعْرِيفِنَا الْأُمُورَ الْمَشْهُودَةَ، ثُمَّ إِنْ كَانَتْ مِثْلَهَا لَمْ نَحْتَجْ إِلَى ذِكْرِ الْفَارِقِ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَصَصِ الْأُمَمِ، وَإِنْ لَمْ تكُنْ مِثْلَهَا بَيَّنَ ذَلِكَ بِذِكْرِ الْفَارِقِ، بِأَنْ يُقَالَ: لَيْسَ ذَلِكَ مِثْلَ هَذَا، وَنَحْو ذَلِكَ.

الشيخ: كما قال في حقِّ ذاته وصفاته: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ [الشورى:11]، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ [الإخلاص:4].

وَإِذَا تَقَرَّرَ انْتِفَاءُ الْمُمَاثَلَةِ كَانَتِ الْإِضَافَةُ وَحْدَهَا كَافِيَةً فِي بَيَانِ الْفَارِقِ.

الشيخ: إذا أضفت الشيء إلى الله فإنَّ العبد كافٍ، فقد تقرر انتفاء المماثلة .....، وقد تقرر أنَّ ما في الدنيا لا يُشبه ما في الآخرة، فإذا عرف هذه الأصول فنسبة الشيء إلى الله كافية في أنه ليس مجرد ذاتٍ؛ لأنه قد تقرر في الأصول أنه سبحانه لا يُشابه خلقَه: لا في ذاته، ولا في صفاته، وهكذا ما في الجنة لا يُشبه ما في الدنيا، وإنما هو الأسماء والقدر المشترك.

فإذا قيل: هذا من لبن الجنة، أو في الجنة كذا وكذا، فهو غير ما في الدنيا من ريح ذلك الشيء، فنعيم الدنيا غير نعيم الآخرة، ونساء الدنيا غير نساء الآخرة، ورمان الدنيا غير رمان الآخرة، وخمر الدنيا غير خمر الآخرة، وهكذا، فنسبتها إلى الجنة كافية في بيان الفرق.

وَانْتِفَاءُ التَّسَاوِي لَا يَمْنَعُ مِنْهُ وُجُودُ الْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ الَّذِي هُوَ مَدْلُولُ اللَّفْظِ الْمُشْتَرَكِ، وَبِهِ صِرْنَا نَفْهَمُ الْأُمُورَ الْغَائِبَةَ، وَلَوْلَا الْمَعْنَى الْمُشْتَرَكُ مَا أَمْكَنَ ذَلِكَ قَطُّ.

قَوْلُهُ: (وَلَا شَيْءَ يُعْجِزُهُ) لِكَمَالِ قُدْرَتِهِ، قَالَ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [البقرة:20]، وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا [الكهف:45]، وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا [فاطر:44]، وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ [البقرة:255]، لَا يَئُودُهُ أَيْ: لَا يُكْرِثُهُ، وَلَا يُثْقِلُهُ، وَلَا يُعْجِزُهُ.

فَهَذَا النَّفْيُ لِثُبُوتِ كَمَالِ ضِدِّهِ، وَكَذَلِكَ كَلُّ نَفْيٍ يَأْتِي فِي صِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ إِنَّمَا هُوَ لِثُبُوتِ كَمَالِ ضِدِّهِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا [الكهف:49] لِكَمَالِ عَدْلِهِ.

الشيخ: يعني: جميع النَّفي في الكتاب والسنة في حقِّ الله ليس نفيًا محضًا، ولكنه نفي يستلزم إثبات الكمال، نفي يستلزم إثبات الكمالات ..... إثبات كمال القدرة: لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ [البقرة:255] معناه: إثبات كمال الحياة والقيومية، نفي المشابهة معناه: إثبات صفة الكمال التام الذي لا يُشبهه شيء.

لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ [سبأ:3] لِكَمَالِ عِلْمِهِ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ [ق:38] لِكَمَالِ قُدْرَتِهِ، لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ لِكَمَالِ حَيَاتِهِ وَقَيُّومِيَّتِهِ، لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ [الأنعام:103] لِكَمَالِ جَلَالِهِ وَعَظَمَتِهِ وَكِبْرِيَائِهِ.

وَإِلَّا فَالنَّفْيُ الصِّرْفُ لَا مَدْحَ فِيهِ، أَلَا ترَى أَنَّ قَوْلَ الشَّاعِر:

قُبَيِّلَةٌ لَا يَغْدِرُونَ بِذِمَّةٍ وَلَا يَظْلِمُونَ النَّاسَ حَبَّةَ خَرْدَلِ

الشيخ: يعني: لعجزهم وخوفهم لا يقع منهم شيء من هذا.

لَمَّا اقْتَرَنَ بِنَفْيِ الْغَدْرِ وَالظُّلْمِ عَنْهُمْ مَا ذَكَرَهُ قَبْلَ هَذَا الْبَيْتِ وَبَعْدَهُ، وَتَصْغِيرُهُمْ بِقَوْلِهِ: "قُبَيِّلَةٌ" عُلِمَ أَنَّ الْمُرَادَ عَجْزُهُمْ وَضَعْفُهُمْ، لَا كَمَالُ قُدْرَتِهِمْ.

وَقَوْلُ الْآخَرِ:

لَكِنَّ قَوْمِي وَإِنْ كَانُوا ذَوِي عَدَدٍ لَيْسُوا مِنَ الشَّرِّ فِي شَيْءٍ وَإِنْ هَانَا

لَمَّا اقْتَرَنَ بِنَفْيِ الشَّرِّ عَنْهُمْ مَا يَدُلُّ عَلَى ذَمِّهِمْ؛ عُلِمَ أَنَّ الْمُرَادَ عَجْزُهُمْ وَضَعْفُهُمْ أَيْضًا.

وَلِهَذَا يَأْتِي الْإِثْبَاتُ لِلصِّفَاتِ فِي كِتَابِ اللَّهِ مُفَصَّلًا، وَالنَّفْيُ مُجْمَلًا، عَكْسَ طَرِيقَةِ أَهْلِ الْكَلَامِ الْمَذْمُومِ؛ فَإِنَّهُمْ يَأْتُونَ بِالنَّفْيِ الْمُفَصَّلِ وَالْإِثْبَاتِ الْمُجْمَلِ، يَقُولُونَ: لَيْسَ بِجِسْمٍ، وَلَا شَبَحٍ، وَلَا جُثَّةٍ، وَلَا صُورَةٍ، وَلَا لحمٍ، ولا دَمٍ، وَلَا شَخْصٍ، وَلَا جَوْهَرٍ، وَلَا عَرَضٍ، وَلَا لَوْنٍ، وَلَا رَائِحَةٍ، وَلَا طَعْمٍ، وَلَا بِجثةٍ.

تعليق: في الأصل .....، ويبدو أنَّ النقص سهو من الناسخ، وفي النسخ المطبوعة: بجثة .....

وَلَا بِذِي حَرَارَةٍ، وَلَا بُرُودَةٍ، وَلَا رُطُوبَةٍ، وَلَا يُبُوسَةٍ، وَلَا طُولٍ، وَلَا عَرْضٍ، وَلَا عُمْقٍ، وَلَا اجْتِمَاعٍ، وَلَا افْتِرَاقٍ، وَلَا يَتَحَرَّكُ، وَلَا يَسْكُنُ، وَلَا يَتَبَعَّضُ، وَلَيْسَ بِذِي أَبْعَاضٍ وَأَجْزَاءٍ وَجَوَارِح وَأَعْضَاءٍ، وَلَيْسَ بِذِي جِهَاتٍ، وَلَا بِذِي يَمِينٍ، وَلَا شِمَالٍ، وَأَمَامٍ، وَخَلْفٍ، وَفَوْقٍ، وَتَحْتٍ، وَلَا يُحِيطُ بِهِ مَكَانٌ، وَلَا يَجْرِي عَلَيْهِ زَمَانٌ، وَلَا يَجُوزُ عَلَيْهِ الْمُمَاسَّةُ، وَلَا الْعُزْلَةُ، وَلَا الْحُلُولُ فِي الْأَمَاكِنِ، وَلَا يُوصَفُ بِشَيْءٍ مِنْ صِفَاتِ الْخَلْقِ الدَّالَّةِ عَلَى حُدُوثِهِمْ، وَلَا يُوصَفُ بِأَنَّهُ مُتَنَاهٍ، وَلَا يُوصَفُ بِمِسَاحَةٍ، وَلَا ذَهَابٍ فِي الْجِهَاتِ، وَلَيْسَ بِمَحْدُودٍ، وَلَا وَالِدٍ، وَلَا مَوْلُودٍ، وَلَا تُحِيطُ بِهِ الْأَقْدَارُ، وَلَا تَحْجُبُهُ الْأَسْتَارُ، إِلَى آخِرِ مَا نَقَلَهُ أَبُو الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ عَنِ الْمُعْتَزِلَةِ.

الشيخ: كل هذا من النَّفي الذي لا أصلَ له، بل هذا من التَّكلف والتَّنطع الذي لا أصلَ له، أما قاعدة أهل السنة والجماعة أنهم لا ينفون عن الله عزَّ وجل ما لم يجئ الشرعُ بنفيه، ولا يُثبتون له ما لم يرد إثباته، بل أسماؤه وصفاته كلها توقيفية، ويجب أن يثبت لله عزَّ وجلَّ ما أثبته لنفسه، وأن يُنفى عنه ما نفاه عن نفسه، وأن يُمسك عمَّا سوى ذلك، فلا يأتي الإنسانُ بشيءٍ من كيسه؛ لا بنفي، ولا بإثبات، بل يتوقف عمَّا لم ترد به النصوص، فينفي ما نفاه الله ورسوله، ويُثبت ما أثبته الله ورسوله، ويسكت عمَّا سوى ذلك.

قال الإمامُ أحمد رحمه الله: لا يُوصف الله إلا بما وصف به نفسه، أو وصفه به رسوله عليه الصلاة والسلام، لا يتجاوز القرآن والحديث.

وأهل الكلام لما ضيَّعوا الأصول حُرموا الوصول إلى الخير، ووقعوا في أشياء أوجدت في النفس الشرّ والقيل والقال، وهم في غنية عن ذلك، قد حملهم جهلهم وضلالهم وغلوهم في التَّنزيه حتى وقعوا في التَّعطيل.

س: ولا بجثة معناها؟

ج: يعني: لا يمثل.

وَفِي هَذِهِ الْجُمْلَةِ حَقٌّ وَبَاطِلٌ، وَيَظْهَرُ ذَلِكَ لِمَنْ يَعْرِفُ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ، وَهَذَا النَّفْيُ الْمُحددُ مَعَ كَوْنِهِ لَا مَدْحَ فِيهِ، فِيهِ إِسَاءَةُ أَدَبٍ؛ فَإِنَّكَ لَوْ قُلْتَ لِلسُّلْطَانِ: أَنْتَ لَسْتَ بِزَبَّالٍ، وَلَا كَسَّاحٍ، وَلَا حَجَّامٍ، وَلَا حَائِكٍ! لَأَدَّبَكَ عَلَى هَذَا الْوَصْفِ وَإِنْ كُنْتَ صَادِقًا، وَإِنَّمَا تَكُونُ مَادِحًا إِذَا أَجْمَلْتَ النَّفْيَ فَقُلْتَ: أَنْتَ لَسْتَ مِثْلَ أَحَدٍ مِنْ رَعِيَّتِكَ، أَنْتَ أَعْلَى مِنْهُمْ وَأَشْرَفُ وَأَجَلُّ. فَإِذَا أَجْمَلْتَ فِي النَّفْيِ أَجْمَلْتَ فِي الْأَدَبِ.

وَالتَّعْبِيرُ عَنِ الْحَقِّ بِالْأَلْفَاظِ الشَّرْعِيَّةِ النَّبَوِيَّةِ الْإِلَهِيَّةِ هُوَ سَبِيلُ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ.

وَالْمُعَطِّلَةُ يُعْرِضُونَ عَمَّا قَالَهُ الشَّارِعُ مِنَ الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ، وَلَا يَتَدَبَّرُونَ مَعَانِيَهَا، وَيَجْعَلُونَ مَا ابْتَدَعُوهُ مِنَ الْمَعَانِي وَالْأَلْفَاظِ هُوَ الْمُحْكَمَ الَّذِي يَجِبُ اعْتِقَادُهُ وَاعْتِمَادُهُ.

وَأَمَّا أَهْلُ الْحَقِّ وَالسُّنَّةِ وَالْإِيمَانِ فَيَجْعَلُونَ مَا قَالَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ هُوَ الْحَقَّ الَّذِي يَجِبُ اعْتِقَادُهُ وَاعْتِمَادُهُ، وَالَّذِي قَالَهُ هَؤُلَاءِ إِمَّا أَنْ يُعْرِضُوا عَنْهُ إِعْرَاضًا جمليًّا، أَوْ يُبَيِّنُوا حَالَهُ تَفْصِيلًا، وَيُحْكَمُ عَلَيْهِ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، لَا يُحْكَمُ بِهِ عَلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ.

...........

وَالْمَقْصُودُ: أَنَّ غَالِبَ عَقَائِدِهِمُ السُّلُوبُ: "لَيْسَ بِكَذَا"، وَأَمَّا الْإِثْبَاتُ فَهُوَ قَلِيلٌ، وَهِيَ أَنَّهُ عَالِمٌ قَادِرٌ حَيٌّ، وَأَكْثَرُ النَّفْيِ الْمَذْكُورِ لَيْسَ مُتَلَقًّى عَنِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَلَا عَنِ الطُّرُقِ الْعَقْلِيَّةِ الَّتِي سَلَكَهَا غَيْرُهُمْ مِنْ مُثْبِتَةِ الصِّفَاتِ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ [الشورى:11]، فَفِي هَذَا الْإِثْبَاتِ مَا يُقَرِّرُ مَعْنَى النَّفْيِ، فَفُهِمَ أَنَّ الْمُرَادَ انْفِرَادُهُ سُبْحَانَهُ بِصِفَاتِ الْكَمَالِ، فَهُوَ مَوْصُوفٌ بِمَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ، وَوَصَفَهُ بِهِ رُسُلُهُ، لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ فِي صِفَاتِهِ، وَلَا فِي أَسْمَائِهِ، وَلَا فِي أَفْعَالِهِ، مِمَّا أَخْبَرَنَا بِهِ مِنْ صِفَاتِهِ، وَلَهُ صِفَاتٌ لَمْ يَطَّلِعْ عَلَيْهَا أَحَدٌ مِنْ خَلْقِهِ، كَمَا قَالَ رَسُولُهُ الصَّادِقُ ﷺ فِي دُعَاءِ الْكَرْبِ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ بِكُلِّ اسْمٍ هُوَ لَكَ سَمَّيْتَ بِهِ نَفْسَكَ، أَوْ أَنْزَلْتَهُ فِي كِتَابِكَ، أَوْ عَلَّمْتَهُ أَحَدًا مِنْ خَلْقِكَ، أَوِ اسْتَأْثَرْتَ بِهِ فِي عِلْمِ الْغَيْبِ عِنْدَكَ؛ أَنْ تَجْعَلَ الْقُرْآنَ الْعَظِيمَ رَبِيعَ قَلْبِي، وَنُورَ صَدْرِي، وَجِلَاءَ حُزْنِي، وَذَهَابَ هَمِّي وَغَمِّي.

الشيخ: وغمي؟

الطالب: نعم: همي وغمي.

الشيخ: المعروف في الرواية: وذهاب همي فقط، عليه حاشية؟

الطالب: صحيح، وإن أعلَّه الذهبي بجهالة أبي سلمة، وتبعته عليه برهة من الزمن، فقد تبين لي فيما بعد أنَّ أبا سلمة هذا ثقة معروف، وأن إسناده متصل صحيح في تحقيقٍ أجريته عليه، لا أظن أحدًا سبقني إليه، أودعته في الأحاديث الصحيحة (197).

الشيخ: .............

وَسَيَأْتِي التَّنْبِيهُ عَلَى فَسَادِ طَرِيقَتِهِمْ فِي الصِّفَاتِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

الشيخ: وهذا الذي قاله الشارحُ كلام جيد، قد نبَّه عليه أهلُ العلم قبله، وقد ردَّ في ذلك أيضًا أبو العباس شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، وردَّ على نُفاة الصِّفات من الجهمية والمعتزلة وغيرهم، وهكذا العلامة ابن القيم رحمه الله في كتبه: كالصواعق وغيرها، هذه عادتهم: السلوب في وصفهم ربهم، السلوب والنفي، والإثبات قليل: ليس بكذا، وليس بكذا، وليس بكذا، وليس بكذا، ضد طريقة الكتاب والسنة.

أما الكتاب والسنة فطريقتهما الإثبات المفصل والنفي المجمل: فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ [النحل:74]، لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى:11]، فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ [البقرة:22]، والذي يختص بالنفي قليل: لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ ۝ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ [الإخلاص:3- 4]، أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ [الأنعام:101]، في الغالب كله النَّفي المجمل المتضمن إثبات صفات الكمال، ليس نفيًا مجردًا، بل نفي يتضمن إثبات الكمالات لله ، مثل: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ يعني: لكماله وكونه موصوفًا بالمثل الأعلى، يعني: في أكمل الصِّفات: في علمه وقُدرته وسمعه وبصره وحياته وقيُّوميته، وغير ذلك.

فإذا تأمَّلت القرآن العظيم وجدته يصف الربَّ بالصفات المفصلة: هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ ۝ هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ ۝ هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [الحشر:22- 24]، وهكذا: إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [البقرة:173]، إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ [الحج:75]، إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ [التوبة:28]، إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ [الأنعام:139] إلى غير ذلك.

أما النفي المجمل فهو قليل: فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا [البقرة:22] يعني: لكماله ما له مثيل: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ لكماله ما له مثيل: لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ ۝ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ لكماله ليس له ولد، وليس بمولودٍ، وليس له كفؤ، فهذا نفي يتضمن إثبات غاية الكمال لله .

وبهذا تعلم أنَّ أهل الكلام ونُفاة الصِّفات والملحدين فيها في طريقٍ آخر غير طريق الكتاب والسنة، لهم طريق آخر، طريق مُفْضٍ إلى الهلاك، وإلى التعطيل والإلحاد وإنكار الذَّات بالكلية، نسأل الله العافية، إذ مَن لا صفةَ له لا وجودَ له.

وَلَيْسَ قَوْلُ الشَّيْخِ رَحِمَهُ اللَّهُ: (وَلَا شَيْءَ يُعْجِزُهُ) مِنَ النَّفْيِ الْمَذْمُومِ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا [فاطر:44].

فَنَبَّهَ فِي آخِرِ الْآيَةِ عَلَى دَلِيلِ انْتِفَاءِ الْعَجْزِ، وَهُوَ كَمَالُ الْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ، فَإِنَّ الْعَجْزَ إِنَّمَا يَنْشَأ إِمَّا مِنَ الضَّعْفِ عَنِ الْقِيَامِ بِمَا يُرِيدُهُ الْفَاعِلُ، وَإِمَّا مِنْ عَدَمِ عِلْمِهِ بِهِ، وَاللَّهُ تَعَالَى لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، وَقَدْ عُلِمَ بِبَدَاءةِ الْعُقُولِ وَالْفِطَرِ كَمَالُ قُدْرَتِهِ وَعِلْمِهِ، فَانْتَفَى الْعَجْزُ؛ لِمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْقُدْرَةِ مِنَ التَّضَادِّ؛ وَلِأَنَّ الْعَاجِزَ لَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ إِلَهًا، تَعَالَى اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ عُلُوًّا كَبِيرًا.

الشيخ: يعني: إذا تخلف المطلوب فهو إما لعجزٍ، وإما لجهلٍ، والله مُنزه عن ذا وذا، ليس بجاهلٍ، بل يعلم كل شيء، وليس بعاجزٍ من جهة القوة، بل هو القوي العظيم القادر على كل شيءٍ، فلهذا إذا أراد شيئًا إنما يقول له: كن فيكون؛ لكمال العلم، وكمال القُدرة، فلا ردَّ للإرادة والمشيئة، فإذا شاء الشيء كان ولا يتخلف، بخلاف المخلوق فإنه يتخلف مُراده كثيرًا؛ إما لجهله بالمطلوب وعدم علمه به، أو عدم إحاطته بعلمه، وإما لضعفٍ وعجزٍ في القوة لو أراد وعلم ما يستطيع؛ فلهذا يتخلف كثير من مُراده.

قَوْلُهُ: (وَلَا إِلَهَ غَيْرُهُ) هَذِهِ كَلِمَةُ التَّوْحِيدِ الَّتِي دَعَتْ إِلَيْهَا الرُّسُلُ كُلُّهُمْ، كَمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ، وَإِثْبَاتُ التَّوْحِيدِ بِهَذِهِ الْكَلِمَةِ بِاعْتِبَارِ النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ الْمُقْتَضِي لِلْحَصْرِ، فَإِنَّ الْإِثْبَاتَ الْمُجَرَّدَ قَدْ يَتَطَرَّقُ إِلَيْهِ الِاحْتِمَالُ؛ وَلِهَذَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ لَمَّا قَالَ تَعَالَى: وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ [البقرة:163] قَالَ بَعْدَهُ: لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ، فَإِنَّهُ قَدْ يَخْطُرُ بِبَالِ أَحَدٍ خَاطِرٌ شَيْطَانِيٌّ: هَبْ أَنَّ إِلَهَنَا وَاحِدٌ، فَلِغَيْرِنَا إِلَهٌ غَيْرُهُ، فَقَالَ تَعَالَى: لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ.

الشيخ: يعني: لا إله حق إلا الله، الناس لهم آلهة كثيرة: قريش لها آلهة، الفرس لهم آلهة، الروم لهم آلهة، بقية الوثنيين لهم آلهة لا يُحصيها أحدٌ إلا الله، لا تُحصى من الجماد والحيوان، لكنَّها كلها باطلة سوى الإله الحق، وهو الله وحده ؛ ولهذا قال جلَّ وعلا عن المشركين لما قال لهم الرسول: قولوا: لا إله إلا الله، قالوا: أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ [ص:5]، وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُو آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ [الصافات:36]، وقال: فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ [هود:101]، فسمَّى معبوداتهم: آلهة، هناك آلهة: العزى إله عندهم، اللات إله عندهم، ومناة إله عندهم ..... حول الكعبة، وهبل إله عندهم: "اعلُ هُبل" كما قال أبو سفيان، لكنَّها آلهة لا أساسَ لها، باطلة، هم الذين صنعوها، هم الذين ألهوها: إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ [النجم:23]، أما الإله الحقّ فهو الله؛ ولهذا قدر العلماء في خبر "لا" حقّ: لا إله حقّ، وبهذه الكلمة "حقّ" تنتهي الآلهة كلها وتبطل، ومَن فسَّرها: بغير موجودٍ، فهو باطل، كلامه ليس بصحيحٍ.

وَقَدِ اعْتَرَضَ صَاحِبُ "الْمُنْتَخَبِ" عَلَى النَّحْوِيِّينَ فِي تَقْدِيرِ الْخَبَرِ فِي: لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ [البقرة:163]، فَقَالُوا: تَقْدِيرُهُ: لَا إِلَهَ فِي الْوُجُودِ إِلَّا اللَّهُ، فَقَالَ: يَكُونُ ذَلِكَ نَفْيًا لِوُجُودِ الْإِلَهِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ نَفْيَ الْمَاهِيَّةِ أَقْوَى فِي التَّوْحِيدِ الصِّرْفِ مِنْ نَفْيِ الْوُجُودِ، فَكَانَ إِجْرَاءُ الْكَلَامِ عَلَى ظَاهِرِهِ وَالْإِعْرَاضُ عَنْ هَذَا الْإِضْمَارِ أَوْلَى.

وَأَجَابَ أَبُو عَبْدِاللَّهِ مُحَمَّدُ ابْنُ أَبِي الْفَضْلِ الْمُرْسِيُّ فِي "ريِّ الظَّمْآنِ" ......

تعليق: قال: في الأصل "المرسي"، وقال الأستاذ أحمد شاكر رحمه الله: المرسي هذا هو شرف الدين محمد بن عبدالله بن محمد ابن أبي الفضل المرسي، الأندلسي، الأديب، النَّحوي، المفسر، المحدث، الفقيه، كما وصفه يعقوب ..... من ذكرى سنة أربع وعشرين وستمئة، وأخبره أنَّ مولده سنة سبعين وخمسمئة، وذكر كثيرًا من مُؤلفاته، منها: تفسير القرآن سمَّاه "ري الظمآن في تفسير القرآن" شهير جدًّا، وصف ارتباط الآي بعضها ببعضٍ. انظر ترجمته في "معجم الأدباء"، توفي شرف الدين هذا في طريق الأريس سنة خمس وخمسين وستمئة، وترجمه ابنُ كثير في "التاريخ"، وابن العماد في "الشذرات"، ثم الذي سمع منه رضي الدين الطبري "صحيح ابن حبان" كما سمَّى ذلك في مقدمة "صحيح ابن حبان"، ومما يُستغرب من شأنه ما ذكره يعقوب أنه كانت له كتب في البلاد التي يتنقل فيها، بحيث لا يستصحب كتبًا في سفره؛ اكتفاءً بما له من الكتب في البلد الذي يُسافر إليه رحمه الله.

الشيخ: ......

فَقَالَ: هَذَا كَلَامُ مَنْ لَا يَعْرِفُ لِسَانَ الْعَرَبِ، فَإِنَّ (إِلَهَ) فِي مَوْضِعِ الْمُبْتَدَأ عَلَى قَوْلِ سِيبَوَيْهِ، وَعِنْدَ غَيْرِهِ اسْمُ "لَا"، وَعَلَى التَّقْدِيرَيْنِ فَلَا بُدَّ مِنْ خَبَرٍ للْمُبْتَدَأ، وَإِلَّا فَمَا قَالَهُ مِن الِاسْتِغْنَاءِ عَنِ الْإِضْمَارِ فَاسِدٌ.

الشيخ: وإلا لا محلَّ لها، ولكن فما قاله من الاستغناء .. إلى آخره، وقد صدق، فلا بدَّ من خبرٍ؛ لأننا إذا قلنا: ما هنا خبر، معناه: هنا آلهة موجودة، مثل: لا شمس إلا الشمس، ما هنا ثبوت بالنسبة إلى علمنا، بالنسبة إلى هذه الشمس الموجودة ليس هناك شمس مشرقة، فإذا قلنا: لا إله إلا الله، يعني: ما فيه آلهة موجودة، معناه: أن آلهة المشركين باطلة، غير موجودة، وهي باطلة، لكن لها وجود معناه: أن آلهة المشركين غير موجودة، وهذا لا يستقيم، آلهة المشركين موجودة، لكن النفي يتوجه إلى بطلانها، لا إلى وجودها، النفي يتوجه إلى إبطال عبادتهم لها؛ لأنها آلهة باطلة، ولا يتوجه النفي إلى إنكار ذواتها، وأنها غير موجودة، بل هي موجودة.

............

تعليق: في نهاية صفحة (512) في "المستدرك" السطر (17) كتب الشيخ عبدالعزيز بن باز جزاه الله كل خيرٍ على هذا الموضع بالتعليق التالي: ما قاله صاحب "المنتخب" ليس بجيدٍ، وهكذا ما قاله النُّحاة وأيَّده الشيخ أبو عبدالله المرسي من تقدير الخبر بكلمة في الوجود ليس بصحيحٍ؛ لأنَّ الآلهة المعبودة من دون الله كثيرة وموجودة، وتقدير الخبر بلفظ "في الوجود" لا يحصل به المقصود من بيان أحقية ألوهية الله سبحانه وبطلان ما سواها؛ لأن لقائل أن يقول: كيف تقولون: لا إله في الوجود إلا الله، وقد أخبر الله سبحانه عن وجود آلهة كثيرة للمشركين؛ كما في قوله تعالى: وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ [هود:101]، فَلَوْلَا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ قُرْبَانًا آلِهَةً بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ الآية [الأحقاف:28]؟

فلا سبيل إلى التَّخلص من هذا الاعتراض وبيان عظمة هذه الكلمة، وأنها كلمة التوحيد المبطلة لآلهة المشركين وعبادتهم من دون الله؛ إلا بتقدير الخبر بغير ما ذكر النُّحاة، وهو كلمة "حق"؛ لأنها هي التي تُوضح بطلان جميع الآلهة، وتبين أن الإله الحق والمعبود بالحق هو الله وحده، كما نبَّه على ذلك جمعٌ من أهل العلم منهم أبو العباس ابن تيمية وتلميذه العلامة ابن القيم وآخرون رحمهم الله.

ومن أدلة ذلك قوله سبحانه: ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ [الحج:62]، فأوضح سبحانه في هذه الآية أنه هو الحق، وأنَّ ما دعاه الناس من دونه هو الباطل، فشمل ذلك جميع الآلهة المعبودة من دون الله من البشر والملائكة والجنّ وسائر المخلوقات، واتَّضح بذلك أنه المعبود بالحق وحده.

ولهذا أنكر المشركون هذه الكلمة، وامتنعوا من الإقرار بها؛ لعلمهم بأنها تبطل آلهتهم؛ لأنهم فهموا أن المراد بها نفي الألوهية بحقٍّ عن غير الله سبحانه؛ ولهذا قالوا جوابًا لنبينا محمدٍ ﷺ لما قال لهم: قولوا: لا إله إلا الله: أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ [ص:5]! وقالوا أيضًا: أَئِنَّا لَتَارِكُو آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ [الصافات:36]! وما في معنى ذلك من الآيات، وبهذا التقرير يزول جميع الإشكال، ويتضح الحق المطلوب، والله ولي التوفيق.

الشيخ: ...........

وَأَمَّا قَوْلُهُ: "إِذَا لَمْ يُضْمَرْ يَكُونُ نَفْيًا لِلْمَاهِيَّةِ" فَلَيْسَ بِشَيْءٍ؛ لِأَنَّ نَفْيَ الْمَاهِيَّةِ هُوَ نَفْيُ الْوُجُودِ، لَا تُتَصَوَّرُ الْمَاهِيَّةُ إِلَّا مَعَ الْوُجُودِ، ولَا فَرْقَ بَيْنَ "لَا مَاهِيَّةَ" "لَا وُجُودَ"، وَهَذَا مَذْهَبُ أَهْلِ السُّنَّةِ، خِلَافًا لِلْمُعْتَزِلَةِ؛ فَإِنَّهُمْ يُثْبِتُونَ مَاهِيَّةً عَارِيَةً عَنِ الْوُجُودِ.

و"إِلَّا اللَّهُ" مَرْفُوعٌ، بَدَلًا مِنْ "لا إِلَهَ"، لَا يَكُونُ خَبَرًا لِـ"لَا"، وَلَا لِلْمُبْتَدَأ. وَذَكَرَ الدَّلِيلَ عَلَى ذَلِكَ.

وَلَيْسَ الْمُرَادُ هُنَا ذِكْرَ الْإِعْرَابِ، بَلِ الْمُرَادُ رفْعُ الْإِشْكَالِ الْوَارِدِ عَلَى النُّحَاةِ فِي ذَلِكَ، وَبَيَانُ أَنَّهُ مِنْ جِهَةِ الْمُعْتَزِلَةِ، وَهُوَ فَاسِدٌ؛ فَإِنَّ قَوْلَهُمْ: "نَفْيَ الْوُجُودِ" لَيْسَ تَقْيِيدًا؛ لِأَنَّ الْعَدَمَ لَيْسَ بِشَيْءٍ، قَالَ تَعَالَى: وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا [مريم:9].

وَلَا يُقَالُ: لَيْسَ قَوْلُهُ: "غَيْرُهُ" كَقَوْلِهِ: "إِلَّا اللَّهُ"؛ لِأَنَّ "غَيْرُ" تُعْرَبُ بِإِعْرَابِ الِاسْمِ الْوَاقِعِ بَعْدَ "إِلَّا"، فَيَكُونُ التَّقْدِيرُ لِلْخَبَرِ فِيهِمَا وَاحِدًا؛ فَلِهَذَا ذَكَرْتُ هَذَا الْإِشْكَالَ وَجَوَابَهُ هُنَا ............

قَوْلُهُ: (قَدِيمٌ بِلَا ابْتِدَاءٍ، دَائِمٌ بِلَا انْتِهَاءٍ).

قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ [الحديد:3].

وَقَالَ ﷺ: اللَّهُمَّ أَنْتَ الْأَوَّلُ فَلَيْسَ قَبْلَكَ شَيْءٌ، وَأَنْتَ الْآخِرُ فَلَيْسَ بَعْدَكَ شَيْءٌ.

فَقَوْلُ الشَّيْخِ: (قَدِيمٌ بِلَا ابْتِدَاءٍ، دَائِمٌ بِلَا انْتِهَاءٍ) هُوَ مَعْنَى اسْمِهِ الْأَوَّلِ وَالْآخِرِ، وَالْعِلْمُ بِثُبُوتِ هَذَيْنِ الْوَصْفَيْنِ مُسْتَقِرٌّ فِي الْفِطْرَة، فَإِنَّ الْمَوْجُودَاتِ لَا بُدَّ أَنْ تَنْتَهِيَ إِلَى وَاجِبِ الْوُجُودِ لِذَاتِهِ؛ قَطْعًا لِلتَّسَلْسُلِ، فَأنت تُشَاهِدُ حُدُوثَ الْحَيَوَانِ وَالنَّبَاتِ وَالْمَعَادِنِ وَحَوَادِثِ الْجَوِّ: كَالسَّحَابِ وَالْمَطَرِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَهَذِهِ الْحَوَادِثُ وَغَيْرُهَا لَيْسَتْ مُمْتَنِعَةً، فَإِنَّ الْمُمْتَنِعَ لَا يُوجَدُ، وَلَا وَاجِبَةَ الْوُجُودِ بِنَفْسِهَا، فَإِنَّ وَاجِبَ الْوُجُودِ بِنَفْسِهِ لَا يَقْبَلُ الْعَدَمَ، وَهَذِهِ كَانَتْ مَعْدُومَةً ثُمَّ وُجِدَتْ، فَعَدَمُهَا يَنْفِي وُجُودَهَا، وَوُجُودُهَا يَنْفِي امْتِنَاعَهَا، وَمَا كَانَ قَابِلًا لِلْوُجُودِ وَالْعَدَمِ لَمْ يَكُنْ وُجُودُهُ بِنَفْسِهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ [الطور:35]، يَقُولُ سُبْحَانَهُ: أُحْدِثُوا مِنْ غَيْرِ مُحْدِثٍ أَمْ هُمْ أَحْدَثُوا أَنْفُسَهُمْ؟ وَمَعْلُومٌ أَنَّ الشَّيْءَ الْمُحْدَثَ لَا يُوجِدُ نَفْسَهُ، فَالْمُمْكِنُ الَّذِي لَيْسَ لَهُ مِنْ نَفْسِهِ وُجُودٌ وَلَا عَدَمٌ لَا يَكُونُ مَوْجُودًا بِنَفْسِهِ، بَلْ إِنْ حَصَلَ مَا يُوجِدُهُ، وَإِلَّا كَانَ مَعْدُومًا، وَكُلُّ مَا أَمْكَنَ وُجُودُهُ بَدَلًا عَنْ عَدَمِهِ، وَعَدَمُهُ بَدَلًا عَنْ وُجُودِهِ، فَلَيْسَ لَهُ مِنْ نَفْسِهِ وُجُودٌ وَلَا عَدَمٌ لَازِمٌ لَهُ.

وَإِذَا تَأَمَّلَ الْفَاضِلُ غَايَةَ مَا يَذْكُرُهُ الْمُتَكَلِّمُونَ وَالْفَلَاسِفَةُ مِنَ الطُّرُقِ الْعَقْلِيَّةِ؛ وَجَدَ الصَّوَابَ مِنْهَا ما يَعُودُ إِلَى بَعْضِ مَا ذُكِرَ فِي الْقُرْآنِ مِنَ الطُّرُقِ الْعَقْلِيَّةِ بِأَوضَحِ عِبَارَةٍ وَأَوْجَزِهَا، وَفِي طُرُقِ الْقُرْآنِ مِنْ تَمَامِ الْبَيَانِ وَالتَّحْقِيقِ مَا لَا يُوجَدُ عِنْدَهُمْ مِثْلُهُ، قَالَ تَعَالَى: وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا [الفرقان:33].

وَلَا نَقُولُ: لَا يَنْفَعُ الِاسْتِدْلَالُ بِالْمُقَدِّمَاتِ الْخَفِيَّةِ وَالْأَدِلَّةِ النَّظَرِيَّةِ؛ فَإِنَّ الْخَفَاءَ وَالظُّهُورَ مِنَ الْأُمُورِ النِّسْبِيَّةِ، فَرُبَّمَا ظَهَرَ لِبَعْضِ النَّاسِ مَا خَفِيَ عَلَى غَيْرِهِ، وَيَظْهَرُ لِلْإِنْسَانِ الْوَاحِدِ فِي حَالٍ مَا خَفِيَ عَلَيْهِ فِي حَالٍ أُخْرَى، وَأَيْضًا فَالْمُقَدِّمَاتُ وَإِنْ كَانَتْ خَفِيَّةً فَقَدْ يُسَلِّمُهَا بَعْضُ النَّاسِ وَيُنَازِعُ فِيمَا هُوَ أجلى مِنْهَا، وَقَدْ تَفْرَحُ النَّفْسُ بِمَا عَلِمَتْهُ بالْبَحْثِ وَالنَّظَرِ مَا لَا تَفْرَحُ بِمَا عَلِمَتْهُ مِنَ الْأُمُورِ الظَّاهِرَةِ.

وَلَا شَكَّ أَنَّ الْعِلْمَ بِإِثْبَاتِ الصَّانِعِ وَوُجُوبِ وُجُودِهِ أَمْرٌ ضَرُورِيٌّ فِطْرِيٌّ، وَإِنْ كَانَ يَحْصُلُ لِبَعْضِ النَّاسِ مِنَ الشُّبَهِ مَا يُخْرِجُهُ إِلَى الطُّرُقِ النَّظَرِيَّةِ.

وَقَدْ أَدْخَلَ الْمُتَكَلِّمُونَ فِي أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى "الْقَدِيمَ"، وَلَيْسَ هُوَ مِن الأَسْمَاءِ الْحُسْنَى، فَإِنَّ الْقَدِيمَ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ الَّتِي نَزَلَ بِهَا الْقُرْآنُ: هُوَ الْمُتَقَدِّمُ عَلَى غَيْرِهِ، فَيُقَالُ: هَذَا قَدِيمٌ، لِلْعَتِيقِ، وَهَذَا حَدِيثٌ، لِلْجَدِيدِ. وَلَمْ يُسْتَعْمَلْ هَذَا الِاسْمُ إِلَّا فِي الْمُتَقَدِّمِ عَلَى غَيْرِهِ، لَا فِيمَا لَمْ يَسْبِقْهُ عَدَمٌ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ [يس:39]، وَالْعُرْجُونُ الْقَدِيمُ: الَّذِي يَبْقَى إِلَى حِينِ وُجُودِ الْعُرْجُونِ الثَّانِي، فَإِذَا وُجِدَ الْحديثُ قِيلَ لِلْأَوَّلِ: قَدِيمٌ، قَالَ تَعَالَى: وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ [الأحقاف:11] أَيْ: مُتَقَدِّمٌ فِي الزَّمَانِ. وَقَالَ تَعَالَى: أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ ۝ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ [الشعراء:75- 76]، فَالْأَقْدَمُ مُبَالَغَةٌ فِي الْقَدِيمِ، وَمِنْهُ: الْقَوْلُ الْقَدِيمُ وَالْجَدِيدُ لِلشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.

وَقَالَ تَعَالَى: يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ [هود:98] أَيْ: يَتَقَدَّمُهُمْ، وَيُسْتَعْمَلُ مِنْهُ الْفِعْلُ لَازِمًا وَمُتَعَدِّيًا، كَمَا يُقَالُ: أَخذني مَا قَدُمَ وَمَا حَدُثَ.

الشيخ: الصواب: أخذني، يعني: بهرني، وشوش عليَّ ما قدم وما حدث، يقال: قدم، يقدم قومه، هذا مُتَعَدٍّ، كما في الآية الكريمة: يَقْدُمُ قَوْمَهُ هذا متعدٍّ، قدم يقدم من باب نصر، ويقال: قدم، إذا ورد البلد، قدم يقدَم، ويقال: قدُم -بضم الدال- إذا صار قديمًا، هذه ثلاث لغات: قدُم صار قديمًا. قدَم قومه، قدم الناس يعني: تقدمهم. قدِم بمعنى: ورد ودخل.

والقديم مثلما قال المؤلفُ يُعبر به عن الشيء العتيق، ضدّ الجديد؛ ولهذا لم يرد في أسماء الله الحسنى القديم، لكن ذكروه؛ لأنه ضدّ الحادث في اعتقادهم وفي اصطلاحهم؛ فلهذا قال: (قديم بلا ابتداء).

وجاء القرآن بالأول الذي لم يُسبق: هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [الحديد:3]، فالمعنى أنه سبحانه لم يزل موجودًا، وهو الذي أحدث الأشياء، وخلق الأشياء ، وهو واجب الوجود بنفسه، فهو أول بلا ابتداء، يعني: لم يزل موجودًا، قائمًا بنفسه، مُستغنٍ عن خلقه ، وغيره مخلوق موجد، وهو الموجِد الخالق ، فمن أسمائه: الأول الذي لم يسبقه شيء، والآخر الذي ليس بعده شيء، يعني: الدائم الذي لا يعتريه عدم ولا فناء، بخلاف المخلوقين؛ فإنهم يعتريهم ما يعتريهم، فهم وُجدوا بعد أن كانوا معدومين، ويعتريهم ما يعتريهم من الموت والفناء والزوال والتغير والنَّقص والزيادة، فالله سبحانه هو الأول والآخر، والظاهر والباطن، الموصوف بالصِّفات العُلى، المسمَّى بالأسماء الحسنى: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِير [الشورى:11]، فله كل كمالٍ، ومُنزه عن كل نقصٍ .

س: .............؟

ج: أي: سابقًا.

س: في الدعاء: وسلطانك القديم؟

ج: هذا ليس من أسمائه، هذا وصف للسلطان: "أعوذ بالله العظيم، وبوجهه الكريم، وسلطانه القديم من الشيطان الرجيم" عندما يدخل المسجد، هذا وصف للسلطان، وصف لقدرته العظيمة، وأنها سلطة قديمة ليست حادثةً، لم يزل قويًّا عظيمًا سبحانه وتعالى.

وَيُقَالُ: هَذَا قَدَمَ هَذَا، وَهُوَ يَقْدُمُهُ.

الشيخ: يعني: سبقه.

وَمِنْهُ سُمِّيَتِ الْقَدَمُ قَدَمًا؛ لِأَنَّهَا تَقْدُمُ بَقِيَّةَ بَدَنِ الْإِنْسَانِ.

وَأَمَّا إِدْخَالُ "الْقَدِيمِ" فِي أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى فَهو مَشْهُورٌ عِنْدَ أَكْثَرِ أَهْلِ الْكَلَامِ، وَقَدْ أَنْكَرَ ذَلِكَ كَثِيرٌ مِنَ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ، مِنْهُمُ ابْنُ حَزْمٍ.

وَلَا رَيْبَ أَنَّهُ إِذَا كَانَ مُسْتَعْمَلًا فِي نَفْسِ التَّقَدُّمِ؛ فَإِنَّ مَا يقَدَّم عَلَى الْحَوَادِثِ كُلِّهَا فَهُوَ أَحَقُّ بِالتَّقَدُّمِ مِنْ غَيْرِهِ، لَكِنَّ أَسْمَاءَ اللَّهِ تَعَالَى هِيَ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى الَّتِي تَدُلُّ عَلَى خُصُوصِ مَا يُمْدَحُ بِهِ، وَالتَّقَدُّمُ فِي اللُّغَةِ مُطْلَقٌ لَا يَخْتَصُّ بِالتَّقَدُّمِ عَلَى الْحَوَادِثِ كُلِّهَا، فَلَا يَكُونُ مِنَ الْأَسْمَاءِ الْحُسْنَى.

الشيخ: وأيضًا أسماء الله توقيفية، ليس للناس أن يُحدثوا فيها أشياء، أسماء الله توقيفية، وصفاته كذلك، فليس للعبد أن يُحدث أشياء لم تأتِ بها النصوص، وإنما يُوصف الله جلَّ وعلا بما وصف به نفسه، أو وصفه به رسوله عليه الصلاة والسلام، لا يتجاوز القرآن والحديث، ليس للناس أن يُحدثوا من عند أنفسهم أشياء، هذا معنى كلام السلف رحمة الله عليهم.

قال الإمام أحمد رحمه الله: لا يُوصف الله إلا بما وصف به نفسه، أو وصفه به رسوله عليه الصلاة والسلام، لا يتجاوز القرآن والحديث.

المعنى لا يتعدى، بل يقتصر على ما جاء به القرآن، وعلى ما جاءت به السنة، وهذا معنى كلام غيره من السلف.

س: ..............؟

ج: سرد الأسماء الحسنى هو ضعيف، رواه الترمذي وابن حبان وجماعة.

وَجَاءَ الشَّرْعُ بِاسْمِهِ "الْأَوَّلِ"، وَهُوَ أَحْسَنُ مِنَ "الْقَدِيمِ"؛ لِأَنَّهُ يُشْعِرُ بِأَنَّ مَا بَعْدَهُ آيِلٌ إِلَيْهِ وَتَابِعٌ لَهُ، بِخِلَافِ الْقَدِيمِ. وَاللَّهُ تَعَالَى لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى، لا الحسنة.

الشيخ: يعني: أحسن الأسماء له الأكمل: وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى [الأعراف:180] الحسن ثابت لها بنصِّ القرآن؛ لأنَّ الحسن أكمل، حسنى وأحسن، الأحسن أكمل من الحسن، والأفضل أفضل من الفاضل، والأعلم أفضل من العالم، وهكذا؛ لأنَّ له الوصف الأعلى سبحانه وتعالى، هي حسنة في نفسها، وهي أحسن من غيرها.

س: ..............؟

ج: يعني: مُراده أنها ليست مجرد الحسنة، هي حسنة في نفسها، بل له وصف أعلى، وهو الحسنى التي هي مُؤنثة: أحسن.

قَوْلُهُ: (لا يَفْنَى وَلا يَبِيدُ) إِقْرَارٌ بِدَوَامِ بَقَائِهِ ، قَالَ عَزَّ مِنْ قَائِلٍ: كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ ۝ وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ [الرحمن:26- 27].

وَالْفَنَاءُ وَالْبَيْدُ مُتَقَارِبَانِ فِي الْمَعْنَى.

الشيخ: يُقال: باد يبيد بيدًا، يعني: فني، وهو محل لفظ: زال.

وَالْجَمْعُ بَيْنَهُمَا فِي الذِّكْرِ لِلتَّأْكِيدِ، وَهُوَ أَيْضًا مُقَرِّرٌ وَمُؤَكِّدٌ لِقَوْلِهِ: (دَائِمٌ بِلَا انْتِهَاءٍ).

س: ألا يُقال بأنَّ القديم يتضمن بدءًا، القيوم يشمل القديم، أعم من القديم؟

ج: القيوم: القائم بالأشياء ، غير القديم.

س: حديث: اللهم إني أسألك بكل اسمٍ هو لك راجعتُ في الأحاديث الصحيحة ما وجدتُه؟

ج: راجع مرة أخرى أيضًا، أو في الضَّعيفة.

قَوْلُهُ: (وَلَا يَكُونُ إِلَّا مَا يُرِيدُ) هَذَا رَدٌّ لِقَوْلِ الْقَدَرِيَّةِ وَالْمُعْتَزِلَةِ، فَإِنَّهُمْ زَعَمُوا أَنَّ اللَّهَ أَرَادَ الْإِيمَانَ مِنَ النَّاسِ كُلِّهِمْ، وَالْكَافِرُ أَرَادَ الْكُفْرَ. وَقَوْلُهُمْ فَاسِدٌ مَرْدُودٌ؛ لِمُخَالَفَتِهِ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ وَالْمَعْقُولَ الصَّحِيحَ، وَهِيَ مَسْأَلَةُ الْقَدَرِ الْمَشْهُورَة، وَسَيَأْتِي لَهَا زِيَادَةُ بَيَانٍ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

الشيخ: ومعنى هذا هو معنى الكلمة العظيمة المعروفة: "ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن": وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ [الأنعام:112]، وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ [البقرة:253]، إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [يس:82].

فأهل السنة والجماعة مُجمعون على أنه نافذ المشيئة، نافذ الإرادة، ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن: لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ ۝ وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ [التكوير:28- 29]، هذا قول أهل السنة والجماعة قاطبةً، يدل عليه الكتابُ والسنة، وأنَّ الله سبحانه ذو مشيئةٍ نافذةٍ، وإرادة نافذة.

أما المعتزلة والقدرية الذين قالوا: إنَّ العبد يخلق فعله. هؤلاء قد ضلوا عن سواء السبيل، وخالفوا الكتاب والسنة، ووقعوا في باطلٍ عظيمٍ، غرَّهم شيطانهم فيه وتأويله الباطل.

والإرادة إرادتان: إرادة شرعية، وهذه بمعنى المحبَّة والرضا، وقد يقع مُرادها، وقد لا يقع، مثلما في قوله : يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ [النساء:28]، وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ [النساء:27]، هذه إرادة شرعية، فهو يُحبها ويرضاها ، قد يتوب عليهم، وقد يقع منهم العمل الصالح، هذا إليه سبحانه وتعالى، له التَّصرف كما يشاء جلَّ وعلا، هذه الإرادة الشرعية، مثلما في الحديث: أردتُ منك ألا تُشرك بي فأبيتَ إلا الشرك، هذه الإرادة الشرعية، يعني: أمرتك وأحببتُ منك أن تدع الشركَ.

أما الإرادة الكونية: فهي بمعنى المشيئة النافذة، لا يخرج عنها شيء، وهذا قول المؤلف: (ولا يكون في ملكه إلا ما يريد) يعني: الإرادة الكونية التي هي بمعنى المشيئة، وقد وردت في آياتٍ كثيرات، مثل: قوله سبحانه: إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [يس:82] هذه إرادة كونية، ومثل: قوله : فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ [الأنعام:125] هذه إرادة كونية نافذة لا محالة.

وَسُمُّوا "قَدَرِيَّةً" لِإِنْكَارِهِمُ الْقَدَرَ، وَكَذَلِكَ تُسَمَّى الْجَبْرِيَّةُ الْمُحْتَجُّونَ بِالْقَدَرِ: قَدَرِيَّة أَيْضًا. وَالتَّسْمِيَةُ عَلَى الطَّائِفَةِ الْأُولَى أَغْلَبُ.

الشيخ: يعني: كلتاهما يُقال لهما: قدرية، وهما طائفتان: القدرية المجبرة، ويقال لهم: الجبرية. والقدرية النُّفاة، والاسم على النُّفاة أكثر، يقصد بالقدرية النُّفاة أكثر، ويقال لأولئك الجبرية، وهم أصحاب جهمٍ الذين قالوا: إنَّ العبد مجبور، وأنه كالريشة في مهب الرياح، تلعب به الرياح كما تشاء، وليس له تصرف، وليس له إرادة، وليس له فعل. هذا قول الجهمية، وهو قول فاسد، وهو غلو في القدر، هؤلاء غلو في القدر حتى سلبوا العبد قدرته واختياره، وجعلوه كاليد المرتعشة، وكالريشة في مهب الهواء، وأشباه ذلك.

أما القدرية النُّفاة فضدّهم؛ غلوا في إثبات إرادة العبد ومشيئته حتى قالوا: إنَّ الأمر أنف، وأن العبد يشاء ويختار ما يريد من دون أن يكون الله شاء شيئًا من ذلك، وقالوا: إنَّ هذا هو أقرب إلى العدل، فنفوا القدر، وأساءوا الفهم عن الله وعن رسوله، نسأل الله العافية.

وأَمَّا أَهْلُ السُّنَّةِ فَيَقُولُونَ: إِنَّ اللَّهَ وَإِنْ كَانَ يُرِيدُ الْمَعَاصِيَ قَدَرًا، فَهُوَ لَا يُحِبُّهَا وَلَا يَرْضَاهَا وَلَا يَأْمُرُ بِهَا، بَلْ يُبْغِضُهَا وَيَسْخَطُهَا وَيَكْرَهُهَا وَيَنْهَى عَنْهَا.

وَهَذَا قَوْلُ السَّلَفِ قَاطِبَةً، فَيَقُولُونَ: مَا شَاءَ اللَّهُ كَانَ، وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ.

وَلِهَذَا اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْحَالِفَ لَوْ قَالَ: وَاللَّهِ لَأَفْعَلَنَّ كَذَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ. لَمْ يَحْنَثْ إِذَا لَمْ يَفْعَلْهُ، وَإِنْ كَانَ وَاجِبًا أَوْ مُسْتَحَبًّا، وَلَوْ قَالَ: إِنْ أَحَبَّ اللَّهُ. حَنِثَ إِذَا كَانَ وَاجِبًا أَوْ مُسْتَحَبًّا.

وَالْمُحَقِّقُونَ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ يَقُولُونَ: الْإِرَادَةُ فِي كِتَابِ اللَّهِ نَوْعَانِ: إِرَادَةٌ قَدَرِيَّةٌ كَوْنِيَّةٌ خَلْقِيَّةٌ، وَإِرَادَةٌ دِينِيَّةٌ أَمْرِيَّةٌ شَرْعِيَّةٌ.

فَالْإِرَادَةُ الشَّرْعِيَّةُ هِيَ الْمُتَضَمِّنَةُ لِلْمَحَبَّةِ وَالرِّضَا، وَالْكَوْنِيَّةُ هِيَ الْمَشِيئَةُ الشَّامِلَةُ لِجَمِيعِ الْحوادث.

وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ [الأنعام:125].

الشيخ: وهذا مثال للإرادة الكونية، بمعنى المشيئة.

وَقَوْلِهِ تَعَالَى عَنْ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ: وَلَا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ [هود:34]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ [البقرة:253].

وَأَمَّا الْإِرَادَةُ الدِّينِيَّةُ الشَّرْعِيَّةُ الْأَمْرِيَّةُ: فَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ [البقرة:185]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ [النساء:26]، وقوله تعالى: وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا [النساء:27]، وقوله تعالى: يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا [النساء:28]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ [المائدة:6]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا [الأحزاب:33].

الشيخ: هذه كلها إرادة شرعية، وقد يظن بعضُ أهل البيت أو بعضُ الرافضة: أنَّ هذه الكونية؛ أن أهل البيت مُطهرون كلهم، ولا يقع منهم رجس ولا معصية. وهذا من جهلهم؛ فالإرادة شرعية، يعني: منهم مَن طهر، ومنهم مَن لم يطهر، ومنهم مَن ذهب عنه الرجس، ومنهم مَن لم يذهب عنه الرجس، هذه إرادة شرعية: أبو لهب من أهل البيت وهو رجس، وأبو طالب كذلك من أهل البيت ولم يطهر ومات على الشرك، وكثير من أهل البيت بعد ذلك بعقودٍ كثيرةٍ كانوا من أعدى الناس للشريعة، قاموا بأعمالٍ شنيعةٍ ضدّ الإسلام وأهله من بني هاشم.

والمقصود أنَّ هذه إرادة شرعية: منهم مَن طهر، ومنهم مَن لم يطهر: إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا يعني: إذا شاء ذلك، فتكون الإرادة الشرعية.

س: الله أراد من أبي لهب الإيمانَ كونًا أو شرعًا؟

ج: شرعًا، ولو أراده كونًا لوقع، لكن ما أراده كونًا، أراده شرعًا من جميع الناس، لكن مَن أراده كونًا منهم وقع، فأبو طالب وأبو لهب أُريد منهم الإسلام شرعًا فلم يتقبَّلا، وأما الإرادة الكونية فقد مضى في علم الله أنهما لا يُسلمان.

س: ..............؟

ج: الله لا يكون في ملكه ما لا يُريد، المعاصي والطاعات كلها بإرادة الله ومشيئته، ولكنه أمر بالطاعات، ونهى عن المعاصي، ولكن لا يقع في ملكه ما لا يريد، فالعاصي لم يخرج عن قدر الله، ولم يخرج عن قدرة الله، وهكذا الكافر؛ ولهذا قال الصحابةُ للرسول: إذا كان كل شيءٍ بقدر ففيما العمل؟ ...... قال: اعملوا؛ فكلٌّ مُيَسَّرٌ لما خُلق له، أما أهل السعادة فيُيسرون لعمل أهل السعادة، وأما أهل الشَّقاوة فيُيسرون لعمل أهل الشَّقاوة.

فَهَذِهِ الْإِرَادَةُ هِيَ الْمَذْكُورَةُ فِي مِثْلِ قَوْلِ النَّاسِ لِمَنْ يَفْعَلُ الْقَبَائِحَ: هَذَا يَفْعَلُ مَا لَا يُرِيدُهُ اللَّهُ، أَيْ: لَا يُحِبُّهُ وَلَا يَرْضَاهُ وَلَا يَأْمُرُ بِهِ.

وَأَمَّا الْإِرَادَةُ الْكَوْنِيَّةُ: فَهِيَ الْإِرَادَةُ الْمَذْكُورَةُ فِي قَوْلِ الْمُسْلِمِينَ: مَا شَاءَ اللَّهُ كَانَ، وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ.

وَالْفَرْقُ ثَابِتٌ بَيْنَ إِرَادَةِ الْمُرِيدِ أَنْ يَفْعَلَ، وَبَيْنَ إِرَادَتِهِ مِنْ غَيْرِهِ أَنْ يَفْعَلَ؛ فَإِذَا أَرَادَ الْفَاعِلُ أَنْ يَفْعَلَ فِعْلًا فَهَذِهِ الْإِرَادَةُ مُعَلَّقَةٌ بِفِعْلِهِ، وَإِذَا أَرَادَ مِنْ غَيْرِهِ أَنْ يَفْعَلَ فِعْلًا فَهَذِهِ الْإِرَادَةُ لِفِعْلِ الْغَيْرِ. وَكِلَا النَّوْعَيْنِ مَعْقُولٌ لِلنَّاسِ، وَالْأَمْرُ يَسْتَلْزِمُ الْإِرَادَةَ الثَّانِيَةَ دُونَ الْأُولَى، فَاللَّهُ تَعَالَى إِذَا أَمَرَ الْعِبَادَ بِأَمْرٍ فَقَدْ يُرِيدُ إِعَانَةَ الْمَأْمُورِ عَلَى مَا أَمَرَ بِهِ، وَقَدْ لَا يُرِيدُ ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ مُرِيدًا مِنْهُ فِعْلَهُ.

وَتَحْقِيقُ هَذَا مِمَّا يُبَيِّنُ فَصْلَ النِّزَاعِ فِي أَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى: هَلْ هُوَ مُسْتَلْزِمٌ لِإِرَادَتِهِ أَمْ لَا؟

الشيخ: يعني أن هذا مُستلزم لإرادته الشرعية، أمره يستلزم إرادته الشرعية، فإذا أمر بأمرٍ فذلك يستلزم أنه يُحبه ويرضاه ويُريده شرعًا، ولكن لا يستلزم أنه أراده كونًا، فقد يأمر بشيءٍ، ولكن لا يُريده من العبد كونًا؛ فقد سبق في علم الله أنه لا يفعل هذا الشيء، كما تقدم في أبي طالب وأبي لهب وأشباههما، وهم ماتوا على الشرك، كلهم مراد منهم شرعًا أن يُسلموا، وقد سبق في علم الله وإرادته الكونية أنهم لا يُسلمون.

فَهُوَ سُبْحَانَهُ أَمَرَ الْخَلْقَ عَلَى أَلْسُنِ رُسُلِهِ بِمَا يَنْفَعُهُمْ، وَنَهَاهُمْ عَمَّا يَضُرُّهُمْ، وَلَكِنَّ مِنْهُمْ مَنْ أَرَادَ أَنْ يَخْلُقَ فِعْلَهُ، فَأَرَادَ سُبْحَانَهُ أَنْ يَخْلُقَ ذَلِكَ الْفِعْلَ وَيَجْعَلَهُ فَاعِلًا لَهُ. وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ يُرِدْ أَنْ يَخْلُقَ فِعْلَهُ، فَجِهَةُ خَلْقِهِ سُبْحَانَهُ لِأَفْعَالِ الْعِبَادِ وَغَيْرِهَا مِنَ الْمَخْلُوقَاتِ، غَيْرُ جِهَةِ أَمْرِهِ لِلْعَبْدِ عَلَى وَجْهِ الْبَيَانِ لِمَا هُوَ مَصْلَحَةٌ لِلْعَبْدِ أَوْ مَفْسَدَةٌ.

وَهُوَ سُبْحَانَهُ إِذْ أَمَرَ فِرْعَوْنَ وَأَبَا لَهَبٍ وَغَيْرَهُمَا بِالْإِيمَانِ كَانَ قَدْ بَيَّنَ لَهُمْ مَا يَنْفَعُهُمْ وما يُصْلِحُهُمْ إِذَا فَعَلُوهُ، وَلَا يَلْزَمُ إِذَا أَمَرَهُمْ أَنْ يُعِينَهُمْ، بَلْ قَدْ يَكُونُ فِي خَلْقِهِ لَهُمْ ذَلِكَ الْفِعْلَ وَإِعَانَتِهِمْ عَلَيْهِ وَجْهُ مَفْسَدَةٍ مِنْ حَيْثُ هُوَ فِعْلٌ لَهُ، فَإِنَّهُ يَخْلُقُ مَا يَخْلُقُ لِحِكْمَةٍ، وَلَا يَلْزَمُ إِذَا كَانَ الْفِعْلُ الْمَأْمُورُ بِهِ مَصْلَحَةً لِلْمَأْمُورِ إِذَا فَعَلَهُ أَنْ يَكُونَ مَصْلَحَةً لِلْآمِرِ إِذَا فَعَلَهُ هُوَ، أَوْ جَعَلَ الْمَأْمُورَ فَاعِلًا لَهُ.

فَأَيْنَ جِهَةُ الْخَلْقِ مِنْ جِهَةِ الْأَمْرِ؟ فَالْوَاحِدُ مِنَ النَّاسِ يَأْمُرُ غَيْرَهُ وَيَنْهَاهُ مُرِيدًا النَّصِيحَةَ، وَمُبَيِّنًا لِمَا يَنْفَعُهُ، وَإِنْ كَانَ مَعَ ذَلِكَ لَا يُرِيدُ أَنْ يُعِينَهُ عَلَى ذَلِكَ الْفِعْلِ، إِذْ لَيْسَ كُلُّ مَا كَانَ مَصْلَحَتِي فِي أَنْ آمُرَ بِهِ غَيْرِي وَأَنْصَحَهُ يَكُونُ مَصْلَحَتِي فِي أَنْ أُعَاوِنَهُ أَنَا عَلَيْهِ، بَلْ قَدْ تَكُونُ مَصْلَحَتِي إِرَادَةَ مَا يُضَادُّهُ. فَجِهَةُ أَمْرِهِ لِغَيْرِهِ نُصْحًا غَيْرُ جِهَةِ فِعْلِهِ لِنَفْسِهِ، وَإِذَا أَمْكَنَ الْفَرْقُ فِي حَقِّ الْمَخْلُوقِينَ فَهُوَ فِي حَقِّ اللَّهِ أَوْلَى بِالْإِمْكَانِ.

س: التعبير عن فعل العبد بالخلق؟ عبَّر عنه قال: العبد إذا أراد أن يخلق فعله: فَهُوَ سُبْحَانَهُ أَمَرَ الْخَلْقَ عَلَى أَلْسُنِ رُسُلِهِ بِمَا يَنْفَعُهُمْ، وَنَهَاهُمْ عَمَّا يَضُرُّهُمْ، وَلَكِنَّ مِنْهُمْ مَنْ أَرَادَ أَنْ يَخْلُقَ فِعْلَهُ.

ج: أراد أن يخلق الله، أراد الله.

س: يعني: قول يخلق لا يُشرع؟

ج: ...........، والخلق يطلق على التقدير .......

قد يكون فيه حكمة؛ أنه لو فعل هذا تقع المفسدة لو حصل عليه، قد يكون كفره وشركه بالله سبحانه وتعالى بخلاف ما لو أسلم لصار مفسدةً، ونظير هذا ما ذكره العلماء عن أبي طالب، لو أسلم أبو طالب لاحتقروه ولم يُبالوا به ولم يكترثوا به، لكن لما بقي على كفره خافوا أنه يُسلم فيُراعون خاطره، فكانوا يهتمون به، ويكفون عن أذى النبي ﷺ؛ لئلا يغضب أبو طالب فيُسلم، فإسلامه كان مفسدةً بالنسبة إلى حماية النبي ﷺ واحترامه بالنسبة إلى قريش، فمن حكمة الله أنه لا يُسلم، ويبقى على دين قومه؛ حتى يعظم ويُجلّ عندهم ويحترموا محمدًا من أجله ويكفوا عن أذاه، فهو من هذا الباب.

وكثير ما يقع هذا من المخلوق؛ فالمخلوق أقلّ وأحقر في بيان مقاصده، ومع هذا قد يقع، قد يأمر وتكون مصلحة في الأمر، ولكن لا تكون مصلحة في الإعانة، مثل: إنسان يُشير عليك يقول: فلانة لا بأس بها، ينبغي أن تتزوجها، وأنا آمرك وأُشير عليك أن تتزوجها. وفي نفس الأمر هو يُريد أن يتزوجها، لكن لا يجب أن يُعينك ويُعطيك المهر حتى تتزوج، فلو تخليت عنها قال: أحب أن تتخلى عنها حتى يتزوجها هو، لكن دينه يأمره بالنَّصيحة لك، نصحك أن تتزوجها، وأحبَّ لك ذلك؛ لأنها طيبة، ولأنها صالحة، ولكن لو تخليت عنها فهو أحبّ إليه؛ حتى يتزوجها هو، لكن دينه أمره أن ينصحك ويُحب لك هذا الشيء.

وَالْقَدَرِيَّةُ تَضْرِبُ مَثَلًا بِمَنْ أَمَرَ غَيْرَهُ بِأَمْرِهِ، فَإِنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَفْعَلَ مَا يَكُونُ الْمَأْمُورُ أَقْرَبَ إِلَى فِعْلِهِ: كَالْبِشْرِ وَالطَّلَاقَةِ وَتَهْيِئَةِ الْمَسَانِدِ وَالْمَقَاعِدِ وَنَحْوِ ذَلِكَ.

فَيُقَالُ لَهُمْ: هَذَا يَكُونُ عَلَى وَجْهَيْنِ:

أَحَدُهُمَا: أَنْ تَكُونَ مَصْلَحَةُ الْأَمرِ تَعُودُ إِلَى الْآمِرِ: كَأَمْرِ الْمَلِكِ جُنْدَهُ بِمَا يُؤَيِّدُ مُلْكَهُ، وَأَمْرِ السَّيِّدِ عَبْدَهُ بِمَا يُصْلِحُ مُلْكَهُ، وَأَمْرِ الْإِنْسَانِ شَرِيكَهُ بِمَا يُصْلِحُ الْأَمْرَ الْمُشْتَرَكَ بَيْنَهُمَا، وَنَحْوِ ذَلِكَ.

الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْآمِرُ يَرَى الْإِعَانَةَ لِلْمَأْمُورِ مَصْلَحَةً لَهُ: كَالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ، وَإِذَا أَعَانَ الْمَأْمُورَ عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى فَإِنَّهُ قَدْ عَلِمَ أَنَّ اللَّهَ يُثِيبُهُ عَلَى إِعَانَتِهِ عَلَى الطَّاعَةِ، وَأَنَّهُ فِي عَوْنِ الْعَبْدِ مَا كَانَ الْعَبْدُ فِي عَوْنِ أَخِيهِ، فَأَمَّا إِذَا قُدِّرَ أَنَّ الْآمِرَ إِنَّمَا أَمَرَ الْمَأْمُورَ لِمَصْلَحَةِ الْمَأْمُورِ، لَا لِنَفْعٍ يَعُودُ عَلَى الْآمِرِ مِنْ فِعْلِ الْمَأْمُورِ: كَالنَّاصِحِ الْمُشِيرِ، وقد رأى أَنَّهُ إِذَا أَعَانَهُ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مَصْلَحَةً لِلْآمِرِ.

..........

وَأَنَّ فِي حُصُولِ مَصْلَحَةِ الْمَأْمُورِ مَضَرَّةً عَلَى الْآمِرِ، مِثْل: الَّذِي جَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى وَقَالَ لِمُوسَى: إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ [القصص:20]، فَهَذَا مَصْلَحَتُهُ فِي أَنْ يَأْمُرَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ بِالْخُرُوجِ، لَا فِي أَنْ يُعِينَهُ عَلَى ذَلِكَ؛ إِذْ لَوْ أَعَانَهُ لَضَرَّهُ قَوْمُهُ. وَمِثْلُ هَذَا كَثِيرٌ.

وَإِذَا قِيلَ: إِنَّ اللَّهَ أَمَرَ الْعِبَادَ بِمَا يُصْلِحُهُمْ، لَمْ يَلْزَمْ مِنْ ذَلِكَ أَنْ يُعِينَهُمْ عَلَى مَا أَمَرَهُمْ بِهِ، لَا سِيَّمَا وَعِنْدَ الْقَدَرِيَّةِ لَا يَقْدِرُ أَنْ يُعِينَ أَحَدًا عَلَى مَا بِهِ يَصِيرُ فَاعِلًا.

وَإِذَا عُلِّلَتْ أَفْعَالُهُ بِالْحِكْمَةِ فَهِيَ ثَابِتَةٌ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، وَإِنْ كُنَّا نَحْنُ لَا نَعْلَمُهَا، فَلَا يَلْزَمُ إِذَا كَانَ فِي نَفْسِ الْآمِرِ لَهُ حِكْمَةٌ فِي الْأَمْرِ أَنْ يَكُونَ فِي الْإِعَانَةِ عَلَى فِعْلِ الْمَأْمُورِ بِهِ حِكْمَةٌ، بَلْ قَدْ تَكُونُ الْحِكْمَةُ تَقْتَضِي أَنْ لَا يُعِينَهُ عَلَى ذَلِكَ، فَإِنَّهُ إِذَا أَمْكَنَ فِي الْمَخْلُوقِ أَنْ يَكُونَ مُقْتَضَى الْحِكْمَةِ وَالْمَصْلَحَةِ أَنْ يَأْمُرَ لِمَصْلَحَةِ الْمَأْمُورِ، وَأَنْ تَكُونَ الْحِكْمَةُ وَالْمَصْلَحَةُ لِلْآمِرِ أَنْ لَا يُعِينَهُ عَلَى ذَلِكَ -فَإِمْكَانُ ذَلِكَ فِي حَقِّ الرَّبِّ أَوْلَى وَأَحْرَى.

وَالْمَقْصُودُ: أَنَّهُ يُمْكِنُ فِي حَقِّ الْمَخْلُوقِ الْحَكِيمِ أَنْ يَأْمُرَ غَيْرَهُ بِأَمْرٍ وَلَا يُعِينَهُ عَلَيْهِ، فَالْخَالِقُ أَوْلَى بِإِمْكَانِ ذَلِكَ فِي حَقِّهِ مَعَ حِكْمَتِهِ؛ فَمَنْ أَمَرَهُ وَأَعَانَهُ عَلَى فِعْلِ الْمَأْمُورِ كَانَ ذَلِكَ الْمَأْمُورُ بِهِ قَدْ تَعَلَّقَ بِهِ خَلْقُهُ، وَأَمْرُهُ إِنْشَاءً وَخَلْقًا وَمَحَبَّةً، فَكَانَ مُرَادًا بِجِهَةِ الْخَلْقِ، وَمُرَادًا بِجِهَةِ الْأَمْرِ. وَمَنْ لَمْ يُعِنْهُ عَلَى فِعْلِ الْمَأْمُورِ كَانَ ذَلِكَ الْمَأْمُورُ قَدْ تَعَلَّقَ بِهِ أَمْرُهُ، وَلَمْ يَتَعَلَّقْ بِهِ خَلْقُهُ؛ لِعَدَمِ الْحِكْمَةِ الْمُقْتَضِيَةِ لِتَعَلُّقِ الْخَلْقِ بِهِ، وَلِحُصُولِ الْحِكْمَةِ الْمُقْتَضِيَةِ لِخَلْقِ ضِدِّهِ.

...........

تعليق: بسم الله الرحمن الرحيم، قال المؤلف رحمه الله تعالى: ما أصاب أحدًا قط همٌّ ولا حزن، فقال: اللهم إني عبدك، وابن عبدك، وابن أمتك، ناصيتي بيدك، ماضٍ فيَّ حكمك، عدل فيَّ قضاؤك، أسألك بكل اسمٍ هو لك، سميتَ به نفسك، أو علَّمته أحدًا من خلقك، أو أنزلته في كتابك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك؛ أن تجعل القرآنَ ربيع قلبي، ونور صدري، وجلاء حزني، وذهاب همي. إلا أذهب الله همَّه وحزنه، وأبدله مكانه فرحًا، قال: فقيل: يا رسول الله، ألا نتعلَّمها؟ فقال: بلى، ينبغي لمن سمعها أن يتعلَّمها.

رواه أحمد والحارث ابن أبي أسامة في "مسنده" من زوائده، وأبو يعلى والطبراني في "الكبير"، وابن حبان في "صحيحه" والحاكم من طريق فضيل بن مرزوق: حدثنا أبو سلمة الجهني، عن القاسم بن عبدالرحمن، عن أبيه، عن عبدالله قال: قال رسولُ الله ﷺ: فذكره.

وقال الحاكم: "حديث صحيح على شرط مسلمٍ، إن سلم من إرسال عبدالرحمن بن عبدالله عن أبيه؛ فإنه مختلف في سماعه من أبيه".

وتعقبه الذهبي بقوله: "قلت: وأبو سلمة لا يُدرى مَن هو، ولا رواية له في الكتب الستة".

قلت: وأبو سلمة الجهني ترجمه الحافظ في "التعجيل" وقال: "مجهول. قاله الحسيني. وقال مرة: لا يُدرى مَن هو. وهو كلام الذهبي في "الميزان"، وقد ذكره ابنُ حبان في "الثقات"، وأخرج حديثه في "صحيحه"، وقرأت بخط الحافظ ابن عبدالهادي: يحتمل أن يكون خالد بن سلمة. قلت: وهو بعيد؛ لأنَّ خالدًا مخزومي، وهذا جهني".

قلت: وما استبعده الحافظُ هو الصواب لما سيأتي، ووافقه على ذلك الشيخُ أحمد شاكر رحمه الله تعالى في تعليقه على "المسند"، وأضاف إلى ذلك قوله: "وأقرب منه عندي أن يكون هو موسى بن عبدالله أو ابن عبد الجهني، ويُكنى: أبا سلمة؛ فإنه من هذه الطبقة".

قلت: وما استقرَّ به الشيخ هو الذي أجزم به؛ بدليل ما ذكره، مع ضميمة شيءٍ آخر وهو: أن موسى الجهني قد روى حديثًا آخر عن القاسم بن عبدالرحمن به، وهو الحديث الذي قبله، فإذا ضُمَّت إحدى الروايتين إلى الأخرى ينتج أن الراوي عن القاسم هو موسى أبو سلمة الجهني، وليس في الرواة مَن اسمه: موسى الجهني إلا موسى بن عبدالله الجهني، وهو الذي يُكنى: بأبي سلمة، وهو ثقة من رجال مسلم، وكأنَّ الحاكم رحمه الله أشار إلى هذه الحقيقة حين قال في الحديث: "صحيح على شرط مسلم .."؛ فإن معنى ذلك أنَّ رجاله رجال مسلم، ومنهم أبو سلمة الجهني، ولا يمكن أن يكون كذلك إلا إذا كان هو موسى بن عبدالله الجهني. فاغتنم هذا التَّحقيق؛ فإنَّك لا تراه في غير هذا الموضع. والحمد لله على توفيقه.

بقي الكلام على الانقطاع الذي أشار إليه الحاكم، وأقرَّه الذهبي عليه، وهو قوله: "إن سلم من إرسال عبدالرحمن بن عبدالله عن أبيه ..".

قلت: هو سالم منه؛ فقد ثبت سماعه منه بشهادة جماعةٍ من الأئمة، منهم: سفيان الثوري، وشريك القاضي، وابن معين، والبخاري، وأبو حاتم، وروى البخاري في "التاريخ الصغير" بإسنادٍ لا بأس به عن القاسم بن عبدالرحمن بن عبدالله بن مسعود، عن أبيه قال: "لما حضر عبدالله الوفاة، قال له ابنه عبدالرحمن: يا أبتِ، أوصني، قال: ابك من خطيئتك"، فلا عبرةَ بعد ذلك بقول مَن نفى سماعه منه؛ لأنه لا حجةَ لديه على ذلك إلا عدم العلم بالسماع، ومَن علم حجة على مَن لم يعلم.

والحديث قال الهيثمي في "المجمع": "رواه أحمد وأبو يعلى والبزار والطبراني، ورجال أحمد رجال الصحيح غير أبي سلمة الجهني، وقد وثَّقه ابن حبان".

قلت: وقد عرفت مما سبق من التَّحقيق أنه ثقة من رجال مسلم، وأن اسمه: موسى بن عبدالله. ولم ينفرد بهذا الحديث، بل تابعه عبدالرحمن بن إسحاق، عن القاسم بن عبدالله بن مسعودٍ به، لم يذكر عن أبيه.

أخرجه محمد بن الفضل بن غزوان الضبي في كتاب "الدعاء"، وابن السني في "عمل اليوم والليلة"، وعبدالرحمن بن إسحاق -وهو أبو شيبة الواسطي- متفق على تضعيفه.

ثم رأيتُ الحديث قد رواه محمد بن عبدالباقي الأنصاري في "ستة مجالس" من طريق الإمام أحمد، وقال مخرجه الحافظ محمد بن ناصر أبو الفضل البغدادي: "هذا حديث حسن عالي الإسناد، ورجاله ثقات".

وللحديث شاهد من حديث فياض، عن عبدالله بن زبيد، عن أبي موسى رضي الله عنه قال: قال رسول الله ﷺ: فذكره نحوه.

أخرجه ابن السني بسندٍ صحيحٍ إلى فياض، وهو ابن غزوان الضبي الكوفي، قال أحمد: ثقة. وشيخه عبدالله بن زبيد هو ابن الحارث اليامي الكوفي.

قال ابن أبي حاتم عن أبيه: "روى عنه الكوفيون"، ولم يذكر فيه جرحًا ولا تعديلًا.

قلت: فهو مستور، ومثله يُستشهد بحديثه إن شاء الله تعالى.

والحديث قال الهيثمي: "رواه الطبراني، وفيه مَن لم أعرفه".

قلت: وكأنه يعني: عبدالله بن زبيد، وعليه فكأنه لم يقف على ترجمته في "الجرح والتعديل"، ولو أنه لم يذكر فيه تعديلًا أو تجريحًا، فإن العادة أن لا يُقال في مثله: "لم أعرفه"، كما هو معلوم عند المشتغلين بهذا العلم الشريف.

(تنبيه) وقع في هامش "المجمع" تعليقًا على الحديث خطأ فاحش، حيث جاء فيه: "قلت -القائل هو ابن حجر: هذا الحديث أخرجه أبو داود والترمذي والنَّسائي من رواية عبد الجليل بهذا الإسناد، فلا وجهَ لاستدراكه. ابن حجر".

ووجه الخطأ أنَّ هذا التعليق ليس محلّه هذا الحديث، بل هو الحديث الذي في "المجمع" بعد هذا، فإن هذا لم يروه أحدٌ من أصحاب السنن المذكورين.

.........