02 أقسام التَّوحيد

قال شيخُ الإسلام: التوحيد الذي جاءت به الرسلُ إنما يتضمن إثبات الإلهية لله وحده؛ بأن يشهد أن لا إله إلا الله، لا يعبد إلا إيَّاه، ولا يتوكل إلا عليه، ولا يُوالي إلا له، ولا يُعادي إلا فيه، ولا يعمل إلا لأجله. وذلك يتضمن إثبات ما أثبته لنفسه من الأسماء والصِّفات، قال تعالى: وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ [البقرة:163]، وقال تعالى: وَقَالَ اللَّهُ لَا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ [النحل:51]، وقال تعالى: وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ [المؤمنون:117]، وقال تعالى: وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ [الزخرف:45].

وأخبر عن كل نبيٍّ من الأنبياء أنهم دعوا الناسَ إلى عبادة الله وحده لا شريكَ له، وقال: قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ [الممتحنة:4]، وقال عن المشركين: إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ ۝ وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُو آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ [الصافات:35- 36]، وهذا في القرآن كثيرٌ.

وليس المراد بالتوحيد: مجرد توحيد الربوبية، وهو اعتقاد أنَّ الله وحده خلق العالم، كما يظنّ ذلك مَن يظنّه من أهل الكلام والتَّصوف، ويظنّ هؤلاء أنهم إذا أثبتوا ذلك بالدليل فقد أثبتوا غاية التوحيد، وأنهم إذا شهدوا هذا وفنوا فيه فقد فنوا في غاية التوحيد.

فإنَّ الرجل لو أقرَّ بما يستحقّه الرب تعالى من الصِّفات، ونزَّهه عن كلِّ ما يُنزه عنه، وأقرَّ بأنه وحده خالق كل شيءٍ؛ لم يكن مُوحِّدًا حتى يشهد أن لا إله إلا الله وحده، فيقرّ بأنَّ الله وحده هو الإله المستحقّ للعبادة، ويلتزم بعبادة الله وحده لا شريكَ له.

و"الإله" هو المألوه المعبود الذي يستحقّ العبادة، وليس هو الإله بمعنى القادر على الاختراع.

فإذا فسر المفسر "الإله" بمعنى القادر على الاختراع، واعتقد أنَّ هذا المعنى هو أخصّ وصف الإله، وجعل إثبات هذا هو الغاية في التوحيد، كما يفعل ذلك مَن يفعله من مُتكلمة الصِّفاتية، وهو الذي يقولونه عن أبي الحسن وأتباعه، لم يعرفوا حقيقة التوحيد الذي بعث اللهُ به رسوله ﷺ، فإنَّ مُشركي العرب كانوا مُقرين بأنَّ الله وحده خالق كل شيءٍ، وكانوا مع هذا مُشركين، قال تعالى: وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ [يوسف:106].

قالت طائفةٌ من السلف: "تسألهم مَن خلق السَّماوات والأرض؟ فيقولون: الله. وهم مع هذا يعبدون غيره".

قال تعالى: قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ۝ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ ۝ قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ ۝ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ ۝ قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ۝ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ [المؤمنون:84- 89].

فليس كلُّ مَن أقرَّ بأنَّ الله تعالى ربّ كل شيءٍ وخالقه يكون عابدًا له دون ما سواه، داعيًا له دون ما سواه، راجيًا له، خائفًا منه دون ما سواه، يُوالي فيه، ويُعادي فيه، ويُطيع رسله، ويأمر بما أمر به، وينهى عمَّا نهى عنه.

وعامَّة المشركين أقرُّوا بأنَّ الله خالق كل شيءٍ، وأثبتوا الشُّفعاء الذين يُشركونهم به، وجعلوا له أندادًا، قال تعالى: أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لَا يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلَا يَعْقِلُونَ ۝ قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ [الزمر:43- 44]، وقال تعالى: وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ [يونس:18]، وقال تعالى: وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ [الأنعام:94]، وقال تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ [البقرة:165]؛ ولهذا كان من أتباع هؤلاء مَن يسجد للشمس والقمر والكواكب ويدعوها، ويصوم وينسك لها، ويتقرب إليها، ثم يقول: إنَّ هذا ليس بشركٍ، إنما الشِّرك إذا اعتقدت أنها المدبرة، فإذا جعلتها سببًا وواسطةً لم أكن مُشركًا، ومن المعلوم بالاضطرار من دين الإسلام أنَّ هذا شركٌ. انتهى كلامه.

الشيخ: وهذا الذي التبس على كثيرٍ من الناس -الصُّوفية وعُبَّاد القبور- فظنوا أنَّ إقرارهم بأنَّ الله خالق، رازق، ربهم يكفي، هذا دين المشركين، أقرُّوا بأنَّ الله خالقهم ورازقهم، وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ، مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى [الزمر:3].

التوحيد هو أن يخصُّوه بالعبادة، ولا يدعون إلا إيَّاه، ولا يستغيثون إلا به، ولا ينذرون إلا له، ولا يُصلون إلا له، ولا يسجدون إلا له، ولا يذبحون إلا له، هذا هو الذي خفي على هؤلاء، فجعلوا دين المشركين توحيدًا لهم، وجعلوه دينًا لهم، وظنُّوا أنَّ إقرارهم بأنه ربهم ومالكهم ورازقهم يكفي، وهذا هو الجهل الكبير، وهذا دين المشركين -نعوذ بالله- دين أبي جهل وأشباهه، فأبو جهل وأشباهه ما أنكروا أنَّ الله هو الخالق، وأنَّ الله هو الرازق، وأنه ربّ الجميع، بل أقرُّوا بهذا.

وقول الله تعالى: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات:56].

قوله: (وقول الله تعالى: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) بالجرِّ عطفٌ على التوحيد، ويجوز الرفع على الابتداء.

قال شيخُ الإسلام: "العبادة هي طاعة الله بامتثال ما أمر الله به على ألسنة الرسل".

وقال أيضًا: "العبادة: اسمٌ جامعٌ لكل ما يُحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الظَّاهرة والباطنة".

قال ابنُ القيم: "ومدارها على خمس عشرة قاعدة، مَن كملها كمل مراتب العبودية".

وبيان ذلك: أنَّ العبادة مُنقسمة على القلب واللسان والجوارح. والأحكام التي للعبودية خمسة: واجب، ومستحبّ، وحرام، ومكروه، ومباح. وهن لكل واحدٍ من القلب واللسان والجوارح.

وقال القرطبي: "أصل العبادة التَّذلل والخضوع، وسُميت وظائف الشرع على المكلَّفين: عبادات؛ لأنهم يلتزمونها ويفعلونها خاضعين مُتذللين لله تعالى".

ومعنى الآية: أنَّ الله تعالى أخبر أنه ما خلق الجنَّ والإنسَ إلا لعبادته، فهذا هو الحكمة في خلقهم.

قلتُ: وهي الحكمة الشَّرعية الدِّينية.

الشيخ: خُلقوا لهذا الأمر: ليعبدوا الله بتوحيده والإخلاص له، وطاعة أوامره، وترك نواهيه، هذه العبادة التي خُلقوا لها: أن يخصّوه بالعبادة، ويُؤمنوا برسوله عليه الصلاة والسلام، وينقادوا لشرعه قولًا وعملًا، فعلًا وتركًا، وسُميت عبادة لأنها تُؤدَّى بالذل والخضوع، كما قال القرطبي رحمه الله، تقول العربُ: طريق مُعبَّد، أي: مُذلل، قد وطأته الأقدام، تقول: بعير مُعبَّد، يعني: قد شدّ ورحل، فالعبادات يُؤديها العباد بخضوعٍ وذلٍّ لله وانكسار.

قال العماد ابن كثير: "وعبادته هي طاعته بفعل المأمور وترك المحظور. وذلك هو حقيقة دين الإسلام؛ لأنَّ معنى الإسلام: الاستسلام لله تعالى، المتضمن غاية الانقياد والذُّل والخضوع". انتهى.

الشيخ: وهذا معناه صحيح؛ لأنَّ العبادة هي الإسلام، وهي الإيمان، وهي الهدى، وهي التقوى، فهي طاعة الله ورسله، سُمي دين الإسلام للذل والخضوع والانقياد، سُمي: عبادة؛ للذل والانقياد، وسُمي: إيمانًا للتَّصديق، وهدًى؛ لأنَّ الله هدى به العباد.

وقال أيضًا في تفسير هذه الآية: ومعنى الآية أنَّ الله خلق الخلق ليعبدوه وحده لا شريكَ له، فمَن أطاعه جازاه أتم الجزاء، ومَن عصاه عذَّبه أشد العذاب، وأخبر أنه غير محتاجٍ إليهم، بل هم الفُقراء في جميع أحوالهم، وهو خالقهم ورازقهم.

وقال علي بن أبي طالب في الآية: "إلا لآمرهم أن يعبدوني، وأدعوهم إلى عبادتي".

وقال مجاهد: "إلا لآمرهم وأنهاهم"، اختاره الزَّجاج وشيخ الإسلام.

قال: ويدل على هذا قوله: أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى [القيامة:36]، قال الشافعي: "لا يُؤمر، ولا يُنهى".

وقال في القرآن في غير موضعٍ: اعْبُدُوا رَبَّكُمُ [البقرة:21]، اتَّقُوا رَبَّكُمُ [النساء:1]، فقد أمرهم بما خُلقوا له، وأرسل الرسل بذلك. وهذا المعنى هو الذي قُصد بالآية قطعًا، وهو الذي يفهمه جماهير المسلمين، ويحتجون بالآية عليه.

قال: وهذه الآية تُشبه قوله تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ [النساء:64]، ثم قد يُطاع، وقد يُعصى. وكذلك ما خلقهم إلا لعبادته، ثم قد يعبدون، وقد لا يعبدون.

الشيخ: بل أكثرهم لم يعبدوه، ولم يُطيعوا رسله، واستحقّوا عذابه ومقته وغضبه، خلقهم ليعبدوه، وأرسل الرسل ليُطاعوا، ولكن أكثر الخلق لم يعبد، ولم يُطع، فباءوا بالخيبة والخسران، وتابعوا الهوى، كما قال جلَّ وعلا: وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ [يوسف:103]، وقال جلَّ وعلا: وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [سبأ:20]، وقال تعالى: وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ [سبأ:13]، وقال سبحانه: وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ [الأنعام:116]، نسأل الله السَّلامة.

وهو سبحانه لم يقل أنه فعل الأول -وهو خلقهم- ليفعل بهم كلهم الثاني -وهو عبادته- ولكن ذكر أنه فعل الأول ليفعلوا هم الثاني، فيكونوا هم الفاعلين له، فيحصل لهم بفعله سعادتهم، ويحصل ما يُحبه ويرضاه منهم ولهم. انتهى.

الشيخ: ولهذا قال: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات:56]، ما قال: إلا لأجعلهم عابدين، بل قال: لِيَعْبُدُونِ، فالخلق منه، والعبادات منهم، فإن عبدوه فلهم الأجر، ولهم العاقبة الحميدة، وإن أبوا فلهم الخيبة والنَّدامة، وكل شيءٍ بقضائه وقدره .

ويشهد لهذا المعنى ما تواترت به الأحاديث:

فمنها: ما أخرجه مسلم في "صحيحه" عن أنس بن مالكٍ ، عن النبي ﷺ قال: يقول الله تعالى لأهون أهل النار عذابًا: لو كانت لك الدنيا وما فيها ومثلها معها أكنتَ مُفتديًا بها؟ فيقول: نعم. فيقول: قد أردتُ منك أهون من هذا وأنت في صلب آدم: أن لا تُشرك -أحسبه قال: ولا أُدخلك النار- فأبيتَ إلا الشِّرك.

فهذا المشرك قد خالف ما أراده الله تعالى منه: من توحيده، وأن لا يُشرك به شيئًا، فخالف ما أراده اللهُ منه فأشرك به غيره، وهذه هي الإرادة الشَّرعية الدينية كما تقدم.

فبين الإرادة الشَّرعية الدينية والإرادة الكونية القدرية عمومٌ وخصوصٌ مُطلق، يجتمعان في حقِّ المخلص المطيع، وتنفرد الإرادة الكونية القدرية في حقِّ العاصي. فافهم ذلك تنجُ من جهالات أرباب الكلام وتابعيهم.

الشيخ: ومَن أطاع الله فقد اجتمعت له الإرادتان: الكونية والشرعية، ومَن عصى فقد خالف الإرادة الشَّرعية، ولكنه لم يخرج عن الإرادة القدرية والمشيئة.

وقوله: وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ [النحل:36].

الطاغوت: مشتقٌّ من الطغيان، وهو مُجاوزة الحدِّ.

قال عمر بن الخطاب : "الطاغوت: الشيطان".

وقال جابرٌ : "الطاغوت: كُهَّان كانت تنزل عليهم الشياطين". رواهما ابنُ أبي حاتم.

وقال مالك: "الطاغوت: كل ما عُبِدَ من دون الله".

قلتُ: وذلك المذكور بعض أفراده، وقد حدَّه العلامةُ ابن القيم حدًّا جامعًا فقال: الطاغوت: كل ما تجاوز به العبدُ حدَّه: من معبودٍ، أو متبوعٍ، أو مُطاعٍ. فطاغوت كل قومٍ: مَن يتحاكمون إليه غير الله ورسوله، أو يعبدونه من دون الله، أو يتبعونه على غير بصيرةٍ من الله، أو يُطيعونه فيما لا يعلمون أنه طاعةٌ لله.

فهذه طواغيت العالم، إذا تأمَّلتها وتأمَّلتَ أحوال الناس معها رأيتَ أكثرهم أعرض عن عبادة الله تعالى إلى عبادة الطَّاغوت، وعن طاعة رسول الله ﷺ إلى طاعة الطاغوت ومُتابعته.

وأما معنى الآية: فأخبر تعالى أنه بعث في كلِّ طائفةٍ من الناس رسولًا بهذه الكلمة: أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ أي: اعبدوا الله وحده، واتركوا عبادة ما سواه، كما قال تعالى: فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا [البقرة:256]. وهذا معنى "لا إله إلا الله"، فإنها هي العُروة الوثقى.

قال العمادُ ابن كثير في هذه الآية: "كلهم -أي: الرسل- يدعو إلى عبادة الله، وينهى عن عبادة ما سواه، فلم يزل سبحانه يُرسل إلى الناس الرسل بذلك منذ حدث الشِّرك في بني آدم في قوم نوحٍ الذين أرسل إليهم، وكان أول رسولٍ بعثه الله تعالى إلى أهل الأرض، إلى أن ختمهم بمحمدٍ ﷺ، الذي طبقت دعوته الإنس والجنّ في المشارق والمغارب، وكلهم كما قال الله تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ [الأنبياء:25]، وقال تعالى في هذه الآية الكريمة: وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ، فكيف يسوغ لأحدٍ من المشركين بعد هذا أن يقول: لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ [النحل:35]؟! فمشيئة الله تعالى الشَّرعية عنهم منفيَّة؛ لأنه نهاهم عن ذلك على ألسن رسله، وأما مشيئته الكونية -وهي تمكينهم من ذلك قدرًا- فلا حُجَّة لهم فيها؛ لأنه تعالى خلق النار وأهلها من الشياطين والكفرة، وهو لا يرضى لعباده الكفر، وله في ذلك الحجَّة البالغة، والحكمة القاطعة، ثم إنه تعالى قد أخبر أنه أنكر عليهم بالعقوبة في الدنيا بعد إنذار الرسل؛ فلهذا قال: فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ [النحل:36]. انتهى.

قلتُ: وهذه الآية تفسير الآية التي قبلها، وذلك قوله: فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ، فتدبر.

ودلَّت هذه الآية على أنَّ الحكمة في إرسال الرسل: دعوتهم أممهم إلى عبادة الله وحده، والنَّهي عن عبادة ما سواه، وأنَّ هذا هو دين الأنبياء والمرسلين وإن اختلفت شريعتهم، كما قال تعالى: لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا [المائدة:48]، وأنه لا بدَّ في الإيمان من عمل القلب والجوارح.

الشيخ: وهذا دين الرسل كلهم بعثوا ليدعوا الأمة إلى توحيد الله، وإخلاص العبادة له، وطاعة أوامره، وترك نواهيه، والشَّرائع تنوعت، لكنَّهم كلهم جاءوا بالدَّعوة إلى توحيد الله، والإسلام لوجه الله، وترك الإشراك به، والوقوف عند حدوده التي حدَّها، فأبى الأكثرون إلا مُتابعة الهوى وطاعة الشيطان فهلكوا، نسأل الله العافية والسَّلامة.

قال: قوله تعالى: وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا [الإسراء:23].

قال مجاهد: "قضى" يعني: وصَّى. وكذا قرأ أُبي بن كعب وابن مسعودٍ وغيرهم.

ولابن جريرٍ عن ابن عباسٍ: "وَقَضَى رَبُّكَ يعني: أمر".

وقوله تعالى: أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ المعنى: أن تعبدوه وحده دون ما سواه، وهذا معنى "لا إله إلا الله".

قال ابنُ القيم رحمه الله تعالى: والنَّفي المحض ليس توحيدًا، وكذلك الإثبات بدون النَّفي، فلا يكون التوحيدُ إلا مُتضمنًا للنفي والإثبات، وهذا هو حقيقة التوحيد.

الشيخ: وهذا هو الحقّ: لا توحيد إلا بنفيٍ وإثباتٍ: "لا إله إلا الله"، أما "لا إله" ضلال وكفر، و"الله" ما يكفي، نقول: "الله" ما يكفي، لا بدَّ من إثباتٍ ونفيٍ، "لا إله إلا الله"، "الله واحدٌ لا شريك له"، فالنفي والإثبات لا بدَّ منهما: وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ [البقرة:163]، وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ [الإسراء:23]، إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة:5].

وقوله: (وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا [الإسراء:23]) أي: وقضى أن تُحسنوا بالوالدين إحسانًا، كما قضى بعبادته وحده لا شريكَ له، كما قال تعالى في الآية الأخرى: أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ [لقمان:14].

وقوله: إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا ۝ وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا [الإسراء:23- 24].

أي: لا تُسمعهما قولًا سيئًا، حتى ولا التَّأفيف الذي هو أدنى مراتب القول السيئ، وَلا تَنْهَرْهُمَا أي: لا يصدر منك إليهما فعل قبيح، كما قال عطاء ابن أبي رباح: "لا تنفض يديك عليهما".

ولما نهاه عن الفعل القبيح والقول القبيح أمره بالفعل الحسن والقول الحسن، فقال: وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا [الإسراء:23] أي: لينًا طيبًا، بأدبٍ وتوقيرٍ.

وقوله: وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ أي: تواضع لهما وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا أي: في كبرهما وعند وفاتهما كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا [الإسراء:24].

وقد ورد في برِّ الوالدين أحاديث كثيرة:

منها الحديث المروي من طرقٍ عن أنسٍ وغيره: أنَّ رسول الله ﷺ لما صعد المنبر قال: آمين، آمين، آمين، فقالوا: يا رسول الله، على ما أمَّنْتَ؟ قال: أتاني جبريل فقال: يا محمد، رغم أنف امرئٍ ذُكرتَ عنده فلم يُصلِّ عليك، قل: آمين، فقلتُ: آمين. ثم قال: رغم أنف امرئٍ دخل عليه شهرُ رمضان ثم خرج ولم يُغفر له، قل: آمين، فقلتُ: آمين. ثم قال: رغم أنف امرئٍ أدرك أبويه أو أحدهما فلم يُدخلاه الجنة، قل: آمين، فقلتُ: آمين.

وروى الإمامُ أحمد من حديث أبي هريرة ، عن النبي ﷺ: رغم أنف، ثم رغم أنف، ثم رغم أنف رجلٍ أدرك والديه، أحدهما أو كلاهما، لم يدخل الجنة.

قال العماد ابن كثير: صحيح من هذا الوجه عن أبي بكرة قال: قال رسولُ الله ﷺ: ألا أُنبئكم بأكبر الكبائر؟ قلنا: بلى يا رسول الله، قال: الإشراك بالله، وعقوق الوالدين، وكان مُتَّكِئًا فجلس فقال: ألا وقول الزور، ألا وشهادة الزور، فما زال يُكررها حتى قلنا: ليته سكت. رواه البخاري ومسلم.

وعن عبدالله بن عمرو رضي الله عنهما قال: قال رسولُ الله ﷺ: رضى الرب في رضى الوالدين، وسخطه في سخط الوالدين رواه الترمذي، وصححه ابن حبان والحاكم.

عن أبي أسيد السَّاعدي قال: بينا نحن جلوسٌ عند النبي ﷺ إذ جاءه رجلٌ من بني سلمة فقال: يا رسول الله، هل بقي من برِّ أبويَّ شيء أبرّهما به بعد موتهما؟ فقال: نعم، الصلاة عليهما، والاستغفار لهما، وإنفاذ عهدهما من بعدهما، وصلة الرحم التي لا تُوصل إلا بهما، وإكرام صديقهما رواه أبو داود وابن ماجه.

والأحاديث في هذا المعنى كثيرة جدًّا.

الشيخ: لا شكَّ أنَّ برَّهما من أهم الفرائض، برّ الوالدين من أهم الفرائض؛ ولهذا قرن اللهُ جلَّ وعلا حقَّهما بحقِّه في آيات عدّة؛ لعظم حقِّهما: ربَّياه، وتعبا عليه، وشغلا أنفسهما به الشُّغل العظيم مدةً طويلةً، فلا شكَّ أنَّ حقَّهما من أهم الفرائض، وعقوقهما من أقبح السَّيئات، ومن أقبح الكبائر، نسأل الله العافية.

ولهذا جاء في عدة آيات: وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا [الإسراء:23]، وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا [النساء:36]، قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا [الأنعام:151]، أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ [لقمان:14].

وفي الأحاديث الكثيرة الأمر بذلك، والتَّحذير من العقوق، فهذا يدل على أنَّ الواجب على الولد أن يعتني بالوالدين، ويُحسن إليهما قولًا وعملًا، ويحذر عقوقهما قولًا وعملًا، نسأل الله التوفيق والهداية.

س: عدم نصب قوله: أحدهما أو كلاهما لم ينصب "كلا": أو كليهما؟

ج: محتمل: أحدهما أو كلاهما على لغة مَن يجعل المثنى بالألف دائمًا، محتمل.

س: مَن أدرك والديه أحدهما أو كلاهما عند الكبر؟

ج: عام، نعم، لكن إذا كان في حال الكبر يكون أشدَّ، برّهما والرِّفق بهما أشدّ وأوجب؛ لضعفهما.

س: أسيد السَّاعدي؟

ج: عن أبي أسيد، نعم.

 

وقوله: وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا [النساء:36].

قال العماد ابن كثير رحمه الله في هذه الآية: يأمر الله تعالى عباده بعبادته وحده لا شريكَ له، فإنه الخالق، الرازق، المتفضل على خلقه في جميع الحالات، وهو المستحقّ منهم أن يُوحدوه ولا يُشركوا به شيئًا من مخلوقاته. انتهى.

وهذه الآية هي التي تُسمَّى: آية الحقوق العشرة، وفي بعض النُّسخ المعتمدة من نسخ هذا الكتاب: تقديم هذه الآية على آية الأنعام؛ ولهذا قدَّمتُها؛ لمناسبة كلام ابن مسعودٍ الآتي لآية الأنعام؛ ليكون ذكره بعدها أنسب.

وقوله تعالى: قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا الآيات [الأنعام:151].

قال العمادُ ابن كثير رحمه الله: يقول تعالى لنبيه ورسوله محمدٍ ﷺ: قُلْ لهؤلاء المشركين الذين عبدوا غير الله، وحرَّموا ما رزقهم الله، تَعَالَوْا أي: هلموا وأقبلوا أَتْلُ أقصّ عليكم مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ حقًّا، لا تخرُّصًا ولا ظنًّا، بل وحيًا منه، وأمرًا من عنده مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ، وكان في الكلام محذوف دلَّ عليه السياق، تقديره: وصَّاكم ألا تُشركوا به شيئًا؛ ولهذا قال في آخر الآية: ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ. اهـ.

قلت: فيكون المعنى: حرَّم عليكم ما وصَّاكم بتركه من الإشراك به.

وفي "المغني" لابن هشام في قوله تعالى: أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا سبعة أقوال: أحسنها هذا الذي ذكره ابن كثير، ويليه: بيَّن لكم ذلك لئلا تُشركوا، فحُذفت الجملةُ من أحدهما، وهي "وصَّاكم" وحرف الجرّ وما قبله من الأخرى؛ ولهذا إذا سُئلوا عمَّا يقول لهم رسولُ الله ﷺ قالوا: يقول: "اعبدوا الله ولا تُشركوا به شيئًا، واتركوا ما يقول آباؤكم"، كما قال أبو سفيان لهرقل، وهذا هو الذي فهمه أبو سفيان وغيره من قول رسول الله ﷺ لهم: قولوا: لا إله إلا الله تُفلحوا.

الشيخ: ومما في الآية أنَّ (لا) صلة أَلَّا تُشْرِكُوا، وأنَّ المعنى: أن تُشركوا، قل تعالوا أتل ما حرَّم ربكم عليكم: أن تُشركوا به شيئًا ، يعني: حرَّم عليكم الشِّرك، ومثلما في قوله: لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ [الحديد:29]، (لا) تأتي صلة في الكلام، والمعنى: حرَّم عليكم سبحانه أن تُشركوا به شيئًا من الأصنام والأوثان وغير ذلك، وهذا أمرٌ معلومٌ مقطوعٌ به عند الجميع، المراد: حرَّم عليكم الشِّرك الذي هو أعظم الذنوب، وأقبح السيئات، نسأل الله العافية.

وقوله تعالى: وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا [الأنعام:151].

قال القرطبي: الإحسان إلى الوالدين: برّهما، وحفظهما، وصيانتهما، وامتثال أمرهما، وإزالة الرِّق عنهما، وترك السَّلطنة عليهما، و"إحسانًا" نُصب على المصدرية، وناصبه فعل من لفظه، تقديره: وأحسنوا بالوالدين إحسانًا.

وقوله: وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ [الأنعام:151].

الإملاق: الفقر، أي: لا تئدوا بناتكم خشية العيلة والفقر، فإني رازقكم وإياهم، وكان منهم مَن يفعل ذلك بالذكور خشية الفقر. ذكره القرطبي.

وفي "الصحيحين" عن ابن مسعودٍ : قلتُ: يا رسول الله، أي الذنب أعظم عند الله؟ قال: أن تجعل لله ندًّا وهو خلقك، قلتُ: ثم أي؟ قال: أن تقتل ولدك خشية أن يطعم معك، قلت: ثم أي؟ قال: أن تُزاني بحليلة جارك، ثم تلا رسولُ الله ﷺ: وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا ۝ يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا ۝ إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا [الفرقان:68- 70].

وقوله: وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ [الأنعام:151].

قال ابنُ عطية: نهي عام عن جميع أنواع الفواحش، وهي المعاصي، و"ظهر" و"بطن" حالتان تستوفيان أقسام ما جُعلتا له من الأشياء. انتهى.

وقوله: وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ [الأنعام:151].

في "الصحيحين" عن ابن مسعودٍ مرفوعًا: لا يحل دم امرئٍ مسلمٍ يشهد أن لا إله إلا الله، وأنَّ محمدًا رسول الله إلا بإحدى ثلاثٍ: الثَّيب الزاني، والنفس بالنفس، والتَّارك لدينه، المفارق للجماعة.

وقوله: ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ [الأنعام:151].

قال ابنُ عطية: "ذلكم" إشارة إلى هذه المحرَّمات، والوصية الأمر المؤكد المقرر.

وقوله: لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ "لعل" للتعليل، أي: إنَّ الله تعالى وصَّانا بهذه الوصايا لنعقلها عنه ونعمل بها.

وفي تفسير الطبري الحنفي: ذكر أولًا "تعقلون"، ثم "تذكرون"، ثم "تتقون"؛ لأنهم إذا عقلوا تذكَّروا فخافوا واتَّقوا.

وقوله: وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ [الأنعام:152].

قال ابنُ عطية: هذا نهي عام عن القُرب الذي يعمّ وجوه التَّصرف، وفيه سدّ الذَّريعة، ثم استثنى ما يحسن وهو السَّعي في نمائه.

قال مجاهد: التي هي أحسن: التِّجارة فيه.

وقوله: حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ قال مالكٌ وغيره: هو الرُّشد وزوال السَّفه مع البلوغ. رُوي نحو هذا عن زيد بن أسلم والشَّعبي وربيعة وغيرهم.

وقوله: وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ [الأنعام:152].

قال ابنُ كثير: يأمر تعالى بإقامة العدل في الأخذ والإعطاء.

لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا [الأنعام:152] أي: من اجتهادٍ بأداء الحقِّ وأخذه، فإن أخطأ بعد استفراغ الوسع وبذل جهده فلا حرجَ عليه.

وقوله: وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى [الأنعام:152] هذا أمرٌ بالعدل في القول والفعل على القريب والبعيد.

قال الحنفي: العدل في القول في حقِّ الولي والعدو لا يتغير في الرِّضى والغضب، بل يكون على الحقِّ وإن كان ذا قربى، فلا يميل إلى الحبيب والقريب: وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى [المائدة:8].

وقوله: وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا [الأنعام:152].

قال ابنُ جرير: وبوصية الله تعالى التي وصَّاكم بها فأوفوا، وإيفاء ذلك بأن يُطيعوه بما أمرهم به ونهاهم عنه، وأن يعملوا بكتابه وسنة رسوله ﷺ.

الشيخ: هذا عموم بعد تخصيصٍ: وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ يعني: بجميع ما شرع لكم وأمركم به، لما ذكر الأمور السَّابقة مُفصلةً عمم قال: وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ يعني: بكل ما عهد إليكم وما أمركم به على يد الرسول ﷺ في الكتاب والسنة، فإنه يجب الوفاء به، وعدم التَّفريط فيه.

وذلك هو الوفاء بعهد الله. وكذا قال غيره.

وقوله: ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ [الأنعام:152] تتعظون وتنتهون عمَّا كنتم فيه.

وقوله: وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ [الأنعام:153].

قال القرطبي: هذه آيةٌ عظيمةٌ عطفها على ما تقدم، فإنه نهى وأمر وحذَّر عن اتِّباع غير سبيله على ما بيَّنته الأحاديث الصَّحيحة وأقاويل السَّلف.

و"أن" في موضع نصبٍ، أي: أتلو أنَّ هذا صراطي، عن الفراء والكسائي. ويجوز أن يكون خفضًا، أي: وصَّاكم به، وبأنَّ هذا صراطي. قال: والصِّراط: الطريق الذي هو دين الإسلام.

"مُستقيمًا" نصب على الحال، ومعناه: مستويًا، قيِّمًا، لا اعوجاجَ فيه.

الشيخ: وهذا هو دينه، صراط الله المستقيم: دينه، دين الإسلام الذي فيه الهدى والنور.

فأمر باتِّباع طريقه الذي طرقه على لسان محمدٍ ﷺ وشرعه، ونهايته الجنَّة، وتشعبت منه طرقٌ، فمَن سلك الجادة نجا، ومَن خرج إلى تلك الطرق أفضت به إلى النار، قال الله تعالى: وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ [الأنعام:153] أي: تميل. انتهى.

وروى الإمامُ أحمد والنَّسائي والدَّارمي وابنُ أبي حاتم والحاكم وصححه: عن ابن مسعودٍ قال: خطَّ رسولُ الله ﷺ خطًّا بيده، ثم قال: هذا سبيل الله مُستقيمًا، ثم خطَّ خطوطًا عن يمين ذلك الخطِّ، وعن شماله، ثم قال: وهذه سُبلٌ، ليس منها سبيلٌ إلا وعليه شيطان يدعو إليه، ثم قرأ: وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ الآية.

وعن مجاهدٍ: وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ قال: البدع والشَّهوات.

قال ابنُ القيم رحمه الله: ولنذكر في الصِّراط المستقيم قولًا وجيزًا، فإنَّ الناس قد تنوعت عباراتهم عنه بحسب صفاته ومُتعلقاته، وحقيقته شيء واحد، وهو طريق الله الذي نصبه لعباده مُوصلًا لهم إليه، ولا طريقَ إليه سواه، بل الطرق كلها مسدودة على الخلق إلا طريقه الذي نصبه على ألسن رسله، وجعله موصلًا لعبادة الله، وهو إفراده بالعبادة، وإفراد رسله بالطاعة، فلا يُشرك به أحدًا في عبادته، ولا يُشرك برسوله ﷺ أحدًا في طاعته، فيجرد التوحيد، ويُجرد متابعة الرسول ﷺ.

الشيخ: وهذا هو دين الله: توحيد الله واتِّباع رسوله: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ [آل عمران:31]، وصراط الله ودينه الذي هو الإسلام هو توحيد الله وعبادته وحده، واتِّباع رسوله ﷺ قولًا وعملًا وعقيدةً، هذا هو الصِّراط المستقيم، وهو دين الله، وهو الإسلام والهدى والتُّقى والبرّ.

وهذا كله مضمون شهادة "أن لا إله إلا الله، وأنَّ محمدًا رسول الله"، فأي شيءٍ فسّر به الصراط المستقيم فهو داخلٌ في هذين الأصلين، ونكتة ذلك أن تُحبه بقلبك، وتُرضيه بجهدك كله، فلا يكون في قلبه موضعٌ إلا معمورًا بحبِّه، ولا يكون لك إرادةٌ إلا مُتعلقة بمرضاته.

فالأول يحصل بتحقيق شهادة "أن لا إله إلا الله"، والثاني يحصل بتحقيق شهادة "أنَّ محمدًا رسول الله".

وهذا هو الهدى ودين الحقّ، وهو معرفة الحقّ والعمل به، وهو معرفة ما بعث اللهُ به رسوله، والقيام به، وقل ما شئتَ من العبارات التي هذا آخيتها وقطب رحاها.

قال: وقال سهل بن عبدالله: "عليكم بالأثر والسنة، فإني أخاف أنه سيأتي عن قليل زمانٌ إذا ذكر إنسانٌ النبيَّ ﷺ والاقتداء به في جميع أحواله ذمُّوه، ونفروا عنه، وتبرؤوا منه، وأذلُّوه، وأهانوه". اهـ.