03 أنواع التوحيد الذي دعت إليه الرسل

أنواع التَّوْحِيد الَّذِي دَعَتْ إِلَيْهِ الرُّسُلُ:

ثُمَّ التَّوْحِيدُ الَّذِي دَعَتْ إِلَيْهِ رُسُلُ اللَّهِ وَنَزَلَتْ بِهِ كُتُبُهُ نَوْعَانِ:

  • تَوْحِيدٌ فِي الْإِثْبَاتِ وَالْمَعْرِفَةِ.
  • وَتَوْحِيدٌ فِي الطَّلَبِ وَالْقَصْدِ.

فَالْأَوَّلُ: هُوَ إِثْبَاتُ حَقِيقَةِ ذَاتِ الرَّبِّ تَعَالَى وَصِفَاتِهِ وَأَفْعَالِهِ وَأَسْمَائِهِ، لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ، كَمَا أَخْبَرَ بِهِ عَنْ نَفْسِهِ، وَكَمَا أَخْبَرَ رَسُولُهُ ﷺ.

وَقَدْ أَفْصَحَ الْقُرْآنُ عَنْ هَذَا النَّوْعِ كُلَّ الْإِفْصَاحِ، كَمَا فِي أَوَّلِ (الْحَدِيدِ) وَ(طه) وَآخِرِ (الْحَشْرِ) وَأَوَّلِ (الم تَنْزِيلُ) السَّجْدَةِ، وَأَوَّلِ (آلِ عِمْرَانَ) وَسُورَةِ (الْإِخْلَاصِ) بِكَمَالِهَا، وَغَيْرِ ذَلِكَ.

وَالثَّانِي: وَهُوَ تَوْحِيدُ الطَّلَبِ وَالْقَصْدِ، مِثْلَ: مَا تَضَمَّنَتْهُ سُورَةُ: قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ [الكافرون]، وَ قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ [آل عمران:64]، وَأَوَّلُ سُورَةِ تَنْزِيلُ الْكِتَابِ وَآخِرُهَا، وَأَوَّلُ سُورَةِ (يُونُسَ) وَأَوْسَطُهَا وَآخِرُهَا، وَأَوَّلُ سُورَةِ (الْأَعْرَافِ) وَآخِرُهَا، وَجُمْلَةُ سُورَةِ (الْأَنْعَامِ).

وَغَالِبُ سُوَرِ الْقُرْآنِ مُتَضَمِّنَةٌ لِنَوْعَيِ التَّوْحِيدِ، بَلْ كُلُّ سُورَةٍ فِي الْقُرْآنِ، فَإِنَّ الْقُرْآنَ إِمَّا خَبَرٌ عَنِ اللَّهِ وَأَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ وأفعاله، فَهُوَ التَّوْحِيدُ الْعِلْمِيُّ الْخَبَرِيُّ، وَإِمَّا دَعْوَةٌ إِلَى عِبَادَتِهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَخَلْع مَا يُعْبَدُ مِنْ دُونِهِ، فَهُوَ التَّوْحِيدُ الْإِرَادِيُّ الطَّلَبِيُّ، وَإِمَّا أَمْرٌ وَنَهْيٌ وَإِلْزَامٌ بِطَاعَتِهِ، فَذَلِكَ مِنْ حُقُوقِ التَّوْحِيدِ وَمُكَمِّلَاتِهِ، وَإِمَّا خَبَرٌ عَنْ إِكْرَامِهِ لِأَهْلِ تَوْحِيدِهِ، وَمَا فَعَلَ بِهِمْ فِي الدُّنْيَا، وَمَا يُكْرِمُهُمْ بِهِ فِي الْآخِرَةِ، فَهُوَ جَزَاءُ تَوْحِيدِهِ، وَإِمَّا خَبَرٌ عَنْ أَهْلِ الشِّرْكِ وَمَا فَعَلَ بِهِمْ فِي الدُّنْيَا مِنَ النَّكَالِ، وَمَا يَحِلُّ بِهِمْ فِي الْعُقْبَى مِنَ الْعَذَابِ، فَهُوَ جَزَاءُ مَنْ خَرَجَ عَنْ حُكْمِ التَّوْحِيدِ.

الشيخ: وهذا كله كلام ابن القيم رحمه الله في "المدارج" وغيرها، والمقصود أنَّ هذا الكلام من أحسن الكلام وأوضحه وأبينه لمن يُريد أن يفهم جيدًا حقيقة التوحيد الذي دعت إليه الرسل عليهم الصلاة والسلام، وأنزل الله به الكتب، وصارت الخصومة بين الرسل والأمم في شأنه.

فالتوحيد أقسام ثلاثة من وجهٍ، وقسمان من وجهٍ.

فالخلاصة أن الرسل جاءت بالدَّعوة إلى توحيد الله، هذا أهم مقاصد الدَّعوة وأعظمها ولبها، الدَّعوة إلى توحيد الله فما يتعلق بتوحيد العبادة، فهو المقصود بالذات، وما يتعلق بتوحيد الربوبية والأسماء والصِّفات هو داخلٌ في ضمن ذلك؛ لأنهم مُقرون به، لكن يدعون إليه لكونه حُجَّة عليهم؛ ولأنهم أقرُّوا به، فهو حُجَّة عليهم في إلزامهم بتوحيد الله جلَّ وعلا في العبادة، وإبطال ما هم عليه من الشرك في عبادة الأصنام والأوثان، إذ كيف يكون ربّ السَّماوات وربّ الأرض وربّ كل شيءٍ الذي يعرفون أنه خالقهم ورازقهم، كيف يكون هذا الخالق العظيم والربّ العظيم شريكًا للمخلوق الذليل الضَّعيف؟! وكيف يتقرب إلى هذا وإلى هذا؟ أو يقصد الضَّعيف بالعبادات بزعم أنه واسطة أو شفيع؟! هذا من أبطل الباطل.

ولهذا قال: التوحيد قسمان:

توحيد المعرفة والإثبات، ويُقال لهذا: التوحيد العلمي الخبري، يعني: مداره العلم والخبر من الله ، ومن رسوله عليه الصلاة والسلام، وذاك يقتضي الإيمان والتَّصديق.

وهناك قسم آخر: وهو التوحيد القصدي الطلبي، وهو توحيد العبادة، وهو تخصيص الله بعباداتك وأفعالك التي هي محض التَّقرب إلى الله، وهذا يقال له: توحيد العبادة، ويُسمى: التوحيد القصدي الطلبي، يعني: مضمونه إخلاص القصد لله، وإخلاص الطلب لله، يقال: القصدي الطلبي، ويقال: الإرادي الطلبي، والمعنى واحد: الإرادي والقصدي واحد.

هذا إذا جعلته قسمين، وأدخلت توحيد الأسماء والصِّفات في توحيد الربوبية، وجعلتهما جميعًا التوحيد في المعرفة والإثبات، أو التوحيد العلمي الخبري.

وإن شئتَ جعلتها أقسامًا ثلاثة:

الأول: توحيد العبادة، الذي جاءت به الرسل، وعنيت به، وصارت الخصومات فيه بينها وبين الأمم.

والثاني: توحيد الربوبية، وهو الإقرار بأفعال الرب وتدبيره للعوالم.

والثالث: توحيد الأسماء والصِّفات، يعني: أن تؤمن بأنَّ الله جلَّ وعلا موصوف بصفات عظيمة كثيرة، ومسمى بأسماء حسنى معروفة معلومة، تؤمن بها على الوجه اللائق بالله .

هذه أنواع التوحيد الثلاثة، وإن شئتَ قلت: نوعا التوحيد، هذه تحتاج إلى عنايةٍ، وتحتاج إلى تدبرٍ وتعقلٍ؛ حتى تعرف الفرق بين أهل الشرك وبين أهل الإيمان وأهل التوحيد، وحتى تعرف الفرق بين أهل السنة وبين أهل البدعة في هذا الباب؛ فإن مَن أتى بهذه الأنواع على الوجه الذي يجب فارق أهلَ الشرك من عُبَّاد الأوثان والمجوس والنَّصارى واليهود وغيرهم، وفارق أهلَ البدع الذين منهم مَن نفى الصِّفات، ومنهم مَن نفى الأسماء والصِّفات، ومنهم مَن نفى بعضها دون بعضٍ، وتأول بعضها دون بعضٍ، فبإثباتها كلها والإيمان بها كلها على الوجه اللائق بالله فارقت جميع أهل البدع.

وبالإيمان بتوحيد العبادة، وبأنه المستحق للعبادة سبحانه؛ فارقت جميع أهل الشرك، وبالإيمان بأن الإيمان يزيد وينقص، ويضعف ويقوى، وأن الطاعات تزيده، والمعاصي تنقصه، فارقت بقية أهل البدع من المرجئة والخوارج والمعتزلة في هذا الباب.

فأهل السنة والجماعة وسط في الأبواب التي تصرف بها قوم جفاءً وتفريطًا، وقصَّر فيها آخرون إفراطًا وغلوًّا، وأهل السنة والجماعة وُفِّقوا للوسط، فلا غلو ولا إفراط، ولا تقصير وجفاء وتفريط، ولكنَّهم توسَّطوا، وهكذا الأمة هي الوسط، وهم أهل السنة والجماعة؛ فآمنوا بالله، وآمنوا بأسمائه وصفاته، وآمنوا بأنه ربهم وإلههم الحق، وآمنوا بكل ما جاء به رسوله عليه الصلاة والسلام بما يتعلق بجميع أبواب الدين: باب الإيمان والعمل، باب القدر، باب الأسماء والصِّفات، أبواب ما يتعلق بأصحاب الرسول ﷺ، إلى غير ذلك من الأبواب الدِّينية التي وافق فيها أهلُ السنة والجماعة الحقَّ، واستقاموا عليه، وثبتوا عليه.

وحاد فيها قومٌ آخرون عن الحقِّ والصواب، فما بين غالٍ كالخوارج في تكفير أهل الذنوب، والمعتزلة في جعلهم خالدين في النار، وكالخوارج أيضًا في جفائهم في حقِّ الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم، وجفاء المعتزلة في حقِّ أهل التوحيد وأهل الإسلام الذين عندهم بعض المعاصي، وكغلو الشيعة في أهل البيت وإفراطهم حتى عبدوهم من دون الله، وحتى جعلوهم يعلمون الغيب مع الله ، وكجفاء الذين نفوا الصِّفات وفرَّطوا فيها وعطَّلوها، وغلو الذين أثبتوها حتى شبَّهوا الله بخلقه.

فالطريق الوحيد السليم الموفق الموافق للعلم والفضل والحكمة والنصوص كلها هو طريق أهل السنة والجماعة؛ بإثبات أسماء الله وصفاته على الوجه اللائق بالله ، والإيمان بتوحيده، والإخلاص له في العبادة، والإيمان بما تقتضيه الأدلة من زيادة الإيمان ونقصانه، وضعفه وقوته، ومن عدم خروج المسلم من التوحيد والإسلام بمجرد المعصية، وعدم تخليد المسلم بالمعصية في النار، بل الإيمان يزيد وينقص، ويضعف ويقوى، والعاصي لا يُخلد في النار إذا مات على التوحيد والإسلام، ولكنه يُعذب على قدر معاصيه، ثم يخرج منها إلى الجنة.

فهذه جملة عظيمة يجب على أهل العلم والإيمان أن تكون منهم على بالٍ، وأن يحذروا ما دخل على كثيرٍ من الناس من أبواب الشرِّ بسبب أهل البدع والغلو والتَّفريط والجفاء، فإنهم بين أمرين: بين غالٍ مُفرطٍ زائدٍ، وبين جافٍ مُفرطٍ مُضيعٍ خاطئٍ. نسأل الله السلامة.

فَالْقُرْآنُ كُلُّهُ فِي التَّوْحِيدِ وَحُقُوقِهِ وَجَزَائِهِ، وَفِي شَأْنِ الشِّرْكِ وَأَهْلِهِ وَجَزَائِهِمْ: فَـ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الفاتحة:2] تَوْحِيدٌ، الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ [الفاتحة:3] تَوْحِيدٌ، اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ [الفاتحة:6] تَوْحِيدٌ مُتَضَمِّنٌ لِسُؤَالِ الْهِدَايَةِ إِلَى طَرِيقِ أَهْلِ التَّوْحِيدِ، الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ [الفاتحة:7] الَّذِينَ فَارَقُوا التَّوْحِيدَ.

الشيخ: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ توحيد، بمعنى: أنك وحدت ربك إذا أثنيت عليه وخصصته بالحمد والثناء وآمنت بأنه رب العالمين، وهذا حقٌّ، بخلاف مَن شرَّك مع الله غيره بالتصرف والتَّدبير.

الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ توحيد؛ لأنَّك خصصت ربك بأنه موصوف بهذه الصِّفات العظيمة، خلافًا لأهل البدع من الغُلاة الذين شبَّهوا الله بخلقه، وجعلوا صفاته كصفات خلقه، ومن الجُفاة الذين سلبوا الربَّ صفة الرحمة، وقالوا: إنَّ الرحمة المراد بها إرادة الإنعام، ونفوا وجود الرحمة.

وكذلك: مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ توحيد؛ لإيمانك بأنه ربّ الجميع ومُدبر الأمور.

وإِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ توحيد؛ لأنك خصصته بالعبادة والاستعانة.

واهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ توحيد؛ لأنك خصصته بالدعاء، وطلبت منه أن يهديك صراط أهل التوحيد، وهو صراط المنعم عليهم، الذين عبدوا الله وحده، وسلكوا سبيله وحده، وتركوا سبيل المغضوب عليهم والضَّالين، هذا وجه هذا التَّقسيم.

وَكَذَلِكَ شَهِدَ اللَّهُ لِنَفْسِهِ بِهَذَا التَّوْحِيدِ، وَشَهِدَتْ لَهُ بِهِ مَلَائِكَتُهُ وَأَنْبِيَاؤُهُ وَرُسُلُهُ، قَالَ تَعَالَى: شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ۝ إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ [آل عمران:18- 19].

الشيخ: وَأُولُو الْعِلْمِ يدخل فيه الأنبياء والرسل، ثم العلماء بعدهم، كلهم شهدوا له بالوحدانية، كما شهدت الملائكةُ بجبلتهم على اختلاف طبقاتهم، شهدوا له بالوحدانية، فهكذا أهل العلم من الرسل والأنبياء وأتباعهم وورثتهم من أهل العلم، كلهم شهدوا له بالوحدانية .

فَتَضَمَّنَتْ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ إِثْبَاتَ حَقِيقَةِ التَّوْحِيدِ، وَالرَّدَّ عَلَى جَمِيعِ طَوَائِفِ الضَّلَالِ، فَتَضَمَّنَتْ أَجَلَّ شَهَادَةٍ وَأَعْظَمَهَا وَأَعْدَلَهَا وَأَصْدَقَهَا مِنْ أَجَلِّ شَاهِدٍ، بِأَجَلِّ مَشْهُودٍ بِهِ.

وَعِبَارَاتُ السَّلَفِ فِي شَهِدَ تَدُورُ عَلَى الْحُكْمِ، وَالْقَضَاءِ، وَالْإِعْلَامِ، وَالْبَيَانِ، وَالْإِخْبَارِ. وَهَذِهِ الْأَقْوَالُ كُلُّهَا حَقٌّ لَا تَنَافِي بَيْنَهَا؛ فَإِنَّ الشَّهَادَةَ تَتَضَمَّنُ كَلَامَ الشَّاهِدِ وَخَبَرَهُ، وَتَتَضَمَّنُ إِعْلَامَهُ وَإِخْبَارَهُ وَبَيَانَهُ. فَلَهَا أَرْبَعُ مَرَاتِبَ:

فَأَوَّلُ مَرَاتِبِهَا: عِلْمٌ وَمَعْرِفَةٌ وَاعْتِقَادٌ لِصِحَّةِ الْمَشْهُودِ بِهِ وَثُبُوتِهِ.

وَثَانِيهَا: تَكَلُّمُهُ بِذَلِكَ، وَإِنْ لَمْ يُعْلِمْ بِهِ غَيْرَهُ، بَلْ يَتَكَلَّمُ بِهَا مَعَ نَفْسِهِ وَيَذْكُرُهَا وَيَنْطِقُ بِهَا أَوْ يَكْتُبُهَا.

وَثَالِثُهَا: أَنْ يُعْلِمَ غَيْرَهُ بها بِمَا يَشْهَدُ بِهِ وَيُخْبِرهُ بِهِ وَيُبَيِّنهُ لَهُ.

وَرَابِعُهَا: أَنْ يُلْزِمَهُ بِمَضْمُونِهَا وَيَأْمُرَهُ بِهِ.

فَشَهَادَةُ اللَّهِ سُبْحَانَهُ لِنَفْسِهِ بِالْوَحْدَانِيَّةِ وَالْقِيَامِ بِالْقِسْطِ تَضَمَّنَتْ هَذِهِ الْمَرَاتِبَ الْأَرْبَعَ: عَلِمَهُ سُبْحَانَهُ بِذَلِكَ، وَتَكَلُّمَهُ بِهِ، وَإِعْلَامَهُ، وَإِخْبَارَهُ لِخَلْقِهِ بِهِ، وَأَمْرَهُمْ وَإِلْزَامَهُمْ بِهِ.

فَأَمَّا مَرْتَبَةُ الْعِلْمِ: فَإِنَّ الشَّهَادَةَ تَضَمَّنَتْهَا ضَرُورَةً، وَإِلَّا كَانَ الشَّاهِدُ شَاهِدًا بِمَا لَا عِلْمَ لَهُ بِهِ، قَالَ تَعَالَى: إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ [الزخرف:86]، وَقَالَ ﷺ: عَلَى مِثْلِهَا فَاشْهَدْ وَأَشَارَ إِلَى الشَّمْسِ.

الشيخ: استدلاله بهذا فيه نظر؛ لأنَّ الحديث ضعيف، ولو قال: ورُوي عنه ﷺ أنه قال: على مثلها لكان أليق وأنسب، فحديث ابن عباس ضعيف في هذا الباب.

علَّق عليه؟

الطالب: ضعيف، أورده الحافظُ ابن حجر في "بلوغ المرام من أدلة الأحكام" بلفظ: على مثلها فاشهد، وقال: أخرجه ابن عدي بإسنادٍ ضعيفٍ، وصحَّحه الحافظُ فأخطأ.

الشيخ: مثلما قال.

وَأَمَّا مَرْتَبَةُ التَّكَلُّمِ وَالْخَبَرِ: فَقَالَ تَعَالَى: وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ [الزخرف:19]، فَجَعَلَ ذَلِكَ مِنْهُمْ شَهَادَةً، وَإِنْ لَمْ يَتَلَفَّظُوا بِلَفْظِ الشَّهَادَةِ وَلَمْ يُؤَدُّوهَا عِنْدَ غَيْرِهِمْ.

وَأَمَّا مَرْتَبَةُ الْإِعْلَامِ وَالْإِخْبَارِ فَنَوْعَانِ: إِعْلَامٌ بِالْقَوْلِ، وَإِعْلَامٌ بِالْفِعْلِ. وَهَذَا شَأْنُ كُلِّ مُعْلِمٍ لِغَيْرِهِ بِأَمْرٍ: تَارَةً يُعْلِمُهُ بِهِ بِقَوْلِهِ، وَتَارَةً بِفِعْلِهِ؛ وَلِهَذَا كَانَ مَنْ جَعَلَ دَارَهُ مَسْجِدًا وَفَتَحَ بَابَهَا، وَأَفْرَزَهَا بِطَرِيقِهَا وَأَذِنَ لِلنَّاسِ بِالدُّخُولِ وَالصَّلَاةِ فِيهَا: مُعْلِمًا أَنَّهَا وَقْفٌ، وَإِنْ لَمْ يَتَلَفَّظْ بِهِ، وَكَذَلِكَ مَنْ وُجِدَ مُتَقَرِّبًا إِلَى غَيْرِهِ بِأَنْوَاعِ الْمَسَارِّ، يَكُونُ مُعْلِمًا لَهُ وَلِغَيْرِهِ أَنَّهُ يُحِبُّهُ، وَإِنْ لَمْ يَتَلَفَّظْ بِقَوْلِهِ، وَكَذَلِكَ بِالْعَكْسِ.

وَكَذَلِكَ شَهَادَةُ الرَّبِّ وَبَيَانُهُ وَإِعْلَامُهُ يَكُونُ بِقَوْلِهِ تَارَةً، وَبِفِعْلِهِ أُخْرَى، فَالْقَوْلُ مَا أَرْسَلَ بِهِ رُسُلَهُ، وَأَنْزَلَ بِهِ كُتُبَهُ، وَأَمَّا بَيَانُهُ وَإِعْلَامُهُ بِفِعْلِهِ فَكَمَا قَالَ ابْنُ كَيْسَانَ: شَهِدَ اللَّهُ بِتَدْبِيرِهِ الْعَجِيبِ وَأُمُورِهِ الْمُحْكَمَةِ عِنْدَ خَلْقِهِ: أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ. وَقَالَ آخَرُ:

وَفِي كُلِّ شَيْءٍ لَهُ آيَةٌ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ وَاحِدٌ

الشيخ: وهذا الذي ذكره المؤلفُ رحمه الله كلام جيد عظيم فيما يتعلق بالشَّهادة، فإنَّ الله في كتابه العظيم في آياتٍ كثيرةٍ جدًّا يُخبر عن نفسه بأنه لا إله إلا هو، وأنه المستحق للعبادة جلَّ وعلا، وأن عبادة غيره باطلة، وأن المعبودات من سواه باطلة، هذا كله يتضمن هذه الأمور الأربعة التي ذكرها المؤلفُ: تتضمن الإخبار عن نفسه بذلك، وعلمه بذلك، وإعلامه لعباده بذلك، وإلزامه لهم بذلك. وهكذا جاءت الرسل، جاءت بهذا، وهكذا الدُّعاة إلى الله .

هذه الأمور الأربعة كلها معلومة؛ مما أخبر الله به في كتابه العظيم، ومما جاء على لسان الرسول عليه الصلاة والسلام.

وهكذا الناس في أمورهم فيما بينهم التي يأمرون بها ويلزمون بها، سواء كانوا ملوكًا أو أمراء، أو لهم شأن من الشؤون فيما بينهم وبين التابعين من ذريةٍ وأهلٍ وغير ذلك، فإن المتكلم عمَّا لا يعلم يُعدُّ كاذبًا.

فالله أخبر عن نفسه بأنه هو الواحد الأحد، وبأنه هو المستحق للعبادة، وهذا يتضمن العلم بذلك، وأنه يعلم سبحانه وتعالى أنه الواحد الأحد، وأنه مستحق لأن يُعبد جلَّ وعلا، وما ذاك إلا لكمال أسمائه وصفاته، وكمال أفعاله، فهو الخلَّاق العليم، وهو الرزاق للعباد، وهو الذي خلق هذا الكون وأوجده على ما فيه من العجائب والغرائب والحكم والأسرار، هذا يدل على علمه العظيم؛ ولهذا قال : أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [البقرة:231]، وهكذا تكلمه بذلك، وإخباره لعباده بذلك: شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [آل عمران:18]، فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ [المؤمنون:116]، رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا [المزمل:9] إلى غير ذلك.

فهو يُخبر عباده أنه المستحق للعبادة جلَّ وعلا، وأنَّ العبادات الأخرى باطلة: ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ [الحج:62]، وفي إخباره وتكلمه بذلك إعلام في هذا الكلام، والإخبار في ضمنه الإعلام للأمة، والتوجيه لهم، وإرشادهم إلى هذا الخبر العظيم، قولًا وفعلًا، قولًا بما تكلم به في كتابه العظيم، وما نقلته عنه الرسل، وفي الكتب السَّماوية الماضية. وفعلًا بما أوجد سبحانه وتعالى من الدلائل الخلقية الفعلية على وحدانيته، ما وجد في السَّماوات وفي الأرض وما بينهما، وفي هذه العجائب الأرضية التي يُشاهدها الناس، وفي أنفس الناس، وما خلق فيهم من عقولٍ وأسماعٍ وأبصارٍ وأدواتٍ وغير ذلك؛ شيء لا يُحصى ولا يُعدُّ، إذا تأمَّله العبدُ عرف أنه دالٌّ على قدرة الله وعظمته، وأنه المستحق للعبادة ؛ ولهذا أكثر الشُّعراء المتبصرون في هذا المعنى:

فواعجبًا كيف يُعصى الإله أم كيف يجحده الجاحد
وفي كل شيءٍ له آية تدل على أنه واحد

ويقول الآخر:

تأمَّل في نبات الأرض وانظر إلى آثار ما صنع المليك

فالمقصود أنَّ هذه الأشياء إذا تأمَّلها العاقلُ وتبصر فيها عرف أنها صنع الله ، وأنه الواحد الأحد، وأنه المستحق لأن يُعبد سبحانه وتعالى.

هذه المخلوقات المتقنة المتنوعة المشتملة على أنواع من العجائب والغرائب والأسرار والحِكَم والعجائب التي لا تُحصى في كثرة المخلوقات وخصائصها، وبين جمادها وناطقها، ونافعها وضارها، ونفيسها وما هو أدنى من ذلك، كلها حجج، وكلها بينات على أنه سبحانه هو المستحق لأن يُعبد جلَّ وعلا.

وأما أمره للعباد وإلزامه لهم فهذا أمر واضح؛ فقد أمرهم وألزمهم بحقِّه في كتبه، وعلى ألسنة رسله، أمرهم بما ينفعهم وألزمهم به وفرضه عليهم، ونهاهم عمَّا يضرهم وحذَّرهم منه، فهو سبحانه وتعالى يأمر بما فيه صلاحهم، وينهى عمَّا فيه مضرتهم، يأمر بما فيه الخير لهم في الدنيا والآخرة، ،وينهاهم عمَّا يضرهم في الدنيا والآخرة.

وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الشَّهَادَةَ تَكُونُ بِالْفِعْلِ قَوْلُهُ تَعَالَى: مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ [التوبة:17]، فَهَذِهِ شَهَادَةٌ مِنْهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِمَا يَفْعَلُونَهُ.

وَالْمَقْصُودُ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ يَشْهَدُ بِمَا جَعَلَ آيَاتِهِ الْمَخْلُوقَةَ دَالَّةً عَلَيْهِ، وَدَلَالَتُهَا إِنَّمَا هِيَ بِخَلْقِهِ وَجَعْلِهِ.

وَأَمَّا مَرْتَبَةُ الْأَمْرِ بِذَلِكَ وَالْإِلْزَامِ بِهِ، وَأَنَّ مُجَرَّدَ الشَّهَادَةِ لَا يَسْتَلْزِمُهُ، لَكِنَّ الشَّهَادَةَ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ تَدُلُّ عَلَيْهِ وَتَتَضَمَّنُهُ -فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ شَهِدَ بِهِ شَهَادَةَ مَنْ حَكَمَ بِهِ وَقَضَى وَأَمَرَ وَأَلْزَمَ عِبَادَهُ بِهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ [الإسراء:23]، وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: لَا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ [النحل:51]، وَقَالَ تَعَالَى: وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا [التوبة:31]، وَقَالَ تَعَالَى: لَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ [الإسراء:22]، وَقَالَ تَعَالَى: وَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ [القصص:88]، وَالْقُرْآنُ كُلُّهُ شَاهِدٌ بِذَلِكَ.

وَوَجْهُ اسْتِلْزَامِ شَهَادَتِهِ سُبْحَانَهُ لِذَلِكَ: أَنَّهُ إِذَا شَهِدَ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ، فَقَدْ أَخْبَرَ وَبَيَّنَ وَأَعْلَمَ وَحَكَمَ وَقَضَى أَنَّ مَا سِوَاهُ لَيْسَ بِإِلَهٍ، وَأَنَّ إِلَهِيَّةَ مَا سِوَاهُ بَاطِلَةٌ، فَلَا يَسْتَحِقُّ الْعِبَادَةَ سِوَاهُ، كَمَا لَا تَصْلُحُ الْإِلَهِيَّةُ لِغَيْرِهِ، وَذَلِكَ يَسْتَلْزِمُ الْأَمْرَ بِاتِّخَاذِهِ وَحْدَهُ إِلَهًا، وَالنَّهْيَ عَنِ اتِّخَاذِ غَيْرِهِ مَعَهُ إِلَهًا، وَهَذَا يَفْهَمُهُ الْمُخَاطَبُ مِنْ هَذَا النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ.

الشيخ: يفهمه المخاطبُ الفاهم العاقل للغة التي يسمعها.

كَمَا إِذَا رَأَيْتَ رَجُلًا يَسْتَفْتِي رَجُلًا أَوْ يَسْتَشْهِدُهُ أَوْ يَسْتَطِبُّهُ وَهُوَ لَيْسَ أَهْلًا لِذَلِكَ، وَيَدَعُ مَنْ هُوَ أَهْلٌ لَهُ، فَتَقُولُ: هَذَا لَيْسَ بِمُفْتٍ وَلَا شَاهِدٍ وَلَا طَبِيبٍ، الْمُفْتِي فُلَانٌ، وَالشَّاهِدُ فُلَانٌ، وَالطَّبِيبُ فُلَانٌ، فَإِنَّ هَذَا أَمْرٌ مِنْهُ وَنَهْيٌ.

وَأَيْضًا فَالْآيَةُ دَلَّتْ عَلَى أَنَّهُ وَحْدَهُ الْمُسْتَحِقُّ لِلْعِبَادَةِ، فَإِذَا أَخْبَرَ أَنَّهُ هُوَ وَحْدَهُ الْمُسْتَحِقُّ لِلْعِبَادَةِ تَضَمَّنَ هَذَا الْإِخْبَارُ أَمْرَ الْعِبَادِ وَإِلْزَامَهُمْ بِأَدَاءِ مَا يَسْتَحِقُّ الرَّبُّ تَعَالَى عَلَيْهِمْ، وَأَنَّ الْقِيَامَ بِذَلِكَ هُوَ خَالِصُ حَقِّهِ عَلَيْهِمْ.

الشيخ: هذا لو تجردت النصوص عن الأوامر، وكانت مجرد أخبار؛ لكان ما ذكره المؤلفُ واضحًا، ولكن مع هذا كله جاءت الأوامر صريحةً بذلك، مع ما تقتضيه الأخبار من وجوب إخلاص العبادة له ، فلم يكتفِ؛ فقد أمر ونهى ولم يكتفِ بهذا الشيء، بل جمع الأدلة ونوَّعها وكثرها حتى لا تبقى حُجَّة للناس، فقد جاءت الأوامر بعبادته، وجاء النهي عن الشرك به ومعصيته، وجاءت الأخبار بأنه أهلك مَن عصى وخالف الرسل في هذا الأمر، وجاءت النصوص بأنه نصر مَن أطاع الله في هذا ووحده، وأيَّدهم ووعدهم بالجنة والكرامة، فالأنواع التي تدل على الإلزام بهذا الشيء متنوعة كثيرة.

وَأَيْضًا فَلَفْظُ "الْحُكْمِ وَالْقَضَاءِ" يُسْتَعْمَلُ فِي الْجُمْلَةِ الْخَبَرِيَّةِ، وَيُقَالُ لِلْجُمْلَةِ الْخَبَرِيَّةِ: قَضِيَّةٌ، وَحُكْمٌ، وَقَدْ حُكِمَ فِيهَا بِكَذَا، قَالَ تَعَالَى: أَلَا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ ۝ وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ ۝ أَصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ ۝ مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ [الصافات:151- 154]، فَجَعَلَ هَذَا الْإِخْبَارَ الْمُجَرَّدَ مِنْهُمْ حُكْمًا، وَقَالَ تَعَالَى: أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ ۝ مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ [القلم:35- 36]، لَكِنَّ هَذَا حُكْمٌ لَا إِلْزَامَ مَعَهُ.
وَالْحُكْمُ وَالْقَضَاءُ بِأَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ مُتَضَمِّنٌ لِلْإِلْزَام، وَلَوْ كَانَ الْمُرَادُ مُجَرَّدَ شَهَادَةٍ لَمْ يَتَمَكَّنُوا مِنَ الْعِلْمِ بِهَا، وَلَمْ يَنْتَفِعُوا بِهَا، وَلَمْ تَقُمْ عَلَيْهِمْ بِهَا الْحُجَّةُ، بَلْ قَدْ تَضَمَّنَتِ الْبَيَانَ لِلْعِبَادِ وَدَلَالَتَهُمْ وَتَعْرِيفَهُمْ بِمَا شَهِدَ بِهِ، كَمَا أَنَّ الشَّاهِدَ مِنَ الْعِبَادِ إِذَا كَانَتْ عِنْدَهُ شَهَادَةٌ وَلَمْ يُبَيِّنْهَا بَلْ كَتَمَهَا لَمْ يَنْتَفِعْ بِهَا أَحَدٌ، وَلَمْ تَقُمْ بِهَا حُجَّةٌ.
وَإِذَا كَانَ لَا يُنْتَفَعُ بِهَا إِلَّا بِبَيَانِهَا، فَهُوَ سُبْحَانَهُ قَدْ بَيَّنَهَا غَايَةَ الْبَيَانِ بِطُرُقٍ ثَلَاثَةٍ: السَّمْعِ، وَالْبَصَرِ، وَالْعَقْلِ.
أَمَّا السَّمْعُ: فَبِسَمْعِ آيَاتِهِ الْمَتْلُوَّةِ الْمُبَيِّنَةِ لِمَا عَرَّفَنَا إِيَّاهُ مِنْ صِفَاتِ كَمَالِهِ كُلِّهَا -الْوَحْدَانِيَّةِ وَغَيْرِهَا- غَايَةَ الْبَيَانِ، لَا كَمَا يَزْعُمُهُ الْجَهْمِيَّةُ وَمَنْ وَافَقَهُمْ مِنَ الْمُعْتَزِلَةِ وَمُعَطِّلَةِ بَعْضِ الصِّفَاتِ مِنْ دَعْوَى احْتِمَالَاتٍ تُوقِعُ فِي الْحَيْرَةِ، تُنَافِي.

الشيخ: وتُنافي، يعني: واو كأنها ساقطة.

تُنَافِي الْبَيَانَ الَّذِي وَصَفَ اللَّهُ بِهِ كِتَابَهُ الْعَزِيزَ وَرَسُولَهُ الْكَرِيمَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: حم ۝ وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ [الزخرف:1- 2]، الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ [يوسف:1]، الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ [الحجر:1].

...........

هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ [آل عمران:138]، فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ [المائدة:92]، وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ [النحل:44].

الشيخ: وفي النحل: وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ [النحل:89]، وقال في سورة الشعراء: بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ [الشعراء:195] معنى "مبين" أي: يُبين ما يجب، أي: يُبين المطالب، من أبان يُبين، اسم الفاعل من أبان، من الرباعي، ما قال: بيّن، بل قال: مُبين، أي: يُبين ما يحتاجه العباد، يُبين المطالب العالية، يُوضح المقاصد التي قصدها الربُّ في كتابه العظيم، يُبين الشرائع، يُبين الأحكام، يُبين الأسماء، يُبين الصِّفات، يُبين كل المطالب المطلوبة؛ ولهذا عدل الرب عن "كتاب بيِّن" إلى "كتاب مُبين": كتاب عربي مُبين.

والمقصود من هذا هو أنه يُوضح، ولو قال: "كتاب بيّن" فقط، فهو بيِّن في نفسه، ومع ذلك يُبين غيره، يُبين للناس ما يحتاجون إليه.

وَكَذَلِكَ السُّنَّةُ تَأْتِي مُبَيِّنَةً أَوْ مُقَرِّرَةً لِمَا دَلَّ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ، لَمْ يُحْوِجْنَا رَبُّنَا إِلَى رَأْيِ فُلَانٍ، وَلَا إِلَى ذَوْقِ فُلَانٍ وَوَجْدِهِ فِي أُصُولِ دِينِنَا؛ وَلِهَذَا نَجِدُ مَنْ خَالَفَ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ مُخْتَلِفِينَ مُضْطَرِبِينَ.

الشيخ: لأنه ما عندهم أصول؛ ولهذا مَن خالف الأصول حُرِمَ الوصول: بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ [ق:5] مختلف، فمَن تمسَّك بالأصول استقام أمره، واتَّحدت كلمته، ومَن خالف الأصول واعتمد الرأي أو القياس ومجرد ما في النفوس أو الذوق والوجد وما أشبه ذلك –كما قالت الصوفية أو ما أشبه ذلك- مرج أمره واختلف، ولم يرجع إلى قاعدةٍ؛ فلهذا تجد المتصوفين والمتكلمين في أمرٍ مريجٍ، مخالفين مختلفين؛ لأنَّ أصولهم مُضطربة مختلفة، فهكذا اختلفت الفروع؛ لأنَّ اختلاف الأصول يُوجب ذلك، نسأل الله السلامة.

وليس هناك عصمة من هذا البلاء إلا بالرجوع إلى الكتاب والسنة، الرجوع إلى الآيات الواضحات المحكمات في باب الأسماء والصِّفات، وفي باب التوحيد والشرك، وفي باب الأحكام، وهكذا السنة المطهرة الرجوع إليها؛ لأنَّها المفسرة المبينة لمعاني كلام الله، والموجهة لما قد يخفى من ذلك، فمَن رجع إلى هذين الأصلين واعتمد عليهما، وبذل وسعه في التَّعرف على كلِّ ما يُشكل عليه من ذلك بالطرق المعروفة التي رسمها أهلُ العلم في كتبهم العظيمة؛ هُدي إلى الصراط المستقيم، مع صلاح النية، ومع بذل الوسع، أما مَن أراد أن يذهب إلى أصولٍ أخرى، وإلى مراجع أخرى، ويُحكِّم رأيه وعقله وشيخه وجده وعمه؛ فإنه يهلك ويضطرب، ويقع في الحيرة، نسأل الله السلامة.

بَلْ قَدْ قَالَ تَعَالَى: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا [المائدة:3]، فَلَا يَحْتَاجُ فِي تَكْمِيلِهِ إِلَى أَمْرٍ خَارِجٍ عَنِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ.

الشيخ: وكثير من هؤلاء الذين يُخالفون الكتاب والسنة تجدهم يحتجُّون بالمجملات والعمومات، ويتركون الواضحات المفصلات، وهذا شأن أهل الزيغ؛ فإن أهل الزيغ يتَّبعون ما تشابه منه، ويتركون المحكم: فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ [آل عمران:7].

وأما أهل البصائر والإيمان والتَّقوى فإنهم يرجعون إلى المحكمات الواضحات، وما خالفها فيما قد يظهر أو فيما قد يدعيه بعضُ الناس ردّ إلى المحكم، ولا يُخالف المحكم من أجل رأي فلانٍ أو رأي فلانٍ، بل يجب ردّ ما اختلف إلى المحكمات الواضحات التي ليس فيها لبس ولا شُبهة.

وَإِلَى هَذَا الْمَعْنَى أَشَارَ الشَّيْخُ أَبُو جَعْفَرٍ الطَّحَاوِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِيمَا يَأْتِي مِنْ كَلَامِهِ بِقَوْلِهِ: لَا نَدْخُلُ فِي ذَلِكَ مُتَأَوِّلِينَ بِآرَائِنَا، وَلَا مُتَوَهِّمِينَ بِأَهْوَائِنَا، فَإِنَّهُ مَا سَلِمَ فِي دِينِهِ إِلَّا مَنْ سَلَّمَ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَلِرَسُولِهِ ﷺ.

وَأَمَّا آيَاتُهُ الْعِيَانِيَّةُ الْخَلْقِيَّةُ.

الشيخ: مصدر عاين عيانًا، مثل: جادل جدالًا، قاتل قتالًا، وهذه القاعدة في هذه المصادر لها مصدران: فعال ومُفاعلة، عاين عيانًا ومُعاينة، قاتل قتالًا ومُقاتلة، جادل جدالًا ومُجادلة، عاينته عيانًا، وعاينته مُعاينة.

فَالنَّظَرُ فِيهَا وَالِاسْتِدْلَالُ بِهَا يَدُلُّ عَلَى مَا تَدُلُّ عَلَيْهِ آيَاتُهُ الْقَوْلِيَّةُ السَّمْعِيَّةُ، وَالْعَقْلُ يَجْمَعُ بَيْنَ هَذِهِ وَهَذِهِ، فَيَجْزِمُ بِصِحَّةِ مَا جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ، فَتَتَّفِقُ شَهَادَةُ السَّمْعِ وَالْبَصَرِ وَالْعَقْلِ وَالْفِطْرَةِ.

الشيخ: يعني ما يُشاهده الناس ويُعاينونه من آيات الله الدالة على قُدرته العظيمة وحكمته سبحانه وتعالى، وما يُشاهدونه في أنفسهم: لماذا جعل هذه العين في الوجه؟ لماذا جعل هذا الأنف مقدم؟ لماذا جعل هذا اللسان ينطق؟ لماذا جعل الأذن هنا وتسمع؟ لماذا ما جعل لها غطاء يُغطيها؟ حتى تسمع الأصوات من حين يقع الصوت، لو كان لها غطاء محكم ربما فاتت الأصوات قبل أن يُرفع الغطاء، فجعلها مفتوحةً تسمع الصوت من حين يقع الصوت، وجعل العين مُيسرة فتحها وتغميضها بسهولةٍ حتى ترى وتُبصر ما أمامها وعن يمينها وشمالها وخلفها، لماذا جعل الأسنان؟ ما هي الحكمة؟ لماذا جعل هذه الأسنان بعضها كذا وبعضها كذا؟ بعضها يقطع وبعضها يطحن؟ الحكمة ظاهرة، لماذا جعل هذا اللسان يتكلم ويُعبر عمَّا في جوفه؟ لماذا جعل العقل في القلب يعقل به الأشياء؟ لماذا جعل الأصابع؟ لماذا جعل للأصابع أظفارًا؟

كل يعرف هذه الأمور، إذا تأمَّلها عرف أنها حاجة، وكذلك في أصابع الرجلين لماذا جعلها هكذا مُفرجة؟ لماذا جعل فيها أظفارًا؟ وهكذا بقية الأشياء في نفس الإنسان: وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ [الذاريات:21].

كذلك ما جعل في هذه الجبال: مَن دخل فيها من الناس أو حشرات على حسب قوتها تقيهم الحرَّ، تقيهم الشمس، تقيهم المطر، لماذا جعل هذه الأنهار وهذه العيون الجاريات في أنحاء الأرض؟ لماذا جعل هذه الأشجار العظيمة في أنحاء الأرض في الصحراء؟ لماذا جعل فيها هذه الفواكه؟ وجعل فيها الفوائد: الرمان كذا، العنب كذا، التمر كذا، النوع الآخر كذا، تجد ستة ألوان من الطعوم والفوائد، هذه خُلقت عن عبثٍ؟! عن صدفةٍ؟! كلها لحكمةٍ عظيمةٍ، وعن علمٍ وبصيرةٍ، وعن قُدرةٍ، إذا فكر الإنسانُ في هذه الأمور يعجب العجب العظيم، يعرف أنَّ هذا الشيء صدر عن حكيم عليم، بصير بأحوال العباد، بصير بمصالحهم، عالم بما ينفعهم وما يضرُّهم، له الحكمة البالغة، والحجة الدامغة، والقدرة الكاملة، والعلم الكامل، سبحان الله ما أعظم شأنه!

فَهُوَ سُبْحَانُهُ لِكَمَالِ عَدْلِهِ وَرَحْمَتِهِ وَإِحْسَانِهِ وَحِكْمَتِهِ وَمَحَبَّتِهِ لِلْعُذْرِ وَإِقَامَةِ الْحُجَّةِ لَمْ يَبْعَثْ نَبِيًّا إِلَّا وَمَعَهُ آيَةٌ تَدُلُّ عَلَى صِدْقِهِ فِيمَا أَخْبَرَ بِهِ، قَالَ تَعَالَى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ} [الحديد:25]، وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ * بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ} [النحل:43- 44]، وَقَالَ تَعَالَى: {قُلْ قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ} [آل عمران:183]، وَقَالَ تَعَالَى: {فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جَاؤُوا بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتَابِ الْمُنِيرِ} [آل عمران:184]، وَقَالَ تَعَالَى: {اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ} [الشورى:17].

حَتَّى إِنَّ مِنْ أَخْفَى آيَاتِ الرُّسُلِ آيَاتُ هُودٍ، حَتَّى قَالَ لَهُ قَوْمُهُ: {يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ} [هود:53]، وَمَعَ هَذَا فَبَيِّنَتُهُ مِنْ أَوْضَحِ الْبَيِّنَاتِ لِمَنْ وَفَّقَهُ اللَّهُ لِتَدَبُّرِهَا، وَقَدْ أَشَارَ إِلَيْهَا بِقَوْلِهِ: {إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ * مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنْظِرُونَ * إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [هود:54- 56].

فَهَذَا مِنْ أَعْظَمِ الْآيَاتِ: أَنَّ رَجْلًا وَاحِدًا يُخَاطِبُ أُمَّةً عَظِيمَةً بِهَذَا الْخِطَابِ، غَيْرَ جَزِعٍ، وَلَا فَزِعٍ، وَلَا خَوَّارٍ، بَلْ هُوَ وَاثِقٌ بِمَا قَالَهُ، جَازِمٌ بِهِ، فَأَشْهَدَ اللَّهَ أَوَّلًا عَلَى بَرَاءَتِهِ مِنْ دِينِهِمْ وَمَا هُمْ عَلَيْهِ إِشْهَادَ وَاثِقٍ بِهِ، مُعْتَمِدٍ عَلَيْهِ، مُعْلِمٍ لِقَوْمِهِ أَنَّهُ وَلِيُّهُ وَنَاصِرُهُ وَغَيْرُ مُسَلِّطٍ لَهُمْ عَلَيْهِ.

ثُمَّ أَشْهَدَهُمْ إِشْهَادَ مُجَاهِرٍ لَهُمْ بِالْمُخَالَفَةِ أَنَّهُ بَرِيءٌ مِنْ دِينِهِمْ وَآلِهَتِهِمُ الَّتِي يُوَالُونَ عَلَيْهَا وَيُعَادُونَ عَلَيْهَا وَيَبْذُلُونَ دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ فِي نُصْرَتِهِمْ لَهَا، ثُمَّ أَكَّدَ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ بِالِاسْتِهَانَةِ بِهِمْ وَاحْتِقَارِهِمْ وَازْدِرَائِهِمْ، وَلَوْ يَجْتَمِعُونَ كُلُّهُمْ عَلَى كَيْدِهِ وَشِفَاءِ غَيْظِهِمْ مِنْهُ، ثُمَّ يُعَاجِلُونَهُ وَلَا يُمْهِلُونَهُ.

ثُمَّ قَرَّرَ دَعْوَتَهُمْ أَحْسَنَ تَقْرِيرٍ، وَبَيَّنَ أَنَّ رَبَّهُ تَعَالَى وَرَبَّهُمُ الَّذِي نَوَاصِيهِمْ بِيَدِهِ هُوَ وَلِيُّهُ وَوَكِيلُهُ الْقَائِمُ بِنَصْرِهِ وَتَأْيِيدِهِ، وَأَنَّهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ، فَلَا يَخْذُلُ مَنْ تَوَكَّلَ عَلَيْهِ وَأَقَرَّ بِهِ، وَلَا يُشْمِتُ بِهِ أَعْدَاءَهُ.

فَأَيُّ آيَةٍ وَبُرْهَانٍ أَحْسَنُ مِنْ آيَاتِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ وَبَرَاهِينِهِمْ وَأَدِلَّتِهِمْ؟ وَهِيَ شَهَادَةٌ مِنَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ لَهُمْ، بَيَّنَهَا لِعِبَادِهِ غَايَةَ الْبَيَانِ.

وَمِنْ أَسْمَائِهِ تَعَالَى: الْمُؤْمِنُ، وَهُوَ فِي أَحَدِ التَّفْسِيرَيْنِ: الْمُصَدِّقُ الَّذِي يُصَدِّقُ الصَّادِقِينَ بِمَا يُقِيمُ لَهُمْ مِنْ شَوَاهِدِ صِدْقِهِمْ، فَإِنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يُرِيَ الْعِبَادَ مِنَ الْآيَاتِ الْأُفُقِيَّةِ وَالنَّفْسِيَّةِ مَا يُبَيِّنُ لَهُمْ أَنَّ الْوَحْيَ الَّذِي بَلَّغَتْهُ رُسُلُهُ حَقٌّ، قَالَ تَعَالَى: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ} [فصلت:53] أَيِ: الْقُرْآنَ، فَإِنَّهُ الْمُتَقَدِّمُ فِي قَوْلِهِ: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} [فصلت:52]، ثُمَّ قَالَ: {أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [فصلت:53].

فَشَهِدَ سُبْحَانَهُ لِرَسُولِهِ بِقَوْلِهِ أَنَّ مَا جَاءَ بِهِ حَقٌّ، وَوَعَدَ أَنْ يُرِيَ الْعِبَادَ مِنْ آيَاتِهِ الْفِعْلِيَّةِ الْخَلْقِيَّةِ مَا يَشْهَدُ بِذَلِكَ أَيْضًا، ثُمَّ ذَكَرَ مَا هُوَ أَعْظَمُ مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ وَأَجَلُّ، وَهُوَ شَهَادَتُهُ سُبْحَانَهُ بِأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ، فَإِنَّ مِنْ أَسْمَائِهِ: الشَّهِيدَ الَّذِي لَا يَغِيبُ عَنْهُ شَيْءٌ، وَلَا يَعْزُبُ عَنْهُ، بَلْ هُوَ مُطَّلِعٌ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ، مُشَاهِدٌ لَهُ، عَلِيمٌ بِتَفَاصِيلِهِ.

وَهَذَا اسْتِدْلَالٌ بِأَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ، وَالْأَوَّلُ اسْتِدْلَالٌ بِقَوْلِهِ وَكَلِمَاتِهِ، وَاسْتِدْلَالٌ بِالْآيَاتِ الْأُفُقِيَّةِ وَالنَّفْسِيَّةِ اسْتِدْلَالٌ بِأَفْعَالِهِ وَمَخْلُوقَاتِهِ.

فَإِنْ قُلْتَ: كَيْفَ يُسْتَدَلُّ بِأَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ، فَإِنَّ الِاسْتِدْلَالَ بِذَلِكَ لَا يُعْهَدُ فِي الِاصْطِلَاحِ؟

فَالْجَوَابُ: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ أَوْدَعَ فِي الْفِطْرِ الَّتِي لَمْ تَتَنَجَّسْ بِالْجُحُودِ وَالتَّعْطِيلِ، وَلَا بِالتَّشْبِيهِ وَالتَّمْثِيلِ: أَنَّهُ سُبْحَانَهُ الْكَامِلُ فِي أَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ، وَأَنَّهُ الْمَوْصُوفُ بِمَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ، وَوَصَفَهُ بِهِ رُسُلُهُ، وَمَا خَفِيَ عَنِ الْخَلْقِ مِنْ كَمَالِهِ أَعْظَمُ وَأَعْظَمُ مِمَّا عَرَفُوهُ مِنْهُ.

وَمِنْ كَمَالِهِ الْمُقَدَّسِ: شَهَادَتُهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ، وَاطِّلَاعُهُ عَلَيْهِ، بِحَيْثُ لَا يَغِيبُ عَنْهُ ذَرَّةٌ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ، بَاطِنًا وَظَاهِرًا.

وَمَنْ هَذَا شَأْنُهُ كَيْفَ يَلِيقُ بِالْعِبَادِ أَنْ يُشْرِكُوا بِهِ، وَأَنْ يَعْبُدُوا غَيْرَهُ وَيَجْعَلُوا مَعَهُ إِلَهًا آخَرَ؟

وَكَيْفَ يَلِيقُ بِكَمَالِهِ أَنْ يُقِرَّ مَنْ يَكْذِبُ عَلَيْهِ أَعْظَمَ الْكَذِبِ، وَيُخْبِر عَنْهُ بِخِلَافِ مَا الْأَمْرُ عَلَيْهِ، ثُمَّ يَنْصُرَهُ عَلَى ذَلِكَ وَيُؤَيِّدَهُ وَيُعْلِيَ شَأْنَهُ، وَيُجِيبَ دَعْوَتَهُ، وَيُهْلِكَ عَدُوَّهُ، وَيُظْهِرَ عَلَى يَدَيْهِ مِنَ الْآيَاتِ وَالْبَرَاهِينِ مَا يَعْجِزُ عَنْ مثلِهِ قُوَى الْبَشَرِ، وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ كَاذِبٌ عَلَيْهِ مُفْتَرٍ؟!

الشيخ: الصواب: كاذب عليه مُفترٍ، يعني: ما يليق بالرب عزَّ وجل أن ينصر مَن هذا شأنه، لا يليق به أن ينصر ويظهر على دينه كذا وكذا، وهو في نفس الأمر كاذب عليه مُفترٍ، يعني: لا يليق بحكمة الله ذلك، بل مَن كان بهذه المثابة فهو جدير بأن يُعاقب وتُعجل له العقوبة ويذهب ويُظهر الله كذبه وباطله من الدلائل ما يعلم العقلاء أنه كاذب، كما جرى لمسيلمة والمختار ابن أبي عبيد والأسود العنسي وأشباههم مما ظهر من دلائل الكذب والفساد والاضطراب والبهرج ما دلَّ على باطلهم وكذبهم.

والمقصود من هذا أن أسماء الله الحسنى وصفاته العُلى تدل على عظمته واستحقاقه العبادة، وأنه رب العالمين، فيُستدل بأسمائه الحسنى وصفاته العُلى لمن فطره الله على الحقِّ على أنه الحقُّ سبحانه وتعالى، وما فطر العباد على الإيمان بهذا الذي كوَّن هذا الكون وأبدع فيه ما أبدع، وجعل فيه ما جعل، فالقلوب مفطورة على الإيمان بهذا العظيم الذي خلق هذا الكون ودبَّر شؤونه وأحكمه، وجعل فيه من المنافع والمصالح ما جعل، فالله فطر القلوب والعقول على الإيمان بهذا، وتعظيم من هذا شأنه، فجاءت الرسل تُذكرهم بهذا الشيء، وتُؤيد هذا الشيء، وتُبين أنَّ هذا الذي خلق العالم وجعل فيه ما جعل وجعل في نفس الإنسان ما جعل أيضًا هو المستحق لأن يُعبد ويُعظم، وهو ربّ العالمين، وهو خالق العالمين، ولا يليق بعاقلٍ أن يعبد معه سواه، أو يُشرك معه في خلقه وتدبيره أو في عنايته أو في أسمائه وصفاته غيره سبحانه وتعالى.

العقول عاجزة عن التفصيل، فجاءت الرسل تُبين أن هذا الذي خلق العالم هو الله، يُسمَّى: الله، يُسمَّى: الرحمن، يُسمَّى: الرحيم، يسمى: الخلاق، يسمى: الخالق، يسمى: الرازق، يسمى: الغفور، يسمى: المصور، يسمى: البارئ، يسمى: السميع، يسمى: البصير، يسمى: رب العالمين، يسمى: مالك يوم الدين، جاءت الرسل بهذه الأشياء التي تُقر بها العقول والفِطَر السليمة، وتشهد بها لما وقع فيها ولما فطرت عليه من تعظيم مكون هذا الكون وخالقه ومُدبره، ولما فطرت عليه من تعظيم خالقها وبارئها الذي جعل فيها ما جعل من عقلٍ وسمعٍ وبصرٍ، وجعل فيها مخارج ومداخل لحاجتها، وجعل فيها ما جعل من العقل للأمور، والتَّمييز بين الضار والنافع، وبين الخير والشر، وبين ما يُناسبها وما لا يُناسبها، إلى غير ذلك سبحانه وتعالى.

ثم اللغات مختلفة، فلغات العرب جاءت بهذه العبارات الصريحة، واللغات الأخرى جاءت بذلك، بما يعقله أصحابها: عبرية، سريانية .. واللغات الأخرى القديمة في عهد إبراهيم، وعهد هود، وعهد صالح، إلى غير ذلك، جاءت الرسل وجاءت الرسالات بلغات تناسب أهل ذاك الزمان، ويعقلونها ويفهمونها ويستفيدون منها بما تقوم به الحُجَّة عليهم.

وَمَعْلُومٌ أَنَّ شَهَادَتَهُ سُبْحَانَهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَقُدْرَتَهُ وَحِكْمَتَهُ وَعِزَّتَهُ وَكَمَالَهُ الْمُقَدَّسَ يَأْبَى ذَلِكَ، وَمَنْ جَوَّزَ ذَلِكَ فَهُوَ مِنْ أَبْعَدِ النَّاسِ عَنْ مَعْرِفَتِهِ.

وَالْقُرْآنُ مَمْلُوءٌ مِنْ هَذِهِ الطَّرِيقِ، وَهِيَ طَرِيقُ الْخَوَاصِّ.

الشيخ: طريق الخواص من عباده وأوليائه، بخلاف الجهمية والمعتزلة وأشباههم الذين تعرَّت قلوبهم وعقولهم من إثبات الصِّفات والأسماء، فصارت عقولهم وفطرهم منحرفةً زائغةً، رأوا أنَّ الكمال في نفي هذه الصِّفات وعدم الإقرار بها، هذه عقول زاغت، وقلوب فسدت وزاغت، فلا عبرةَ بها، ولا يُلتفت إليها.

وكذلك عقول وقلوب مَن رأى التَّشبيه لله بخلقه، وقال في أسمائه وصفاته ما يقوله في صفات المخلوقين: كالجواربي وأشباهه ممن مالوا إلى التَّشبيه، وجعلوا الله كخلقه.

هؤلاء كفَّار، وهؤلاء كفار، ولم يسلم من هذا البلاء وهذا الفساد وهذا التَّعطيل والتَّشبيه إلا الحنفاء، إلا أتباع الرسل، إلا أهل السنة والجماعة الذين قبلوا عن الله ما أخبر به، وحملوه على أحسن المحامل، ولم يذهبوا مذهب المشبهة، ولا مذهب المعطلة، بل أثبتوا لله صفات كماله وأسمائه الحسنى إثباتًا بريئًا من التَّعطيل، وبريئًا من التَّشبيه والتَّمثيل، أما أولئك المشبهون فغلوا في الإثبات، وأما أولئك المعطلون فغلوا في التنزيه وهلكوا، ولكن أهل السنة والجماعة أثبتوا بلا تمثيلٍ، ونزَّهوا بلا تعطيلٍ، ففازوا بالسلامة، وفازوا بالتوفيق.

يَسْتَدِلُّونَ بِاللَّهِ عَلَى أَفْعَالِهِ وَمَا يَلِيقُ بِهِ أَنْ يَفْعَلَهُ وَلَا يَفْعَلهُ، قَالَ تَعَالَى: وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ ۝ لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ۝ ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ ۝ فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ [الحاقة:44- 47]، وَسَيَأْتِي لِذَلِكَ زِيَادَةُ بَيَانٍ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

وَيسْتَدلُّ أَيْضًا بِأَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ عَلَى وَحْدَانِيَّتِهِ، وَعَلَى بُطْلَانِ الشِّرْكِ.

الشيخ: يعني: مَن خلق هذا العالم وهو الله جدير بأن يكون سميعًا بصيرًا حكيمًا عليمًا قادرًا، ومن كان بهذه الصِّفات فهو جدير أيضًا بأن يستحق العبادة .

كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ [الحشر:23]، وَأَضْعَافُ ذَلِكَ فِي الْقُرْآنِ.

وَهَذِهِ الطَّرِيقُ قَلِيلٌ سَالِكُهَا، لَا يَهْتَدِي إِلَيْهَا إِلَّا الْخَوَاصُّ، وَطَرِيقَةُ الْجُمْهُورِ الِاسْتِدْلَالُ بِالْآيَاتِ الْمُشَاهَدَةِ؛ لِأَنَّهَا أَسْهَلُ تَنَاوُلًا وَأَوْسَعُ، وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ يُفَضِّلُ بَعْضَ خَلْقِهِ عَلَى بَعْضٍ.

فَالْقُرْآنُ الْعَظِيمُ قَدِ اجْتَمَعَ فِيهِ مَا لَمْ يَجْتَمِعْ فِي غَيْرِهِ، فَإِنَّهُ الدَّلِيلُ وَالْمَدْلُولُ عَلَيْهِ، وَالشَّاهِدُ وَالْمَشْهُودُ لَهُ، قَالَ تَعَالَى لِمَنْ طَلَبَ آيَةً تَدُلُّ عَلَى صِدْقِ رَسُولِهِ: أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ [العنكبوت:51].

الشيخ: ولا شكَّ أن القرآن العظيم فيه الحجَّة البالغة، والآية العظمى، والمعجزة الكبرى على أنه من عند الله، فإنه كتاب عظيم مُشتمل على أخبارٍ صادقةٍ، وعلوم نافعة، وأحكام عادلة، وتوجيه إلى الخير، وإرشاد إلى أسباب النَّجاة، وبيان ما ينبغي للعبد أن يسير عليه، فمَن تدبره وتعقله عرف أنه أُنزل بالحقِّ، وأنه كلام الرب ، وأنه لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ [فصلت:42]، قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ [فصلت:44]، بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ [العنكبوت:49]، أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ [العنكبوت:51]، وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ [الأنعام:155]، كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ [ص:29]، إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ [الإسراء:9].

فمَن تعقله وتدبره عرف حقًّا أنه كتاب الله، وأنه مُنزل من عند الله، وأنه كلام الله، وأنه بعيد عن كلِّ ما رماه به أعداءُ الله، وافتراه عليه أعداءُ الله، ولكن الهوى والحسد والبغي والعناد كلها تحمل أهلها على ما لا ينبغي، وعلى ما يعلم كلُّ عاقلٍ بطلانه: قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ [الأنعام:33]، فالأهواء المنحرفة والنفوس الظالمة والمقاصد الخبيثة كلها تحمل على كل شرٍّ، وعلى ما هو معلوم بالبداهة بطلانه، نسأل الله السلامة ..........

وَإِذَا عُرِفَ أَنَّ تَوْحِيدَ الْإِلَهِيَّةِ هُوَ التَّوْحِيدُ الَّذِي أُرْسِلَتْ بِهِ الرُّسُلُ، وَأُنْزِلَتْ بِهِ الْكُتُبُ، كَمَا تَقَدَّمَتْ إِلَيْهِ الْإِشَارَةُ؛ فَلَا يُلْتَفَتُ إِلَى قَوْلِ مَنْ قَسَّمَ التَّوْحِيدَ إِلَى ثَلَاثَةِ أَنْوَاعٍ، وَجَعَلَ هَذَا النَّوْعَ تَوْحِيدَ الْعَامَّةِ، وَالنَّوْعَ الثَّانِيَ تَوْحِيدَ الْخَاصَّةِ، وَهُوَ الَّذِي يَثْبُتُ بِالْحَقَائِقِ، وَالنَّوْعَ الثَّالِثَ تَوْحِيدًا قَائِمًا بِالْقِدَمِ، وَهُوَ تَوْحِيدُ خَاصَّةِ الْخَاصَّةِ!

الشيخ: وهذا كلام ليس بمظهورٍ، بل نهايته الإلحاد والتَّعطيل، فمَن جعل توحيدَ الرسل توحيدَ العامَّة فقد ألحد في آيات الله وأسمائه وصفاته، فإن هذا التوحيد هو الذي جاءت به الرسل، وهو الذي نزلت به الكتب، فمَن جعله توحيد العامَّة، وأنَّ هناك توحيدًا آخر للخاصَّة؛ فما عرف الشريعة، وما عرف ما جاءت به الرسل، وتوحيد العامَّة هو توحيد الرسل، وهو إفراد الله بالعبادة، والإيمان بأسمائه وصفاته ، وأنه الحق، وأنه المعبود، وأنه مدبر الأمور، وأنه الإله الذي لا تنبغي العبادة لغيره، وما سواه مخلوق مربوب.

أما توحيد القدم والتوحيد الذي يثبت بالحقائق الباطنية التي معناها تعطيل الصِّفات، ويُشابه الفناء المطلق، ولا يشاهد إلا الله وحده، وأن ما سواه ليس بشيءٍ؛ فهذا يُفضي بأهله إلى الإلحاد الكامل، وإلى وحدة الوجود، وإلى إنكار ما جاءت به الرسل بإثباته من الفرق بين العابد والمعبود، وبين الإله والآله العابد، وبين الحق والمخلوق الذي هو عابد مربوب مُدَبَّر مُصَرَّف.

وكذلك فيه أيضًا صدٌّ عن سبيل الله، وتكذيب للرسل، وإنكار لما جاءوا به، فإنهم جاءوا بأحكام وأوامر ونواهٍ، وبيان الإله الذي يستحق العبادة، وبيان للعباد أنهم يستحقون أن يعبدوا ربَّهم، ويقوموا بحقِّه، وأن يخضعوا له.

فهذا التوحيد الذي عندهم الذي هو الفناء في الخالق، ونسيان المخلوقين والشّغل عنهم، وعدم الالتفات إليهم، وألا يُشاهد إلَّا ذاتًا مُجردةً، كل هذا من أبطل الباطل، نسأل الله العافية .......

فَإِنَّ أَكْمَلَ النَّاسِ تَوْحِيدًا الْأَنْبِيَاءُ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ، وَالْمُرْسَلُونَ مِنْهُمْ أَكْمَلُ فِي ذَلِكَ، وَأُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ أَكْمَلُهُمْ تَوْحِيدًا، وَهُمْ: نُوحٌ، وَإِبْرَاهِيمُ، وَمُوسَى، وَعِيسَى، وَمُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ وَسَلَّمَ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ. وَأَكْمَلُهُمْ تَوْحِيدًا الْخَلِيلَانِ: مُحَمَّدٌ وَإِبْرَاهِيمُ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمَا وَسَلَامُهُ، فَإِنَّهُمَا قَامَا مِنَ التَّوْحِيدِ بِمَا لَمْ يَقُمْ بِهِ غَيْرُهُمَا عِلْمًا وَمَعْرِفَةً وَحَالًا، وَدَعْوَةً لِلْخَلْقِ وَجِهَادًا.

الشيخ: وقد استنبط العلماءُ أنَّ هؤلاء الخمسة هم أولو العزم، استنبطوا آيتين من كتاب الله: من قوله في سورة الأحزاب: وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ [الأحزاب:7]، ومن قوله في سورة الشورى: شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ [الشورى:13] قالوا: فذكرهم بهاتين الآيتين الكريمتين دليل على الخصوصية، وأنهم أولو العزم من الرسل، يعني: أولو القوة الكاملة التي يُعطاها الرسل عليهم الصلاة والسلام، وأفضلهم الخليلان: إبراهيم أبو الأنبياء، خليل الرحمن، وخاتمهم محمد عليه الصلاة والسلام، فكل من الرسل والأنبياء له فضله، وله منزلته عند الله العظيمة، وله خصائصه عليهم الصَّلاة والسَّلام.

فَلَا تَوْحِيدَ أَكْمَلُ مِنَ الَّذِي قَامَتْ بِهِ الرُّسُلُ، وَدَعَوْا إِلَيْهِ، وَجَاهَدُوا الْأُمَمَ عَلَيْهِ؛ وَلِهَذَا أَمَرَ سُبْحَانَهُ نَبِيَّهُ أَنْ يَقْتَدِيَ بِهِمْ فِيهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى بَعْدَ ذِكْرِ مُنَاظَرَةِ إِبْرَاهِيمَ قَوْمَهُ فِي بُطْلَانِ الشِّرْكِ، وَصِحَّةِ التَّوْحِيدِ، وَذِكْرِ الْأَنْبِيَاءِ مِنْ ذُرِّيَّتِهِ: أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ [الأنعام:90]، فَلَا أَكْمَلَ مِنْ تَوْحِيدِ مَنْ أُمِرَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ أَنْ يَقْتَدِيَ بِهِمْ.

وَكَانَ ﷺ يُعَلِّمُ أَصْحَابَهُ إِذَا أَصْبَحُوا أَنْ يَقُولُوا: أَصْبَحْنَا عَلَى فِطْرَةِ الْإِسْلَامِ، وَكَلِمَةِ الْإِخْلَاصِ، وَدِينِ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ، وَمِلَّةِ أَبِينَا إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ.

الطالب: أخرجه عبدالله بن أحمد في "زوائد المسند" عن عبدالرحمن بن أبزى، عن أُبي بن كعبٍ قال: كان رسولُ الله ﷺ يُعلمنا إذا أصبحنا: أصبحنا على فطرة الإسلام .. الحديث، وفي آخره: وإذا أمسينا مثل ذلك. وسنده ضعيف، لكن أخرجه أحمد والدَّارمي وابن السني في "عمل اليوم والليلة" من طريقين آخرين عن عبدالرحمن بن أبزى قال: كان النبي ﷺ إذا أصبح قال: .. فذكره، وسنده صحيح.

فَمِلَّةُ إِبْرَاهِيمَ التَّوْحِيدُ، وَدِينُ مُحَمَّدٍ ﷺ: مَا جَاءَ بِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ قَوْلًا وَعَمَلًا وَاعْتِقَادًا، وَكَلِمَةُ الْإِخْلَاصِ هِيَ شَهَادَةُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَفِطْرَةُ الْإِسْلَامِ هِيَ مَا فَطَرَ عَلَيْهِ عِبَادَهُ مِنْ مَحَبَّتِهِ وَعِبَادَتِهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَالِاسْتِسْلَام لَهُ عُبُودِيَّةً وَذُلًّا وَانْقِيادًا وَإِنَابَةً.

فَهَذَا هو تَوْحِيدُ خَاصَّةِ الْخَاصَّةِ، الَّذِي مَنْ رَغِبَ عَنْهُ فَهُوَ مِنْ أَسْفَهِ السُّفَهَاءِ، قَالَ تَعَالَى: وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ ۝ إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ [البقرة:130- 131].

وَكُلُّ مَنْ لَهُ حِسٌّ سَلِيمٌ وَعَقْلٌ يُمَيِّزُ بِهِ لا يَحْتَاجُ فِي الِاسْتِدْلَالِ إِلَى أَوْضَاعِ أَهْلِ الْكَلَامِ وَالْجَدَلِ وَاصْطِلَاحِهِمْ وَطُرُقِهِم الْبَتَّةَ، بَلْ رُبَّمَا يَقَعُ بِسَبَبِهَا فِي شُكُوكٍ وَشُبَهٍ يَحْصُلُ لَهُ بِهَا الْحَيْرَةُ وَالضَّلَالُ وَالرِّيبَةُ، فَإِنَّ التَّوْحِيدَ إِنَّمَا يَنْفَعُ إِذَا سَلِمَ قَلْبُ صَاحِبِهِ مِنْ ذَلِكَ، وَهَذَا هُوَ الْقَلْبُ السَّلِيمُ الَّذِي لَا يُفْلِحُ إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِهِ.

الشيخ: يُشير إلى قوله : يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ ۝ إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ [الشعراء:88- 89].

وَلَا شَكَّ أَنَّ النَّوْعَ الثَّانِيَ وَالثَّالِثَ مِنَ التَّوْحِيدِ -الَّذِي ادَّعَوْا أَنَّهُ تَوْحِيدُ الْخَاصَّةِ وَخَاصَّةِ الْخَاصَّةِ- يَنْتَهِي إِلَى الْفَنَاءِ الَّذِي يُشَمِّرُ إِلَيْهِ غَالِبُ الصُّوفِيَّةِ، وَهُوَ دَرْبٌ خَطِرٌ يُفْضِي إِلَى الِاتِّحَادِ.

الشيخ: يعني: اتحاد الخالق والمخلوق، وهو الإلحاد، وهو وحدة الوجود، نسأل الله العافية.

ومعنى الفناء هو: أن يفنى عن غير الخالق بالخالق، ويفنى بتوحيده عن اسم غيره، وعن مُشاهدة غيره، فلا يُشاهد إلا الله وحده فقط؛ ولهذا يُفضي إلى وحدة الوجود وعدم الفرق، والله بعث الرسل بالفرق بين الله والمخلوقين، وبين توحيد العبادة وبين المعصية والشرك، وبين الطاعات والمعاصي، وبين الخير والشرِّ.

فهؤلاء الذين يزعمون أنَّ الفناء هو الغاية، معناه: أنهم ضيَّعوا كل شيءٍ، ولم يُشاهدوا إلا واحدًا، والرسل جاءت بالفرق، جاءت بالأمرين: بالخالق والمخلوق، بالهدى والضَّلال، بالخير والشر، بالنافع والضار، بالتوحيد والشرك، بالطاعة والمعصية.

فمَن فني عن الفرق بالجمع -ويُسمونه: الجمع، وهو جمع الهمة وجمع القلب على الله وحده- من دون أن يُشاهد غيره، ومن دون أن ينظر إلى غيره مما جاءت به الرسل؛ فقد هلك وأهلك، نسأل الله العافية.

انْظُرْ إِلَى مَا أَنْشَدَه شَيْخُ الْإِسْلَامِ أَبُو إِسْمَاعِيلَ -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى- حَيْثُ يَقُولُ شعرًا:

مَا وَحَّدَ الْوَاحِدَ مِنْ وَاحِدٍ إِذْ كُلُّ مَنْ وَحَّدَهُ جَاحِدُ
تَوْحِيدُ مَن عن نعته ينطق عَارِيَّةٌ أَبْطَلَهَا الْوَاحِدُ
تَوْحِيدُهُ إِيَّاهُ تَوْحِيدُهُ وَنَعْتُ مَنْ يَنْعَتُهُ لَاحِدُ

..........

الشيخ: هذا من أبياته الفاسدة والخبيثة، قد تُوهم الشرّ، وقد تكلم عليها ابنُ القيم رحمه الله، وأطال عليها المداري، تعذّر عن أبي إسماعيل بعض الأعذار، هي أبيات لا وجهَ لها، ومُوهمة شرًّا.

وَإِنْ كَانَ قَائِلُهُ رَحِمَهُ اللَّهُ لَمْ يُرِدْ بِهِ الِاتِّحَادَ، لَكِنْ ذَكَرَ لَفْظًا مُجْمَلًا مُحْتَمَلًا، جَذَبَهُ بِهِ الِاتِّحَادِيُّ إِلَيْهِ، وَأَقْسَمَ بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِ إِنَّهُ مَعَهُ، لَوْ سَلَكَ الْأَلْفَاظَ الشَّرْعِيَّةَ الَّتِي لَا إِجْمَالَ فِيهَا كَانَ أَحَقَّ، مَعَ أَنَّ الْمَعْنَى الَّذِي حَامَ حَوْلَهُ لَوْ كَانَ مَطْلُوبًا مِنَّا لَنَبَّهَ الشَّارِعُ عَلَيْهِ، وَدَعَا النَّاسَ إِلَيْهِ وَبَيَّنَهُ، فَإِنَّ عَلَى الرَّسُولِ الْبَلَاغَ الْمُبِينَ، فَأَيْنَ قَالَ الرَّسُولُ: هَذَا تَوْحِيدُ الْعَامَّةِ، وَهَذَا تَوْحِيدُ الْخَاصَّةِ، وَهَذَا تَوْحِيدُ خَاصَّةِ الْخَاصَّةِ؟! أَوْ مَا يَقْرُبُ مِنْ هَذَا الْمَعْنَى، أو أشار إلى هَذِهِ النُّقُولِ وَالْعُقُولُ حَاضِرَةٌ.

الطالب: والعقول خطرة، والعقول في النسخة الثانية: حاضرة، حضور عقول الصحابة وأنهم .....

الشيخ: يعني: ما أتى بهذه النقول الفاسدة، ولا بهذه العقول الفاسدة؛ فإن المقام يقتضي هذا، هذه العقول التي رأت هذا الشيء، وهذه النقول التي أُبهم بأنهم نقلوها، لم يأتِ بها النبيُّ ﷺ، ولم يأتِ بها أصحابه، ولم يعرفوها، وهم خير الأمة وأفضلها وأعلمها، ثم كلام الله ورسوله من شأنه البيان وعدم الإفضاء إلى الباطل، وهذه كلمات أقرب إلى الألغاز وأشبه بالألغاز؛ تُفضي إلى كلِّ باطلٍ، ويجرها المبطل إلى ما يُريد، فليس هذا من شأن أهل البيان، وليس من شأن أهل الحقِّ، فإن أهل الحقِّ يُوضحون ويُبينون ولا يُلغزون.

س: ..............؟

ج: العبارة فيها نظر.

فَهَذَا كَلَامُ اللَّهِ الْمُنَزَّلُ عَلَى رَسُولِهِ ﷺ، وَهَذِهِ سُنَّةُ الرَّسُولِ، وَهَذَا كَلَامُ خَيْرِ الْقُرُونِ بَعْدَ الرَّسُولِ، وَسَادَاتِ الْعَارِفِينَ مِنَ الْأَئِمَّةِ، هَلْ جَاءَ ذِكْرُ الْفَنَاءِ وَهَذَا التَّقْسِيمُ عَنْ أَحَدٍ مِنْهُمْ؟ وَإِنَّمَا حَصَلَ هَذَا مِنْ زِيَادَةِ الْغُلُوِّ فِي الدِّينِ، الْمُشْبِهِ لِغُلُوِّ الْخَوَارِجِ، بَلْ لِغُلُوِّ النَّصَارَى فِي دِينِهِمْ.

.............

وَقَدْ ذَمَّ اللَّهُ تَعَالَى الْغُلُوَّ فِي الدِّينِ وَنَهَى عَنْهُ، فَقَالَ: قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ [المائدة:77].

وَقَالَ ﷺ: لَا تُشَدِّدُوا فَيُشَدِّدَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ، فَإِنَّ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ شَدَّدُوا فَشَدَّدَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ، فَتِلْكَ بَقَايَاهُمْ فِي الصَّوَامِعِ وَالدِّيَارَاتِ: رَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ [الحديد:27]. رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ.

الطالب: تخريج حديث رقم (304) وفيه سعيد بن عبدالرحمن ابن أبي العلياء، لم يُوثقه غير ابن حبان، ولم يروِ عنه سوى اثنين، وقد خرجته في "الضَّعيفة" برقم ..

الشيخ: ويُناسب المقام أيضًا حديث ابن عباسٍ: إياكم والغلو في الدِّين؛ فإنما أهلك مَن كان قبلكم الغلو في الدين أخرجه أحمد وبعضُ أهل السنن بإسنادٍ جيدٍ، وهو أظهر في هذا المقام، لما لقط له الحصى مثل حصى الخذف قال: أمثال هؤلاء فارموا، وإياكم والغلو في الدين؛ فإنما أهلك مَن كان قبلكم الغلو في الدين أخرجه أحمد وغيره بإسنادٍ جيدٍ عن ابن عباسٍ رضي الله عنهما.

وهذا يدل على أنَّ الغلو في الدين منكر، وأنه وسيلة إلى الشرك، ووسيلة إلى الوقوع في البدع والمنكرات، والغلو هو الزيادة، من "غلت القدر" إذا زادت، اشتد غليانها بسبب النار، والغالي: الزائد الذي يزيد ما لم يشرعه الله ، ومنه الإطراء، لكن الإطراء يكون في الأقوال، والغلو أعم: لا تُطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، إنما أنا عبدٌ، فقولوا: عبد الله ورسوله.

وحبّ الأنبياء وحبّ الصالحين دين، حبّ الأنبياء وحبّ الصالحين من الدِّين، فالغلو فيه غلو في الدين، فمن الغلو: أن يُوصفوا بما لا يليق بهم، أو يُعارضوا بما لا يليق بهم؛ فيُوصفوا بأنهم غوث الأمة، بمعنى أنه يُستغاث بهم، أو أنهم قطب الأقطاب، يعني: يُستغاث بهم، ويُنذر لهم، ويُذبح لهم، كما قال الصوفية وأشباههم، ومن الغلو فيهم: أن يُبنى على قبورهم، ويُبنى عليها القباب والمساجد، هذا من الغلو، ومن وسائل الشرك، ومن الغلو فيهم: أن يُدعوا مع الله، وأن يُستغاث بهم، وأن يُنذر لهم، وأن يُذبح لهم، وأن يُطلب منهم المدد، كل هذا من الغلو الذي ذمَّه الله.

ومن هذا الباب: حديث ابن مسعودٍ الذي عند مسلم: هلك المتنطعون، هلك المتنطعون، هلك المتنطعون قالها ثلاثًا، هذا يُوجب على أهل الإسلام الحذر من الغلو.

ومن الغلو: الاحتفال بالموالد للرسول وغيره، فإنه زيادة لم يشرعها الله، يدعو إليها الحبُّ، فهي من البدع ومن الغلو.

س: ..... الغلو بمعنى الزيادة هل له معنى غير الزيادة؟

ج: ..... حديث ابن عباسٍ الذي ذكره المؤلفُ في باب .....، ويدل على معنى "سددوا" الحديث في الصحيحين: سددوا وقاربوا وأبشروا، واعلموا أنه لن يُشاد الدين أحدٌ إلا غلبه.

قَوْلُهُ: (وَلَا شَيْءَ مِثْلُهُ) اتَّفَقَ أَهْلُ السُّنَّةِ عَلَى أَنَّ اللَّهَ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ، لَا فِي ذَاتِهِ، وَلَا فِي صِفَاتِهِ، وَلَا فِي أَفْعَالِهِ.

وَلَكِنَّ لَفْظَ "التَّشْبِيهِ" قَدْ صَارَ فِي كَلَامِ النَّاسِ لَفْظًا مُجْمَلًا يُرَادُ بِهِ الْمَعْنَى الصَّحِيحُ، وَهُوَ مَا نَفَاهُ الْقُرْآنُ، وَدَلَّ عَلَيْهِ الْعَقْلُ؛ مِنْ أَنَّ خَصَائِصَ الرَّبِّ تَعَالَى لَا يُوصَفُ بِهَا شَيْءٌ مِنَ الْمَخْلُوقَاتِ، وَلَا يُمَاثِلُهُ شَيْءٌ مِنَ الْمَخْلُوقَاتِ فِي شَيْءٍ مِنْ صِفَاتِهِ: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى:11] رَدٌّ عَلَى الْمُمَثِّلَةِ الْمُشَبِّهَةِ، وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ رَدٌّ عَلَى النُّفَاةِ الْمُعَطِّلَةِ.

فَمَنْ جَعَلَ صِفَات الْخَالِقِ مِثْلَ صِفَاتِ الْمَخْلُوقِ فَهُوَ الْمُشَبِّهُ الْمُبْطِلُ الْمَذْمُومُ، وَمَنْ جَعَلَ صِفَات الْمَخْلُوقِ مِثْلَ صِفَاتِ الْخَالِقِ فَهُوَ نَظِيرُ النَّصَارَى فِي كُفْرِهِمْ.

وَيُرَادُ بِهِ أَنَّهُ لَا يَثْبُتُ لِلَّهِ شَيْءٌ مِنَ الصِّفَاتِ، فَلَا يُقَالُ: لَهُ قُدْرَةٌ، وَلَا عِلْمٌ، وَلَا حَيَاةٌ؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ مَوْصُوفٌ بِهَذِهِ الصِّفَاتِ! وَلَازِمُ هَذَا الْقَوْلِ أَنَّهُ لَا يُقَالُ لَهُ: حَيٌّ، عَلِيمٌ، قَدِيرٌ؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ يُسَمَّى بِهَذِهِ الْأَسْمَاءِ، وَكَذَلِكَ كَلَامُهُ وَسَمْعُهُ وَبَصَرُهُ وَإِرَادَتُهُ وَغَيْرُ ذَلِكَ.

الشيخ: وهذا هو التَّعطيل الذي ذمَّه السلفُ وعابوه، وصار الناسُ الآن طرفين ووسط، طرفان على الباطل، ووسط على الحقِّ.

وهذه قاعدة: أن أهل السنة والجماعة بين باطلين، وبين طرفين، والحق هو الوسط:

فالباطل الأول هو باطل أهل التَّشبيه؛ يُشبِّهون الله بخلقه: كداود الجواربي وأشباهه ممن سار على نهجه من المشبِّهة.

والطرف الثاني: طرف التَّعطيل -نُفاة الصِّفات: ليس بكذا، وليس بكذا، بزعمهم، يفرون من التَّشبيه فيقعون في التَّعطيل.

أما أهل السنة والجماعة فقد أثبتوا صفات الله وأسماءه كما جاء في القرآن الكريم وفي السنة الصحيحة إثباتًا بريئًا من التَّمثيل، يُثبتونها لله من دون أن يُشبهوا الله بخلقه، يُثبتونها على الوجه اللائق به، كما أخبر عن نفسه سبحانه وتعالى، ويُنزهون الله عن مُشابهة خلقه تنزيهًا بريئًا من التَّعطيل، فلا هم مع هؤلاء، ولا هم مع هؤلاء، ولكنَّهم توسَّطوا الحق، كما قال جلَّ وعلا: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا [البقرة:143].

ونبَّه أبو العباس ابن تيمية رحمه الله في كتابه "العقيدة الواسطية" على هذا فقال: "فهم وسط في باب صفات الله بين أهل التَّعطيل: الجهمية، وبين أهل التَّمثيل: المشبهة"، هذا شأنهم في كل بابٍ من أبواب الحقِّ، يكونون وسطًا، لا مع الغالين، ولا مع الجافين.

والناس في أمور الدين بين غلو وبين جفاء، وأهل الحق وهم الصحابة -أصحاب النبي ﷺ- وأتباعهم بإحسانٍ هم الوسط، فليسوا مع الغالين المفرطين، وليسوا مع الجفاة المفرطين، ولكنَّهم على الحقِّ والهدى والتَّوسط الذي شرعه الله للأمَّة ومدحهم به .......

وَهُمْ يُوَافِقُونَ أَهْلَ السُّنَّةِ عَلَى أَنَّهُ مَوْجُودٌ، عَلِيمٌ، قَدِيرٌ، حَيٌّ. وَالْمَخْلُوقُ يُقَالُ لَهُ: مَوْجُودٌ، حَيٌّ، عَلِيمٌ، قَدِيرٌ، وَلَا يُقَالُ: هَذَا تَشْبِيهٌ يَجِبُ نَفْيُهُ، وَهَذَا مِمَّا دَلَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَصَرِيحُ الْعَقْلِ، وَلَا يُخَالِفُ فِيهِ عَاقِلٌ؛ فَإِنَّ اللَّهَ سَمَّى نَفْسَهُ بِأَسْمَاءَ، وَسَمَّى بَعْضَ عِبَادِهِ بِهَا، وَكَذَلِكَ سَمَّى صِفَاتِهِ بِأَسْمَاءَ، وَسَمَّى بِبَعْضِهَا صِفَاتِ خَلْقِهِ، وَلَيْسَ الْمُسَمَّى كَالْمُسَمِّي، فَسَمَّى نَفْسَهُ: حَيًّا، عَلِيمًا، قَدِيرًا، رؤوفًا، رَحِيمًا، عَزِيزًا، حَكِيمًا، سَمِيعًا، بَصِيرًا، مَلِكًا، مُؤْمِنًا، جَبَّارًا، مُتَكَبِّرًا. وَقَدْ سَمَّى بَعْضَ عِبَادِهِ بِهَذِهِ الْأَسْمَاءِ فَقَالَ: يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ [الأنعام:95]، وَبَشَّرُوهُ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ [الذاريات:28]، فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ [الصافات:101]، بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ [التوبة:128]، فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا [الإنسان:2]، قَالَتِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ [يوسف:51]، {وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ} [الكهف:79]، أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا [السجدة:18]، كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ [غافر:35].

وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَا يُمَاثِلُ الْحَيُّ الْحَيَّ، وَلَا الْعَلِيمُ الْعَلِيمَ، وَلَا الْعَزِيزُ الْعَزِيزَ، وَكَذَلِكَ سَائِرُ الْأَسْمَاءِ.

وَقَالَ تَعَالَى: وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ [البقرة:255]، أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ [النساء:166]، وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ [فاطر:11]، إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ [الذاريات:58]، أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً [فصلت:15].

وَعَنْ جَابِرٍ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يُعَلِّمُنَا الِاسْتِخَارَةَ فِي الْأُمُورِ كُلِّهَا، كَمَا يُعَلِّمُنَا السُّورَةَ مِنَ الْقُرْآنِ، يَقُولُ: إِذَا هَمَّ أَحَدُكُمْ بِالْأَمْرِ فَلْيَرْكَعْ رَكْعَتَيْنِ مِنْ غَيْرِ الْفَرِيضَةِ، ثُمَّ لْيَقُلْ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْتَخِيرُكَ بِعِلْمِكَ، وَأَسْتَقْدِرُكَ بِقُدْرَتِكَ، وَأَسْأَلُكَ مِنْ فَضْلِكَ الْعَظِيمِ، فَإِنَّكَ تَقْدِرُ وَلَا أَقْدِرُ، وَتَعْلَمُ وَلَا أَعْلَمُ، وَأَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ، اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنَّ هَذَا الْأَمْرَ خَيْرٌ لِي فِي دِينِي وَمَعَاشِي وَعَاقِبَةِ أَمْرِي -أَوْ قَالَ: عَاجِلِ أَمْرِي وَآجِلِهِ- فَاقْدُرْهُ لِي، وَيَسِّرْهُ لِي، ثُمَّ بَارِكْ لِي فِيهِ، وَإِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنَّ هَذَا الْأَمْرَ شَرٌّ لِي فِي دِينِي وَمَعَاشِي وَعَاقِبَةِ أَمْرِي -أَوْ قَالَ: عَاجِلِ أَمْرِي وَآجِلِهِ- فَاصْرِفْهُ عَنِّي، وَاصْرِفْنِي عَنْهُ، وَاقْدُرْ لِيَ الْخَيْرَ حَيْثُ كَانَ، ثُمَّ رَضِّنِي بِهِ، قَالَ: وَيُسَمِّي حَاجَتَهُ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.

الشيخ: والمراد بالأمور هنا التي عنده فيها شيء من الريب والشك، أو في كيفية السبيل إليها، أو في وسائلها، أو ما أشبه ذلك، أما الأمور التي ليس فيها ريب ولا شك، بل هي مطلوبة مأمور بها فليست محلَّ الاستخارة.

قوله: (في الأمور كلها) في الأمور كلها التي فيها شيء من التَّردد، أو في الطريق إليها، أو في عواقبها، أو ما أشبه ذلك، وأما الشيء الواضح الذي ليس فيه شيء، بل معروف أنه خير محض: كالصلاة، وصوم رمضان، والحج، والجهاد الذي يُعرف أنه مشروع، وما أشبه ذلك: كبر الوالدين، وصلة رحمك، والصلاة الراتبة، والوتر، لا يُصلي الاستخارة.

س: الاستخارة في الحج؟

ج: إذا كان فيه خوف .....

الطالب: صحيح، وحسبك أنَّ البخاري أخرجه في "صحيحه"، وقول أحمد في أحد رواته: "روى حديثًا مُنكرًا" يعني: هذا لا يضرُّه بعد قول أحمد فيه: لا بأس به. وإنما يضرُّه ذلك فيما إذا خالف مَن هو أوثق منه، وليس شيء من ذلك هنا، ثم وجدت له شاهدًا من حديث أبي هريرة، صحَّحه ابنُ حبان، وقد خرَّجته في "الضعيفة".

وَفِي حَدِيثِ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ الَّذِي رَوَاهُ النَّسَائِيُّ وَغَيْرُهُ، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أَنَّهُ كَانَ يَدْعُو بِهَذَا الدُّعَاءِ: اللَّهُمَّ بِعِلْمِكَ الْغَيْبَ، وَقُدْرَتِكَ عَلَى الْخَلْقِ، أَحْيِنِي مَا كَانَتِ الْحَيَاةُ خَيْرًا لِي، وَتَوَفَّنِي إِذَا كَانَتِ الْوَفَاةُ خَيْرًا لِي، اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ خَشْيَتَكَ فِي الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ، وَأَسْأَلُكَ كَلِمَةَ الْحَقِّ فِي الْغَضَبِ وَالرِّضَا، وَأَسْأَلُكَ الْقَصْدَ فِي الْغِنَى وَالْفَقْرِ، وَأَسْأَلُكَ نَعِيمًا لَا يَنْفَدُ، وَقُرَّةَ عَيْنٍ لَا تَنْقَطِعُ، وَأَسْأَلُكَ الرِّضَا بَعْدَ الْقَضَاءِ، وَأَسْأَلُكَ بَرْدَ الْعَيْشِ بَعْدَ الْمَوْتِ، وَأَسْأَلُكَ لَذَّةَ النَّظَرِ إِلَى وَجْهِكَ الْكَرِيمِ، وَالشَّوْقَ إِلَى لِقَائِكَ، فِي غَيْرِ ضَرَّاءَ مُضِرَّةٍ، وَلَا فِتْنَةٍ مُضِلَّةٍ، اللَّهُمَّ زَيِّنَّا بِزِينَةِ الْإِيمَانِ، وَاجْعَلْنَا هُدَاةً مُهْتَدِينَ.

الشيخ: هذا حديث عظيم جليل، ودعوات عظيمة ينبغي حفظها والدعاء بها، فإنها دعوات عظيمة ينبغي للمؤمن حفظها، حديث جيد لا بأس به، أخرجه النَّسائي رحمه الله.

الطالب: حديث صحيح، وأخرجه الحاكم أيضًا، وصححه ووافقه الذَّهبي.

فَقَدْ سَمَّى اللَّهُ وَرَسُولُهُ صِفَاتِ اللَّهِ: عِلْمًا وَقُدْرَةً وَقُوَّةً.

وَقَالَ تَعَالَى: ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً [الروم:54]، وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِمَا عَلَّمْنَاهُ [يوسف:68]، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَيْسَ الْعِلْمُ كَالْعِلْمِ، وَلَا الْقُوَّةُ كَالْقُوَّةِ، وَنَظَائِرُ هَذَا كَثِيرَةٌ، وَهَذَا لَازِمٌ لِجَمِيعِ الْعُقَلَاءِ.

فَإِنَّ مَنْ نَفَى صِفَةً مِنْ صِفَاتِهِ الَّتِي وَصَفَ اللَّهُ بِهَا نَفْسَهُ: كَالرِّضَا وَالْغَضَبِ، وَالْحُبِّ وَالْبُغْضِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَزَعَمَ أَنَّ ذَلِكَ يَسْتَلْزِمُ التَّشْبِيهَ وَالتَّجْسِيمَ! قِيلَ لَهُ: فَأَنْتَ تُثْبِتُ لَهُ الْإِرَادَةَ وَالْكَلَامَ وَالسَّمْعَ وَالْبَصَرَ، مَعَ أَنَّ مَا تُثْبِتُهُ لَهُ لَيْسَ مِثْلَ صِفَاتِ الْمَخْلُوقِينَ، فَقُلْ فِيمَا نَفَيْتَهُ وَأَثْبَتَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِثْلَ قَوْلِكَ فِيمَا أَثْبَتَّهُ؛ إِذْ لَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا.

الشيخ: يعني من باب التَّناقض، هذا ردٌّ على الأشاعرة، وهو في الحقيقة ردٌّ على جميع المعطلة، فإنه لا بدَّ لهم من شيءٍ يُثبتونه، فيُقال لهم فيما أثبتوا نظير ما فرُّوا منه سواء بسواء، فإذا أثبتوا شيئًا ولو صفةً واحدةً، ولو صفة الوجود يُقال لهم: هل وجوده كوجود غيره؟ سيقولون: لا، فهكذا بقية الصفات سواء بسواء، فلازمهم أن يلزمهم فيما أثبتوه نظير ما فرُّوا منه سواء بسواء، قلَّ ما أثبتوه، أو كثر ما أثبتوه.

فالجهمية والمعتزلة والأشاعرة وغيرهم كلهم مفلوجون، وكلهم متناقضون، ولا يسلم من ذلك إلا أهل السنة والجماعة، كل مَن خالف الحقَّ فهو ..... ومتناقض: بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ [ق:5].

وأبو العباس ابن تيمية رحمة الله عليه في بعض كلامه: إنه يلزم كل صاحب باطلٍ يحتج بحجةٍ صحيحةٍ على باطله أن في نفس الحجَّة ما يدل على بطلان ما ذهب إليه، نفس حُجَّته التي احتجَّ بها.

فَإِنْ قَالَ: أَنَا لَا أُثْبِتُ شَيْئًا مِنَ الصِّفَاتِ!

قِيلَ لَهُ: فَأَنْتَ تُثْبِتُ لَهُ الْأَسْمَاءَ الْحُسْنَى، مِثْلَ: حَيٍّ، عَلِيمٍ، قَدِيرٍ. وَالْعَبْدُ يُسَمَّى بِهَذِهِ الْأَسْمَاءِ، وَلَيْسَ مَا يَثْبُتُ لِلرَّبِّ مِنْ هَذِهِ الْأَسْمَاءِ مُمَاثِلًا لِمَا يَثْبُتُ لِلْعَبْدِ، فَقُلْ فِي صِفَاتِهِ نَظِيرَ قَوْلِكَ فِي مُسَمَّى أَسْمَائِهِ.

فَإِنْ قَالَ: وَأَنَا لَا أُثْبِتُ لَهُ الْأَسْمَاءَ الْحُسْنَى، بَلْ أَقُولُ: هِيَ مَجَازٌ، وَهِيَ أَسْمَاءٌ لِبَعْضِ مُبْتَدَعَاتِهِ، كَقَوْلِ غُلَاةِ الْبَاطِنِيَّةِ وَالْمُتَفَلْسِفَةِ.

قِيلَ لَهُ: فَلَا بُدَّ أَنْ تَعْتَقِدَ أَنَّهُ مَوْجُودٌ، حَقٌّ، قَائِمٌ بِنَفْسِهِ، وَالْجِسْمُ مَوْجُودٌ، قَائِمٌ بِنَفْسِهِ، وَلَيْسَ هُوَ مُمَاثِلًا لَهُ.

فَإِنْ قَالَ: أَنَا لَا أُثْبِتُ شَيْئًا، بَلْ أُنْكِرُ وُجُودَ الْوَاجِبِ.

قِيلَ لَهُ: مَعْلُومٌ بِصَرِيحِ الْعَقْلِ أَنَّ الْمَوْجُودَ: إِمَّا وَاجِبٌ بِنَفْسِهِ، وَإِمَّا غَيْرُ وَاجِبٍ بِنَفْسِهِ، وَإِمَّا قَدِيمٌ أَزَلِيٌّ، وَإِمَّا حَادِثٌ كَائِنٌ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ، وَإِمَّا مَخْلُوقٌ مُفْتَقِرٌ إِلَى خَالِقٍ، وَإِمَّا غَيْرُ مَخْلُوقٍ وَلَا مُفْتَقِرٍ إِلَى خَالِقٍ، وَإِمَّا فَقِيرٌ إِلَى مَا سِوَاهُ، وَإِمَّا غَنِيٌّ عَمَّا سِوَاهُ.

وَغَيْرُ الْوَاجِبِ بِنَفْسِهِ لَا يَكُونُ إِلَّا بِالْوَاجِبِ بِنَفْسِهِ، وَالْحَادِثُ لَا يَكُونُ إِلَّا بِقَدِيمٍ، وَالْمَخْلُوقُ لَا يَكُونُ إِلَّا بِخَالِقٍ، وَالْفَقِيرُ لَا يَكُونُ إِلَّا بِغَنِيٍّ عَنْهُ.

فَقَدْ لَزِمَ عَلَى تَقْدِيرِ النَّقِيضَيْنِ وُجُودُ مَوْجُودٍ وَاجِبٍ بِنَفْسِهِ، قَدِيمٍ، أَزَلِيٍّ، خَالِقٍ، غَنِيٍّ عَمَّا سِوَاهُ، وَمَا سِوَاهُ بِخِلَافِ ذَلِكَ.

وَقَدْ عُلِمَ بِالْحِسِّ وَالضَّرُورَةِ وُجُودُ مَوْجُودٍ حَادِثٍ كَائِنٍ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ، وَالْحَادِثُ لَا يَكُونُ وَاجِبًا بِنَفْسِهِ، وَلَا قَدِيمًا أَزَلِيًّا، وَلَا خَالِقًا لِمَا سِوَاهُ، وَلَا غَنِيًّا عَمَّا سِوَاهُ، فَثَبَتَ بِالضَّرُورَةِ وُجُودُ مَوْجُودَيْنِ: أَحَدُهُمَا وَاجِبٌ، وَالْآخَرُ مُمْكِنٌ. أَحَدُهُمَا قَدِيمٌ، وَالْآخَرُ حَادِثٌ. أَحَدُهُمَا غَنِيٌّ، وَالْآخَرُ فَقِيرٌ. أَحَدُهُمَا خَالِقٌ، وَالْآخَرُ مَخْلُوقٌ. وَهُمَا مُتَّفِقَانِ فِي كَوْنِ كُلٍّ مِنْهُمَا شَيْئًا مَوْجُودًا ثَابِتًا.

وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَيْضًا أَنَّ أَحَدَهُمَا لَيْسَ مُمَاثِلًا لِلْآخَرِ فِي حَقِيقَتِهِ، إِذْ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَتَمَاثَلَا فِيمَا يَجِبُ وَيَجُوزُ وَيَمْتَنِعُ، وَأَحَدُهُمَا يَجِبُ قِدَمُهُ، وَهُوَ مَوْجُودٌ بِنَفْسِهِ، وَالْآخَرُ لَا يَجِبُ قِدَمُهُ، وَلَا هُوَ مَوْجُودٌ بِنَفْسِهِ، وَأَحَدُهُمَا خَالِقٌ، وَالْآخَرُ لَيْسَ بِخَالِقٍ، وَأَحَدُهُمَا غَنِيٌّ عَمَّا سِوَاهُ، وَالْآخَرُ فَقِيرٌ.

فَلَوْ تَمَاثَلَا لَلَزِمَ أَنْ يَكُونَ كُلٌّ مِنْهُمَا وَاجِبَ الْقِدَمِ، لَيْسَ بِوَاجِبِ الْقِدَمِ.

الشيخ: وهذا كله على سبيل التَّنزل مع أهل الكلام، والخوض معهم، وإلا فعلى ما قال أهلُ السنة: لا خوض معهم، ولا كلام معهم، بل يجب إنكار ما يقولون، والإعراض عنهم، وأن خوضهم في هذه المسائل من أسباب شكِّهم وريبهم وضلالهم وبُعدهم عن الهدى، ونصوص الكتاب والسنة ونصوص الأئمة كلها واضحة فيما دلَّت عليه النصوص من وجوب وجود الله جلَّ وعلا واتِّصافه بالصِّفات العُلى وتسميه بالأسماء الحُسنى.

والعقول الصحيحة الصريحة والفِطَر السليمة كلها مؤمنة بأنَّ هذا العالم له موجد، خالق، رازق، مُستقلٌّ، قائم بنفسه، ليس قبله شيء: هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [الحديد:3] سبحانه وتعالى.

فهذه الأمور المعلومة المقطوع بها التي دلَّت عليها الرِّسالات، ودلَّت عليها الكتب السماوية؛ كافية شافية لمن له أدنى عقل وبصيرة، ولا حاجة للخوض مع هؤلاء فيما يخوضون فيه.

فَلَوْ تَمَاثَلَا لَلَزِمَ أَنْ يَكُونَ كُلٌّ مِنْهُمَا وَاجِبَ الْقِدَمِ، لَيْسَ بِوَاجِبِ الْقِدَمِ مَوْجُودًا بِنَفْسِهِ غَيْرَ مَوْجُودٍ بِنَفْسِهِ، خَالِقًا لَيْسَ بِخَالِقٍ، غَنِيًّا غَيْرَ غَنِيٍّ، فَيَلْزَمُ اجْتِمَاعُ الضِّدَّيْنِ عَلَى تَقْدِيرِ تَمَاثُلِهِمَا.

فَعُلِمَ أَنَّ تَمَاثُلَهُمَا مُنْتَفٍ بِصَرِيحِ الْعَقْلِ، كَمَا هُوَ مُنْتَفٍ بِنُصُوصِ الشَّرْعِ.

فَعُلِمَ بِهَذِهِ الْأَدِلَّةِ اتِّفَاقُهُمَا مِنْ وَجْهٍ، وَاخْتِلَافُهُمَا مِنْ وَجْهٍ. فَمَنْ نَفَى مَا اتَّفَقَا فِيهِ كَانَ مُعَطِّلًا قَائِلًا للْبَاطِلِ، وَمَنْ جَعَلَهُمَا مُتَمَاثِلَيْنِ كَانَ مُشَبِّهًا قَائِلًا بالْبَاطِلِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّهُمَا وَإِنِ اتَّفَقَا فِي مُسَمَّى مَا اتَّفَقَا فِيهِ، فَاللَّهُ تَعَالَى مُخْتَصٌّ بِوُجُودِهِ وَعِلْمِهِ وَقُدْرَتِهِ وَسَائِرِ صِفَاتِهِ، وَالْعَبْدُ لَا يَشْرَكُهُ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، وَالْعَبْدُ أَيْضًا مُخْتَصٌّ بِوُجُودِهِ وَعِلْمِهِ وَقُدْرَتِهِ، وَاللَّهُ تَعَالَى مُنَزَّهٌ عَنْ مُشَارَكَةِ الْعَبْدِ فِي خَصَائِصِهِ.

وَإِذَا اتَّفَقَا فِي مُسَمَّى الْوُجُودِ وَالْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ، فَهَذَا الْمُشْتَرَكُ مُطْلَقٌ كُلِّيٌّ يُوجَدُ فِي الْأَذْهَانِ لَا فِي الْأَعْيَانِ، وَالْمَوْجُودُ فِي الْأَعْيَانِ مُخْتَصٌّ لَا اشْتِرَاكَ فِيهِ.

الشيخ: يعني جنس الموجود مُشترك، مثل: الوجود مُشترك، هذا سمع، وهذا سمع، هذا بصر، وهذا بصر، هذه حياة، وهذه حياة، ولكن الموجود في الأعيان والبارز في الأعيان مختصٌّ، فالذي لله لله، والذي للمخلوق للمخلوق، ليس مُشتركًا، فوجود الله وحياته وعلمه وسمعه وبصره ونحو ذلك كلها صفات مستقلة لائقة به سبحانه وتعالى، مختصة به عزَّ وجل، ليس للمخلوق فيها شركة، وكذلك صفات المخلوق من حياته وعلمه وقُدرته ونحو ذلك صفة مختصة به، ناقصة ضعيفة، لائقة بالمخلوق، الله الذي خلقها وأوجدها له سبحانه وتعالى، فليست صفات الخالق هي صفات المخلوق.

أما صفات الخالق الموجودة التي هو متَّصف بها فهي صفات مستقلة، ليس للمخلوق فيها شركة، بل صفات كاملة، لها الكمال من كل الوجوه، وصفات المخلوقين لها النقص، ويطرأ عليها الزوال والذهاب والاضمحلال، كما قد يعمى الإنسانُ، ويُصيبه عور، ويُصيبه صمم، وتُصيبه الأمراض، وتختلُّ قوته وقُدرته، وتذهب حياته بالموت.

فصفات المخلوقين يعتريها ما يعتريها من هذه الآفات، بخلاف صفات الخالق؛ فإنها كاملة سالمة، لا يأتيها نقص بوجهٍ من الوجوه، فلها البقاء التام والاستمرار.

وَهَذَا مَوْضِعٌ اضْطَرَبَ فِيهِ كَثِيرٌ مِنَ النُّظَّارِ؛ حَيْثُ تَوَهَّمُوا أَنَّ الِاتِّفَاقَ فِي مُسَمَّى هَذِهِ الْأَشْيَاءِ يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ الْوُجُودُ الَّذِي لِلرَّبِّ كَالْوُجُودِ الَّذِي لِلْعَبْدِ.

الشيخ: يعني: التبس عليهم الوجود الذِّهني بالوجود الخارجي، فالوجود الذهني شيء، والوجود الخارجي شيء ثانٍ.

وَطَائِفَةٌ ظَنَّتْ أَنَّ لَفْظَ "الْوُجُودِ" يُقَالُ بِالِاشْتِرَاكِ اللَّفْظِيِّ، وَكَابَرُوا عُقُولَهُمْ، فَإِنَّ هَذِهِ الْأَسْمَاءَ عَامَّةٌ قَابِلَةٌ لِلتَّقْسِيمِ، كَمَا يُقَالُ: الْمَوْجُودُ يَنْقَسِمُ إِلَى وَاجِبٍ وَمُمْكِنٍ، وَقَدِيمٍ وَحَادِثٍ. وَمَوْرِدُ التَّقْسِيمِ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ الْأَقْسَامِ، وَاللَّفْظُ الْمُشْتَرَكُ كَلَفْظِ "الْمُشْتَرِي" الْوَاقِعِ عَلَى الْمُبْتَاعِ وَالْكَوْكَبِ، لَا يَنْقَسِمُ مَعْنَاهُ، وَلَكِنْ يُقَالُ: لَفْظُ "الْمُشْتَرِي" يُقَالُ عَلَى كَذَا، أَوْ عَلَى كَذَا، وَأمثَالُ هَذِهِ الْمَقَالَاتِ الَّتِي قَدْ بُسِطَ الْكَلَامُ عَلَيْهَا فِي مَوْضِعِهِ.

الشيخ: هذا اشتراك لفظي، معروف أنَّ الكلمات المشتركة باللفظ والمعاني غير، ولكن ما بين صفات المخلوقين وصفات الخالق فيها اشتراك لفظي، وفيها اشتراك معنوي أيضًا، لكن ذلك الاشتراك المعنوي لا يلزم منه التَّماثل، فإن جنس السمع مُشترك في المعنى: سمع وسمع للأصوات، بصر وبصر للمرئيات، حياة ضدّ الموت مُشتركة، لكن المعنى الذي لله ليس المعنى الذي للمخلوق، بل هو أكمل، فالمعنى الذي للمخلوق ضعيف قاصر، والمعنى الذي لله أكمل وأعظم، فليس بينهما تماثل، بخلاف لفظ المشتري للكوكب، والمشتري للذي هو مقابل البائع، هؤلاء ليس بينهما اشتراك، هذا اسم جامد: المشتري، وهذا اسم له معنى، وهو كونه أخذ السلعة وتقبل السلعة بالثمن، فليس بينهما اشتراك في المعنى، وإنما هو مجرد اشتراك في اللفظ فقط، يُقال: هذا مُشتري، وهذا مُشترٍ، وليس بينهما معنى مشترك، لكن ما بين أسماء الرب وصفاته وبين أسماء المخلوقين وصفاتهم بينهما أصل المعنى، أصل المعنى موجود، جنس الحياة، جنس الوجود، جنس السمع، جنس البصر، الغضب، إلى غير ذلك، لكن المعنى الذي للمخلوق ليس هو المعنى الذي لله، المعنى الذي لله له الكمال والتَّمام، والمعنى الذي للمخلوق ضعيف ناقص، ولولا هذا المعنى المشترك لما فهمت الصِّفات، لما عُلمت الصِّفات، فكما أنَّ هذا له وجود، وهذا له وجود، فكذلك هذا له حياة، وهذا له حياة، وهذا له سمع، وهذا له سمع، ولكن ليس الحي كالحي، وليس الوجود كالوجود، وليس البصر كالبصر، وليس السمع كالسمع، وما أشبه ذلك: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ [الشورى:11].

وَأَصْلُ الْخَطَأ وَالْغَلَطِ: تَوَهُّمُهُمْ أَنَّ هَذِهِ الْأَسْمَاءَ الْعَامَّةَ الْكُلِّيَّةَ يَكُونُ مُسَمَّاهَا الْمُطْلَقُ الْكُلِّيُّ هُوَ بِعَيْنِهِ ثَابِتًا فِي هَذَا الْمُعَيَّنِ وَهَذَا الْمُعَيَّنِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ، فَإِنَّ مَا يُوجَدُ فِي الْخَارِجِ لَا يُوجَدُ مُطْلَقًا كُلِّيًّا، بَلْ لَا يُوجَدُ إِلَّا مُعَيَّنًا مُخْتَصًّا، وَهَذِهِ الْأَسْمَاءُ إِذَا سُمِّيَ اللَّهُ بِهَا كَانَ مُسَمَّاهَا مُخْتَصًّا بِهِ، فَإِذَا سُمِّيَ بِهَا الْعَبْدُ كَانَ مُسَمَّاهَا مُخْتَصًّا بِهِ، فَوُجُودُ اللَّهِ وَحَيَاتُهُ لَا يُشَارِكُهُ فِيهَا غَيْرُهُ، بَلْ وُجُودُ هَذَا الْمَوْجُودِ الْمُعَيَّنِ لَا يَشْرَكُهُ فِيهَا غَيْرُهُ، فَكَيْفَ بِوُجُودِ الْخَالِقِ؟ أَلَا تَرَى أَنَّكَ تَقُولُ: هَذَا هُوَ ذَاكَ، فَالْمُشَارُ إِلَيْهِ وَاحِدٌ، لَكِنْ بِوَجْهَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ.

وَبِهَذَا وَمِثْلِهِ يَتَبَيَّنُ لَكَ أَنَّ الْمُشَبِّهَةَ أَخَذُوا هَذَا الْمَعْنَى وَزَادُوا فِيهِ عَلَى الْحَقِّ فَضَلُّوا، وَأَنَّ الْمُعَطِّلَةَ أَخَذُوا نَفْيَ الْمُمَاثَلَةِ بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ وَزَادُوا فِيهِ عَلَى الْحَقِّ حَتَّى ضَلُّوا، وَأَنَّ كِتَابَ اللَّهِ دَلَّ عَلَى الْحَقِّ الْمَحْضِ الَّذِي تَعْقِلُهُ الْعُقُولُ السَّلِيمَةُ الصَّحِيحَةُ، وَهُوَ الْحَقُّ الْمُعْتَدِلُ الَّذِي لَا انْحِرَافَ فِيهِ.

فَالنُّفَاةُ أَحْسَنُوا فِي تَنْزِيهِ الْخَالِقِ سُبْحَانَهُ عَنِ التَّشْبِيهِ بِشَيْءٍ مِنْ خَلْقِهِ، وَلَكِنْ أَسَاءُوا فِي نَفْيِ الْمَعَانِي الثَّابِتَةِ لِلَّهِ تَعَالَى فِي نَفْسِ الْأَمْرِ.

الشيخ: يعني غلوا في النَّفي حتى عطَّلوا صفات الله، والمشبِّهة غلوا في الإثبات حتى مثَّلوا الله بخلقه، كلاهما غلا، وأهل السنة والجماعة سلموا من هذا الغلو، فأثبتوا لله ما أثبت لنفسه، وما أثبته له رسوله عليه الصلاة والسلام من الأسماء والصِّفات على الوجه اللائق به، ونزَّهوا الله عمَّا نزَّه نفسه عنه من مُشابهة المخلوقات.

وَالْمُشَبِّهَةُ أَحْسَنُوا فِي إِثْبَاتِ الصِّفَاتِ، وَلَكِنْ أَسَاءُوا بِزِيَادَةِ التَّشْبِيهِ.

س: ............؟

ج: زادوا يعني: أثبتوا سمعًا وبصرًا وحياةً، لكن زادوا قولهم: إنه مُشابه لخلقه. فلو سلموا من هذا ووقفوا عند إثبات الصِّفات، وأنه لا شبيهَ له سبحانه وتعالى، ولا شريكَ له في ذلك؛ لكان قولهم صحيحًا كما قاله أهلُ السنة والجماعة، لكنَّهم زادوا وغلوا حتى قالوا: إنه مُشابه لخلقه، وأنَّ هذا مثل هذا. هذه الزيادة هي التَّشبيه، والزيادة في حقِّ المعطلة هي التَّعطيل؛ ولهذا قال أهلُ السنة: يجب إثبات الصِّفات إثباتًا بريئًا من التَّشبيه والتَّمثيل، ويجب تنزيه الله عن مُشابهة المخلوقات تنزيهًا بريئًا من التَّعطيل، فلا هذا، ولا هذا.