01 مقدمة المؤلف

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، وبه أستعين.

الْحَمْدُ لِلَّهِ نَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ.

وَأَشْهَدُ أَنْ لا إلهَ إلا الله وحده لا شريكَ له، ونشهد أَنَّ سَيِّدَنَا مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا.

أَمَّا بَعْدُ: فَإِنَّهُ لَمَّا كَانَ عِلْمُ أُصُولِ الدِّينِ أَشْرَفَ الْعُلُومِ، إِذْ شَرَفُ الْعِلْمِ بِشَرَفِ الْمَعْلُومِ، وَهُوَ الْفِقْهُ الْأَكْبَرُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى فِقْهِ الْفُرُوعِ؛ وَلِهَذَا سَمَّى الْإِمَامُ أَبُو حَنِيفَةَ رَحمه الله تعالى مَا قَالَهُ وَجَمَعَهُ فِي أَوْرَاقٍ مِنْ أُصُولِ الدِّينِ: "الْفِقْهَ الْأَكْبَرَ".

وَحَاجَةُ الْعِبَادِ إِلَيْهِ فَوْقَ كُلِّ حَاجَةٍ، وَضَرُورَتُهُمْ إِلَيْهِ فَوْقَ كُلِّ ضَرُورَةٍ؛ لِأَنَّهُ لَا حَيَاةَ لِلْقُلُوبِ، وَلَا نَعِيمَ، وَلَا طُمَأْنِينَةَ، إِلَّا بِأَنْ تَعْرِفَ رَبَّهَا وَمَعْبُودَهَا وَفَاطِرَهَا بِأَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ وَأَفْعَالِهِ، وَيَكُون مَعَ ذَلِكَ كُلِّهِ أَحَبَّ إِلَيْهَا مِمَّا سِوَاهُ، وَيَكُون سَعْيُهَا فِيمَا يُقَرِّبُهَا إِلَيْهِ دُونَ غَيْرِهِ مِنْ سَائِرِ خَلْقِهِ.

وَمِنَ الْمُحَالِ أَنْ تَسْتَقِلَّ الْعُقُولُ بِمَعْرِفَةِ ذَلِكَ وَإِدْرَاكِهِ عَلَى التَّفْصِيلِ، فَاقْتَضَتْ رَحْمَةُ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ أَنْ بَعَثَ الرُّسُلَ بِهِ مُعَرِّفِينَ، وَإِلَيْهِ دَاعِينَ، وَلِمَنْ أَجَابَهُمْ مُبَشِّرِينَ، وَلِمَنْ خَالَفَهُمْ مُنْذِرِينَ، وَجَعَلَ مِفْتَاحَ دَعْوَتِهِمْ، وَزُبْدَةَ رِسَالَتِهِمْ: مَعْرِفَةَ الْمَعْبُودِ سُبْحَانَهُ بِأَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ وَأَفْعَالِهِ، إِذْ عَلَى هَذِهِ الْمَعْرِفَةِ تُبْنَى مَطَالِبُ الرِّسَالَةِ كُلِّهَا مِنْ أَوَّلِهَا إِلَى آخِرِهَا.

ثُمَّ يَتْبَعُ ذَلِكَ أَصْلَانِ عَظِيمَانِ:

أَحَدُهُمَا: تَعْرِيفُ الطَّرِيقِ الْمُوَصِّلِ إِلَيْهِ، وَهِيَ شَرِيعَتُهُ الْمُتَضَمِّنَةُ لِأَمْرِهِ وَنَهْيِهِ.

وَالثَّانِي: تَعْرِيفُ السَّالِكِينَ مَا لَهُمْ بَعْدَ الْوُصُولِ إِلَيْهِ مِنَ النَّعِيمِ الْمُقِيمِ.

س: ...........؟

الشيخ: هذا المقام مقام عظيم، وهو مقام التعريف بالله وصفاته وعظيم حقه على عباده، والرسل بهذا بعثوا؛ ولهذا خلق الله الخليقة، وبهذا أمر الله الخليقة؛ وهو أن يعبدوه وحده لا شريكَ له بعد معرفتهم إياه بأسمائه وصفاته وأفعاله؛ ولهذا يُسمَّى هذا الأصل العظيم: "بالفقه الأكبر"؛ لأنَّ الأحكام تابعة لذلك: الواجبات والمحرَّمات تابعة لهذا الأصل، فمَن أتى بها بدون هذا الأصل ما نفعته، وإنما تنفعه بهذا الأصل.

فالأصل العظيم هو توحيد الله والإخلاص له، ومعرفته بأسمائه وصفاته وأفعاله، ومعرفة حقه الذي أوجب؛ حتى يسيرون على بصيرةٍ، وهذا هو معنى شهادة: أن لا إله إلا الله، وأنَّ محمدًا رسول الله، فإن الشَّهادة بأن لا إله إلا الله تعريف به سبحانه وتعالى وبصفاته وبعظيم حقِّه، والشهادة بأنَّ محمدًا رسول الله فيها تعريف بالإيمان بالرسول المبين المرشد إلى الطريق السوي، ويُوضح ما للمُتابعين ..... من العاقبة الحميدة.

فالرسل جاءت بأمور ثلاثة:

  • جاءت بالتعريف بالله وبأسمائه وصفاته، وهكذا جاءت بالكتب المنزلة من السماء.
  • والثاني: تعريف الطريق الموصل إليه، والسبيل الموصل إليه: من الأحكام والأحوال، فعلًا وتركًا.
  • والثالث: بيان ما لهم عندما يصلون إليه، ما هو الجزاء؟ ما هي الغاية؟ ما هي الثمرة لمن سلك السبيل وأخذ بالطريق؟

وأن الثمرة والغاية: الوصول إلى الله، ودخول جنته، والفوز بكرامته، والسلامة من غضبه وعقابه، هذه وظيفة الرسل.

وما جاءت به الرسل هذه الأمور الثلاثة:

الأول: التعريف بالله وبأسمائه وصفاته وعظيم حقِّه سبحانه وتعالى.

والأمر الثاني: بيان الطريق الموصل إليه، وهي الشريعة المطهرة التي جاءت بها الرسل.

والأمر الثالث: ما لهم عنده، ماذا يحصل لهم إذا ماتوا وانتقلوا؟ وماذا يكون؟

وأنهم يُجازون بالجزاء الحسن، ويُجازون بغفران الذنوب، وحطِّ الذنوب، وحطِّ الخطايا، ويُجازون بدخول الجنة، والنَّجاة من النار.

فَأَعْرَفُ النَّاسِ بِاللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ أَتْبَعُهُمْ لِلطَّرِيقِ الْمُوَصِّلِ إِلَيْهِ، وَأَعْرَفُهُمْ بِحَالِ السَّالِكِينَ عِنْدَ الْقُدُومِ عَلَيْهِ؛ وَلِهَذَا سَمَّى اللَّهُ مَا أَنْزَلَهُ عَلَى رَسُولِهِ: رُوحًا؛ لِتَوَقُّفِ الْحَيَاةِ الْحَقِيقِيَّةِ عَلَيْهِ، وَنُورًا؛ لِتَوَقُّفِ الْهِدَايَةِ عَلَيْهِ، فَقَالَ الله تَعَالَى: يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ [غافر:15]، وَقَالَ تَعَالَى: وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ۝ صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ [الشورى:52- 53].

فلا رُوحَ إِلَّا فِيمَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ، وَلَا نُورَ إِلَّا فِي الِاسْتِضَاءَةِ بِهِ.

الشيخ: وهذا أمر عظيم، يُبين أنَّ ما جاء به الرسولُ عليه الصلاة والسلام من الهدى ودين الحقِّ فيه أمران، اجتمع فيه أمران:

الأمر الأول: أنه روح تحصل به الحياة، ومَن فقد هذا الإيمان وهذا الهدي صار مع الأموات، ولو كان يعيش مع الناس فهو مع الأموات؛ لأنه لم يعرف ربَّه، ولم يعرف ما بعث به رسوله عليه الصلاة والسلام، بل هو في ضلاله وظلمته التي خُلق عليها، وليس عنده علم ولا هدى ولا نور.

الأمر الثاني: أنه يحصل به النور والبصيرة والهداية، فمَن لم تحصل له هذه الروح لم يحصل له النور والهداية، بل كان في ضلاله وعماه، وفي ظلمة جهله وطبعه حتى يُهدى إلى هذا الحقِّ، وحتى يتبصَّر بما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، وحتى يستنير أمره؛ ولهذا قال: يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ [غافر:15]، الروح: الحياة، الكتاب والسنة هما الروح، قال : وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا [الشورى:52]، جعل الله ما جاء به من الروح نورًا يهدي به مَن يشاء .

فالعلم الشرعي المشتمل على علم الأصول والفروع هو الروح، وهو الهدى ودين الحقِّ، وهو طريق النَّجاة، وسبيل السعادة، فمَن خلا منهما وفقدهما فهو ميت مع الأموات في ظلم الجهل والضَّلالة، كما قال سبحانه: أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا [الأنعام:122]، فالكافر ميت القلب في ظلمته وفي جهالته، ليس له بصيرة، وليس عنده بصيرة توصله إلى السعادة والنجاة.

والمؤمن الموفق المتبصر قد أُعطي النور والروح جميعًا، الذي قد وفَّقه الله وتبصر في دينه وأسلم فهو على نورٍ، وعلى هدى، وعلى حياة طيبة تطمئن بها القلوب، وترتاح لها النفوس ..... إلى ربه على ..... والهدى والثبات والراحة والأنس بما هو عليه وبما يستقبله.

وسمَّاه: الشِّفَاءُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ [فصلت:44]، فَهُوَ وَإِنْ كَانَ هُدًى وَشِفَاءً مُطْلَقًا، لَكِنْ لَمَّا كَانَ الْمُنْتَفِعُ بِذَلِكَ هُمُ الْمُؤْمِنِينَ، خُصُّوا بِالذِّكْرِ.

الشيخ: الكتاب والسنة هدى ونور وسعادة لأهل الإيمان، وهو في الحقيقة روح للجميع، ونور للجميع ..... وهدى لهم، وشفاء لهم، لكن مَن أخذ به حصل له الهدى والشِّفاء .....، ومَن لم يأخذ به فلا هدى ولا شفاء، ولا حياة ولا نور، مَن فقده قد فقد هذا كله؛ لإعراضه وكبره وغفلته وعدم أخذه بهذا الحقِّ؛ ولهذا قال تعالى: قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ هدى وشفاء لهم ولغيرهم لو أخذوه، فهو هدى وشفاء لجميع أهل الأرض؛ للعرب والعجم، والجن والإنس، هو هدى وشفاء، لكن لما كان أهل الإيمان هم الذين أخذوا به واتَّبعوه وانتفعوا به صار كأنه خاصٌّ بهم، وإلا فليس هو خاصًّا بهم، فكل مَن أسلم ودخل في الدِّين دخل معهم، فهو نور للجميع، وهدى للجميع: هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقّ [التوبة:33]، فهو مرسل للجميع بالهدى ودين الحقِّ، فالهدى هو العلم والبصيرة، وما جاء به من الأخبار الصَّادقة، ودين الحقِّ ما جاء به من الشرائع المستقيمة والأحكام العادلة.

وَاللَّهُ تَعَالَى أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ، فَلَا هُدَى إِلَّا فِيمَا جَاءَ بِهِ.

وَلَا رَيْبَ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ أَنْ يُؤْمِنَ بِمَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ إِيمَانًا عَامًّا مُجْمَلًا، وَلَا رَيْبَ أَنَّ مَعْرِفَةَ مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ عَلَى التَّفْصِيلِ فَرْضٌ عَلَى الْكِفَايَةِ، فَإِنَّ ذَلِكَ دَاخِلٌ فِي تَبْلِيغِ مَا بَعَثَ اللَّهُ بِهِ رَسُولَهُ، وَدَاخِلٌ فِي تَدَبُّرِ الْقُرْآنِ وَعَقْلِهِ وَفَهْمِهِ، وَعِلْمِ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ، وَحِفْظِ الذِّكْرِ، وَالدُّعَاءِ إِلَى الْخَيْرِ، وَالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ، وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ، والدعاء إِلَى سَبِيلِ الرَّبِّ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ، وَالْمُجَادَلَةِ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ، وَنَحْو ذَلِكَ مِمَّا أَوْجَبَهُ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ، فَهُوَ وَاجِبٌ عَلَى الْكِفَايَةِ مِنْهُمْ.

وَأَمَّا مَا يَجِبُ عَلَى أَعْيَانِهِمْ: فَهَذَا يَتَنَوَّعُ بِتَنَوُّعِ قُدَرِهِمْ وَحَاجَاتِهِمْ وَمَعْرِفَتِهِمْ، وَمَا أُمِرَ بِهِ أَعْيَانُهُمْ، وَلَا يَجِبُ عَلَى الْعَاجِزِ عَنْ سَمَاعِ بَعْضِ الْعِلْمِ أَوْ عَنْ فَهْمِ دَقِيقِهِ مَا يَجِبُ عَلَى الْقَادِرِ عَلَى ذَلِكَ، وَيَجِبُ عَلَى مَنْ سَمِعَ النُّصُوصَ وَفَهِمَهَا مِنْ عِلْمِ التَّفْصِيلِ مَا لَا يَجِبُ عَلَى مَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا، وَيَجِبُ عَلَى الْمُفْتِي والْمُحَدِّثِ وَالْحَاكِمِ مَا لَا يَجِبُ عَلَى مَنْ لَيْسَ كَذَلِكَ.

وَيَنْبَغِي أَنْ يُعْرَفَ أَنَّ عَامَّةَ مَنْ ضَلَّ فِي هَذَا الْبَابِ أَوْ عَجَزَ فِيهِ عَنْ مَعْرِفَةِ الْحَقِّ فَإِنَّمَا هُوَ لِتَفْرِيطِهِ فِي اتِّبَاعِ مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ، وَتَرْكِ النَّظَرِ وَالِاسْتِدْلَالِ الْمُوَصِّلِ إِلَى مَعْرِفَتِهِ، فَلَمَّا أَعْرَضُوا عَنْ كِتَابِ اللَّهِ ضَلُّوا، كَمَا قَالَ تَعَالَى: فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى ۝ وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى ۝ قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا ۝ قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى [طه:123- 126].

قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما: تَكَفَّلَ اللَّهُ لِمَنْ قَرَأَ الْقُرْآنَ وَعَمِلَ بِمَا فِيهِ أَنْ لَا يَضِلَّ فِي الدُّنْيَا، وَلَا يَشْقَى فِي الْآخِرَةِ، ثُمَّ قَرَأَ هَذِهِ الْآيَات.

كَمَا فِي الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: إِنَّهَا سَتَكُونُ فِتَنٌ، قُلْتُ: فَمَا الْمَخْرَجُ مِنْهَا يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: كِتَابُ اللَّهِ، فِيهِ نَبَأُ مَا قَبْلَكُمْ، وَخَبَرُ مَا بَعْدَكُمْ، وَحُكْمُ مَا بَيْنَكُمْ، هُوَ الْفَصْلُ، لَيْسَ بِالْهَزْلِ، مَنْ تَرَكَهُ مِنْ جَبَّارٍ قَصَمَهُ اللَّهُ، وَمَنِ ابْتَغَى الْهُدَى من غَيْرِهِ أَضَلَّهُ اللَّهُ، وَهُوَ حَبْلُ اللَّهِ الْمَتِينُ، وَهُوَ الذِّكْرُ الْحَكِيمُ، وَهُوَ الصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ، وَهُوَ الَّذِي لَا تَزِيغُ بِهِ الْأَهْوَاءُ، وَلَا تَلْتَبِسُ بِهِ الْأَلْسُنُ، وَلَا تَنْقَضِي عَجَائِبُهُ، وَلَا تشْبَعُ مِنْهُ الْعُلَمَاءُ، مَنْ قَالَ بِهِ صَدَقَ، وَمَنْ عَمِلَ بِهِ أُجِرَ، وَمَنْ حَكَمَ بِهِ عَدَلَ، وَمَنْ دَعَا إِلَيْهِ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ وَالْأَحَادِيثِ الدَّالَّةِ عَلَى مِثْلِ هَذَا الْمَعْنَى.

الشيخ: هذا الحديث رواه الترمذي بإسنادٍ ضعيفٍ، وقال فيه الحافظُ الذهبي رحمه الله: إنَّ الأشبه أنه موقوف على عليٍّ.

وهذا الكلام عظيم، تشهد له النصوص بالحقِّ، جاءت النصوص تشهد لهذا المعنى في وصف كتاب الله جلَّ وعلا بأوصافٍ أخرى تشهد لمعناه بالحقِّ، وأنه من كلام الرسول ﷺ، ومما دلَّت عليه النصوص الأخرى، فهو كلام عظيم، وشواهده في الكتاب والسنة كثيرة، وإن كان هذا الطريق فيه ضعف؛ لأنه من رواية الحارث الأعور، وهو ضعيف عن عليٍّ، ولكن مثلما قال الحافظُ الذهبي رحمه الله: أشبه أنه من كلام عليٍّ. قاله من الأدلة الأخرى والنصوص الأخرى التي تشهد له بالصحة.

وَلَا يَقْبَلُ اللَّهُ مِنَ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ دِينًا يَدِينُونَ به إِلَّا أَنْ يَكُونَ مُوَافِقًا لِدِينِهِ الَّذِي شَرَعَهُ عَلَى أَلْسِنَةِ رُسُلِهِ عليهم السلام ........

وَقَدْ نَزَّهَ اللَّهُ تَعَالَى نَفْسَهُ عَمَّا يَصِفُهُ الْعِبَادُ، إِلَّا مَا وَصَفَهُ بِهِ الْمُرْسَلُونَ بِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ ۝ وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ ۝ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الصافات:180- 182].

فَنَزَّهَ نَفْسَهُ سُبْحَانَهُ عَمَّا يَصِفُهُ بِهِ الْكَافِرُونَ، ثُمَّ سَلَّمَ عَلَى الْمُرْسَلِينَ لِسَلَامَةِ مَا وَصَفُوهُ بِهِ مِنَ النَّقَائِصِ وَالْعُيُوبِ، ثُمَّ حَمِدَ نَفْسَهُ عَلَى تَفَرُّدِهِ بِالْأَوْصَافِ الَّتِي يَسْتَحِقُّ عَلَيْهَا كَمَالَ الْحَمْدِ.

الشيخ: سبق في كلام المؤلف أنَّ الله بعث الرسل وأنزل الكتب لأمورٍ ثلاثةٍ:

الأمر الأول: التَّعريف بنفسه، والدلالة على أنه سبحانه هو المسمَّى بالأسماء الحسنى والصِّفات العُلى، وأنه المستحق لأن يُعبد دون كلِّ ما سواه، وأن المعبودات من سواه باطلة، هذا الأمر الأول، يُبين أسماءه وصفاته حتى يعرفه العباد ويعبدوه على بصيرةٍ، ويبين حقَّه لهم، وأنه المستحق لأن يُعبد جلَّ وعلا دون كلِّ ما سواه.

ومن هذا الباب وفي هذا المعنى نزل قوله تعالى: اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا [الطلاق:12]، وقوله سبحانه: وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [الأعراف:180]، وما جاء في هذا المعنى من آيات الصِّفات.

والأمر الثاني: بيان الطريق الذي يجب على العباد أن يسلكوه، وأن يسيروا عليه، وأن يلزموه حتى يصلوا إلى ربهم جلَّ وعلا، وهذا هو الصراط المستقيم، وهو الشرائع التي بعث الله بها الرسل، وهي الطريق الموصل إلى الله، فالرسل والكتب رسمت الطريق، وأوضحت الطريق، وهو طاعة الأوامر، وترك النواهي؛ إخلاصًا لله، ومحبةً له، وتعظيمًا له، هذا هو الطريق.

هذا الأول الذي هو توحيد الله، والإيمان بأسمائه وصفاته، والشرائع التي أمر بها عباده: من الأوامر والنواهي، والحلال والحرام، من اعتقادٍ وقولٍ وعملٍ، هذا الطريق الموصل إلى الله، وسمَّاه الله: الصراط المستقيم، سمَّاه: طريقًا، قال: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ [الفاتحة:6]، وقال: وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [الشورى:52].

والأمر الثالث: ما هو الجزاء لمن سلك الطريق؟ وما عاقبته؟ وما نهايته؟ وما هو الجزاء لمن خالف هذا الطريق ولم يسلكه؟

فبينت الرسل والكتب أنَّ جزاء مَن سلك الطريق الجنة، والكرامة، والفوز بالنعيم المقيم، والرضا من الله، والنظر إلى وجهه الكريم يوم القيامة، هذا جزاء مَن استقام على الصراط، وسار على الطريق: الإيمان بالله، والإيمان بأسمائه وصفاته عن إخلاصٍ له في العبادة، وتوحيدٍ له سبحانه، وأن جزاء مَن خالف الطريق وحاد عن السبيل المرسوم جزاؤه النار وغضب الله ، والعذاب المهين الدائم والمستمر أبد الآباد، ودهر الدَّاهرين.

هذه الأمور الثلاثة هي الزبدة؛ زبدة ما جاءت به الرسل، وحقيقة ذلك هذه الأمور الثلاثة:

الأمر الأول: ما يتعلق بالتعريف به سبحانه، وبيان أسمائه وصفاته، وأنه المستحق للعبادة.

الأمر الثاني: بيان الشرائع التي يسلكها الناس، ويستقيم عليها الناس، ويلزمونها في هذه الدنيا، وبها تصلح أحوالهم في الدنيا، وتحصل لهم النَّجاة في الآخرة، كل رسولٍ على حسب ما جاء به من الشَّرائع.

والأمر الثالث: جزاء هؤلاء السَّالكين للصراط، وجزاء مَن خالف الصراط، جزاء مَن استقام على طاعة الله، ولزم الطريق، واستقام على السبيل، وجزاء مَن حاد عن ذلك، واستكبر عن ذلك، وأعرض عن ذلك.

فيدخل في الأول كل ما يتعلق بالتوحيد وأسماء الله وصفاته.

ويدخل في الثاني كل الشرائع من الأوامر والنَّواهي، والحلال والحرام، والبدع، وغيرها.

ويدخل في الثالث كل ما وعد في الجنة والنار، والحساب والجزاء، إلى غير ذلك.

وبهذه الأمور الثلاثة يدخل جميع ما جاءت به الرسل عليهم الصلاة والسلام، وكل ما جاءت به الرسل، وكل ما دلَّت عليه الكتب، كله داخل في هذه الأمور الثلاثة.

وَمَضَى عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ الرَّسُولُ ﷺ خَيْرُ الْقُرُونِ، وَهُمُ الصَّحَابَةُ وَالتَّابِعُونَ لَهُمْ بِإِحْسَانٍ، يُوصِي بِهِ الْأَوَّلُ الْآخِرَ، وَيَقْتَدِي فِيهِ اللَّاحِقُ بِالسَّابِقِ، وَهُمْ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ بِنَبِيِّهِمْ مُحَمَّدٍ ﷺ مُقْتَدُونَ، وَعَلَى مِنْهَاجِهِ سَالِكُونَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ الْعَزِيزِ: قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي [يوسف:108]، فَإِنْ كَانَ قَوْلُهُ: وَمَنِ اتَّبَعَنِي مَعْطُوفًا عَلَى الضَّمِيرِ فِي أَدْعُو فَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ أَتْبَاعَهُ هُمُ الدُّعَاةُ إِلَى اللَّهِ، وَإِنْ كَانَ مَعْطُوفًا عَلَى الضَّمِيرِ الْمُنْفَصِلِ فَهُوَ صَرِيحٌ أَنَّ أَتْبَاعَهُ هُمْ أَهْلُ الْبَصِيرَةِ فِيمَا جَاءَ بِهِ دُونَ غَيْرِهِمْ، وَكِلَا الْمَعْنَيَيْنِ حَقٌّ.

وَقَدْ بَلَّغَ الرَّسُولُ ﷺ الْبَلَاغَ الْمُبِينَ، وَأَوْضَحَ الْحُجَّةَ لِلْمُسْتَبْصِرِينَ، وَسَلَكَ سَبِيلَهُ خَيْرُ الْقُرُونِ.

ثُمَّ خَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ اتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ، وَافْتَرَقُوا، فَأَقَامَ اللَّهُ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ مَنْ يَحْفَظُ عَلَيْهَا أُصُولَ دِينِهَا، كَمَا أَخْبَرَ الصَّادِقُ ﷺ: لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي ظَاهِرِينَ عَلَى الْحَقِّ، لَا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَذَلَهُمْ.

وَمِمَّنْ قَامَ بِهَذَا الْحَقِّ مِنْ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ: الْإِمَامُ أَبُو جَعْفَرٍ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ سَلَامَةَ الْأَزْدِيُّ الطَّحَاوِيُّ، تَغَمَّدَهُ اللَّهُ بِرَحْمَتِهِ، بَعْدَ الْمِئَتَيْنِ، فَإِنَّ مَوْلِدَهُ سَنَةَ تِسْعٍ وَثَلَاثِينَ وَمِئَتَيْنِ، وَوَفَاتَهُ سَنَةَ إِحْدَى وَعِشْرِينَ وَثَلَاثِمِئَةٍ.

فَأَخْبَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ عَمَّا كَانَ عَلَيْهِ السَّلَفُ، وَنَقَلَ عَنِ الْإِمَامِ أَبِي حَنِيفَةَ النُّعْمَانِ بْنِ ثَابِتٍ الْكُوفِيِّ، وَصَاحِبَيْهِ: أَبِي يُوسُفَ يَعْقُوبَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ الْحِمْيَرِيِّ الْأَنْصَارِيِّ، وَمُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ الشَّيْبَانِيِّ -مَا كَانُوا يَعْتَقِدُونَ مِنْ أُصُولِ الدِّينِ، وَيَدِينُونَ بِهِ رَبَّ الْعَالَمِينَ.

وَكُلَّمَا بَعُدَ الْعَهْدُ ظَهَرَتِ الْبِدَعُ، وَكَثُرَ التَّحْرِيفُ الَّذِي سَمَّاهُ أَهْلُهُ: تَأْوِيلًا لِيُقْبَلَ، وَقَلَّ مَنْ يَهْتَدِي إِلَى الْفَرْقِ بَيْنَ التَّحْرِيفِ وَالتَّأْوِيلِ؛ إِذْ قَدْ يُسَمَّى صَرْفُ الْكَلَامِ عَنْ ظَاهِرِهِ إِلَى مَعْنًى آخَرَ يَحْتَمِلُهُ اللَّفْظُ فِي الْجُمْلَةِ: تَأْوِيلًا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ثَمَّ قَرِينَةٌ تُوجِبُ ذَلِكَ، وَمِنْ هُنَا حَصَلَ الْفَسَادُ، فَإِذَا سَمَّوْهُ تَأْوِيلًا قُبِلَ وَرَاجَ عَلَى مَنْ لَا يَهْتَدِي إِلَى الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا.

الشيخ: يعني ....... وهو تحريف، تحريف الكلم عن مواضعه، وتغيير اللفظ عن وجهه، وصرف له عن مُقتضاه، لكن سمّوه: تأويلًا حتى يُقبل، وحتى يحصل به التَّلبيس.

والتأويل أقسام ثلاثة:

القسم الأول: التأويل بمعنى التفسير: كما يقول ابنُ جرير رحمه الله: القول في التأويل قوله تعالى: كذا وكذا، يعني: تفسيره، وهو بيان معنى الألفاظ، وإيضاح معنى الألفاظ، يقال له: تأويل، ويقال له: تفسير.

والمعنى الثاني: التأويل بمعنى العاقبة، بمعنى الشيء الذي يؤول إليه الشيء وينتهي إليه، مثل: تأويل الشرائع؛ الأوامر والنواهي، تأويلها ما يحصل لأهلها من الجنة والسعادة، وما يحصل لمن خالفها من النار، كما قال : هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ [الأعراف:53] يعني: نهايته وما يؤول إليه، فنهاية هذه الأمور الجنة للمُتقين، والنار للكافرين، هذه تأويلها ونهايتها، ومنه تأويل الأحلام، يعني: ما تؤول إليه الأحلام وما تنتهي إليه عاقبتها.

والتأويل الثالث: هو التأويل الذي تستعمله المبتدعة من نُفاة الصفات، يُسمون تحريفهم وصرفهم الكلام عن ظاهره: تأويلًا، فالتأويل المبتدع المذموم هو صرف الألفاظ عن ظاهرها، والأدلة عن ظاهرها إلى معانٍ أخرى تُوافق ما أرادوا من التَّحريف، وتوافق ما أرادوا من الباطل، فيُسمون هذا: تأويلًا؛ للتلبيس، وليدسوه على الناس، ويلبسوا به الأمر، وهو ليس في الحقيقة تأويل، ولكنه تحريف.

ولا يجوز هذا التأويل الثالث إلا بدليلٍ، يعني: صرف الكلام عن ظاهره إلا بدليلٍ يدل على ذلك، فإن جاء دليلٌ من الكتاب والسنة أنه يجوز صرف ذلك النص عن ظاهره حتى يُوافق أدلةً أخرى صحيحةً عن الله وعن رسوله، فهذا تفسير وتأويل بمعنى صحيحٍ؛ حتى لا يحصل اختلاف النصوص، وتضارب الأدلة، وإلا فهو باطل وتحريف وتغيير للكلام عن حقيقته، حتى يقبل ممن ضعفت بصيرته، وهذا الذي سلكه أرباب الكلام وأهل البدع.

فَاحْتَاجَ الْمُؤْمِنُونَ بَعْدَ ذَلِكَ إِلَى إِيضَاحِ الْأَدِلَّةِ، وَدَفْعِ الشُّبَهِ الْوَارِدَةِ عَلَيْهَا، وَكَثُرَ الْكَلَامُ وَالشَّغَبُ، وَسَبَبُ ذَلِكَ إِصْغَاؤُهُمْ إِلَى شُبَهِ الْمُبْطِلِينَ، وَخَوْضُهُمْ فِي الْكَلَامِ الْمَذْمُومِ الَّذِي عَابَهُ السَّلَفُ وَنَهَوْا عَنِ النَّظَرِ فِيهِ وَالِاشْتِغَالِ بِهِ وَالْإِصْغَاءِ إِلَيْهِ؛ امْتِثَالًا لِأَمْرِ رَبِّهِمْ حَيْثُ قَالَ: وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ [الأنعام:68]، فَإِنَّ مَعْنَى الْآيَةِ يَشْمَلُهُمْ.

وَكُلٌّ مِنَ التَّحْرِيفِ وَالِانْحِرَافِ عَلَى مَرَاتِبَ: فَقَدْ يَكُونُ كُفْرًا، وَقَدْ يَكُونُ فِسْقًا، وَقَدْ يَكُونُ مَعْصِيَةً، وَقَدْ يَكُونُ خَطَأً.

فَالْوَاجِبُ اتِّبَاعُ الْمُرْسَلِينَ، وَاتِّبَاعُ مَا أَنْزَلَه اللَّهُ عَلَيْهِمْ، وَقَدْ خَتَمَهُمُ اللَّهُ بِمُحَمَّدٍ ﷺ، فَجَعَلَهُ آخِرَ الْأَنْبِيَاءِ، وَجَعَلَ كِتَابَهُ مُهَيْمِنًا عَلَى مَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنْ كُتُبِ السَّمَاءِ، وَأَنْزَلَ عَلَيْهِ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ، وَجَعَلَ دَعْوَتَهُ عَامَّةً لِجَمِيعِ الثَّقَلَيْنِ: الْجِنِّ وَالْإِنْسِ، بَاقِيَةً إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَانْقَطَعَتْ بِهِ حُجَّةُ الْعِبَادِ عَلَى اللَّهِ.

وَقَدْ بَيَّنَ اللَّهُ بِهِ كُلَّ شَيْءٍ، وَأَكْمَلَ لَهُ وَلِأُمَّتِهِ الدِّينَ خَبَرًا وَأَمْرًا، وَجَعَلَ طَاعَتَهُ طَاعَةً لَهُ، وَمَعْصِيَتَهُ مَعْصِيَةً لَهُ، وَأَقْسَمَ بِنَفْسِهِ أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوهُ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ، وَأَخْبَرَ أَنَّ الْمُنَافِقِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى غَيْرِهِ، وَأَنَّهُمْ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ -وَهُوَ الدُّعَاءُ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ- صَدُّوا صُدُودًا، وَأَنَّهُمْ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ إِنَّمَا أَرَادُوا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا، كَمَا يَقُولُهُ كَثِيرٌ مِنَ الْمُتَكَلِّمَةِ وَالْمُتَفَلْسِفَةِ وَغَيْرِهِمْ: إِنَّمَا نُرِيدُ أَنْ نُحِسَّ الْأَشْيَاءَ بِحَقِيقَتِهَا، أَيْ: نُدْرِكَهَا وَنَعْرِفَهَا، وَنُرِيدُ التَّوْفِيقَ بَيْنَ الدَّلَائِلِ الَّتِي يُسَمُّونَهَا: الْعَقْلِيَّاتِ، وَهِيَ فِي الْحَقِيقَةِ: جَهْلِيَّاتٌ! وَبَيْنَ الدَّلَائِلِ النَّقْلِيَّةِ الْمَنْقُولَةِ عَنِ الرَّسُولِ، أَوْ نُرِيدُ التَّوْفِيقَ بَيْنَ الشَّرِيعَةِ وَالْفَلْسَفَةِ.

وَكَمَا يَقُولُهُ كَثِيرٌ مِنَ الْمُبْتَدِعَةِ -مِنَ الْمُتَنَسِّكَةِ وَالْمُتَصَوِّفَةِ: إِنَّمَا نُرِيدُ الْأَعْمَالَ بِالْعَمَلِ الْحَسَنِ، وَالتَّوْفِيقَ بَيْنَ الشَّرِيعَةِ وَبَيْنَ مَا يَدَّعُونَهُ مِنَ الْبَاطِلِ الَّذِي يُسَمُّونَهُ "حَقَائِقَ"، وَهِيَ جَهْلٌ وَضَلَالٌ.

وَكَمَا يَقُولُهُ كَثِيرٌ مِنَ الْمُتَمَلِّكَةِ وَالْمُتَأَمِّرَةِ: إِنَّمَا نُرِيدُ الْإِحْسَانَ بِالسِّيَاسَةِ الْحَسَنَةِ، وَالتَّوْفِيقَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الشَّرِيعَةِ، وَنَحْوَ ذَلِكَ.

س: ............؟

الشيخ: وغالب الكلام هذا منقول من كلام ابن القيم رحمه الله، والمؤلف نقل كثيرًا من كلام ابن القيم رحمه الله في هذا الكتاب.

قوله: "وكما يقوله كثيرٌ من المتكلمة" الظاهر المتملكة، أما المتملكون فمعناه: الذين لهم الحكم والملك، الذين تأثروا بالأشياء التي يزعمونها سياسة، وهي ليست سياسة، وإنما هي اتباع للهوى، وتحريف للحق، وكثيرًا ما يفعل أهلُ الكلام التحريف من الصوفية وغيرهم، ويفعلها من الملوك والرؤساء ومَن يزعمون أنهم يُريدون سياسة الملك وسياسة الدولة بما ينفع الدولة ونحو ذلك، وقد يعصون الأوامر بزعمهم أنَّ هذا من السياسة.

والحاصل من هذا كله أن أصناف المخالفين للشرع من ممتنعة، ومن إباحية، ومن أصحاب الهوى والملك والرياسة، وغير ذلك، كلهم إذا حادوا عن الحقِّ يسمون بعدهم عن الحقِّ وتأويلهم للحقِّ شيئًا يزهده على الناس، ويُلبسون به على الناس، وهؤلاء يسمون عملهم: إحسانًا وتوفيقًا؛ جمعًا بين الأدلة، وتوفيقًا للأدلة التي زعموا أنها أدلة من خواطرهم وأوهامهم وما يُسمونه: حقيقةً، أو باطنيًّا، الأدلة الباطنية، أو ما أشبه ذلك، وبين ما هو الظاهر من الشرع، فالصوفية لهم بحث، والمبتدعة من الجهمية والمعتزلة والأشعرية والفلاسفة وغيرهم لهم بحث وتأويل، والذين يعصون الرسولَ ﷺ ويُخالفون الأوامر من الملوك والرؤساء؛ لتحصيل مآربهم قد يُخطئون في هذا عمدًا، وقد يُخطئون جهلًا، وقد يتأوله لهم غيرهم، فيزعمون أنهم إنما أرادوا إحسانًا وتوفيقًا، إلى غير ذلك.

فهذه أشياء واقعية من دهر طويل من عهد الصحابة إلى يومنا هذا، ولكن الصراط المستقيم والحق الواضح المبين هو لزوم الطريق السوي الذي رسمه الله لعباده، ودعت الرسل إليه، وهو الأخذ بالأوامر على ظاهرها، وترك النواهي على ظاهرها، والوقوف عند الحدود على ظاهرها، وترك التأويل والتلبيس الذي لا وجه له ولا دليل عليه.

فَكُلُّ مَنْ طَلَبَ أَنْ يُحَكِّمَ فِي شَيْءٍ مِنْ أَمْرِ الدِّينِ غَيْرَ مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ، وَيَظُنُّ أَنَّ ذَلِكَ حَسَنٌ، وَأَنَّ ذَلِكَ جَمْعٌ بَيْنَ مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ وَبَيْنَ مَا يُخَالِفُهُ -فَلَهُ نَصِيبٌ مِنْ ذَلِكَ، بَلْ مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ كَافٍ كَامِلٌ، يَدْخُلُ فِيهِ كُلُّ حَقٍّ.

وَإِنَّمَا وَقَعَ التَّقْصِيرُ مِنْ كَثِيرٍ مِنَ الْمُنْتَسِبِينَ إِلَيْهِ، فَلَمْ يَعْلَمْ مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأُمُورِ الْكَلَامِيَّةِ الِاعْتِقَادِيَّةِ، وَلَا فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَحْوَالِ الْعِبَادِيَّةِ، وَلَا فِي كَثِيرٍ مِنَ الْإِمَارَةِ السِّيَاسِيَّةِ، أَوْ نَسَبُوا إِلَى شَرِيعَةِ الرَّسُولِ بِظَنِّهِمْ وَتَقْلِيدِهِمْ مَا لَيْسَ مِنْهَا، وَأَخْرَجُوا عَنْهَا كَثِيرًا مِمَّا هُوَ مِنْهَا.

فَبِسَبَبِ جَهْلِ هَؤُلَاءِ وَضَلَالِهِمْ وَتَفْرِيطِهِمْ، وَبسبب عُدْوَانِ أُولَئِكَ وَجَهْلِهِمْ وَنِفَاقِهِمْ كَثُرَ النِّفَاقُ، وَدَرَسَ كَثِيرٌ مِنْ عِلْمِ الرِّسَالَةِ، بَلِ الْبَحْثُ التَّامُّ، وَالنَّظَرُ الْقَوِيُّ، وَالِاجْتِهَادُ الْكَامِلُ فِيمَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ ﷺ؛ لِيُعْلَمَ وَيُعْتَقَدَ، وَيُعْمَلَ بِهِ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا، فَيَكُونَ قَدْ تُلِيَ حَقَّ تِلَاوَتِهِ، وَأَنْ لَا يُهْمَلَ مِنْهُ شَيْءٌ.

وَإِنْ كَانَ الْعَبْدُ عَاجِزًا عَنْ مَعْرِفَةِ بَعْضِ ذَلِكَ، أَوِ الْعَمَلِ بِهِ، فَلَا يَنْهَى عَمَّا عَجَزَ عَنْهُ مِمَّا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ، بَلْ حَسْبُهُ أَنْ يَسْقُطَ عَنْهُ اللَّوْمُ لِعَجْزِهِ، لَكِنْ عَلَيْهِ أَنْ يَفْرَحَ بِقِيَامِ غَيْرِهِ بِهِ، وَيَرْضَى بِذَلِكَ، وَيَوَدَّ أَنْ يَكُونَ قَائِمًا بِهِ، وَأَنْ لَا يُؤْمِنَ بِبَعْضِهِ وَيَتْرُكَ بَعْضَهُ، بَلْ يُؤْمِنُ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ.

الشيخ: يعني: إذا عجز عن إيضاح الحقِّ لقصور علمه أو لمشاغله أو نحو ذلك مما قد يصعب له الحق، فالواجب عليه أن يفرح بمن أظهر الحقَّ، ونصر الحق وبيَّنه وتفرغ لذلك، وأن لا يحمله الحسد والبغي على مُعاداة ذلك، أو تكفير ذلك، أو تجهيله، أو ما أشبه ذلك، ظلمًا وعدوانًا وحسدًا وبغيًا.

فالمؤمن إما أن ينصر الحق بنفسه ويقوم بما يجب، وإما أن يساعد مَن قام بذلك، ويفرح بمن قام بذلك، ويكون عونًا له على الخير، ولا يكون ضدًّا لذلك؛ جهلًا وحسدًا وبغيًا ونحو ذلك، أو لئلا يقال: إن غيره أظهر الحق وعمل ما لم يعمله هذا الشخص، وما أشبه ذلك.

فالمؤمنون فيما بينهم يتعاونون ويتناصرون في اتباع الحق، ويفرح كل واحدٍ بما يقوم به أخوه من نصر الحق وتأييد الحق وإظهاره في بلده أو في ناحيته أو في قبيلته أو في أي مكانٍ كان، فينبغي له أن يُشجعه على ذلك بالمكاتبة والكلام ونحو ذلك مما يُعينه، ويُشفق على إظهار الحق والدَّعوة إليه، وإيضاح الباطل والتحذير منه.

وَأَنْ يُصَانَ عَنْ أَنْ يُدْخلَ فِيهِ مَا لَيْسَ مِنْهُ: مِنْ رِوَايَةٍ أَوْ رَأْيٍ، أَوْ يَتَّبِعَ مَا لَيْسَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ اعْتِقَادًا أَوْ عَمَلًا، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ [البقرة:42].

وَهَذِهِ كَانَتْ طَرِيقَةَ السَّابِقِينَ الْأَوَّلِينَ، وَهِيَ طَرِيقَةُ التَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانٍ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَأَوَّلُهُمُ السَّلَفُ الْقَدِيمُ مِنَ التَّابِعِينَ الْأَوَّلِينَ، ثُمَّ مَنْ بَعْدَهُمْ، وَمِنْ هَؤُلَاءِ أَئِمَّةُ الدِّينِ الْمَشْهُودُ لَهُمْ عِنْدَ الْأُمَّةِ الْوَسَطِ بِالْإِمَامَةِ.

الشيخ: ..............

قوله: (نَقُولُ فِي تَوْحِيدِ اللَّهِ مُعْتَقِدِينَ بِتَوْفِيقِ اللَّهِ: إِنَّ اللَّهَ وَاحِدٌ لَا شَرِيكَ لَهُ).

اعْلَمْ أَنَّ التَّوْحِيدَ أَوَّلُ دَعْوَةِ الرُّسُلِ، وَأَوَّلُ مَنَازِلِ الطَّرِيقِ، وَأَوَّلُ مَقَامٍ يَقُومُ فِيهِ السَّالِكُ إِلَى اللَّهِ، قَالَ تَعَالَى: لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ [الأعراف:59]، وَقَالَ هُودٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِقَوْمِهِ: اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ [هود:50]، وَقَالَ صَالِحٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِقَوْمِهِ: اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ [هود:61]، وَقَالَ شُعَيْبٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِقَوْمِهِ: اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ [هود:84]، وَقَالَ تَعَالَى: وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ [النحل:36]، وَقَالَ تَعَالَى: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ [الأنبياء:25].

وَقَالَ ﷺ: أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ.

وَلِهَذَا كَانَ الصَّحِيحُ أَنَّ أَوَّلَ وَاجِبٍ يَجِبُ عَلَى الْمُكَلَّفِ شَهَادَةُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، لَا النَّظَرُ، وَلَا الْقَصْدُ إِلَى النَّظَرِ، وَلَا الشَّكُّ، كَمَا هِيَ أَقْوَالٌ لِأَرْبَابِ الْكَلَامِ الْمَذْمُومِ، بَلْ أَئِمَّةُ السَّلَفِ كُلُّهُمْ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ أَوَّلَ مَا يُؤْمَرُ بِهِ الْعَبْدُ الشَّهَادَتَانِ، وَمُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ قَبْلَ الْبُلُوغِ لَمْ يُؤْمَرْ بِتَجْدِيدِ ذَلِكَ عقيبَ بُلُوغِهِ، بَلْ يُؤْمَرُ بِالطَّهَارَةِ وَالصَّلَاةِ إِذَا بَلَغَ أَوْ مَيَّزَ عِنْدَ مَنْ يَرَى ذَلِكَ، وَلَمْ يُوجِبْ أَحَدٌ مِنْهُمْ عَلَى وَلِيِّهِ أَنْ يُخَاطِبَهُ حِينَئِذٍ بِتَجْدِيدِ الشَّهَادَتَيْنِ، وَإِنْ كَانَ الْإِقْرَارُ بِالشَّهَادَتَيْنِ وَاجِبًا بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ، وَوُجُوبُهُ يَسْبِقُ وُجُوبَ الصَّلَاةِ، لَكِنْ هُوَ أَدَّى هَذَا الْوَاجِبَ قَبْلَ ذَلِكَ.

الشيخ: هذا الذي قاله الشارحُ من أنَّ التوحيد هو زبدة قول الرسل، وهو الخلاصة، وهو المهمة الأولى من مهمات الرسل؛ هو الحق، فإن أول ما يجب على المكلف هو توحيد الله، والإيمان برسوله عليه الصلاة والسلام، وهذا هو معنى الشهادتين: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، هذا أول واجبٍ، فإذا نشأ عليها الولدُ من صغره يقولها ويعتقد معناها فقد أدَّى ما عليه، فلا يُؤمر بالتجديد، بل هو مستمر على ذلك، يُؤمر بالاستمرار والثبات على هذا الخير العظيم، وهو الإيمان بالله وتوحيده والإخلاص له والإيمان برسوله محمدٍ ﷺ واتِّباعه.

ومَن قال من أهل الكلام: إنَّ الواجب النظر في الموجودات والمخلوقات والاستدلال بالعقل. أو قال: الواجب القصد إلى النظر قبل كل شيءٍ؛ قبل أن يشهد أن لا إله إلا الله. أو قال: الواجب الشك، يشك في كل شيءٍ، ثم بعد ذلك ينظر في التوحيد في حقِّ الله.

كل هذه أقوال فاسدة، كلها أقوال باطلة، بل هو مأمور بدارًا بغاية المبادرة وبغاية الفورية أن يشهد أن لا إله إلا الله وأنَّ محمدًا رسول الله، كما جاءت الرسلُ بذلك، فهم مأمورون وغيرهم من المكلفين مأمورون بأن يشهدوا أن لا إله إلا الله وأنَّ محمدًا رسول الله بدارًا، ويفقهوا في معناهما، ويعلموا معناهما، هذا هو الواجب قبل كل شيءٍ، ثم الصلاة والزكاة والصيام والحج وفروع الشريعة، هذا هو الذي جاءت به الرسل عليهم الصلاة والسلام كما في الآيات، كل نبيٍّ يقول لقومه: اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ [الأعراف:59] أول شيءٍ.

ونبينا خاتم النبيين، والمرسل إلى جميع الناس عليه الصلاة والسلام، بدأ قومه بقوله: قولوا: لا إله إلا الله، تُفلحوا، هكذا بدأهم، ما قال لهم: انظروا في هذا، وانظروا في هذا، أو اطلبوا النظر في هذا، أو كونوا شاكين في كل شيءٍ، ثم بعد هذا انظروا. كل هذه أشياء لا أساسَ لها، دخلت على أهل الكلام ممن قبلهم من الفلاسفة وأرباب الكلام الباطل وأرباب الفطر المنحرفة والعقول الفاسدة فظنوها صوابًا.

والله جلَّ وعلا إنما خاطبنا أول شيءٍ بالأمر بالتوحيد: اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ [الأعراف:59]، وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ [النحل:36]، وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ [الأنبياء:25]، وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات:56]، يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ [البقرة:21]، وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ [الإسراء:23]، لَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَخْذُولًا [الإسراء:22].

فالواجب في هذا على جميع المكلفين من جنٍّ وإنسٍ، وعربٍ وعجمٍ، وذكورٍ وإناثٍ، الواجب عليهم قبل كل شيء، وأول شيء: أن يخصُّوا الله بالعبادة، ويؤمنوا به، وأنه ربهم وإلههم، وهذا يتضمن النظر والتفكير بهذه المعاني، لا يبدأوا بها، بل يجب أن يبدأوا بتوحيد الله، والمبادرة إلى عبادته وحده دون كلِّ ما سواه، وينظروا بعد ذلك في هذه المعاني، وفي خصوص هذه المعاني، وينظروا فيها حتى يكون إيمانهم على بصيرةٍ.

وَهُنَا مَسَائِلُ تَكَلَّمَ فِيهَا الْفُقَهَاءُ: كَمَنْ صَلَّى وَلَمْ يَتَكَلَّمْ بِالشَّهَادَتَيْنِ، أَوْ أَتَى بِغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ خَصَائِصِ الْإِسْلَامِ، وَلَمْ يَتَكَلَّمْ بِهَا -هَلْ يَصِيرُ مُسْلِمًا أَمْ لَا؟

فَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يَصِيرُ مُسْلِمًا بِكُلِّ مَا هُوَ مِنْ خَصَائِصِ الْإِسْلَامِ، فَالتَّوْحِيدُ أَوَّلُ مَا يُدْخَلُ به فِي الْإِسْلَامِ، وَآخِرُ مَا يُخْرَجُ بِهِ مِنَ الدُّنْيَا، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: مَنْ كَانَ آخِرُ كَلَامِهِ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ دَخَلَ الْجَنَّةَ، فهُوَ أَوَّلُ وَاجِبٍ وَآخِرُ وَاجِبٍ.

..........

فَالتَّوْحِيدُ أَوَّلُ الْأَمْرِ وَآخِرُهُ، أَعْنِي: تَوْحِيدَ الْإِلَهِيَّةِ.

فإنَّ التَّوْحِيدَ يَتَضَمَّنُ ثَلَاثَةَ أَنْوَاعٍ:

أَحَدُهَا: الْكَلَامُ فِي الصِّفَاتِ.

وَالثَّانِي: تَوْحِيدُ الرُّبُوبِيَّةِ، وَبَيَانُ أَنَّ اللَّهَ وَحْدَهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ.

وَالثَّالِثُ: تَوْحِيدُ الْإِلَهِيَّةِ، وَهُوَ اسْتِحْقَاقُهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَنْ يُعْبَدَ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ.

الشيخ: هذه الأقسام أُحيلت بالاستقراء والنظر في الأدلة، استنبط توحيد الربوبية وتوحيد الإلهية وتوحيد الأسماء والصِّفات استنبطت من الأدلة، والنظر فيها بالأدلة؛ ولهذا قسم العلماءُ التوحيدَ إلى هذه الأقسام، فإذا درس طالبُ العلم الأدلة الواردة في الكتاب والسنة نتج له هذه الأقسام الثلاثة.

أما توحيد الربوبية وتوحيد الأسماء والصِّفات فهذان توحيدان أقرَّ بهما المشركون، وعرفوا أنَّ الله ربهم وخالقهم ورازقهم ونحو ذلك، وأنَّ له الكمال في صفاته جلَّ وعلا وأسمائه، هذا أقرَّ به المشركون، وإن وُجد من بعضهم مَن جحد لشيءٍ من الصِّفات فهو من باب المكابرة، ومن باب الجهل الذي قبض لعلم غيره، كما أنكرت قريش الرحمنَ مكابرةً، وهم يعرفون ذلك.

فالحاصل أنَّ هذين التوحيدين أمرهما معلوم عند الأمم، قد أقرَّت بهما الأمم، وكل مَن شذَّ ممن لا يُعتبر بخلافه وشذوذه.

أما توحيد العبادة فهو الأمر الذي تنازعت فيه الأمم، ولم يقرّ به إلا القليل، وجعلوا لهم آلهةً يعبدونهم من دون الله، منهم مَن جعل الشمس والقمر، ومنهم مَن جعل بعض النجوم، ومنهم مَن جعل الأصنام، ومنهم مَن جعل الأموات، ومنهم مَن جعل بعض الأشجار، إلى غير ذلك.

وهم في عباداتهم مُتفاوتون ومُتعددون ومُتنوعون أنواعًا لا تُحصى، فبعث الله الرسلَ لهذا القسم؛ لتوحيد الإلهية والعبادة، وأمر الناس أن يعبدوا الله وحده، كما أنه خالقهم وربهم يجب أن يكون هو معبودهم ، وكما أنهم يعلمون أنه ذو الأسماء الحسنى والصِّفات العُلى وأنه الكامل، فالواجب أن يعبدوه وحده دون كلِّ ما سواه.

هذه دعوة الرسل؛ تُذكِّرهم بما أقرُّوا به، فالرسل مُذكِّرون: فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ [الغاشية:21] يعني: يُذكرونهم ما فطر الله عليه عباده من الإيمان بالله، وأنه رب الجميع، وخالق الجميع، ورازق الجميع، فيُذكرونهم بهذا الإيمان، وبهذا الأساس الذي خُلقوا عليه وفُطروا عليه؛ ليعبدوا الله وحده ويخصُّوه بالعبادة دون كلِّ ما سواه، فهم مفطورون على توحيد العبادة، وعلى توحيد الأسماء والصِّفات، وعلى توحيد الربوبية، هم مفطورون على هذه الأمور.

فالرسل جاءت تُذكرهم بما فُطروا عليه، وبما خُلقوا عليه من التوحيد والإيمان، كما قال النبيُّ ﷺ: ما من مولودٍ إلا يُولد على الفطرة يقصد: إلا على هذه الملَّة، فأبواه يُهودانه، أو يُنصرانه، أو يُمجسانه.

فالشيطان دخل عليهم في باب توحيد العبادة، دخل عليهم بأشياء، وقال لهم: هذا ربكم، وهو العظيم، وهو ذو الأسماء والصِّفات، وأنتم ضُعفاء مُذنبون محل الجرائم، محل كذا، محل كذا، فلا يليق بكم أن تُباشروه بالعبادة، بل يجب أن تتخذوا وسائط وشُفعاء بينكم وبينه؛ لأنَّكم لستم أهلًا لأن تُباشروا العبادةَ بأنفسكم، ولستم أهلًا لأن تُقربوا إليه بأنفسكم؛ لأنَّ عندكم من الجرائم والظلم وكذا وكذا. فيلبس عليهم هذه الأمور، وأنَّ هذا من باب التَّأدب، ومن باب التنقص للنفس؛ حتى لا نتوجه إلى الله بأنفسنا، بل نتوجه إلى الأموات أو الأشجار أو الأحجار أو الكواكب أو الأصنام للوساطة بيننا وبين ربنا.

هذا عمل الشيطان الذي زيَّن لهم؛ ولهذا قال جلَّ وعلا: وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ [يونس:18]، فجعلوا الأصنام والأشجار والأحجار وغير ذلك وسائط: وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ، فأخبر أنه لا يعلم شيئًا في السَّماوات ولا في الأرض شريكًا لله ، فشيء لا يعلمه الله لا وجودَ له.

وهكذا قوله سبحانه وتعالى: وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى [الزمر:3]، فهم يقولون: ما نعبدهم إلا ليُقربونا إلى الله زلفى، فهم يزعمون أنهم عبدوا هذه الأشياء للتقريب والشفاعة، لا لأنها تخلق أو ترزق أو تدبر أو تتصرف في الكون، لا، يعلمون أنَّ هذا لله وحده، ولكنهم عبدوها لأنها تشفع، لأنها تُقربهم إلى الله زلفى، فزعموا أنهم ناقصون، وأنهم يُذنبون، وأنهم ضُعفاء، وأنهم مُذنبون، وأنهم يحتاجون إلى أن يتخذوا هذه الوسائط من الأصنام والأموات، فأبطل الله ذلك عليهم وقال: قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ يعني: تُخبرون الله بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ.

وفي الآية الأخرى قال جلَّ وعلا: وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ [الزمر:3]، فجعلهم كذبة وكفرة بهذه الدَّعوى، كذبة بقولهم: تُقربنا زلفى، وأنها تشفع. وكفرة بهذا العمل وبهذا الإجراء وبهذا الاعتقاد.

وبهذا يُعلم أنه كما أنه ربنا وخالقنا ورازقنا .....

أَمَّا الْأَوَّلُ: فَإِنَّ نُفَاةَ الصِّفَاتِ أَدْخَلُوا نَفْيَ الصِّفَاتِ فِي مُسَمَّى التَّوْحِيدِ، كَالْجَهْمِ بْنِ صَفْوَانَ وَمَنْ وَافَقَهُ، فَإِنَّهُمْ قَالُوا: إِثْبَاتُ الصِّفَاتِ يَسْتَلْزِمُ تَعَدُّدَ الْوَاجِبِ!

الشيخ: يعني: تعدد الواجب في الوجود، يعني: الله هو الواجب في الوجود، الذي قبل كل شيءٍ ، فإذا أثبت الصِّفات، وأنه حي قيوم، وأنه سميع بصير، سمعه قديم، وبصره قديم، لم يزل سميعًا، لم يزل بصيرًا؛ تعددت الواجبات؛ هذا واجب السمع، وهذا واجب البصر، وهذا واجب الحياة، وهذا واجب القيومية، وهذا واجب القدرة، تكون الصِّفات نوعًا من الآلهة الأخرى؛ لأنها واجبة الوجود، فنُجرده من جميع ذلك، ونجعلها منفيَّة باطلة، كأنه ذات مجردة عن الصِّفات.

وهل يُعقل هذا؟! هذا لا يعقله عاقلٌ، أهناك ذات مجردة عن الصِّفات؟! بل هو العدم؛ ولهذا قالوا بالعدم، أفضى بهم هذا القول إلى عدم إثبات الله عزَّ وجل، أقوال شنيعة، نسأل الله العافية، حتى قال خواصهم: لا داخلَ العالم ولا خارجه، ولا مُباينًا ولا .......، ولا فوقه ولا تحته، ولا عن يمينه ولا عن شماله. إلى آخر ذلك، هذا لو أنَّ أحدًا أراد أن يُعرّف العدم ما استطاع أن يأتي بأكثر من هذا.

أما أهل السنة والجماعة فقالوا: إنه موجود بصفاته، يعني: كامل بصفاته، يعني: قديم بصفاته، لم يزل موصوفًا بصفات الكمال أبدًا، وأنه فوق الخلق، مُستغنٍ عن الخلق، بائن من خلقه، فوق العرش، ليس في خلقه شيء من ذاته، ولا في ذاته شيء من خلقه ، فهو فوق الجميع، وهو خالق الجميع، ورازق الجميع، وهو فوق العرش، فوق جميع الخلق ، كما قال ابنُ المبارك رحمه الله: نعرف ربنا فوق سماواته على عرشه، بائن من خلقه سبحانه وتعالى.

س: يا شيخ، التقسيم إلى: واجب الوجود، وجائز الوجود؟

ج: هذا من اصطلاحاتهم -أهل الكلام- ولكن معناه صحيح، معناه: أن الموجودات قسمان:

  • قسم واجب: لا يزال أبدًا، ولا يمكن فناؤه ولا عدمه، هذا هو صفة الرب عزَّ وجلَّ، بل هو واجب، لم يزل موجودًا حيًّا قيُّومًا سميعًا بصيرًا، لم يكن عدمه محضًا سابقًا، ولا يكون عدمًا في اللاحق، فهو موجود دائمًا، ولم يزل موجودًا.
  • والقسم الثاني: يعتريه العدم، فهو كان عدمًا ثم وُجد، كبقية المخلوقات، فهي غير واجبة الوجود، بل ممكنة الوجود؛ لهذا يتجدد وجودها شيئًا فشيئًا، الحيوانات والأشجار والأحجار والجبال وغيرها، كل هذه موجودة بعدما كانت عدمًا.

س: يا شيخ، القول بأنه واجب الوجود ما يلزم منه أن واجب الوجود صادر عن وجودٍ؟

ج: لا، معنى أنَّ الوجود له واجب لم يزل واجب الوجود من باب إضافة الصِّفة إلى موصوفها، فالمعنى أنه واجب الوجود، ولم يزل، ولن يزال في المستقبل.

س: مَن أول مَن قال به؟

ج: الظاهر أنَّ هذا من عمل الفلاسفة القُدامى، دخل على الناس من هذا الشيء فاحتاجوا أن يتكلَّموا بها؛ لرد الباطل، والرب جلَّ وعلا قال: هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ [الحديد:3] .

وَهَذَا الْقَوْلُ مَعْلُومُ الْفَسَادِ بِالضَّرُورَةِ، فَإِنَّ إِثْبَاتَ ذَاتٍ مُجَرَّدَةٍ عَنْ جَمِيعِ الصِّفَاتِ لَا يُتَصَوَّرُ لَهَا وُجُودٌ فِي الْخَارِجِ، وَإِنَّمَا الذِّهْنُ قَدْ يَفْرِضُ الْمُحَالَ وَيَتَخَيَّلُهُ، وَهَذَا غَايَةُ التَّعْطِيلِ.

وَهَذَا الْقَوْلُ قَدْ أَفْضَى بِقَوْمٍ إِلَى الْقَوْلِ بِالْحُلُولِ أو الِاتِّحَادِ، وَهُوَ أَقْبَحُ مِنْ كُفْرِ النَّصَارَى، فَإِنَّ النَّصَارَى خَصُّوهُ بِالْمَسِيحِ، وَهَؤُلَاءِ عَمُّوا جَمِيعَ الْمَخْلُوقَاتِ.

وَمِنْ فُرُوعِ هَذَا التَّوْحِيدِ: أَنَّ فِرْعَوْنَ وَقَوْمَهُ كَامِلُو الْإِيمَانِ، عَارِفُونَ بِاللَّهِ عَلَى الْحَقِيقَةِ!

وَمِنْ فُرُوعِهِ: أَنَّ عُبَّادَ الْأَصْنَامِ عَلَى الْحَقِّ وَالصَّوَابِ، وَأَنَّهُمْ إِنَّمَا عَبَدُوا اللَّهَ لَا غَيْرَهُ!

وَمِنْ فُرُوعِهِ: أَنَّهُ لَا فَرْقَ فِي التَّحْرِيمِ وَالتَّحْلِيلِ بَيْنَ الْأُمِّ وَالْأُخْتِ وَالْأَجْنَبِيَّةِ.

الشيخ: يعني: إذا قالوا: إنَّ الله حال في كل شيءٍ، وإن الموجودات بذاتها في الإله، يعني: ما هنا افتراق بين الأنبياء وغيرهم، نسأل الله العافية؛ لأنهم قالوا بالحلول!

وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْمَاءِ وَالْخَمْرِ والزنا وَالنِّكَاحِ، الْكُلُّ مِنْ عَيْنٍ وَاحِدَةٍ، لَا، بَلْ هُوَ الْعَيْنُ الْوَاحِدَةُ.

الشيخ: يعني: من فروع القول بوحدة الوجود قول أهل الاتحاد، نسأل الله العافية.

وَمِنْ فُرُوعِهِ: أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ ضَيَّقُوا عَلَى النَّاسِ.

تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا.

س: .............