الشيخ: وهذا هو الحقّ: الجنة موجودة، ولا يزال يعمر فيها، والإعداد فيها لأولياء الله، والنار موجودة، ولا تزال يُزاد في عذابها ونكالها، نسأل الله العافية.
وقوله: "أدخله اللهُ الجنَّةَ على ما كان من العمل" هذه الجملة جواب الشرط.
وفي روايةٍ: "أدخله اللهُ من أي أبواب الجنَّة الثمانية شاء".
قال الحافظ: معنى قوله: "على ما كان من العمل" أي: من صلاحٍ أو فسادٍ؛ لأنَّ أهل التوحيد لا بدَّ لهم من دخول الجنة.
ويحتمل أن يكون معنى قوله: "على ما كان من العمل" أن يدخل أهل الجنة على حسب أعمال كلٍّ منهم في الدَّرجات.
قال القاضي عياض: ما ورد في حديث عُبادة يكون مخصوصًا لمن قال ما ذكره ﷺ، وقرن بالشَّهادتين حقيقة الإيمان والتوحيد الذي ورد في حديثه، فيكون له من الأجر ما يرجح على سيئاته، ويُوجب له المغفرة والرحمة ودخول الجنة لأول وهلةٍ.
الشيخ: هذا مثل سائر أحاديث الفضائل تُفسر بما يُوافق الأحاديث الأخرى والآيات: بأنَّ دخوله الجنةَ إذا قال هذه الأمور عن صدقٍ، وعن إخلاصٍ، وعن سلامةٍ من الشرك دخل الجنة، أما لو قالها رياءً ونفاقًا ما ينفع؛ لأنَّ النصوص يُفسر بعضُها بعضًا: إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ [النساء:145].
فالذي شهد هذه الشَّهادة عن صدقٍ، وعن إيمانٍ، وعن عملٍ؛ يدخل الجنة، أما لو قالها عن نفاقٍ، وعن رياءٍ، أو قالها ثم أتى بما يُحبطها من الشِّرك؛ لم تنفعه: وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [الأنعام:88].
فيجب حمل الآيات والأحاديث على ما يُوافق الأحاديث الأخرى والآيات الأخرى، فإنَّ النصوص يُفسر بعضُها بعضًا، ويُقيد بعضها بعضًا، فلا يجوز ضرب بعضها ببعضٍ، فإنَّ كتاب الله لا يتناقض، وهكذا سنة الرسول لا تتناقض، فلا بدَّ من تفسير هذا النص بالنص الآخر، والآية بالآية الأخرى، فلو أن إنسانًا شهد أن لا إله إلا الله، وأنَّ محمدًا رسول الله، وشهد أنَّ عيسى عبدالله ورسوله، والجنة حقّ، والنار حقّ، ويكذب؛ ما تنفعه. أو أتى بمُحبطٍ ومُبطلٍ من الشرك لم ينفعه ذلك.
فالمنافقون يُصلون مع الناس، ويذكرون الله، ويصومون، ومع هذا في الدَّرك الأسفل من النار؛ لأنهم أتوا بهذه الأشياء عن غير عقيدةٍ، وعن غير إيمانٍ، وإنما قالوها رياءً ومجاملةً، وليسلموا من القتل؛ ولهذا قال فيهم سبحانه: إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَلَا إِلَى هَؤُلَاءِ [النساء:142- 143]، ما عندهم ثبات، وقال تعالى: إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا [النساء:145]، فهم -والعياذ بالله- يقولون ما لا يفعلون، ويقولون ما لا يصدقون فيه، فهكذا مَن شابههم.
فالنصوص التي في فضل التوحيد، وفي فضل الصوم، وفضل الصلاة، أو فضل الزكاة، أو فضل الصَّدقة، كلها تُفسر بالنصوص الأخرى الدالَّة على الصدق والإخلاص والإيمان، وأنه أتى بهذه الأعمال عن إيمانٍ، وعن صدقٍ، فإذا كانت له ذنوب ومعاصٍ فهو تحت مشيئة الله، كما قال تعالى: وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ [النساء:48]، إذا كان عنده توحيد صادق، وإيمان صادق، لكن مات على المعاصي، يأتي النصُّ الآخر: وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ، فإن مات على توبةٍ، وعلى صدقٍ، وعلى إخلاصٍ، فهو من أهل الجنة من أول وهلةٍ.
وفَّق الله الجميع.
قال: "ولهما في حديث عتبان: فإنَّ الله حرَّم على النار مَن قال: "لا إله إلا الله" يبتغي بذلك وجه الله".
قوله: "ولهما" أي: البخاري ومسلم في "صحيحيهما" بكماله، وهذا طرفٌ من حديثٍ طويلٍ أخرجه الشيخان.
و"عِتبان" بكسر المهملة، بعدها مُثناة فوقية، ثم مُوحدة، ابن مالك بن عمرو بن العجلان، الأنصاري، من بني سالم بن عوف، صحابي مشهور، مات في خلافة معاوية.
وأخرج البخاري في "صحيحه" بسنده عن قتادةَ قال: حدَّثنا أنس بن مالك: أنَّ النبي ﷺ ومعاذ رديفه على الرَّحْل قال: يا معاذ، قال: لبيك يا رسول الله وسعديك. قال: يا معاذ، قال: لبيك يا رسول الله وسعديك. قال: يا معاذ، قال: لبيك يا رسول الله وسعديك -ثلاثًا- قال: ما من أحدٍ يشهد أن لا إله إلا الله، وأنَّ محمدًا رسول الله صدقًا من قلبه إلا حرَّمه الله تعالى على النار، قال: يا رسول الله، أفلا أُخبر به الناس فيستبشروا؟ قال: إذًا يتَّكِلوا. فأخبر بها معاذٌ عند موته تأثُّـمًا.
وساق بسندٍ آخر: حدَّثنا مُعتمر قال: سمعتُ أبي قال: سمعتُ أنسًا قال: ذكر لي أنَّ النبي ﷺ قال لمعاذ بن جبل: مَن لقي الله لا يُشرك به شيئًا دخل الجنة، قال: ألا أُبشر الناس؟ قال: لا؛ إني أخاف أن يتَّكلوا.
قلتُ: فتبين بهذا السياق معنى شهادة "أن لا إله إلا الله"، وأنها تتضمن ترك الشِّرك لمن قالها بصدقٍ ويقينٍ وإخلاصٍ.
قال شيخُ الإسلام وغيره في هذا الحديث ونحوه: أنها فيمَن قالها ومات عليها، كما جاءت مُقيدةً بقوله: "خالصًا من قلبه، غير شاكٍّ فيها، بصدقٍ ويقينٍ"، فإنَّ حقيقة التوحيد: انجذاب الروح إلى الله تعالى جملةً، فمَن شهد أن لا إله إلا الله خالصًا من قلبه دخل الجنة؛ لأنَّ الإخلاص هو انجذاب القلب إلى الله تعالى بأن يتوب من الذنوب توبةً نصوحًا، فإذا مات على تلك الحال نال ذلك، فإنه قد تواترت الأحاديثُ بأنه: "يخرج من النار مَن قال: لا إله إلا الله، وكان في قلبه من الخير ما يزن شعيرةً، وما يزن خردلةً، وما يزن ذرَّةً".
وتواترت بأنَّ كثيرًا ممن يقول: "لا إله إلا الله" يدخل النار ثم يخرج منها، وتواترت بأنَّ الله حرَّم على النار أن تأكل أثر السُّجود من ابن آدم، فهؤلاء كانوا يُصلون ويسجدون لله، وتواترت بأنه يحرم على النار مَن قال: لا إله إلا الله، ومَن شهد أن لا إله إلا الله وأنَّ محمدًا رسول الله، لكن جاءت مُقيدةً بالقيود الثِّقال، وأكثر مَن يقولها لا يعرف الإخلاص، وأكثر مَن يقولها إنما يقولها تقليدًا أو عادةً، ولم تُخالط حلاوةُ الإيمان بشاشةَ قلبه.
وغالب مَن يُفتن عند الموت وفي القبور أمثال هؤلاء، كما في الحديث: سمعتُ الناس يقولون شيئًا فقلتُه.
وغالب أعمال هؤلاء إنما هي تقليد واقتداء بأمثالهم، وهم من أقرب الناس من قوله تعالى: إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ [الزخرف:23].
وحينئذٍ فلا مُنافاة بين الأحاديث؛ فإنه إذا قالها بإخلاصٍ ويقينٍ تامٍّ لم يكن في هذه الحال مُصرًّا على ذنبٍ أصلًا، فإنَّ كمال إخلاصه ويقينه يُوجب أن يكون الله أحبَّ إليه من كل شيءٍ، فإذا لا يبقى في قلبه إرادة لما حرَّم الله، ولا كراهة لما أمر الله. وهذا هو الذي يحرم على النار، وإن كانت له ذنوب قبل ذلك، فإنَّ هذا الإيمان وهذا الإخلاص وهذه التوبة وهذه المحبَّة وهذا اليقين لا تترك له ذنبًا إلا مُحي عنه، كما يمحو الليلُ النهارَ، فإذا قالها على وجه الكمال المانع من الشِّرك الأكبر والأصغر، فهذا غير مُصرٍّ على ذنبٍ أصلًا، فيغفر له، ويحرم على النار. وإن قالها على وجهٍ خلص به من الشِّرك الأكبر دون الأصغر، ولم يأتِ بعدها بما يُناقض ذلك، فهذه الحسنة لا يُقاومها شيء من السّيئات، فيرجح بها ميزان الحسنات كما في حديث البطاقة، فيحرم على النار، ولكن تنقص درجته في الجنة بقدر ذنوبه.
وهذا بخلاف مَن رجحت سيئاته بحسناته، ومات مُصرًّا على ذلك؛ فإنه يستوجب النار وإن قال: "لا إله إلا الله" وخلص بها من الشِّرك الأكبر، ولكنه لم يمت على ذلك، بل أتى بعدها بسيئات رجحت على حسنة توحيده، فإنه في حال قولها كان مُخلصًا، لكنه أتى بذنوبٍ أوهنت ذلك التوحيد والإخلاص فأضعفته، وقويت نارُ الذنوب حتى أحرقت ذلك، بخلاف المخلص المستيقن؛ فإنَّ حسناته لا تكون إلا راجحةً على سيئاته، ولا يكون مُصرًّا على سيئات، فإن مات على ذلك دخل الجنَّة.
وإنما يُخاف على المخلص أن يأتي بسيئةٍ راجحةٍ فيضعف إيمانه، فلا يقولها بإخلاصٍ ويقينٍ مانع من جميع السَّيئات، ويُخشى عليه من الشِّرك الأكبر والأصغر، فإن سلم من الأكبر بقي معه من الأصغر، فيُضيف إلى ذلك سيئات تنضم إلى هذا الشرك، فيرجح جانب السّيئات، فإنَّ السيئات تُضعف الإيمان واليقين، فيضعف قول "لا إله إلا الله"، فيمتنع الإخلاص بالقلب، فيصير المتكلم بها كالهاذي أو النَّائم، أو مَن يُحسن صوته بالآية من القرآن من غير ذوق طعمٍ وحلاوةٍ، فهؤلاء لم يقولوها بكمال الصِّدق واليقين، بل يأتون بعدها بسيئات تنقض ذلك، بل يقولونها من غير يقينٍ وصدقٍ، ويحيون على ذلك، ويموتون على ذلك، ولهم سيئات كثيرة تمنعهم من دخول الجنة، فإذا كثرت الذنوب ثقل على اللسان قولها، وقسا القلب عن قولها، وكره العمل الصالح، وثقل عليه سماع القرآن، واستبشر بذكر غير الله، واطمأنَّ إلى الباطل، واستحلى الرَّفث ومخالطة أهل الغفلة، وكره مُخالطة أهل الحقِّ، فمثل هذا إذا قالها قال بلسانه ما ليس في قلبه، وبفيه ما لا يصدقه عمله.
قال الحسن: "ليس الإيمانُ بالتَّحلي ولا بالتَّمني، ولكن ما وقر في القلوب وصدقته الأعمال، فمَن قال خيرًا وعمل خيرًا قبل منه، ومَن قال خيرًا وعمل شرًّا لم يُقبل منه".
وقال بكر بن عبدالله المزني: "ما سبقهم أبو بكر بكثرة صيامٍ ولا صلاةٍ، ولكن بشيءٍ وقر في قلبه".
فمَن قال: "لا إله إلا الله" ولم يقم بمُوجبها، بل اكتسب مع ذلك ذنوبًا، وكان صادقًا في قولها، مُوقِنًا بها، لكن له ذنوب أضعفت صدقه ويقينه، وانضاف إلى ذلك الشِّرك الأصغر العملي، فرجحت هذه السّيئات على هذه الحسنة، ومات مُصرًّا على الذنوب، بخلاف مَن يقولها بيقينٍ وصدقٍ، فإنه إما أن لا يكون مُصرًّا على سيئةٍ أصلًا، ويكون توحيده المتضمن لصدقه ويقينه رجح حسناته.
والذين يدخلون النار ممن يقولها: إما أنهم لم يقولوها بالصدق واليقين التام المنافيين للسّيئات أو لرجحانها، أو قالوها واكتسبوا بعد ذلك سيئات رجحت على حسناتهم، ثم ضعف لذلك صدقهم ويقينهم، ثم لم يقولوها بعد ذلك بصدقٍ ويقينٍ تام؛ لأنَّ الذنوب قد أضعفت ذلك الصدق واليقين من قلوبهم، فقولها من مثل هؤلاء لا يقوى على محو السّيئات، فترجح سيئاتهم على حسناتهم. انتهى مُلخَّصًا.
الشيخ: وهذا الكلام يُوضح أنَّ الأحاديث المطلقة يجب أن تُفسر بالأحاديث والآيات المقيدة، وهكذا الشأن في جميع الفضائل، وأخبار الفضائل، والترغيب والترهيب، كلها تُفسر بالآيات والأحاديث المحكمة المقيدة؛ لأنه ثبت في الأحاديث الصَّحيحة وفي القرآن الكريم ما يدل على أنَّ بعض أهل التوحيد يُعذَّبون ويُصيبهم ما يُصيب الناس من العقوبات بسبب اقتراف السّيئات والإصرار عليها؛ ولهذا قال جلَّ وعلا: إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ [النساء:48]، ما دون الشرك من أهل التوحيد، فإذا كان أتى بالتوحيد الخالص المتضمن التوبة من جميع السّيئات فهذا يدخل الجنةَ من أول وهلةٍ، أما إذا أتى بالتوحيد ولكن مع اقتراف السّيئات والمعاصي فهذا تحت المشيئة، ولا يكون من أهل النَّجاة مطلقًا، بل إن عفا الله عنه دخل الجنة، وإلا عُذِّب بقدر المعاصي التي مات عليها ولم يتب منها.
فالمقصود أنَّ النصوص المحكمة هي التي تُفسر هذه النصوص المطلقة في الأعمال وفي التوحيد، فمَن مات على التوحيد الخالص بصدقٍ وإخلاصٍ تضمن توبته وندمه وإقلاعه من السيئات دخل الجنةَ من أول وهلةٍ، أما إذا أتى بالتوحيد والذكر، ولكن هو مصرٌّ على السيئات والكبائر، فهذا تحت مشيئة الله، لا يدخل الجنةَ من أول وهلةٍ، بل هو على خطرٍ، فقد يدخل ويُعفا عنه، وقد يُعذَّب على قدر معاصيه، ثم بعد التَّطهير والتَّمحيص يُخرجه الله من النار.
س: ...............؟
ج: هذا البحث في التوحيد، أما الكافر فهذا إلى النار من أول وهلةٍ، نسأل الله العافية.
وقد ذكر هذا كثيرٌ من العلماء: كابن القيم، وابن رجب، وغيرهما.
قلت: وبما قرره شيخُ الإسلام تجتمع الأحاديث.
قال: وفي الحديث دليلٌ على أنه لا يكفي في الإيمان النُّطق من غير اعتقادٍ، وبالعكس.
وفيه تحريم النار على أهل التوحيد الكامل.
وفيه أنَّ العمل لا ينفع إلا إذا كان خالصًا لوجه الله تعالى، على ما شرعه على لسان رسوله ﷺ.
"تنبيه" قال القرطبي في "تذكرته": قوله في الحديث من إيمان أي: من أعمال الإيمان التي هي من أعمال الجوارح، فيكون فيه دلالة على أنَّ الأعمال الصَّالحة من الإيمان.
والدليل على أنه أراد بالإيمان ما قلناه، ولم يُرد مجرد الإيمان الذي هو التوحيد ونفي الشُّركاء والإخلاص بقول "لا إله إلا الله" ما في الحديث نفسه من قوله: أخرجوا، ثم بعد ذلك يقبض سبحانه قبضةً فيُخرج قومًا لم يعملوا خيرًا قط، يريد بذلك إلا التوحيد المجرد من الأعمال. اهـ. مُلخصًا من شرح "سنن ابن ماجه".
قال المصنف رحمه الله: وعن أبي سعيدٍ الخدري ر، عن رسول الله ﷺ قال: قال موسى : يا ربّ، علمني شيئًا أذكرك وأدعوك به، قال: قل يا موسى: لا إله إلا الله، قال: كل عبادك يقولون هذا! قال: يا موسى، لو أنَّ السَّماوات السَّبع وعامرهن غيري، والأرضين السبع في كفَّةٍ، ولا إله إلا الله في كفةٍ، مالت بهن لا إله إلا الله رواه ابنُ حبان والحاكم وصححه.
أبو سعيد: اسمه سعد بن مالك بن سنان بن عبيد، الأنصاري، الخزرجي، صحابي جليل، وأبوه كذلك. استُصغر أبو سعيدٍ بأحد، وشهد ما بعدها، مات بالمدينة سنة ثلاثٍ أو أربعٍ أو خمسٍ وستين. وقيل: سنة أربع وسبعين.
قوله: "أذكرك" أي: أُثني عليك به، "وأدعوك" أي: أسألك به.
قوله: "قل يا موسى: لا إله إلا الله" فيه أنَّ الذَّاكر بها يقولها كلها، ولا يقتصر على لفظ الجلالة، ولا على "هو" كما يفعله غُلاة جهال المتصوفة، فإنَّ ذلك بدعة وضلال.
الشيخ: كما يفعله بعض المتصوفة: الله، الله، الله، الله. أو هو، هو، هو، هذا ليس بعبادةٍ، هذا منكر وبدعة، نعم، وإنما المشروع أن يقول: "لا إله إلا الله" كاملة: "أشهد أن لا إله إلا الله" هذا التوحيد.
قوله: "كل عبادك يقولون هذا" ثبت بخط المصنف بالجمع، والذي في الأصول: "يقول" بالإفراد؛ مُراعاة للفظة "كل"، وهو في "المسند" من حديث عبدالله بن عمرو بلفظ الجمع كما ذكره المصنف على معنى "كل"، ومعنى قوله: "كل عبادك يقولون هذا" أي: إنما أريد شيئًا تخصّني به من بين عموم عبادك.
وفي روايةٍ بعد قوله: "كل عبادك يقولون هذا": قل: لا إله إلا الله، قال: لا إله إلا أنت يا ربّ، إنما أُريد شيئًا تخصّني.
ولما كان بالناس -بل بالعالم كله- من الضَّرورة إلى "لا إله إلا الله" ما لا نهايةَ له، كانت من أكثر الأذكار وجودًا، وأيسرها حصولًا، وأعظمها معنًى. والعوام والجهَّال يعدلون عنها إلى الدَّعوات المبتدعة التي ليست في الكتاب، ولا في السنة.
قوله: "وعامرهنَّ غيري" هو بالنَّصب عطف على "السَّماوات"، أي: لو أنَّ السماوات السبع ومَن فيهن من العُمَّار غير الله تعالى، والأرضين السبع ومَن فيهن وُضعوا في كفَّة الميزان، و"لا إله إلا الله" في الكفَّة الأخرى، مالت بهن "لا إله إلا الله".
وروى الإمامُ أحمد: عن عبدالله بن عمرو، عن النبي ﷺ: أنَّ نوحًا قال لابنه عند موته: آمرك بلا إله إلا الله، فإنَّ السَّماوات السَّبع والأرضين السَّبع لو وُضعت في كفَّةٍ، ولا إله إلا الله في كفَّةٍ رجحت بهن لا إله إلا الله، ولو أنَّ السَّماوات السَّبع والأرضين السبع كن حلقةً مُبهمةً لقصمتهنَّ لا إله إلا الله.
قوله: "في كِفَّةٍ" هو بكسر الكاف وتشديد الفاء، أي: كفّة الميزان.
قوله: "مالت بهن" أي: رجحت؛ وذلك لما اشتملت عليه من نفي الشِّرك، وتوحيد الله الذي هو أفضل الأعمال، وأساس الملَّة والدِّين، فمَن قالها بإخلاصٍ ويقينٍ، وعمل بمُقتضاها ولوازمها وحقوقها، واستقام على ذلك، فهذه الحسنة لا يُوازنها شيء، كما قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ [الأحقاف:13].
ودلَّ الحديثُ على أن "لا إله إلا الله" أفضل الذكر، كحديث عبدالله بن عمرو مرفوعًا: خير الدُّعاء دعاء يوم عرفة، وخير ما قلتُ أنا والنَّبيون من قبلي: لا إله إلا الله وحده لا شريكَ له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيءٍ قدير رواه أحمد والترمذي.
وعنه أيضًا مرفوعًا: يُصاح برجلٍ من أمتي على رؤوس الخلائق يوم القيامة، فيُنشر له تسعة وتسعون سجلًّا، كل سجلٍّ منها مدّ البصر، ثم يُقال: أتُنكِر من هذا شيئًا؟ أظلمك كتبتي الحافظون؟ فيقول: لا يا رب. فيقال: أفلك عذر أو حسنة؟ فيهاب الرجلُ فيقول: لا، فيُقال: بلى، إنَّ لك عندنا حسنةً، وإنه لا ظلمَ عليك اليوم، فيُخرج له بطاقة فيها: أشهد أن لا إله إلا الله وأنَّ محمدًا عبده ورسوله. فيقول: يا ربّ، ما هذه البطاقة مع هذه السّجلات؟! فيُقال: إنك لا تُظلم، فتُوضع السّجلات في كفَّةٍ، والبطاقة في كفَّةٍ، فطاشت السّجلات وثقلت البطاقة رواه الترمذي وحسَّنه، والنَّسائي، وابن حبان، والحاكم وقال: صحيح على شرط مسلم. وقال الذَّهبي في "تلخيصه": صحيح.
قال ابنُ القيم رحمه الله: "فالأعمال لا تتفاضل بصورها وعددها، وإنما تتفاضل بتفاضل ما في القلوب، فتكون صورةُ العملين واحدةً، وبينهما من التَّفاضل كما بين السَّماء والأرض".
قال: "وتأمل حديث البطاقة التي تُوضع في كفَّةٍ، ويُقابلها تسعة وتسعون سجلًّا، كل سجلٍّ منها مدّ البصر، فتثقل البطاقة وتطيش السّجلات، فلا يُعذَّب. ومعلوم أنَّ كلَّ مُوحدٍ له هذه البطاقة، وكثير منهم يدخل النار بذنوبه".
قوله: "رواه ابنُ حبان والحاكم" ابن حبان اسمه: محمد بن حِبان -بكسر المهملة، وتشديد الموحدة- ابن أحمد بن حبان بن معاذ، أبو حاتم التَّميمي، البستي، الحافظ، صاحب التَّصانيف: كالصحيح، والتاريخ، والضُّعفاء، والثِّقات، وغير ذلك.
قال الحاكم: كان من أوعية العلم في الفقه واللغة والحديث والوعظ، ومن عُقلاء الرِّجال.
مات سنة أربعٍ وخمسين وثلاثمئة بمدينة بست -بضم الموحدة، وسكون المهملة.
وأما الحاكم فاسمه: محمد بن عبدالله بن محمد النَّيسابوري، أبو عبدالله الحافظ، ويُعرف: بابن البيع، وُلد سنة إحدى وعشرين وثلاثمئة، وصنَّف التَّصانيف: كالمستدرك، وتاريخ نيسابور، وغيرهما، ومات سنة خمسٍ وأربعمئة.
الشيخ: وهذه البطاقة صاحبها أتى بالإخلاص والصِّدق الذي محا الذنوب والسّيئات؛ فلهذا رجحت هذه البطاقة، مَن أتى بالتوحيد الخالص والصِّدق والاستقامة الذي حصل به التَّوبة من الذنوب والإقلاع منها، فإنَّ الله يُدخله به الجنة، ومَن أتى بـ"لا إله إلا الله" مع الإصرار على المعاصي والكبائر، هذا هو الذي تحت المشيئة، فأمره مُعلَّق: قد يُغفر له بأعمال صالحة واجتهاد في الخير، وقد يُعذَّب على قدر معاصيه.
المقصود أنَّ رجحان التوحيد بالسّيئات مع التوبة والصدق والإخلاص الذي يمحو الله به الذنوب، أما مع الغفلة والإعراض والإصرار على المعاصي فصاحبه تحت المشيئة مثلما قال جلَّ وعلا: وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ [النساء:48].
نسأل الله للجميع التوفيق، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
قال المصنف رحمه الله: "وللترمذي -وحسَّنه- عن أنسٍ: سمعتُ رسولَ الله ﷺ يقول: قال الله تعالى: يا ابن آدم، إنك لو أتيتني بقراب الأرض خطايا، ثم لقيتني لا تُشرك بي شيئًا؛ لأتيتك بقرابها مغفرةً".
ذكر المصنفُ رحمه الله الجملة الأخيرة من الحديث، وقد رواه الترمذي بتمامه فقال: عن أنسٍ قال: سمعتُ رسول الله ﷺ يقول: قال الله تبارك وتعالى: يا ابن آدم، إنَّك ما دعوتني ورجوتني غفرتُ لك على ما كان منك ولا أُبالي، يا ابن آدم، لو بلغت ذنوبُك عنان السَّماء ثم استغفرتني غفرتُ لك ولا أُبالي، يا ابن آدم، إنك لو أتيتني .. الحديث.
الترمذي اسمه: محمد بن عيسى بن سَورة -بفتح المهملة- ابن موسى بن الضَّحاك، السلمي، أبو عيسى، صاحب "الجامع"، وأحد الحفَّاظ، كان ضرير البصر، روى عن قتيبة وهنَّاد والبخاري وخلق. مات سنة تسعٍ وسبعين ومئتين.
وأنس هو: ابن مالك بن النَّضر، الأنصاري، الخزرجي، خادم رسول الله ﷺ، خدمه عشر سنين، وقال له: اللهم أكثر ماله وولده، وأدخله الجنة، مات سنة اثنتين، وقيل: ثلاث وتسعين، وقد جاوز المئة.
والحديث قد رواه الإمامُ أحمد من حديث أبي ذرٍّ بمعناه، وهذا لفظه: ومَن عمل قراب الأرض خطيئةً، ثم لقيني لا يُشرك بي؛ جعلتُ له مثلها مغفرةً، ورواه مسلم.
وأخرجه الطبراني من حديث ابن عباسٍ، عن النبي ﷺ.
قوله: لو أتيتني بقُراب الأرض بضم القاف، وقيل: بكسرها، والضم أشهر، وهو ملؤها أو ما يُقارب ملأها.
قوله: ثم لقيتني لا تُشرك بي شيئًا شرط ثقيل في الوعد بحصول المغفرة، وهو السَّلامة من الشرك: كثيره وقليله، صغيره وكبيره. ولا يسلم من ذلك إلا مَن سلم الله تعالى، وذلك هو القلب السَّليم، كما قال تعالى: يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ [الشعراء:88- 89].
قال ابنُ رجب: مَن جاء مع التوحيد بقُراب الأرض خطايا، لقِيَه اللهُ بقُرابها مغفرةً. إلى أن قال: فإن كمل توحيد العبد وإخلاصه لله تعالى فيه، وقام بشروطه: بقلبه ولسانه وبجوارحه، أو بقلبه ولسانه عند الموت؛ أوجب ذلك مغفرة ما قد سلف من الذنوب كلها، ومنعه من دخول النار بالكلية، فمَن تحقق بكلمة التوحيد قلبه أخرجت منه كلّ ما سوى الله: محبَّةً وتعظيمًا، وإجلالًا ومهابةً وخشيةً وتوكُّلًا، وحينئذٍ تحرق ذنوبه وخطاياه كلها، وإن كانت مثل زبد البحر. اهـ مُلخَّصًا.
قال العلامةُ ابن القيم رحمه الله تعالى في معنى الحديث: "ويُعفى لأهل التوحيد المحض الذي لم يشوبوه بالشِّرك ما لا يُعفى لمن ليس كذلك، فلو لقي الموحِّدُ الذي لم يُشرك بالله شيئًا البتة ربَّه بقُراب الأرض خطايا، أتاه بقُرابها مغفرةً، ولا يحصل هذا لمن نقص توحيده؛ فإنَّ التوحيد الخالص الذي لا يشوبه شركٌ لا يبقى معه ذنبٌ؛ لأنه يتضمن من محبَّة الله وإجلاله وتعظيمه وخوفه ورجائه وحده ما يُوجب غسل الذنوب ولو كانت قُراب الأرض، فالنَّجاسة عارضة، والدَّافع لها قوي". اهـ.
الشيخ: والمقصود من هذا أنَّ مَن أتى ربَّه بالتوحيد الخالص لا يبقى مُصرًّا على سيئةٍ، فيكون هذا التوحيدُ الكامل ماحيًا للسّيئات، كونه تاب من الذنوب توبةً صادقةً، فإنَّ التوحيد الخالص يقتضي عدم الإصرار على السّيئات، فيكون له حكم التَّائبين، حكم مَن لقي الله بالتوبة، فيحصل له العفو؛ جمعًا بين الأدلة، ومَن أصرَّ على السّيئات يبقى مُعلَّقًا: إن شاء اللهُ غفر له، وإن شاء عذَّبه؛ لقوله جلَّ وعلا: وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ [النساء:48].
أما مَن جاء بالتوبة الصَّادقة، وبالتوحيد الخالص عند الموت الذي ليس معه إصرار على سيئةٍ، فإنَّ هذا يُمحا به سيئاته، وتُغفر له خطاياه بصدقه بتوحيده الذي صار بمعنى التوبة الصَّادقة التي يمحو الله بها الذنوب والخطايا؛ ولهذا في الحديث الصحيح: إلا بحقِّها، فمَن لقي الله بالتوحيد ومعه حقّ التوحيد لقيه الله بالمغفرة والعفو؛ لأنَّ حقَّ التوحيد ألا يُصرَّ على سيئةٍ، وأن يتوب إلى الله من سيئاته وأخطائه، وأن يُؤدي فرائض الله، ويدع محارم الله.
هكذا المؤمن: كلما قوي توحيده صار هذا التوحيدُ ماحيًا للسّيئات، قاضيًا عليها بسبب الصدق والإخلاص الذي لا يشوبه شركٌ: لا صغير، ولا كبير، ولا خفي، ولا ظاهر، فيترتب على ذلك التوبة الصَّادقة والنَّدم والإقلاع وعدم الإصرار، فيكون هذا التوحيدُ ماحيًا للسّيئات، بمثابة التوبة النَّصوح التي تابها عند موته، أو قبل موته، ولم يعقبها بذنبٍ.
س: بالنسبة للصَّغائر؟
ج: تُغفر باجتناب الكبائر.
س: ...............؟
ج: إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا [النساء:31]، فإذا تاب العبدُ من كبائر الذنوب توبةً صادقةً محا اللهُ عنه سيئاته الصَّغائر.
وفي هذا الحديث: كثرة ثواب التوحيد، وسعة كرم الله وجوده ورحمته، والردّ على الخوارج الذين يُكفرون المسلم بالذنوب، وعلى المعتزلة القائلين بالمنزلة بين المنزلتين، وهي الفسوق، ويقولون: ليس بمؤمنٍ ولا كافرٍ، ويُخلد في النَّار.
والصواب قول أهل السنة: أنه لا يُسلب عنه اسم الإيمان، ولا يُعطاه على الإطلاق، بل يُقال: هو مؤمن عاصٍ، أو مؤمن بإيمانه، فاسق بكبيرته. وعلى هذا يدل الكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة.
وعن عبدالله بن مسعودٍ قال: "لما أُسري برسول الله ﷺ انتُهي به إلى سدرة المنتهى، فأُعطي ثلاثًا: أُعطي الصَّلوات الخمس، وخواتيم سورة البقرة، وغُفر لمن لا يُشرك بالله من أمَّته شيئًا: المقحمات" رواه مسلم.
قال ابنُ كثيرٍ في تفسيره: وأخرج الإمامُ أحمد والترمذي وابن ماجه والنَّسائي عن أنس بن مالكٍ قال: قرأ رسولُ الله ﷺ هذه الآية: هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ [المدثر:56]، وقال: قال ربكم: أنا أهلٌ أن أُتَّقى فلا يُجعل معي إله، فمَن اتَّقى أن يجعل معي إلهًا كان أهلًا أن أغفر له.
قال المصنف رحمه الله: "تأمل الخمس اللواتي في حديث عبادة، فإنك إذا جمعت بينه وبين حديث عتبان تبين لك معنى قوله: "لا إله إلا الله"، وتبين لك خطأ المغرورين.
وفيه أنَّ الأنبياء يحتاجون للتَّنبيه على فضل "لا إله إلا الله"، والتَّنبيه لرجحانها بجميع المخلوقات، مع أنَّ كثيرًا ممن يقولها يخفّ ميزانه.
وفيه إثبات الصِّفات، خلافًا للمُعطلة.
وفيه أنك إذا عرفت حديث أنسٍ وقوله في حديث عتبان: "إنَّ الله حرَّم على النار مَن قال: "لا إله إلا الله" يبتغي بذلك وجه الله" تبين لك أن ترك الشرك ليس قولها باللسان فقط".
الشيخ: يعني لا بدَّ من هذا التَّحقيق، قولها باللسان ما يكفي، فلا بدَّ من تحقيق الإخلاص لله، وعدم الإصرار على ما يقدح في هذه الكلمة، فإنَّ من حقِّها أداء الفرائض، وترك المحارم، فالإصرار على فعل المحارم يقدح فيها ويُضعفها، ويكون صاحبُها مُعرَّضًا للوعيد، فإذا تاب توبةً صادقةً، وأتى بالتوحيد الخالص، زال مُوجب النار، وحصل له مُوجب المغفرة من التوحيد الخالص والتَّوبة الصَّادقة.
فيه مسائل:
الأولى: سعة فضل الله.
الثانية: كثرة ثواب التوحيد عند الله.
الثالثة: تكفيره مع ذلك للذُّنوب.
الرابعة: تفسير الآية الثانية والثَّمانين في سورة الأنعام.
الخامسة: تأمل الخمس اللواتي في حديث عُبادة.
السادسة: أنك إذا جمعتَ بينه وبين حديث عتبان وما بعده تبين لك معنى قول "لا إله إلا الله"، وتبين لك خطأ المغرورين.
السابعة: التَّنبيه للشَّرط في حديث عتبان.
الثامنة: كون الأنبياء يحتاجون للتَّنبيه على فضل "لا إله إلا الله".
التاسعة: التَّنبيه لرجحانها بجميع المخلوقات، مع أنَّ كثيرًا ممن يقولها يخفّ ميزانه.
العاشرة: النصّ على أنَّ الأرضين سبع كالسَّماوات.
الحادية عشرة: أنَّ لهن عُمَّارًا.
الثانية عشرة: إثبات الصِّفات، خلافًا للأشعرية.
الثالثة عشرة: أنك إذا عرفت حديث أنسٍ عرفت أنَّ قوله في حديث عتبان: فإنَّ الله حرَّم على النار مَن قال: "لا إله إلا الله" يبتغي بذلك وجه الله أنه ترك الشِّرك، ليس قولها باللِّسان.
الشيخ: يعني: لا بدَّ أن يبتغي بها وجه الله، يعني: من كمال إخلاصه، وكمال إيمانه، قالها عن صدقٍ وإخلاصٍ، يبتغي بها وجه الله، ليس معها شركٌ؛ لأنَّ الذي على الشِّرك ما قالها بإخلاصٍ، ولا كان يبتغي بذلك وجه الله على الحقيقة بسبب الشِّرك، فلا يكون مُخْلِصًا، ولا يكون قد أدَّى حقَّها إلا إذا ترك الشِّرك، قالها صدقًا وإخلاصًا وأدَّى معناها، وهو ترك الشِّرك: قليله وكثيره.
س: حديث: يا موسى، لو أنَّ السَّماوات السَّبع وعامرهن غيري صحيح؟
ج: نعم، لا بأس به، له شواهد، وله طرق.
الرابعة عشرة: تأمل الجمع بين كون عيسى ومحمد عبدي الله ورسوليه.
الخامسة عشرة: معرفة اختصاص عيسى بكونه كلمة الله.
السادسة عشرة: معرفة كونه روحًا منه.
السابعة عشرة: معرفة فضل الإيمان بالجنَّة والنار.
الثامنة عشرة: معرفة قوله: "على ما كان من العمل".
التاسعة عشرة: معرفة أنَّ الميزان له كفَّتان.
العشرون: معرفة ذكر الوجه.
الشيخ: هذه مسائل واضحة من الأحاديث، والمقصود من هذا كله أنَّ التوحيد الذي جعله الله مُكفِّرًا للسيئات، وحاطًّا للخطايا، إذا حقَّقه صاحبُه، إذا أدَّى حقَّ هذه الكلمة، فإذا حققه باجتناب الكبائر، أو بالتوبة الصَّادقة؛ غفر الله له سيئاته، وأدخله به الجنة، أما إذا أضعفه بالمعاصي والإصرار عليها صار توحيدًا ناقصًا لم يُؤدّ حقّه، فلا يحصل له ما وعد به من دخول الجنة، والنَّجاة من النَّار.
باب مَن حقق التوحيد دخل الجنةَ بغير حسابٍ
قوله: "باب مَن حقق التوحيد دخل الجنة بغير حسابٍ" أي: ولا عذاب.
قلتُ: تحقيقه: تخليصه وتصفيته من شوائب الشِّرك والبدع والمعاصي.
قال الله تعالى: إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ [النحل:120]، وصف إبراهيم بهذه الصِّفات التي هي الغاية في تحقيق التَّوحيد:
الأولى: أنه كان أُمَّةً، أي: قدوةً وإمامًا مُعلِّمًا للخير. وما ذاك إلا لتكميله مقام الصبر واليقين اللَّذين تُنال بهما الإمامة في الدِّين.
الثانية: قوله: قَانِتًا، قال شيخُ الإسلام: "القنوت: دوام الطاعة، والمصلي إذا أطال قيامه أو ركوعه أو سجوده فهو قانت، قال تعالى: أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ [الزمر:9]". اهـ مُلخَّصًا.
الثالثة: أنه كان حنيفًا.
قلتُ: قال العلامةُ ابن القيم: "الحنيف: المقبل على الله، المعرِض عن كلِّ ما سواه". اهـ.
الرابعة: أنه ما كان من المشركين، أي: لصحة إخلاصه، وكمال صدقه، وبُعده عن الشِّرك.
قلتُ: يُوضح هذا قوله تعالى: قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ أي: على دينه من إخوانه المرسلين -قاله ابن جرير رحمه الله تعالى- إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ [الممتحنة:4].
وذكر تعالى عن خليله أنه قال لأبيه آزر: وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلًّا جَعَلْنَا نَبِيًّا [مريم:48- 49]، فهذا هو تحقيق التوحيد، وهو البراءة من الشِّرك وأهله، واعتزالهم، والكفر بهم، وعداوتهم، وبُغضهم. فالله المستعان.
الشيخ: والمقصود من هذا أنَّ الواجب على المؤمن أن يُحقق توحيده حتى يستحقَّ الجنة والسَّلامة من كل شرٍّ؛ ولهذا قال رحمه الله: "باب مَن حقق التوحيد دخل الجنةَ بغير حسابٍ".
وتحقيقه: تخليصه وتصفيته من شوائب الشِّرك والبدع والمعاصي، إذا خلص توحيده من شوائب الشِّرك -الشرك الأصغر والأكبر- ومن البدع والمعاصي صار مُحقِّقًا لتوحيده، وكان من أئمة المتقين من الأبرار، أو من السَّابقين؛ لأنَّ الشِّرك إن كان أكبر يُنافي التوحيد بالكلية، وإن كان أصغر يُنافي كماله الواجب؛ ولأنَّ البدع تقدح في التوحيد؛ لأن المبتدع مُتنقص، كأن الإسلام ما كمل، يحتاج أن يكمل، والمعاصي تُنقص أيضًا الإيمان، تُضعف الإيمان.
فإذا سلَّم اللهُ العبدَ من الشِّرك كله، ومن البدع والمعاصي؛ كمل إيمانه، واستقام إيمانه، وكان إيمانه صافيًا مخلصًا من الشَّر، وهذا وصف إبراهيم عليه الصلاة والسلام: إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً [النحل:120] يعني: إمامًا يُقتدى به؛ لعلمه وفضله ونبوته ورسالته عليه الصلاة والسلام، قد وفَّقه اللهُ ويسَّر له الصبر واليقين، اللَّذان بهما تُنال الإمامة في الدِّين، كما قال جلَّ وعلا في بني إسرائيل: وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ [السجدة:24].
وقيل: سُمي "أمة" لأنه كان يُعلم الناس وحده، واستقام على الحقِّ وحده، وصبر على ذلك، فصار إمامًا.
ولا مُنافاة؛ فهو إمام بنبوته ورسالته وصبره ويقينه، وإمام لكونه مُعلمًا للخير، قائمًا به وحده قبل أن يُسلم أحدٌ معه، ثم أسلمت ابنةُ عمِّه سارة وتزوجها، ثم ابن أخيه لوط جعله الله نبيًّا، ثم أسلم مَن أسلم بعد ذلك، ومن كمال إيمانه وكمال يقينه: اعتزل أباه وقومه في ذات الله .
س: ..............؟
ج: من المرسلين.
قال المصنف رحمه الله في هذه الآية: "إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً لئلا يستوحش سالكُ الطريق من قلَّة السَّالكين، قَانِتًا لِلَّهِ لا للملوك، ولا للتُّجار المترفين، حَنِيفًا لا يميل يمينًا ولا شمالًا كفعل العلماء المفتونين، وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ [النحل:120]، خلافًا لمن كثَّر سوادهم، وزعم أنه من المسلمين". اهـ.
وقد روى ابنُ أبي حاتم عن ابن عباسٍ في قوله: إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً على الإسلام، ولم يكن في زمانه أحدٌ على الإسلام غيره.
قلتُ: ولا مُنافاة بين هذا وبين ما تقدم من أنه كان إمامًا يُقتدى به في الخير.
قال: وقوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ [المؤمنون:57- 59].
وصف المؤمنين السَّابقين إلى الجنة فأثنى عليهم بالصِّفات التي أعظمها: أنهم بربهم لا يُشركون. ولما كان المرء قد يعرض له ما يقدح في إسلامه: من شركٍ جليٍّ أو خفيٍّ، نفى ذلك عنهم، وهذا هو تحقيق التوحيد الذي حسنت بهم أعمالهم وكملت ونفعتهم.
قلتُ: قوله: "حسنت وكملت" هذا باعتبار سلامتهم من الشِّرك الأصغر، وأما الشِّرك الأكبر فلا يُقال في تركه ذلك، فتدبر. ولو قال الشارح: "صحَّت" لكان أقوم.
قال ابنُ كثير: وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ أي: لا يعبدون مع الله غيره، بل يُوحِّدونه، ويعلمون أنه لا إله إلا الله، أحد، صمد، لم يتَّخذ صاحبةً ولا ولدًا، وأنه لا نظيرَ له.
الشيخ: وهذا شأن المحققين للتوحيد، والسَّابقين إلى الخيرات: إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ من خشيته: أشفقوا من عذابه، وسارعوا إلى طاعته، واستقاموا على دينه وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ يُصدقون آياته المتلوة، ويعتبرون بآياته المشاهدة، ويحتجون بها على قُدرته العظيمة، وأنه ربهم وخالقهم، فإنَّ الآيات قسمان: آيات متلوة: كالقرآن والتَّوراة والزَّبور ونحو ذلك، فهم يُؤمنون بها. وآيات مُشاهدة من مخلوقاته: من ليلٍ ونهارٍ، وأرضٍ وسماءٍ، وجبالٍ وأنهارٍ، فهذه أيضًا من الدلائل على قُدرته العظيمة، وأنه ربهم وإلههم وخالقهم، يُؤمنون بهذه الآيات كلها إيمانًا حملهم على توحيده والإخلاص له، والاستقامة على دينه، وترك الشرك به؛ ولهذا قال بعده: وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ لا شركًا أكبر، ولا أصغر، بل وفَّقهم الله للتوحيد الخالص الكامل، وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ [المؤمنون:60] يعني: يعملون ما يعملون من الطَّاعات وترك المعاصي وقلوبهم وجلة، ما عندهم رياء، ولا عندهم أمن، بل عندهم الخوف والحذر؛ ولهذا قال: وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ يعملون ويجتهدون في الطَّاعات، ويُخلصون لله، مع الحذر، ومع الوجل والخوف أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ من أجل إيمانهم أنهم راجعون إليه، وأنه يُجازيهم بأعمالهم، فمن أجل هذه الصِّفات الحميدة قال فيهم جلَّ وعلا: أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ [المؤمنون:61] بسبب هذا الإيمان العظيم والإخلاص والخوف والوجل سبقوا وسارعوا إلى الخيرات، وصاروا من السَّابقين.
جاء في حديث عائشة أنها قالت: يا رسول الله، أرأيتَ قوله تعالى: وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أهو الرجل يسرق ويزني ويشرب الخمر؟ قال: لا يا عائشة، ولكنه الرجل يصوم ويُصلي ويتصدق، ويخاف ألا يُقبل منه يعني: هم مع العمل الصَّالح وجلون، لا آمنون، ولا مُدلون بأعمالهم، ولكنهم مع العمل الصالح، ومع الجدِّ والطاعة والخير هم أيضًا على وجلٍ، وعلى خوفٍ، قال تعالى في الرسل وأتباعهم: إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ [الأنبياء:90]، وقال في عيسى وغيره من الصَّالحين: أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ [الإسراء:57].
س: ...............؟
ج: سليمان بن عبدالله ابن عمّه، صاحب "تيسير العزيز الحميد"؛ لأنَّ "فتح المجيد" تحقيق لشرح سليمان "تيسير العزيز الحميد".