03 وصية النبي صلى الله عليه وسلم

قوله: قال ابنُ مسعودٍ: "مَن أراد أن ينظر إلى وصية محمدٍ ﷺ التي عليها خاتمه فليقرأ: قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ إلى قوله: وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا الآية [الأنعام:151- 153]".

قوله: (ابن مسعود) هو عبدالله بن مسعود بن غافل -بمُعجمة وفاء- بن حبيب الهذلي، أبو عبدالرحمن، صحابي جليل من السَّابقين الأولين، وأهل بدر وأُحد والخندق وبيعة الرضوان، ومن كبار علماء الصحابة، أمَّره عمر على الكوفة، ومات سنة اثنتين وثلاثين .

وهذا الأثر رواه الترمذي وحسَّنه، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والطبراني بنحوه.

وقال بعضُهم: معناه: مَن أراد أن ينظر إلى الوصية التي كأنها كُتبت وخُتم عليها فلم تُغير ولم تُبدل، فليقرأ قُلْ تَعَالَوْا .. إلى آخر الآيات، شبَّهها بالكتاب الذي كُتب ثم خُتم فلم يُزد فيه ولم يُنقص، فإنَّ النبي ﷺ لم يوصِ إلا بكتاب الله، كما قال فيما رواه مسلم: وإني تاركٌ فيكم ما إن تمسَّكتم به لن تضلوا: كتاب الله.

وقد روى عبادة بن الصامت قال: قال رسولُ الله ﷺ: أيُّكم يُبايعني على هؤلاء الآيات الثَّلاث؟ ثم تلا قوله: قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ حتى فرغ من الثلاث الآيات، ثم قال: مَن وفَّى بهن فأجره على الله، ومَن انتقص منهنَّ شيئًا فأدركه اللهُ به في الدنيا كانت عقوبته، ومَن أخَّره إلى الآخرة كان أمرُه إلى الله: إن شاء آخذه، وإن شاء عفا عنه. رواه ابنُ أبي حاتم، والحاكم، وصحَّحه، ومحمد بن نصر في "الاعتصام".

قلتُ: ولأنَّ النبي ﷺ لم يوصِ أمَّته إلا بما وصَّاهم اللهُ تعالى به على لسانه.

الشيخ: وفي "الصحيح" عن عبدالله بن أوفى أنه سُئل: هل أوصى النبيُّ؟ فقال: أوصى بكتاب الله.

المقصود أنَّ الله جلَّ وعلا أوصى بهذه الأشياء العشرة في الآيات، والرسول أوصى بالقرآن، فوصية الرسول بما أوصى الله به جلَّ وعلا، هو أوصى الأمة بالعمل بالقرآن، والتَّمسك بالقرآن: وإني تاركٌ فيكم ما إن تمسَّكتم به لن تضلوا، أولهما كتاب الله، فيه الهدى والنور، وقال: لن تضلوا إن تمسَّكتم به، فله أحاديث كثيرة بالوصية بالقرآن العظيم.

فالوصية بالقرآن عن الرسول ﷺ واقعة، والله أوصى بهذه الآية، فتكون الآيات وصية الله ووصية رسوله عليه الصلاة والسلام، ففيها النَّهي عن هذه الأشياء العشرة: أعظمها الشِّرك بالله، وفيها الوفاء بالعهد.

المقصود أنَّ هذه الأشياء التي فيها وصية الله وصية رسوله، فعلى الأمة أن تأخذ بها، وأن تستقيم عليها، وأنها صراط الله: وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ [الأنعام:153]، جعلها الصِّراط، قال تعالى: قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ [الأنعام:151]، ثم قال جلَّ وعلا: وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ [الأنعام:152]، ثم قال: وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ [الأنعام:153]، فدلَّ على أنَّ الالتزام بهذه الأمور هي صراط الله المستقيم فعلًا وتركًا: ترك الشِّرك، مع برِّ الوالدين، وترك الفواحش ما ظهر منها وما بطن، وقتل النفس، وقتل الأولاد، كل هذا مما حرَّمه الله .

وفيها أنَّ برَّ الوالدين من أعظم الواجبات، وعقوقهما من أقبح السَّيئات، هكذا مال الأيتام والعدوان عليه من أقبح السيئات، البغي بغير حقٍّ من أقبح السَّيئات، والتَّصرف فيهم بالإحسان من أفضل الحسنات.

كذا وفاء الكيل والميزان وعدم البخس من أهم الواجبات، والبخس من أقبح السَّيئات.

وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى [الأنعام:152] كذلك العدل في القضايا والحكم من أهم الواجبات، والجور من أقبح السَّيئات.

والعاشرة: وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا [الأنعام:152]، ما عهد الله إلينا من توحيده والإيمان به، وما شرعه لنا يجب الوفاء به، يجب على الأمة أن تُوفي بعهد الله: ما عهد الله إليها من أوامر ونواهٍ يجب عليها أن تُوفي بها، فتأتي بالأوامر، وتفعل الأوامر، وعليها أن تنتهي عن النَّواهي، هذا عهد الله، والعبد متى تعقل وتذكر اتَّقى، قال في الآية الأولى: تَعْقِلُونَ، وفي الثانية: تَذَكَّرُونَ، وفي الأخيرة: تَتَّقُونَ؛ لأنَّ العبد متى عقل الأمور وتأمَّلها وتدبرها وتذكر، متى فعل ذلك هداه الله للتَّقوى، ووفَّقه للتَّقوى.

ولهذا شرع اللهُ لنا تدبر العقل، وتعقل القرآن، وتعقل ما جاء عن النبي عليه الصلاة والسلام، والتَّعقل في الأمور والتَّدبر لها والتَّذكر من أسباب النَّجاة، من أسباب التَّوفيق، من أسباب الهداية.

قلتُ: ولأنَّ النبي ﷺ لم يوصِ أمَّته إلا بما وصَّاهم الله تعالى به على لسانه، وفي كتابه الذي أنزله: تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ [النحل:89]، وهذه الآيات وصية الله تعالى، ووصية رسوله ﷺ.

قوله: (وعن معاذ بن جبلٍ قال: كنتُ رديف النبيِّ ﷺ على حمارٍ، فقال لي: يا معاذ، أتدري ما حقّ الله على العباد؟ وما حقّ العباد على الله؟ قلتُ: الله ورسوله أعلم. قال: حقّ الله على العباد: أن يعبدوه ولا يُشركوا به شيئًا، وحقّ العباد على الله أن لا يُعذِّب مَن لا يُشرك به شيئًا، قلتُ: يا رسول الله، أفلا أُبشر الناس؟ قال: لا تُبشرهم فيتَّكلوا أخرجاه في "الصحيحين").

هذا الحديث في "الصحيحين" من طرقٍ، وفي بعض رواياته نحو مما ذكره المصنف.

ومعاذ بن جبل هو ابن عمرو بن أوس الأنصاري، الخزرجي، أبو عبدالرحمن، صحابي مشهور، من أعيان الصحابة، شهد بدرًا وما بعدها، وكان إليه المنتهى في العلم والأحكام والقرآن .

وقال النبي ﷺ: معاذ يُحشر يوم القيامة أمام العلماء برتوةٍ أي: بخطوةٍ.

قال في "القاموس": والرتوة: الخطوة، وشرف من الأرض، وسويعة من الزمان، والدَّعوة، والفطرة، ورمية بسهمٍ، أو نحو ميل، أو مدى البصر. والرَّاتي: العالم الرباني. انتهى.

وقال في "النهاية": إنه يتقدم العلماء برتوةٍ، أي: برمية سهمٍ. وقيل: بميلٍ. وقيل: مدّ البصر.

وهذه الثلاثة أشبه بمعنى الحديث.

مات معاذ سنة ثماني عشرة بالشام في طاعون عمواس، وقد استخلفه النبيُّ ﷺ على أهل مكة يوم الفتح يُعلمهم دينهم.

قوله: (كنتُ رديفَ النبي ﷺ) فيه جواز الإرداف على الدابة، وفضيلة معاذ .

قوله: (على حمارٍ) في رواية: اسمه عُفير، قلتُ: أهداه إليه المقوقس صاحب مصر.

وفيه تواضعه ﷺ لركوب الحمار والإرداف عليه، خلافًا لما عليه أهل الكِبْر.

قوله: أتدري ما حقّ الله على العباد؟ أخرج السؤال بصيغة الاستفهام؛ ليكون أوقع في النفس، وأبلغ في فهم المتعلم.

وحقّ الله على العباد هو ما يستحقّه عليهم.

وحقّ العباد على الله معناه: أنه مُتحقق لا محالة؛ لأنه قد وعدهم ذلك جزاءً لهم على توحيده: وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ [الروم:6].

قال شيخُ الإسلام: كون المطيع يستحقّ الجزاء هو استحقاق إنعامٍ وفضلٍ، ليس هو استحقاق مقابلةٍ، كما يستحقّ المخلوق على المخلوق، فمن الناس مَن يقول: لا معنى للاستحقاق إلا أنه أخبر بذلك، ووعده صدق. ولكن أكثر الناس يُثبتون استحقاقًا زائدًا على هذا، كما دلَّ عليه الكتابُ والسنة، قال تعالى: وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ [الروم:47].

لكن أهل السنة يقولون: هو الذي كتب على نفسه الرحمة، وأوجب على نفسه الحقّ، لم يُوجبه عليه مخلوقٌ.

والمعتزلة يدَّعون أنه واجب عليه بالقياس على المخلوق، وأنَّ العباد هم الذين أطاعوه بدون أن يجعلهم مُطيعين له، وأنهم يستحقّون الجزاء بدون أن يكون هو الموجب. وغلطوا في ذلك.

وهذا الباب غلطت فيه الجبريةُ والقدريةُ أتباع جهم، والقدرية النَّافية.

الشيخ: هذا مثلما قال المؤلفُ: حقّ الله علينا حقّ فرضٍ وإيجابٍ، فهو سبحانه ربنا وإلهنا، يُوجب علينا ما يشاء من مصلحتنا ونجاتنا، كما أوجب علينا التوحيد، وأوجب علينا الصلاة والزكاة وصوم رمضان، وغير هذا مما أوجب سبحانه من مصلحتنا ونجاتنا وسعادتنا؛ فضلًا منه ، وحرَّم علينا ما حرَّم رحمةً بنا، وإحسانًا إلينا، كما حرَّم علينا الشِّرك والزنا والعقوق وغيرها مما حرَّم ، فحقّه علينا واجب وفرض، يلزمنا أن نُطيع، وأن نعمل.

وأما كونه جعل على نفسه حقًّا أن يُدخل الجنةَ أهل التوحيد والإيمان، هذا فضلٌ منه، وجودٌ منه، كما جعل لنفسه حقًّا في نصر الرسل والمؤمنين وإعانتهم على عدوهم، هذا فضلٌ منه جلَّ وعلا، كما قال جلَّ وعلا: وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ ۝ إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ ۝ وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ [الصافات:171- 173]، وقال جلَّ وعلا: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ [محمد:7]، وقال جلَّ وعلا: وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ [الحج:40]، هذا فضله جلَّ وعلا وجوده؛ فضلًا منه، لم نحقّه عليه نحن، بخلاف قول الجهمية والمعتزلة والجبرية: أنَّ العبد مجبورٌ، وأنه لا فعلَ له. هذا باطل، العبد له فعل، وله اختيار، لكن تفضَّل اللهُ عليه ووفَّقه وهداه، ثم أعطاه ما أعطاه من الجزاء الحسن؛ فضلًا منه جلَّ وعلا.

والجهمية جبرية، مع كونهم نُفاة للصِّفات هم جبرية أيضًا في الأفعال.

والمعتزلة نُفاة، ينفون القدر، وغلطوا في ذلك، فجعلوا العبادَ يستحقّون عليه؛ لأنهم فعلوه باختيارهم، لا بتقديره، ولا بتوفيقه لهم، بل باختيارهم وفعلهم، وهذا من أبطل الباطل، وأضلّ الضَّلال، وقد ضلَّت الطائفتان: المرجئة والمعتزلة، نسأل الله العافية.

وأهل السنة والجماعة وُفِّقوا للحقِّ، فالله سبحانه هو الذي هدى مَن هدى، وأضلَّ مَن أضلَّ، وله الحكمة البالغة في هداية مَن هدى، وإضلال مَن ضلَّ، وله جلَّ وعلا الفضل والإحسان في إحسانه لعباده، وجوده عليهم، حيث وفَّقهم وهداهم وأكرمهم، وجعل لهم الجنة، وله الحكمة البالغة في إضلال مَن ضلَّ حتى صار إلى الجحيم، نسأل الله العافية.

قوله: (قلتُ: الله ورسوله أعلم) فيه حسن الأدب من المتعلم، وأنه ينبغي لمن سُئل عمَّا لا يعلم أن يقول ذلك، بخلاف أكثر المتكلِّفين.

الشيخ: وهذا هو الواجب: إذا سُئل عمَّا لا يعلم يقول: الله أعلم، في حياة النبي يقول: الله ورسوله أعلم، أما بعد وفاته يقول: الله أعلم؛ لأنَّ الرسول لا يعلم ما يفعل الناس بعد وفاته ﷺ، وإنما يعلم ما يصل إليه في حياته ﷺ، فيُقال: "الله ورسوله أعلم" في أمور الشرع التي يكون الوحيُ بها؛ ولهذا يُقال له يوم القيامة لما يُذاد ناسٌ عن حوضه فيقول: يا ربي، أصحابي! فيُقال: إنَّك لا تدري ما أحدثوا بعدك، لا يزالون مُرتدين منذ فارقتهم، فهو لا يعلم ما حصل بعده من الناس عليه الصلاة والسلام، وإنما يعلم ما علَّمه الله في حياته، وما أطلعه الله عليه في حياته عليه الصلاة والسلام، وما أوحاه الله إليه؛ ولهذا قال: قلتُ: الله ورسوله أعلم. فأقرَّه النبيُّ على ذلك؛ لأنه يعلم ما جاء به الوحي.

س: في المسائل الفقهية ونحوها؟

ج: إذا نوى به في حال حياته أنه يعلم به حال حياته ..... لا بأس، إذا نوى به في حياته، أما الحوادث لا، الحوادث لا يعلمها.

س: ...............؟

ج: كفَّار، الله لعن الكفَّار.

س: ...............؟

ج: القدرية جبرية؛ لأنَّ جهمًا يرى العبد مجبورًا.

قوله: أن يعبدوه ولا يُشركوا به شيئًا أي: يُوحدوه بالعبادة. ولقد أحسن العلامةُ ابن القيم رحمه الله حيث عرف العبادة بتعريفٍ جامعٍ فقال:

وعبادة الرحمن غاية حبِّه مع ذلّ عابده هما قطبان
وعليهما فلك العبادة دائرٌ ما دار حتى قامت القطبان
ومداره بالأمر أمر رسوله لا بالهوى والنفس والشيطان

قوله: ولا يُشركوا به شيئًا أي: يُوحدوه بالعبادة، فلا بدَّ من التَّجرد من الشِّرك في العبادة، مَن لم يتجرد من الشِّرك لم يكن آتيًا بعبادة الله وحده، بل هو مُشرك، قد جعل لله ندًّا.

وهذا معنى قول المصنف رحمه الله: وفيه أنَّ العبادة هي التوحيد؛ لأنَّ الخصومة فيه، وفي بعض الآثار الإلهية: إني والجنّ والإنس في نبأ عظيمٍ؛ أخلق ويُعبد غيري، وأرزق ويُشكر سواي، خيري إلى العباد نازل، وشرُّهم إليَّ صاعد، أتحبب إليهم بالنِّعَم، ويتبغَّضون إليَّ بالمعاصي.

قوله: وحقّ العباد على الله ألا يُعذب مَن لا يُشرك به شيئًا.

قال الحافظُ: اقتصر على نفي الإشراك؛ لأنَّه يستدعي التوحيد بالاقتضاء، ويستدعي إثبات الرسالة باللزوم؛ إذ مَن كذَّب رسول الله ﷺ فقد كذَّب الله، ومَن كذَّب الله فهو مُشرك، وهو مثل قول القائل: ومَن توضأ صحَّت صلاته، أي: مع سائر الشُّروط. اهـ.

الشيخ: وهذا لا بدَّ منه في كل النصوص: إنَّ الله لا يُعذب مَن لا يُشرك به شيئًا، يعني: إذا لم يأتِ بما يُوجب الردة، وما يُوجب العذاب، فهو سبحانه أكرم الأكرمين، فلا يُعذب أهل التوحيد إذا ماتوا على التوبة من المعاصي، أما مَن مات على المعاصي فهو تحت المشيئة.

س: ...............؟

ج: هذا من عُصاة بني إسرائيل، يُحكى للبيان والترغيب والتَّرهيب.

س: ...............؟

ج: هو الواقع، أكثر الخلق خلقهم ورزقهم ويعبدون غيره سبحانه وتعالى.

قوله: (أفلا أُبشر الناس) فيه استحباب بشارة المسلم بما يسرّه، وفيه ما كان عليه الصَّحابة من الاستبشار بمثل هذا. قاله المصنف رحمه الله.

قوله: لا تُبشرهم فيتَّكلوا أي: يعتمدوا على ذلك فيتركوا التَّنافس في الأعمال.

وفي روايةٍ: "فأخبر بها معاذٌ عند موته تأثُّمًا" أي: تحرُّجًا من الإثم.

قال الوزير أبو المظفر: "لم يكن يكتمها إلا عن جاهلٍ يحمله جهلُه على سوء الأدب بترك الخدمة في الطَّاعة، فأما الأكياس الذين إذا سمعوا بمثل هذا زادوا في الطاعة، ورأوا أنَّ زيادة النِّعَم تستدعي زيادة الطاعة، فلا وجهَ لكتمانها عنهم".

الشيخ: وفي هذا أخبر النبيُّ ﷺ في أحاديث كثيرةٍ عن فضل التوحيد، وأنَّ مَن مات عليه دخل الجنة، فإنَّ المقصود: مَن مات عليه مع سلامته من المعاصي، أو المراد يعني: النهاية للجنة وإن كانت عنده معاصٍ.

فالحاصل أنَّ الواجب على المؤمن أن يضمَّ أحاديث التَّرغيب إلى أحاديث التَّرهيب، وألا يغترَّ بالترغيب، ولا الترهيب، ولا بالترهيب دون الترغيب، فلا يقنط، ولا يأمن، بل يضمّ النصوص بعضها إلى بعضٍ، فالترغيب يُوجب له حسن الظن بالله، والجدّ في طاعة الله، والترهيب يُوجب له الحذر من المعاصي، والبُعد عنها، والتوبة منها، هذا هو شأن المؤمن؛ ولهذا قال جلَّ وعلا: نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ۝ وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ [الحجر:49- 50]، وقال سبحانه: غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ [غافر:3].

فالواجب على المؤمن أن يكون جامعًا بين الأمرين: يخاف، ويرجو، لا يقنط، ولا يأمن؛ ولهذا قال سبحانه في الأخيار من عباده من الرسل وأتباعهم: إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ [الأنبياء:90]، وقال سبحانه: أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يعني: المسيح وأمَّه والمرسلين والمؤمنين يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ [الإسراء:57]، هكذا شأن المؤمن: يعبد الله ويُوحده ويرجو رحمته، ويخاف عقابه، فهو موعودٌ بالجنة، لكن إن سلم من المعاصي دخلها من أول وهلةٍ، أما إن لم يسلم بل مات على بعض المعاصي ولم يتب؛ فهو تحت مشيئة الله، كما بيَّن في كتابه في سورة النساء حيث قال جلَّ وعلا: إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ [النساء:48]، فأهل المعاصي تحت المشيئة إذا ماتوا عليها غير تائبين.

 

وفي الباب من الفوائد غير ما تقدم:

  • الحثّ على إخلاص العبادة لله، وأنها لا تنقع مع الشِّرك، بل لا تُسمى: عبادة.
  • والتَّنبيه على عظمة حقِّ الوالدين، وتحريم عقوقهما.
  • والتَّنبيه على عظمة الآيات المحكمات في سورة الأنعام.
  • وجواز كتمان العلم للمصلحة.

الشيخ: وهذا واضحٌ، فالواعظ والمذكر والدَّاعي إلى الله إذا رأى كتمان بعض العلم في بعض الأوقات وفي بعض المجالس، وأن يخصَّ المجلس بوعظٍ خاصٍّ فهذا إليه، من باب المصالح، فإذا كان مع مُسرفين فليتكلم بما يتعلق بالترهيب والوعيد والتَّحذير، وإذا كان مع قومٍ غالين مُفرطين تكلم معهم بأحاديث الرجاء؛ حتى لا يقنطوا، يكون طبيبًا يُعالج الأمور بما يُناسبها.

قوله: (أخرجاه) أي: البخاري ومسلم.

والبخاري رحمه الله هو الإمام محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن بردزبه، الجعفي مولاهم، الحافظ الكبير، صاحب "الصحيح" و"التاريخ" و"الأدب المفرد"، وغير ذلك من مُصنفاته.

روى عن: الإمام أحمد بن حنبل والحميدي وابن المديني وطبقتهم.

وروى عنه: مسلم والنَّسائي والترمذي والفربري راوي الصَّحيح.

وُلد سنة أربعٍ وتسعين ومئة، ومات سنة ستٍّ وخمسين ومئتين.

ومسلم رحمه الله هو ابن الحجاج بن مسلم، أبو الحسين، القُشيري، النيسابوري، صاحب "الصحيح" و"العلل" و"الوحدان"، وغير ذلك.

روى عن: أحمد بن حنبل ويحيي بن معين وأبي خيثمة وابن أبي شيبة وطبقتهم، وروى عن البخاري.

وروى عنه: الترمذي وإبراهيم بن محمد بن سفيان راوي الصحيح، وغيرهما.

وُلد سنة أربعٍ ومئتين، ومات سنة إحدى وستين ومئتين بنيسابور، رحمهما الله.

مُداخلة: أحسن الله عملك، في المتن الشيخ رحمه الله قال: (فيه مسائل)، ولم يذكرها الشَّارح، قال: وفيه غير ما ذكر.

الشيخ: نعم، هذه مسائل معروفة.

 

قوله: (باب بيان فضل التوحيد وما يُكفر من الذنوب).

"باب" خبر مبتدأ محذوف تقديره: هذا.

قلتُ: ويجوز أن يكون مُبتدأً خبره محذوف تقديره: هذا.

و"ما" يجوز أن تكون موصولةً والعائد محذوف، أي: وبيان الذي يُكفره من الذنوب، ويجوز أن تكون مصدريَّةً، أي: وتكفيره الذنوب، وهذا الثاني أظهر.

قوله: (وقول الله تعالى: الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ [الأنعام:82]).

قال ابنُ جرير: حدَّثني المثنى -وساق بسنده- عن الربيع بن أنسٍ قال: "الإيمان: الإخلاص لله وحده".

وقال ابنُ كثيرٍ في الآية: أي هؤلاء الذين أخلصوا العبادة لله وحده، ولم يُشركوا به شيئًا هم الآمنون يوم القيامة، المهتدون في الدنيا والآخرة.

وقال زيدُ بن أسلم وابن إسحاق: هذا من الله على فصل القضاء بين إبراهيم وقومه.

وعن ابن مسعودٍ: لما نزلت هذه الآية قالوا: فأيُّنا لم يظلم نفسه؟! فقال رسولُ الله ﷺ: ليس بذلكم، ألم تسمعوا إلى قول لقمان: إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لقمان:13]؟.

وساقه البخاري بسنده فقال: حدَّثنا عمر بن حفص بن غياث: حدَّثنا أبي: حدَّثنا الأعمش: حدَّثني إبراهيم، عن علقمة، عن عبدالله قال: لما نزلت: الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ قلنا: يا رسول الله، أيُّنا لا يظلم نفسه؟! قال: ليس كما تقولون، لم يلبسوا إيمانهم بظلمٍ: بشركٍ. أولم تسمعوا إلى قول لقمان لابنه: يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ؟.

ولأحمد بنحوه عن عبدالله قال: لما نزلت: الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ شقَّ ذلك على أصحاب رسول الله ﷺ، فقالوا: يا رسول الله، فأيُّنا لا يظلم نفسه؟! قال: إنه ليس الذي تعنون، ألم تسمعوا ما قال العبدُ الصَّالح: يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ؟ إنما هو الشِّرك.

وعن عمر أنه فسَّره بالذنب، فيكون المعنى: الأمن من كل عذابٍ.

وقال الحسن والكلبي: أولئك لهم الأمن في الآخرة، وهم مُهتدون في الدُّنيا.

قال شيخُ الإسلام: والذي شقَّ عليهم أنهم ظنُّوا أنَّ الظلم المشروط عدمه هو ظلم العبد نفسه، وأنه لا أمنَ ولا اهتداءَ إلا لمن لم يظلم نفسه، فبيَّن لهم النبيُّ ﷺ ما دلَّهم على أنَّ الشرك ظلمٌ في كتاب الله، فلا يحصل الأمن والاهتداء إلا لمن لم يلبس إيمانه بهذا الظلم، فإنَّ مَن لم يلبس إيمانه بهذا الظلم كان من أهل الأمن والاهتداء، كما كان من أهل الاصطفاء في قوله: ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ [فاطر:32].

وهذا لا ينفي أن يُؤاخذ أحدهم بظلمه لنفسه بذنبٍ إذا لم يتب، كما قال تعالى: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ ۝ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ [الزلزلة:7- 8].

وقد سأل أبو بكر الصّديق النبيَّ ﷺ فقال: يا رسول الله، أيُّنا لم يعمل سوءًا؟! فقال: يا أبا بكر، ألستَ تنصب؟ ألستَ تحزن؟ أليس يُصيبك اللأواء؟ فذلك ما تُجزون به، فبين أنَّ المؤمن الذي إذا مات دخل الجنة قد يُجزى بسيئاته في الدنيا بالمصائب.

فمَن سلم من أجناس الظلم الثلاثة: الشِّرك، وظلم العباد، وظلمه لنفسه بما دون الشِّرك؛ كان له الأمنُ التام والاهتداء التام، ومَن لم يسلم من ظلمه لنفسه كان له الأمنُ والاهتداء المطلق، بمعنى: أنه لا بدَّ أن يدخل الجنةَ كما وعد بذلك في الآية الأخرى، وقد هداه الله إلى الصِّراط المستقيم الذي تكون عاقبته فيه إلى الجنة، ويحصل له من نقص الأمن والاهتداء بحسب ما نقص من إيمانه بظلمه لنفسه.

وليس مُراد النبي ﷺ بقوله: إنما هو الشرك أنَّ مَن لم يُشرك الشِّرك الأكبر يكون له الأمنُ التام والاهتداءُ التام، فإنَّ أحاديثه الكثيرة مع نصوص القرآن تُبين أنَّ أهل الكبائر مُعرَّضون للخوف، لم يحصل لهم الأمن التام والاهتداء التام اللَّذين يكونون بهما مُهتدين إلى الصراط المستقيم، صراط الذين أنعم الله عليهم، من غير عذابٍ يحصل لهم، بل معهم أصلُ الاهتداء إلى هذا الصِّراط، ومعهم أصل نعمة الله عليهم، ولا بدَّ لهم من دخول الجنَّة.

الشيخ: وهذا كلامٌ عظيمٌ، كلام تحقيق.

المقصود أنَّ مَن مات على التوحيد والإيمان فهو من أهل الأمن والاهتداء، كما قال النبيُّ ﷺ في تفسير الآية: إنما هو الشرك، الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ يعني: وحَّدوا الله، وأخلصوا له، ولم يُشركوا به أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ [الأنعام:82]، لكن تارةً يسلمون من أنواع الظلم الأخرى، فيكون أمنُهم كاملًا، واهتداؤهم كاملًا، وتارةً يكون معهم ظلمٌ لأنفسهم بالمعاصي الأخرى غير الشِّرك، أو ظلم للعباد بأموالهم ونفوسهم، هؤلاء تحت المشيئة، كما قال تعالى: وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ [النساء:48]، فهم عندهم أصل الأمن، وأصل الهداية، لكن هذه السَّيئات التي ماتوا عليها والمعاصي ولم يتوبوا منها هم بها تحت المشيئة، لم يحصل لهم الأمن الكامل، والهداية الكاملة، بل نقص أمنُهم، ونقصت هدايتهم بأدلة النصوص الأخرى، والأحاديث الأخرى، والآيات.

فالأمن والهداية حاصلان لأهل التوحيد والإيمان، لكن إن سلموا من المعاصي -من كبائر الذنوب- فأمنهم كامل، وهدايتهم كاملة، وإن لم يسلموا، بل ماتوا على المعاصي والكبائر، فهم تحت المشيئة، وأمنهم ناقص، وهدايتهم ناقصة، لكنَّهم مآلهم إلى الجنة، ونهايتهم إلى الجنة، وإن جرت عليهم مصائب وعذاب فالنهاية في الجنة، كما قال جلَّ وعلا: ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وهو صاحب المعاصي وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وهو البرّ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ [فاطر:32] وهم المقرَّبون، هذه أقسام أهل الإيمان: القسم الأدنى ظالم لنفسه، والوسط مقتصد، والأعلى السَّابق والمقرّب، كلهم موعود بالجنة: جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا [فاطر:33]، لكن أهل الأمن والهداية الكاملة لا خطرَ عليهم، أما أهل الظلم للنفس بالمعاصي دون الشِّرك فهم الذين على خطرٍ، والعفو عنهم والمغفرة مُعلَّقة بالمشيئة، قد يُعذَّبون، وقد ينجون.

س: جعل الحسن الأمن في الآخرة والاهتداء في الدنيا ألا يُقال: الأمن في الدنيا والأخرى؟

ج: الذين على الصِّراط المستقيم يعمّ، يعمّ الأمن والهداية في الدنيا والآخرة، لكن مُراد الحسن الهداية المهمة، هداية الدنيا كونه يهتدي للحقِّ، ويقوم بالحقِّ، ويعمل بالحقِّ، وإذا هُدي للحقِّ هنا هُدي يوم القيامة إلى دخول الجنة؛ ولهذا نبَّه على هذا رحمه الله، وإلا فالمقصود الهداية الكاملة: يهتدي في الدنيا إلى طاعة الله، وفي الآخرة إلى الجنَّة والكرامة.

س: الإصرار على المعاصي، هل يصحّ أن يُسمَّى الإصرار على المعاصي: خللًا في الاعتقاد؟

ج: إذا أصرُّوا لم تُغفر لهم، قال الله: وَلَمْ يُصِرُّوا [آل عمران:135]، لا بدَّ من عدم الإصرار، شرط الله للمغفرة ألا يُصرَّ؛ ولهذا قال النبيُّ في الحديث الصحيح: الصَّلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان كفَّارات لما بينهنَّ ما لم تُغْشَ الكبائر إذا اجتنب الكبائر، وهذا مُطابقٌ لقوله سبحانه: إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا [النساء:31]، فاشترط في التَّكفير ودخول الجنة اجتناب الكبائر.

س: مَن قال أنَّ المسلم المصرَّ على المعاصي -وهي الكبائر- لا يُسمَّى: مُؤمنًا، بل يُسمَّى: مسلمًا؟

ج: يُسمَّى: مسلمًا، ويُسمَّى: مؤمنًا ناقص الإيمان.

 

قوله: "عن عُبادة بن الصامت قال: قال رسولُ الله ﷺ: مَن شهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريكَ له، وأنَّ محمّدًا عبده ورسوله، وأنَّ عيسى عبدالله ورسوله، وكلمته ألقاها إلى مريم، وروح منه، والجنّة حقّ، والنّار حقّ؛ أدخله اللهُ الجنّةَ على ما كان من العمل. أخرجاه.

عبادة بن الصَّامت بن قيس، الأنصاري، الخزرجي، أبو الوليد، أحد النُّقباء، بدري مشهور، مات بالرملة سنة أربعٍ وثلاثين، وله اثنتان وسبعون سنة. وقيل: عاش إلى خلافة معاوية .

قوله: مَن شهد أن لا إله إلا الله أي: مَن تكلم بها، عارفًا لمعناها، عاملًا بمُقتضاها باطنًا وظاهرًا، فلا بدَّ في الشَّهادتين من العلم واليقين والعمل بمدلولها، كما قال الله تعالى: فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ [محمد:19]، وقوله: إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ [الزخرف:86].

وأما النُّطق بها من غير معرفةٍ لمعناها، ولا يقين، ولا عمل بما تقتضيه: من البراءة من الشِّرك، وإخلاص القول والعمل: قول القلب واللسان، وعمل القلب والجوارح؛ فغير نافعٍ بالإجماع.

قال القرطبي في "المفهم على صحيح مسلم": "باب لا يكفي مجرد التَّلفظ بالشَّهادتين، بل لا بدَّ من استيقان القلب. هذه الترجمة تنبيهٌ على فساد مذهب غُلاة المرجئة القائلين بأنَّ التَّلفظ بالشَّهادتين كافٍ في الإيمان. وأحاديث هذا الباب تدل على فساده، بل هو مذهبٌ معلوم الفساد من الشريعة لمن وقف عليها؛ ولأنه يلزم منه تسويغ النِّفاق، والحكم للمُنافق بالإيمان الصحيح، وهو باطلٌ قطعًا". اهـ.

الشيخ: وهذا يغترّ به الكثير من عُبَّاد القبور وعُبَّاد الأولياء، يحسبون أنهم إذا قالوا: لا إله إلا الله، وأشهد أنَّ محمدًا رسول الله، أنَّ هذا كافٍ، وأنهم مُهتدون بهذا، ومُسلمون، وهذا من الجهل؛ فإنَّ الكلمات هذه لا بدَّ من معناها، لا بدَّ أن يقول: "لا إله إلا الله" ويعمل، ويُوحد الله، ويخصّ الله بالعبادة، ويتبع الرسول ﷺ، أما إذا قال: "لا إله إلا الله"، ويعبد القبور، وأصحاب القبور، ويستغيث بهم، وينذر لهم، فأين "لا إله إلا الله"؟! هذا الشرك الأكبر، فإذا أهمل اتِّباع الرسول ﷺ أين الشَّهادة بأنَّ محمدًا رسول الله؟!

فلا بدَّ من العمل، لا بدَّ من توحيد الله واتِّباع رسوله ﷺ، وهذا محل إجماعٍ من أهل العلم والإيمان من أهل السنة والجماعة؛ ولهذا المنافقون في الدَّرك الأسفل من النار؛ لأنهم لم يعملوا، فجعلهم الله تحت الكفار؛ لأنهم قد شهدوا "أن لا إله إلا الله، وأنَّ محمدًا رسول الله"، ولم يعملوا، بل أبطنوا الكفر، وهكذا عُبَّاد القبور، وعُبَّاد الأولياء، ولو قالوا "لا إله إلا الله"، ما داموا أشركوا بالله قد نقضوها وأبطلوها بالعمل، نسأل الله العافية.

مداخلة: قبل حديث عُبادة في كلام لابن القيم.

الشيخ: سقط عندك؟ ما عندك كلام ابن القيم.

الطالب: قوله: إنما هو الشِّرك.

الشيخ: لا، يقول ابن القيم، كلام ابن القيم بعد كلام شيخ الإسلام.

الطالب: نعم، نعم، أحسن الله إليك.

الشيخ: اقرأه.

الطالب: وقوله: "إنما هو الشرك" إن أراد الأكبر فمقصوده أنَّ مَن لم يكن من أهله فهو آمنٌ مما وُعد به المشركون من عذاب الدنيا والآخرة، وإن كان مُراده جنس الشِّرك يُقال: ظلم العبد نفسه، كبُخله لحبِّ المال ببعض الواجب، هو شرك أصغر. وحبّه ما يبغضه الله تعالى حتى يُقدم هواه على محبَّة الله، الشرك الأصغر، ونحو ذلك. فهذا فاته من الأمن والاهتداء بحسبه؛ ولهذا كان السَّلفُ يُدخلون الذنوب في هذا الشِّرك بهذا الاعتبار. انتهى مُلخَّصًا.

وقال ابنُ القيم رحمه الله: قوله: الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ [الأنعام:82]، قال الصحابةُ: وأيّنا يا رسول الله لم يلبس إيمانه بظلمٍ؟! قال: ذلك الشِّرك، ألم تسمعوا قول العبد الصَّالح: إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لقمان:13]؟ لما أشكل عليهم المراد بالظلم فظنُّوا أنَّ ظلم النفس داخلٌ فيه، وأنَّ مَن ظلم نفسه أي ظلمٍ كان لم يكن آمنًا ولا مُهتديًا، أجابهم -صلوات الله وسلامه عليه- بأنَّ الظلم الرافع للأمن والهداية على الإطلاق هو الشِّرك، وهذا والله هو الجواب الذي يشفي العليل، ويروي الغليل؛ فإنَّ الظلم المطلق التام هو الشِّرك الذي هو وضع العبادة في غير موضعها، والأمن والهدى المطلق هما: الأمن في الدنيا والآخرة، والهدى إلى الصِّراط المستقيم. فالظلم المطلق التام رافعٌ للأمن وللاهتداء المطلق التام، ولا يمنع أن يكون مطلقُ الظلم مانعًا من مطلق الأمن ومطلق الهدى، فتأمّله. فالمطلق للمُطلق، والحصة للحصة. اهـ.

الشيخ: كلام طيب، والأمر مثلما قال: مَن وقاه الله أنواعَ الظلم كان أمنُه كاملًا، وهدايته كاملةً، ومَن وقاه الله الشِّرك فله أصل الأمن وأصل الهداية، وهو موعود بالجنة، لكنه يفوته بعض الأمن وبعض الهداية؛ لما معه من المعاصي والكبائر، وهو تحت مشيئة الله.

س: إذا قالوا: مُرجئة الفقهاء؟

ج: مُرجئة الفقهاء الذين يقولون: العمل ليس من الإيمان، يقولون: الإيمان قولٌ وإقرارٌ وتصديقٌ. يعني: كما يُذكر عن أبي حنيفة وغيره، وأهل السنة والجماعة يقولون: الإيمان قول وعمل: قول القلب واللسان، وعمل القلب والجوارح. الصلاة من الإيمان، والصوم من الإيمان، والزكاة من الإيمان، وهي عمل، والجهاد من الإيمان، وهو عمل؛ ولهذا قال جلَّ وعلا: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ۝ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ [الأنفال:3]، وقال جلَّ وعلا: وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ [التوبة:71]، جعل هذا كله إيمانًا، هذا هو قول أهل الحقِّ، فإذا ترك بعضَ الإيمان تركًا يكفر: كترك الصلاة على الصحيح، وتارة يكون ناقص الإيمان: كترك الصوم، أو الحج مع الاستطاعة، أو الزكاة، يكون ناقصَ الإيمان، ضعيف الإيمان، مُعرَّضًا للوعيد، نسأل الله العافية.

س: قول شيخ الإسلام: الخلاف بيننا وبين الأحناف لفظي؟

ج: ما رأيتُه لشيخ الإسلام، هذا أظنّ ذكره ابنُ أبي العزّ: إما عن نفسه، أو عن غيره، وليس بصحيحٍ، ليس بلفظيٍّ، بل حقيقة، إذا قالوا: بالإيمان الكامل يستحقّ الجنة، فهو خلاف ما هو بلفظي، أما إذا قالوا: أنه ما يستحقّ الجنة، وأنه موقوفٌ، وأنَّ إيمانه ليس بكاملٍ، وعلى خطرٍ، هذا يصير لفظيًّا، لكن إذا قالوا: ليس من الإيمانٍ، وأنه كمال، مجرد كمال، هذا غلط عظيم.