وَلِهَذَا لما كَانَ النَّاسُ فِي زمن أبي بكر وَعمر -اللَّذين أُمِر الْمُسلمُونَ بالاقتداء بهما، كَمَا قَالَ ﷺ: اقتدوا باللَّذين من بعدِي: أبي بكر وَعمر- أقرب عهدًا بالرِّسالة، وَأعظم إيمانًا وصلاحًا، وأئمّتهم أقوم بِالْوَاجِبِ، وأثبت فِي الطُّمَأْنِينَة لم تقع فتْنَةٌ؛ إذ كَانُوا فِي حكم الْقِسم الوسط.
وَلما كَانَ فِي آخر خلَافَة عُثْمَان وفِي خلَافَة عليٍّ رَضِي الله عَنْهُمَا كثر الْقسم الثَّالِث، فَصَارَ فيهم شَهْوَة وشُبهة، مَعَ الإيمان وَالدّين، وَصَارَ ذَلِك فِي بعض الْوُلَاة وَبَعض الرَّعايا، ثمَّ كثر ذَلِك بعد، فَنَشَأَتِ الْفِتْنَة الَّتِي سَببهَا مَا تقدم من عدم تمحيص التَّقْوَى وَالطَّاعَة فِي الطَّرفَيْنِ، واختلاطهما بِنَوْعٍ من الْهوى والعصبية فِي الطرفين، وكلٌّ مِنْهُمَا مُتأول أَنه يَأْمُر بِالْمَعْرُوفِ وَينْهى عَن الْمُنكر، وأنَّ مَعَه الْحقَّ وَالْعَدْل، وَمَعَ هَذَا التَّأْوِيل نوعٌ من الْهَوى، فَفِيهِ نوعٌ من الظَّن وَمَا تهوى الأنفس، وإن كَانَت إحدى الطَّائِفَتَيْنِ أولى بِالْحَقِّ من الأخرى؛ فَلِهَذَا يجب على الْمُؤمن أن يَسْتَعِين بِاللَّه ويتوكل عَلَيْهِ فِي أن يُقيم قلبه وَلَا يُزيغه، ويُثبته على الْهُدى وَالتَّقوى، وَلَا يتبع الْهَوى.
الشيخ: وهذا هو الحقّ، فإنه لما كان زمنُ الصديق وزمنُ عمر وزمنُ الصحابة، وأقرب شيءٍ إلى عهد النبي ﷺ، وتكاثر فيه الأخيار من الصحابة، قلَّت فيه الفتن، وقلَّت فيه الشرور، وصار عهدًا صالحًا عظيمًا، عهد جهاد وتقوى، وهكذا في أول خلافة عثمان، فلما كثر الناسُ الآخرون من غير الصحابة، ودخلوا في الناس، وصار لأحدهم شهوة، أو لأحدهم شبهة، أو تأويل؛ وقعت الفتنة والشُّرور في آخر خلافة عثمان، وهكذا في خلافة عليٍّ، وعظمت الفتنة، وجرى القتالُ عن تأويلٍ واجتهادٍ عن نوع شهوةٍ وشبهةٍ من بعضهم، حتى جرى ما جرى من مقتلةٍ عظيمةٍ يوم صفين ويوم الجمل، وجرى ما جرى من الفتن العظيمة، كلها بأسباب قلَّة العلم، وضعف العلم، وتغير الأحوال بسبب دخول مَن دخل في ذلك من العجم وغيرهم من العرب الذين لهم بعض الهوى، أو بعض الشهوة، وليس من الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم، ووقع ما وقع من هذه الشرور التي فيها عبر.
وإن كانت إحدى الطائفتين أولى بالحقِّ، وهي طائفة عليٍّ وأصحابه، ولكن وقع في الطائفتين من الشرور والفتن والشبهات والهوى والتأويل ما أوجب حدوث ما حدث من الحرب والقتال؛ ولهذا في "الصحيحين" يقول ﷺ: تمرق مارقةٌ على حين فرقةٍ من المسلمين، تقتلهم أولى الطائفتين بالحقِّ، فأشار بالفرقة، وأنهم مسلمون.
الفرقة وقعت في المسلمين، لا من غيرهم: طائفة علي، وطائفة معاوية، حكم لهم بالإسلام، ولكن بيَّن أنَّ هذه المارقة تقتلهم أولى الطائفتين بالحقِّ، فقتلهم عليٌّ وأصحابه، فعلموا أنهم أولى الطائفتين بالحقِّ، وإن كان كل طائفةٍ تدعو إلى الحقِّ، وتريد الحق، وتجتهد في طلبه، لكن كانت الطائفةُ التي فيها عليّ أولى وأقرب إلى ذلك، رضي الله عن الجميع، وعفا عنا وعنهم وعن كل مسلمٍ.
وفي الطائفتين وأمثالهما نزل قوله تعالى: وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي [الحجرات:9]، فالطَّائفتان أولى الطوائف في دخولها في هذه الآية، الطائفتان: الشامية والعراقية هما أولى الطوائف بالدخول في هذه الآية، أشار لهم بالإيمان، وأمر بقتال الباغية.
فَلِهَذَا يجب على الْمُؤمن أن يَسْتَعِين بِاللَّه ويتوكل عَلَيْهِ فِي أن يُقيم قلبه، وَلَا يزيغه، ويُثبته على الْهُدى وَالتَّقوى، وَلَا يتبع الْهوى، كَمَا قَالَ تَعَالى: فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ [الشورى:15]، وَهَذَا أيضًا حَال الأمة فِيمَا تَفَرَّقت فِيهِ وَاخْتَلفت فِي المقالات والعبادات.
وَهَذِه الأمور مِمَّا تعظم بهَا المحنة على الْمُؤمنِينَ، فَإِنَّهُم يَحْتَاجُونَ إلى شَيْئَيْنِ: إلى دفع الْفِتْنَة الَّتِي ابتُلِي بهَا نُظراؤهم من فتْنَة الدِّين وَالدُّنْيَا عَن نُفُوسهم، مَعَ قيام الْمُقْتَضى لَهَا، فَإِنَّ مَعَهم نفوسًا وشياطين كَمَا مَعَ غَيرهم.
فَمَعَ وجود ذَلِك من نُظرائهم يقوى الْمُقْتَضى عِنْدَهم، كَمَا هُوَ الْوَاقِع، فيقوى الدَّاعِي الَّذِي فِي نفس الإنسان وشيطانه، ودواعي الْخَيْر كَذَلِك، وَمَا يحصل من الدَّاعِي بِفعل الْغَيْر والنَّظير.
فكم من النَّاس لم يُرد خيرًا وَلَا شرًّا حَتَّى رأى غَيره، لَا سِيمَا إن كَانَ نَظِيره يَفْعَله، فَفعله، فَإِنَّ النَّاس كأسراب القطا، مجبولون على تشبه بَعضهم بِبَعْضٍ.
وَلِهَذَا كَانَ الْمُبْتَدِئ بِالْخَيرِ وبالشَّر لَهُ مثل مَن تبعه من الأجر والوزر، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: مَن سنَّ سُنَّةً حَسَنَةً فَلهُ أجرها وأجر مَن عمل بهَا إلى يَوْم الْقِيَامَة، من غير أن ينقص من أجورهم شَيْئًا، وَمن سنَّ سُنَّةً سَيِّئَةً فَعَلَيهِ وزرها ووزر مَن عمل بهَا إلى يَوْم الْقِيَامَة، من غير أن ينقص من أوزارهم شَيْئًا؛ وَذَلِكَ لاشتراكهم فِي الْحَقِيقَة، وأنَّ حكم الشَّيْء حكم نَظِيره، وشبيه الشَّيْء مُنجذب إليه.
فَإِذا كَانَ هَذَانِ داعيين قويين، فَكيف إذا انْضَمَّ إليهما داعيان آخران؟ وَذَلِكَ أنَّ كثيرًا من أهل الْمُنكر يُحبونَ مَن يُوافقهم على مَا هم فِيهِ، ويبغضون مَن لَا يُوافقهم، وَهَذَا ظَاهرٌ فِي الدِّيانَات الْفَاسِدَة من مُوالَاة كل قومٍ لموافقيهم، ومُعاداتهم لمخالفيهم.
وَكَذَلِكَ فِي أمور الدُّنْيَا والشَّهوات كثيرًا مَا يخْتَار أهلها، ويُؤثرون مَن يُشاركهم فِي أمورهم وشهواتهم: إما للمعاونة على ذَلِك، كَمَا فِي المتغلبين من أهل الرِّياسات، وقُطَّاع الطَّرِيق، وَنَحْو ذَلِك. وإما لتلذذهم بالموافقة، كَمَا فِي المجتمعين على شرب الْخَمر مثلًا، فَإِنَّهُم يحبونَ أن يشرب كلُّ مَن حضر عِنْدَهم. وإما لكراهتهم امتيازه عَنْهُم بِالْخَيرِ: إمَّا حسدًا لَهُ على ذَلِك، وَإمَّا لِئَلَّا يَعْلُو عَلَيْهِم بذلك ويُحمد دونهم، وَإِمَّا لِئَلَّا يكون لَهُ عَلَيْهِم حُجَّة، وَإِمَّا لخوفهم من مُعاقبته لَهُم بِنَفسِهِ، أو بِمَن يرفع ذَلِك إليهم؛ وَلِئَلَّا يَكُونُوا تَحت مِنَّته وحظره، وَنَحْو ذَلِك من الأسباب.
قَالَ الله تَعَالَى: وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ [البقرة:109]، وَقَالَ تَعَالَى فِي الْمُنَافِقين: وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً [النساء:89]، وَقَالَ عُثْمَان بن عَفَّان : ودَّت الزَّانِيَةُ لَو زنى النِّسَاءُ كُلهنَّ.
والمشاركة قد يختارونها فِي نفس الْفُجُور: كالاشتراك فِي شرب الْخَمر، وَالْكذب، والاعتقاد الْفَاسِد. وَقد يختارونها فِي النَّوْع الثَّانِي: كالزاني الَّذِي يود أنَّ غَيره يَزْنِي، أو السَّارِق الَّذِي يود أنَّ غَيره يسرق، لَكِن فِي غير الْعَين الَّتِي زنى بهَا أو سَرَقهَا.
وَأما الدَّاعِي الثَّانِي: فقد يأمرون الشَّخْصَ بمُشاركتهم فِيمَا هم عَلَيْهِ من الْمُنكر، فَإِن شاركهم وإلا عادوه وآذوه على وَجهٍ قد يَنْتَهِي إلى حدِّ الإكراه، أو لَا يَنْتَهِي إلى حدِّ الإكراه.
الشيخ: كل هذا يُوجب للعاقل الحذر؛ فإنَّ الفتن والشرور متى ظهرت، فالمؤمن يحتاج إلى هذا الأمر، يحتاج الدفاع عن نفسه، والأخذ بالأسباب التي تمنعه من الوقوع فيما وقع فيه الناس: في التَّحفظ، والتعلم، والتفقه، والبُعد عن مُشاركتهم، وعن مُصاحبتهم. ويحتاج أيضًا إلى مزيدٍ من العلم والبصيرة والهدى؛ حتى لا يقع فيما وقع فيه الناس.
وهو يجب أن يحذر شرَّهم، وأن لا يجرُّوه إلى باطلهم، ويجب أن يكون على بصيرةٍ؛ حتى لا يقع في الباطل عن جهلٍ وضلالٍ.
والمبطلون تارةً يجبرون غيرهم على مشاركتهم في الباطل، وتارةً يُحبذون ذلك ويدعون إليه على حسب قُدرتهم؛ حتى لا يُنكر عليهم، أو يُرفع بأمرهم، أو يمتاز عليهم، أو إلى غير ذلك، كما ذكر المؤلف.
وهذه أمور واقعة ومعروفة، كل مَن عرف أمورَ الناس وسبرهم يعرف حالهم، وأنَّ الغالب على المجرمين يودّون أن غيرهم يكون مثلهم؛ حتى لا يُنكر عليهم، ولا يرفع عنهم، كما أنَّ الصُّلحاء والأخيار يودّون الناس اهتدوا ودخلوا في دين الله، وصاروا مثلهم في الصَّلاح.
ثمَّ إنَّ هَؤُلَاءِ الَّذين يختارون مُشَاركَة الْغَيْر لَهُم فِي قَبِيح فعلهم، أو يأمرونه بذلك، ويستعينون بِهِ على مَا يُريدونه، مَتى شاركهم وعاونهم وأطاعهم انتقصوه، واستخفُّوا بِهِ، وَجعلُوا ذَلِك حُجَّةً عَلَيْهِ فِي أمورٍ أخرى، وإن لم يُشاركهم عادوه وآذوه، وَهَذِه حَال غَالب الظَّالِمين القادرين.
وَهَذَا الْمَوْجُود فِي الْمُنكر مَوْجُودٌ نَظِيره فِي الْمَعْرُوف، وأبلغ مِنْهُ، كَمَا قَالَ الله تَعَالى: وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ [البقرة:165]، فَإِنَّ دَاعِي الْخَيْر أقوى، فَإِنَّ الإنسان فِيهِ دَاعٍ يَدعُوهُ إلى الإيمان وَالْعِلم والصِّدْق وَالْعَدْل وأداء الأمانة، فإذا وجد مَن يَعْمل مثل ذَلِك صَار لَهُ دَاعٍ آخر، لَا سِيمَا إذا كَانَ نَظِيره، لَا سِيمَا مَعَ المنافسة، وَهَذَا مَحْمُودٌ حسنٌ، فَإِن وجد مَن يُحب مُوَافَقَته على ذَلِك، ومُشاركته لَهُ من الْمُؤمنِينَ وَالصَّالِحِينَ، وَمَن يبغضه إذا لم يفعل ذَلِك؛ صَار لَهُ دَاعٍ ثَالِث، فَإِذا أمروه بذلك، ووالوه على ذَلِك، وعادوه، وعاقبوه على تَركه؛ صَار لَهُ دَاعٍ رَابِع.
وَلِهَذَا يُؤمَر الْمُؤْمِنُونَ أن يُقابلوا السَّيِّئَات بضدِّها من الْحَسَنَات، كَمَا يُقَابل الطَّبِيبُ الْمَرَضَ بضدِّه، فَيُؤْمَر الْمُؤمن بِأَن يُصلح نَفسه، وَذَلِكَ بشيئين: بِفعل الْحَسَنَات، وبترك السَّيِّئَات. وَهَذِه أربعة أنواع.
وَيُؤمر أيضًا بإصلاح غَيره بِهَذِهِ الأنواع الأربعة، بِحَسب قُدرته وإمكانه، قَالَ تَعالى: وَالْعَصْرِ إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ [العصر].
ورُوِي عَن الشَّافِعِي أنه قَالَ: "لَو فكَّر النَّاسُ كلهم فِي سُورَة الْعَصْر لكفتهم"، وَهُوَ كَمَا قَالَ؛ فَإِنَّ الله تَعَالى أخبر فِيهَا أنَّ جَمِيع النَّاس خاسرون، إلا مَن كَانَ فِي نَفسه مُؤمنًا صَالحًا، وَمَعَ غَيره مُوصيًا بِالْحَقِّ، مُوصيًا بِالصَّبرِ.
الشيخ: وهذا يدل على أنَّ السَّعادة في الأمور الأربعة، وهي: إيمانه بالله، وعمله الصالح، ونصحه لعباد الله بالتَّواصي بالحقِّ والصبر عليه، وهو عاملٌ بالخير، داعٍ إليه، صابرٌ على الأذى في ذلك، والتواصي بالحقِّ، والتواصي بالصبر.
فهذه صفات خيرة عباد الله: أنهم جمعوا بين الأصول الأربعة، الصِّفات الأربع، وهي أصول السَّعادة، وأصول صلاح المجتمع: إيمان بالله ورسوله يتضمن الإخلاص لله: توحيده، والقيام بحقِّه بالعمل الصالح، ويتضمن الدَّعوة إلى الله، والتواصي بالحقِّ، والتواصي بالصبر؛ ولهذا يصلح العباد وتصلح المجتمعات إذا صلح أفرادها واستقاموا على دين الله، وتواصوا بالحقِّ والصبر عليه؛ ولهذا يدخلهم غيرهم في الخير لأسبابهم، ويقل الشَّر بأسبابهم، ويحصل التَّعاون والتَّناصح، وبهذا تختفي الرذائل، وتنتشر الفضائل، ويقوم قائمُ الحقِّ، ويختفي داعي الباطل.
الشيخ: وهذا مما يُسلي المؤمن وطالب العلم بما قد يُصيبه من الأذى، إذا كان الأنبياءُ -وهم أفضل الخلق، وهم السَّادة، وهم الأئمة- أشدّ الناس بلاءً، فكيف يستنكر المقتدي بهم والتَّابع لهم أن يُصيبه ما أصابهم، أو بعض ما أصابهم؟! فمنهم مَن قُتِلَ: وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ [آل عمران:21]، ومنهم مَن أُوذي الأذى الكثير ولم يُقتل، كجمعٍ كثيرٍ منهم، ومنهم نبينا عليه الصلاة والسلام، قد أُوذي كثيرًا ولم يُقتل.
هذا كله يدل على أنَّ المؤمنين يجب أن يكونوا هكذا: مُتأسين بأنبياء الله، لا يجزعون، ولا تخور عزائمُهم عند الأذى، ولهم أسوة بالأنبياء والأخيار: أشد الناس بلاءً الأنبياء، ثم الصَّالحون، ثم الأمثل فالأمثل، كلٌّ يُبتلى على قدر دينه، وعلى قدر علمه وبصيرته، ومع ذلك تُرفع له الدَّرجات، وتُكفَّر عنه السَّيئات، وتُعظم له الأجور على حسب ما أعطاه الله من العلم والصبر والاحتساب والعمل الصَّالح والدَّعوة إلى ذلك.
وَحِينَئِذٍ فَيَحْتَاج من الصَّبْر إلى مَا لَا يحْتَاج إليه غَيره، وَذَلِكَ هُوَ سَبَب الإمامة فِي الدِّين، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ [السجدة:24].
فَلَا بُدَّ من الصَّبْر على فعل الْحَسن الْمَأْمُور، وَترك السَّيئ الْمَحْظُور، وَيدخل فِي ذَلِك الصَّبْر على الأذى، وعَلى مَا يُقَال، وَالصَّبْر على مَا يُصِيبهُ من المكاره، وَالصَّبْر عَن البطر عِنْد النِّعَم، وَغير ذَلِك من أنواع الصَّبْر.
وَلَا يُمكن العَبْد أن يصبر إن لم يكن لَهُ مَا يطمئن لَهُ، ويتنعم بِهِ، ويغتذى بِهِ، وَهُوَ الْيَقِين، كَمَا فِي الحَدِيث الَّذِي رَوَاهُ أبو بكر الصّديق ، عَن النَّبِي ﷺ أنه قَالَ: يَا أيها النَّاس، سلوا الله الْيَقِين والعافية، فإنه لم يُعْطَ أحدٌ بعد الْيَقِين خيرًا من الْعَافِيَة، فسلوهما الله.
وَكَذَلِكَ إذا أمر غَيره بِحسنٍ، أو أحبَّ مُوَافَقَته لَهُ على ذَلِك، أو نهى غَيره عَن شَيْءٍ، فَيَحْتَاج أن يُحسن إلى ذَلِك الْغَيْر إحسانًا يحصل بِهِ مَقْصُوده: من حُصُول المحبوب، واندفاع الْمَكْرُوه، فَإِنَّ النُّفُوس لَا تصبر على المرِّ إلا بِنَوْعٍ من الحلو، لَا يُمكن غير ذَلِك.
وَلِهَذَا أمر الله تَعَالَى بتأليف الْقُلُوب، حَتَّى جعل للمُؤلفة قُلُوبهم نَصِيبًا فِي الصَّدقَات، وَقَالَ تَعَالَى لنَبيه ﷺ: خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ [الأعراف:199].
الشيخ: وهذا واضحٌ أنَّ مَن أراد أن يُعان على الخير ويُقبل منه الحقّ فلا بدّ من الصبر، ولا بدَّ من بذل المعروف: ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ [المؤمنون:96]، فالصبر على المرِّ يحتاج إلى شيءٍ من الحلم يُعين على ذلك، فالدُّعاء إلى الله، وتوجيه الناس إلى الخير، وإرشادهم إلى الهدى من ولاة الأمور يحتاج مع ذلك إلى إعانتهم على أمور دنياهم، ومُواساة فقيرهم، والإحسان إليهم، وإزالة الشَّدائد عنهم؛ لكي يقبلوا الحقَّ، ويُقبلوا عليه.
وقد كان الرجلُ يُسلم لا يريد إلا الدنيا، فلا يزال الرسولُ عليه الصلاة والسلام يُعطيه حتى يكون الدِّينُ أحبَّ إليه من كل شيءٍ؛ ولهذا جعل اللهُ للمُؤلفة قلوبهم حقًّا من مال الزكاة، وحقًّا في بيت المال؛ حتى يقبلوا الحقَّ، وحتى يدعوا إليه، وحتى يُدافعوا عنه، وحتى يلزموا به مَن يتبعهم، ومَن يقبل قولهم.
الشيخ: كلام طيب رحمه الله.
وَلِهَذَا يقرن اللهُ تَعَالَى بَين الصَّلَاة وَالزَّكَاة تَارَةً، وَهِي الإحسان إلى الْخَلق، وَبَينهَا وَبَين الصَّبْر تَارَةً.
وَلَا بُدَّ من الثَّلَاثَة: الصَّلَاة، وَالزَّكَاة، وَالصَّبْر، لَا تقوم مصلحَةُ الْمُؤمنِينَ إلا بذلك فِي صَلَاح نُفُوسهم وإصلاح غَيرهم، لَا سِيَّمَا كلما قويت الْفِتْنَة والمحنة، فَإِنَّ الْحَاجة إلى ذَلِك تكون أشدّ، فالحاجة إلى السَّماحة وَالصَّبْر عَامَّة لجَمِيع بني آدم، لَا تقوم مصلحَة دينهم وَلَا دُنياهم إلا بهما؛ وَلِهَذَا فَإِنَّ جَمِيعهم يتمادحون بالشَّجاعة وَالْكَرم، حَتَّى أنَّ ذَلِك عَامَّة مَا يمدح بِهِ الشُّعَرَاء ممدوحيهم في شعرهم، وَكَذَلِكَ يتذامّون بالبخل والجبن.
والقضايا الَّتِي يتَّفق عَلَيْهَا عقلاءُ بني آدم لَا تكون إلا حَقًّا: كاتِّفاقهم على مدح الصِّدْق وَالْعَدْل، وذمّ الْكَذِب وَالظُّلم.
وَقد قَالَ النَّبِيُّ ﷺ لما سَأَلَهُ الأعرابُ حَتَّى اضطروه إلى سَمُرَة، فتعلَّقت بردائه، فَالْتَفت إليهم وَقَالَ: وَالَّذِي نَفسِي بِيَدِهِ، لَو أنَّ عِنْدِي عدد هَذِه الْعَضَاة نعمًا لقسمتُه عَلَيْكُم، ثمَّ لَا تجدوني بَخِيلًا، وَلَا جَبَانًا، وَلَا كذوبًا.
الشيخ: وفي هذا المعنى يقول جلَّ وعلا عن لقمان: يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ [لقمان:17].
إقام الصلاة، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر يحتاج إلى شجاعةٍ وصبرٍ وجهادٍ، الجبان ما يُسوي شيئًا، ولا يفعل شيئًا، وهو قليل الصبر، جزوع، ما يفعل شيئًا؛ لأنَّ الأمر بالمعروف، والنَّهي عن المنكر، والدَّعوة إلى الله، والجهاد في سبيل الله؛ كلها تحتاج إلى الصبر والقوة والشَّجاعة والثَّبات، ومن وسائل ذلك: إقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، فإنَّ إقام الصلاة، وإيتاء الزكاة إنما يصدُران عن إيمانٍ، وعن صدقٍ، وعن رغبةٍ بما عند الله، وهذا الإيمان وهذا الصدق يحمل أهله على الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والجهاد في سبيل الله، والشجاعة، والإقدام، والصبر على المصائب والمكاره.
وَلَكِن يتنوع ذَلِك بتنوع الْمَقَاصِد وَالصِّفَات، فَإِنَّمَا الأعمال بِالنِّيَّاتِ، وإنما لكل امْرِئٍ ما نوى؛ وَلِهَذَا جَاءَ الْكِتابُ وَالسُّنة بذمِّ الْبُخْل والجبن، ومدح الشَّجَاعَة والسَّماحة فِي سَبِيل الله، دون مَا لَيْسَ فِي سَبيله، فَقَالَ النَّبِي ﷺ: شَرّ مَا فِي الْمَرْء: شحٌّ هَالِع، وَجبن خَالع، وَقَالَ النَّبِي ﷺ: مَن سيدكم يَا بني سَلمَة؟ فَقَالُوا: الْجد بن قيس، على أنا نزنه بالبخل. فَقَالَ: وَأيّ دَاءٍ أدوى من الْبُخْل.
وَفِي رِوَايَةٍ: إنَّ السَّيِّد لَا يكون بَخِيلًا، بل سيدكم الأبيض الْجَعْد بشر بن الْبَراء بن مَعْرور.
وَكَذَلِكَ فِي الصَّحِيح قَول جَابر بن عبدالله لأبي بكر الصّديق رَضِي الله عَنْهُمَا: إما أن تُعْطِينِي، وإما أن تبخل عني. فَقَالَ: تَقول: وإمَّا أن تبخل عني! وأي دَاءٍ أدوى من الْبُخْل. فَجعل الْبُخْل من أعظم الأمراض.
وَفِي "صَحِيح مُسلم" عَن سلمَان بن ربيعَة قَالَ: قَالَ عمرُ : قسم النَّبِيُّ ﷺ قسمًا، فَقلتُ: يَا رَسُول الله، وَالله لغير هَؤُلَاءِ أحقّ بِهِ مِنْهُم. فَقَالَ: إنَّهم خيَّروني بَين أن يَسْأَلُونِي بالفحش، وَبَين أن يُبَخِّلوني، وَلستُ بباخلٍ، يَقُول: إنَّهم يَسْأَلُونِي مَسْأَلَةً لَا تصلح، فَإِن أعطيتُهم وإلا قَالُوا: هُوَ بخيلٌ، فقد خيَّروني بَين أمرين مكروهين، لَا يتركوني من أحدهما: الْمَسْأَلَة الْفَاحِشَة، والتَّبخيل أشدّ، فأدفع الأشد بإعطائهم.
وَالْبُخل: جنسٌ تَحْتَهُ أنواع: كَبَائِر، وَغير كَبَائِر.
الشيخ: وهذا يدل على أنه لا مانع أن يدفع المرءُ عن نفسه، لا سيما ولاة الأمور والمسؤولون أن يدفعوا بالحسنى والعطاء لإخراس الألسن عن الذمِّ والشَّر والفساد الذي قد يجرّ إلى فتنٍ، وكذلك لإخراس الألسن عن الرمي بالبخل والشح، فإنَّ هذا إذا ذُكر عن ولاة الأمور وعن العُلماء والأخيار صار ذمًّا قبيحًا، قد ينفر من قبول الحقِّ، ومن اتِّباعه، وينفر من السمع والطَّاعة؛ ولهذا يُشرع للمؤمن أن يدفع عن نفسه القالة والأذى، والرمي بالبخل، وسيئ الكلام والفحش، كما فعله النبيُّ ﷺ: يأبون إلا أن يُبَخِّلوني، ويأبى الله لي البخل، وهكذا سؤالهم الفُحش: كالدَّفع عن العِرض، والدفع عن السُّمعة بالعطاء والجود مما يُؤجر الله عليه .
وَالْبُخل جنس تَحْتَهُ أنواع: كَبَائِر، وَغير كَبَائِر، قَالَ الله تَعَالَى: وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ [آل عمران:180]، وَقَالَ: وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إلى قَوْله: إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ [النساء:36- 37].
وَقَالَ تَعَالَى: وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلَا يَأْتُونَ الصَّلَاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسَالَى وَلَا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ [التوبة:54].
وَقَالَ: فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ [التوبة:76- 77].
وَقَالَ: وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ [محمد:38].
وَقَالَ: فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ [الماعون:4- 7].
وَقَالَ: وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ [التوبة:34- 35].
وَكثيرٌ من الآي فِي الْقُرْآن من الأمر بالإيتاء والإعطاء، وذمّ مَن ترك ذَلِك كُله ذمّ للبخل.
وَكَذَلِكَ ذمّه للجبن كثيرٌ، فِي مثل قَوْله: وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ [الأنفال:16].
وَقَوله عَن الْمُنَافِقين: وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَمَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغَارَاتٍ أَوْ مُدَّخَلًا لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ [التوبة:56- 57].
وَقَوله: فَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ [محمد:20].
وَقَوله: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلَا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا [النساء:77].
وَمَا فِي الْقُرْآن من الحضِّ على الْجِهَاد، وَالتَّرْغِيب فِيهِ، وذمّ النَّاكلين عَنهُ، والتاركين لَهُ، كُله ذمٌّ للجبن.
وَلما كَانَ صَلَاحُ بني آدم لَا يتمّ فِي دينهم ودنياهم إلا بالشَّجاعة وَالْكَرم، بَيَّن الله سُبْحَانَهُ أنه مَن تولى عَنهُ بترك الْجِهَاد بِنَفسِهِ أبدل الله بِهِ مَن يقوم بذلك، وَمن تولى عَنهُ بإنفاق مَاله أبدل الله بِهِ مَن يقوم بذلك، فَقَالَ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [التوبة:38- 39].
وَقَالَ تَعَالَى: هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ [محمد:38].
وبالشَّجاعة وَالْكَرم فِي سَبِيل الله فضَّل الله السَّابِقين، فَقَالَ: لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى [الحديد:10].
وَقد ذكر الْجِهَاد بِالنَّفسِ وَالْمَال فِي سَبيله، ومدحه فِي غير آيَةٍ من كِتَابه، وَذَلِكَ هُوَ الشَّجَاعَة والسَّماحة فِي طَاعَته سُبْحَانَهُ، وَطَاعَة رَسُوله، وملاك الشَّجَاعَة الصَّبْر الَّذِي يتَضَمَّن قُوَّة الْقَلب وثباته؛ وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ [البقرة:249].
وَقَالَ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ [الأنفال:45- 46].
والشَّجاعة لَيست هِيَ قُوَّة الْبَدن، فقد يكون الرجلُ قويَّ الْبَدن، ضَعِيف الْقَلب، وإنما هِيَ قُوَّة الْقَلب وثباته.
الشيخ: صدق رحمه الله، قوة الإنسان بقلبه، لا بالبدن، فالذي عنده بدن أقوى من البعير، وأقوى من البغل، لكن عنده قلب ضعيف، عند أقل شيءٍ ينهزم، ولكن قوة القلب هي القوة، وهي الشَّجاعة، فيُصاول ويُناضل مع ضعف جسمه، لكن قوة القلب وقوة الإيمان؛ لأنَّ بعضَهم لما فرق بين الشَّجاعة والجبن قال: صبر ساعة. لو صبر هذا وجاهد وقاتل فهذا هو الفرق بينه وبين مَن تولى وأدبر.
الشيخ: الشَّجاعة تحتاج إلى بصيرةٍ، إلى ثباتٍ، يُقدم حيث كان الإقدامُ مناسبًا، ويقف إذا كان الوقفُ مناسبًا، والتَّهور أن يُقدم على غير بصيرةٍ حتى يقتل، أو يُسبب هزيمة على المسلمين، لا بدّ أن يثبط حتى يعرف هل الإقدام أنسب، أو الوقوف أنسب، أو التقاصر أنسب؟ يفعل ما هو أصلح للمسلمين.
وَلِهَذَا كَانَ الْقَوي الشَّديد هُوَ الَّذِي يملك نَفسَه عِنْد الْغَضَب، حَتَّى يفعل مَا يصلح، دون مَا لَا يصلح، فَأَمَّا المغلوب حِين غَضَبه فَلَيْسَ هُوَ بِشُجَاعٍ وَلَا شَدِيدٍ.
وَقد تقدم أنَّ جماع ذَلِك هُوَ الصَّبْر، فَإِنَّهُ لَا بُدَّ مِنْهُ، وَالصَّبْر صبران: صَبر عِنْد الْغَضَب، وصبر عِنْد الْمُصِيبَة. كَمَا قَالَ الْحسنُ رَحمَه الله: مَا تجرَّع عبدٌ جرعةً أعظم من جرعة حلمٍ عِنْد الْغَضَب، وجرعة صَبرٍ عِنْد الْمُصِيبَة.
وَذَلِكَ لِأَنَّ أصل ذَلِك هُوَ الصَّبْر على المؤلم، وَهَذَا هو الشَّجاع الشَّديد الَّذِي يصبر على المؤلم، والمؤلم إن كَانَ مِمَّا يُمكن دَفعه أثار الْغَضَب، وإن كَانَ مِمَّا لَا يُمكن دَفعه أثار الْحُزن؛ وَلِهَذَا يحمر الْوَجْه عِنْد الْغَضَب؛ لثوران الدَّم عِنْد استشعار الْقُدْرَة، ويصفر عِنْد الْحُزن؛ لغور الدَّم عِنْد استشعار الْعَجْز.
وَلِهَذَا جمع النَّبِي ﷺ فِي الحَدِيث الصَّحِيح الَّذِي رَوَاهُ مُسلم، عَن عبدالله بن مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَ النَّبِي ﷺ: مَا تَعدونَ الرّقوب فِيكُم؟ قَالُوا: الرقوب الَّذِي لَا يُولَد لَهُ. قَالَ: لَيْسَ ذَاك بالرقوب، وَلَكِن الرقوب الرجل الَّذِي لم يُقدم من وَلَده شَيْئًا، ثمَّ قَالَ: ما تعدون الصّرعة فِيكُم؟ قُلْنَا: الَّذِي لَا يصرعه الرِّجَال. فَقَالَ: لَيْسَ بذلك، وَلَكِن الصّرعة الَّذِي يملك نَفسَه عِنْد الْغَضَب، فَذكر مَا يتَضَمَّن الصَّبْر عِنْد الْمُصِيبَة، وَالصَّبْر عِنْد الْغَضَب.
قَالَ الله تَعَالَى فِي الْمُصِيبَة: وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ [البقرة:155- 156].
وَقَالَ تَعَالَى فِي الْغَضَب: وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ [فصلت:35].
وَهَذَا الْجَمع بَين صَبر الْمُصِيبَة وصبر الْغَضَب نَظِير الْجمع بَين صَبر الْمُصِيبَة وصبر النِّعْمَة، كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ [هود:9- 11]، وقال: لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ [الحديد:23].
الشيخ: وهكذا المؤمن: صبور عند البلاء، شكور عند الرَّخاء، وشكره عند الرخاء صبر على النعمة، واعترافٌ بها، لا يبطر، ولا يفعل ما حرَّم الله: عجبًا لأمر المؤمن، إنَّ أمره كله له خير، كما في حديث صهيب عند مسلم: إن أصابته ضرَّاء صبر فكان خيرًا له، وإن أصابته سرَّاء شكر فكان خيرًا له.
وَبِهَذَا وصف كَعْب بن زُهَيْر مَن وَصفه من الصَّحَابَة الْمُهَاجِرين، حَيْثُ قَالَ:
لَيْسُوا مفاريح إن نَالَتْ رماحهم | كثرا وَلَيْسوا مجازيعا إذا نيلوا |
وَكَذَلِكَ قَالَ حسانُ بن ثَابت فِي صفة الأنصار:
لَا فَخر إن هم أصابوا من عدوهم | وإن أُصيبوا فَلَا خور وَلَا هلع |
وَقَالَ بعضُ الْعَرَب فِي صفة النَّبِي ﷺ: يَغلب فَلَا يبطر، ويُغلب فَلَا يضجر.
وَلما كَانَ الشَّيْطَانُ يدعو الناس عِنْد هذَيْن النَّوْعَيْنِ إلى تعدِّي الْحُدُود بقلوبهم وأصواتهم وأيديهم، نهى النَّبِي ﷺ عَن ذَلِك.
الشيخ: الشَّيطان له نزغتان: عند النعمة البطر والفساد، وعند المصيبة الجزع. الإسلام جاء بهذا وبهذا: جاء بشكر الله عند النعم، والصبر على النعمة، وعدم تعدي الحدود. والصبر عند المصيبة وعدم الجزع، والله المستعان.
وَلما كَانَ الشَّيْطَانُ يدعو الناسَ عِنْد هذَيْن النَّوْعَيْنِ إلى تعدِّي الْحُدُود بقلوبهم وأصواتهم وأيديهم، نهى النَّبِي ﷺ عَن ذَلِك، فَقَالَ لما قيل لَهُ لما رأى إبراهيم فِي النَّزع: أَتَبْكِي؟! أَوَلم تنهَ عَن الْبُكاء؟ فَقَالَ: إنما نهيتُ عَن صَوْتَيْنِ أحمقين فاجرين: صَوت عِنْد نِعْمَةٍ لَهو، وَلعب، وَمَزَامِير الشَّيْطَان، وَصَوت عِنْد مُصِيبَةٍ لطم خدود، وشقّ جُيُوب، وَدُعَاء بِدَعْوَى الْجَاهِلِيَّة. فَجمع بَين الصَّوتين.
وَأما نَهْيه عَن ذَلِك فِي المصائب فَمثل قَوْله ﷺ: لَيْسَ منا مَن لطم الخدود، وشقَّ الْجُيُوب، ودعا بِدَعْوَى الْجَاهِلِيَّة، وَقَالَ: أنا برِيءٌ من الحالقة، والصَّالقة، والشَّاقة، وَقَالَ: مَا كَانَ من الْعَين وَالْقَلب فَمن الله، وَمَا كَانَ من الْيَد وَاللِّسَان فَمن الشَّيْطَان، وَقَالَ: إنَّ الله لَا يُؤَاخِذ على دمع الْعَين، ولا حزن القلب، ولكن يُعذِّب بهذا أو يرحم وأشار إلى لسانه.
وقال: مَن يُنح عليه فإنه يُعذَّب بما نِيح عليه، واشترط على النِّساء في البيعة ألا ينحن، وقال: إنَّ النَّائحة إذا لم تتب قبل موتها فإنها تلبس يوم الْقِيَامَة درعًا من جربٍ، وسربالًا من قطرانٍ.
وَقَالَ فِي الْغَلَبَة والمصائب والفرح: إنَّ الله كتب الإحسان على كل شَيْءٍ، فَإِذا قتلتُم فَأَحْسِنُوا القتلة، وإذا ذبحتم فَأَحْسِنُوا الذِّبْحَة، وليُحدّ أحدُكم شفرته، وليُرح ذَبِيحَته.
وَقَالَ: إنَّ أَعَفَّ النَّاس قتلةً أهل الإيمان، وَقَالَ: لَا تُمثلوا، وَلَا تغدروا، وَلَا تقتلُوا وليدًا.
إلى غير ذَلِك مِمَّا أمر بِهِ فِي الْجِهَاد من الْعَدْل وَترك الْعُدوان؛ اتِّبَاعًا لقَوْله تَعَالَى: وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى [المائدة:8]، وَلقَوْله تَعَالَى: وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ [البقرة:190].
الشيخ: يعني إذا كانوا أعداء وإذا كانوا ظلمةً فلا يُعتدى عليهم بما لا يليق؛ ولهذا نهى عن قتل الوليد، وعن التَّمثيل والغدر ونقض العهود، وإن كانوا أعداء، لكن على المؤمن أن يلتزم بحكم الله، ولا يغدر، وليُوفِ بالعهد، ولا يقتل وليدًا؛ لأنه ليس أهلًا لذلك، ليس من المكلَّفين، وهكذا التَّمثيل؛ لكونه لا يليق، فهو عبث لا وجهَ له، لا يتعمد قطع الأنف والأذن والأيدي والأرجل، بل يُحسن القتلة حيث أمكن، حيث أمكن القتل يقتل.
س: إن أَعَفَّ النَّاس قتلةً أهل الإيمان؟
ج: أحسنهم، ليس فيها عدوان، وليس فيها ظلم، العفيف هو المتباعد عمَّا حرم الله: وإذا قتلتُم فأحسنوا القتلة، بعض الناس إذا قدر عذب، يُعذب المقتول: يقطع أنفه، يقطع أصابعه، يقطع يديه، وهو حي؛ حتى يُؤذيه، نسأل الله السَّلامة.
وَلقَوْله تَعَالَى: وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ [البقرة:190].
وَنهى عَن لِبَاس الْحَرِير، وتختم الذَّهَب، وَالشُّرب فِي آنِية الذَّهَب وَالْفِضَّة، وإطالة الثِّيَاب، إلى غير ذَلِك من أنواع السَّرف وَالْخُيَلَاء فِي النِّعَم، وذمَّ الَّذين يَسْتَحلُّونَ الْخمرَ وَالْحَرِير وَالْمَعَازِف، وَجعل فيهم الْخَسْفَ وَالْمَسْخ، وَقد قَالَ الله تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا [النساء:36]، وَقَالَ عَن قَارون: إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ [القصص:76].
وَهَذِه الأمور الثَّلَاثَة مَعَ الصَّبْر عَن الاعتداء فِي الشَّهْوَة هِيَ جَوَامِع هَذَا الْبَاب، وَذَلِكَ أنَّ الإنسان بَين مَا يُحِبّهُ ويشتهيه، وَبَين مَا يُبغضه ويكرهه، فَهُوَ يَطْلب الأول بمحبَّته وشهوته، وَيَدْفَع الثَّانِي ببغضه ونفرته، وإذا حصل الأول أو انْدَفع الثَّانِي أوجب لَهُ فَرحًا وسرورًا، وإن حصل الثَّانِي أو انْدفع الأول حصل لَهُ حزنٌ، فَهُوَ مُحْتَاجٌ عِنْد الْمحبَّة والشَّهوة أن يصبر عَن عدوانهما، وَعند الْغَضَب والنّفرة أن يصبر على عدوانهما، وَعند الْفَرح أن يصبر عَن عدوانه، وَعند الْمُصِيبَة أن يصبر عَن الْجزع مِنْهَا.
فالنبي ﷺ ذكر الصَّوتين الأحمقين الفاجرين: الصَّوْت الَّذِي يُوجِب الاعتداء فِي الْفَرح، حَتَّى يصير الإنسانُ فَرحًا فخورًا، وَالصَّوْت الَّذِي يُوجِب الْجَزع عِنْد الْحُزن، حَتَّى يصير الإنسان هلوعًا جزوعًا.
وأما الصَّوْت الَّذِي يثير الْغَضَبَ لله: كالأصوات الَّتِي تُقال فِي الْجِهَاد من الأشعار المنشدة، فَتلك لم تكن بآلات، وَكَذَلِكَ أصوات الشُّهْرَة فِي الْفَرح، فَرخص مِنْهَا فِيمَا وَردت بِهِ السُّنة من الضَّرْب بالدُّف فِي الأعراس والأفراح للنِّسَاء وَالصِّبيان.
وَعَامَّة الأشعار الَّتِي تُنشد بالأصوات لتحريك النُّفُوس هِيَ من هَذِه الأقسام الأربعة: أشعار الْمحبَّة -وَهِي النسيب- وأشعار الْغَضَب وَالْحمية -وَهِي الحماسة والهجاء- وأشعار المصائب كالمراثي، وأشعار النِّعَم والفرح، وَهِي المدائح.
وَالشُّعرَاء جرت عَادَتهم أن يمشوا مَعَ الطَّبْع، كَمَا قَالَ الله تَعَالَى: أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ [الشعراء:225- 226]؛ وَلِهَذَا أخبر أنَّهم يتَّبعهُم الْغَاوُونَ، والغاوي هُوَ الَّذِي يتبع هَوَاهُ بِغَيْر علمٍ.
الشيخ: الغاوي هو الذي يتبع هواه مع العلم: مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى [النجم:2]، وهذا هو الغي، الغي: اتباع الهوى وهو يعلم، كاليهود -نعوذ بالله- الغاوي هو الذي يتبع الهوى، كاليهود وأشباههم، والضَّال هو الذي يعمل بدون علمٍ، ضالّ: مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى.
وَهَذَا هُوَ الغي، وَهُوَ خلاف الرشد، كَمَا أنَّ الضَّال هُوَ الَّذِي لَا يعلم مَصْلحَته، وَهُوَ خلاف الْمُهْتَدي.
قَالَ الله : وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى [النجم:1- 2]؛ لِهَذَا قَالَ النَّبِي ﷺ: عَلَيْكُم بِسُنتي وَسُنة الْخُلَفَاء الرَّاشِدين المهديين من بعدِي؛ فَلهَذَا تجدهم يمدحون جنسَ الشَّجَاعَة، وجنس السَّماحة؛ إذ كَانَ عدم هذَيْن مذمومًا على الإطلاق، وأما وجودهما فَفِيهِ تَحْصِيل مَقَاصِد النُّفُوس على الإطلاق، لَكِن الْعَاقِبَةَ فِي ذَلِك لِلْمُتَّقين، وأما غير الْمُتَّقِينَ فَلهم عاجلة، لَا عَاقِبَة.
الشيخ: يعني الجود والكرم والشَّجاعة في الباطل ما لها عاقبة، عاقبتها خبيثة، إنما لهم مدح في الدنيا، لكن الشَّجاعة في الحقِّ، والجود في الحق، والإخلاص لله هذا مأجورٌ في الدنيا، ومأجورٌ في الآخرة، له العُقبى، وله أيضًا الثناء المقدم، والفضل المقدم، بخلاف مَن كانت شجاعته لغير الله، فهذا قد يحصل له في الدنيا ما يحصل من الثناء والذِّكر، ولكن ليس له العاقبة، نسأل الله العافية.
والمقصود أنه ينبغي للمؤمن أن تكون شجاعته في الحقِّ، وفي الجهاد، وفي الأمر بالمعروف، والنَّهي عن المنكر، وفي ردع الظالم، وفي نصر المظلوم بالطريقة التي شرعها الله، وهكذا جوده وكرمه وماله يكون في محلِّه؛ لمواساة الفقير، لإعانة اللَّاهفين، لصلة الرحم، وفي أشباه ذلك مما يرضاه الله.
هذا الإنفاق، وهذا السَّخاء، وهذه السَّماحة مما يُحبّه الله جلَّ وعلا، مع الإخلاص له ، وأما الشَّجاعة ليُقال فهذا هو الخسارة؛ لهذا في الحديث الصحيح: أنه يُؤتى بالقارئ والمنفق والمجاهد الذين عملوا لغير الله، فيسألون القارئ والعالم: ماذا قرأتَ؟ فيقول: عملتُ بالعلم، وقرأتُ القرآن. فيُقال له: كذبتَ. وتقول له الملائكةُ: كذبتَ، ولكن تعلمتَ ليُقال: عالم، وقرأتَ ليُقال: قارئ، فيُؤمَر به إلى النار، وهكذا يُقال في المنفق، وهكذا يُقال في المجاهد -يعني لغير الله- نسأل الله السَّلامة.
وَالْعَاقبَة وإن كَانَت فِي الآخرة فَتكون فِي الدُّنْيَا أيضًا، كَمَا قَالَ تَعَالَى لما ذكر قصَّة نوحٍ ونجاته بالسَّفينة: قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلَامٍ مِنَّا وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ، قَالَ: تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ إلى قَوْله: فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ [هود:48- 49].
وَقَالَ: فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ [البقرة:194].
الشيخ: والمعنى في هذا أنَّ المؤمن قد يجمع اللهُ له بين العاقبتين: العاقبة في الدنيا بالتوفيق والإعانة والخلف والسُّمعة الحسنة وزيادة الخير بسبب عمله الخير، مع ما له في الآخرة من الجنة والنَّعيم المقيم والخير الكثير، ويكون له عاقبتان: عاقبة عاجلة على عمله الصالح بتوفيق الله له، وهدايته له، وبسطه له في الرزق، وإعلاء ذكره. ثم عاقبة أخرى في الآخرة بالجنة والمنازل العالية، فإن فاتت في الدنيا هذه العاقبة بأن قُتل، أو أصابه مرضٌ، أو ذهب ماله، لم تفته العاقبةُ الأخرى في الآخرة، فله المنزلة العالية والخير الكثير في الآخرة.
أما صاحب الدنيا وصاحب الرِّياء والمقاصد الأخرى: فهذا ليس له عاقبة في الآخرة، بل له عذاب في الآخرة، نسأل الله العافية، وفي الدنيا قد تحصل له فائدة من ثناء الناس، أو عطائهم، أو نحو ذلك مما يُثنى عليه، ولكن ليس له عاقبة في الآخرة، وقد يجمع له بين الأمرين: لا عاقبة في الدنيا، ولا عاقبة في الآخرة.
وَالْفُرْقَان أن يحمد من ذَلِك مَا حَمده الله وَرَسُوله، فَإِنَّ الله تَعَالَى هُوَ الذي حَمده زين، وذمّه شين، دون غَيره من الشُّعَرَاء والخُطباء وَغَيرهم.
وَلِهَذَا لما قَالَ الْقَائِلُ من بني تَمِيم للنَّبِي ﷺ: إنَّ حمدي زين، وذمّي شين. قَالَ لَهُ: ذَاك الله.
وَالله سُبْحَانَهُ حمد الشَّجَاعَة والسَّماحة فِي سَبيله، كَمَا فِي الصَّحِيح عَن أبي مُوسَى الأشعري قَالَ: قيل: يَا رَسُول الله، الرجل يُقَاتل شجاعةً، وَيُقَاتل حميةً، وَيُقَاتل رِيَاءً، فَأَيّ ذَلِك فِي سَبِيل الله؟ فَقَالَ: مَن قَاتل لتَكون كلمةُ الله هِيَ الْعُليا فَهُوَ فِي سَبِيل الله.
وَقَالَ سُبْحَانَهُ: وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ [الأنفال:39]، وَذَلِكَ أنَّ هَذَا هُوَ الْمَقْصُود الَّذِي خلق الله الْخلقَ لَهُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات:56].
الشيخ: ومعنى ذاك الله يعني: هو الذي ذمّه يضرّ الضرر العظيم، ومدحه ينفع النَّفع العظيم؛ لأنَّ مدحه له العاقبة الحميدة، وذمّه له العاقبة الوخيمة، أما المخلوقون فمدحهم أمره أسهل، متى استقام العبدُ على أمر الله، وحفظ حدود الله؛ لم يضرّه ذمُّ الذَّامين، ومتى ضيَّع أمر الله، وضيَّع حدود الله، لم ينفعه مدح المادحين، ومصيره إلى ما أخبر اللهُ به عنه مما يستحقّه، وإن ضرَّه ذمُّ الذامين له في بعض الشيء في الدنيا، أو نفعه مدح المادحين في الدنيا، لكن ليس له عاقبة، فالمدح الذي يزول وينتهي، والذم الذي يزول وينتهي، ولا تكون له عاقبة؛ فأمره سهل؛ ولهذا قال: ذاك الله الذي مدحه زين، وذمّه شين.
فَكل مَا كَانَ لأجل الْغَايَة الَّتِي خُلق لها الْخَلق كَانَ مَحْمُودًا عِنْد الله، وهو الذي يبقى لصَاحبه، وينفعه اللهُ بِهِ، وَهَذِه الأعمال هِيَ الْبَاقِيَات الصَّالِحَات؛ وَلِهَذَا كَانَ النَّاسُ أربعة أصناف:
مَن يَعْمل لله بشجاعةٍ وبسماحةٍ، فَهَؤُلَاءِ هم الْمُؤْمِنُونَ المستحقّون للجنة.
وَمَن يَعْمل لغير الله بشجاعةٍ وسماحةٍ فَهَذَا ينْتَفع بذلك فِي الدُّنْيَا، وَلَيْسَ لَهُ فِي الآخرة من خلاقٍ.
وَمَن يَعْمل لله لَكِن بِلَا شجاعةٍ وَلَا سماحةٍ فَهَذَا فِيهِ من النِّفَاق وَنقص الإيمان بِقدر ذَلِك.
وَمَن لَا يَعْمل لله، وَلَا فِيهِ شجاعة، وَلَا سماحة، فَهَذَا لَيْسَ لَهُ دنيا وَلَا آخِرَة.
فَهَذِهِ الأخلاق وَالْأَفْعَال يحْتَاج إليها الْمُؤمن عُمُومًا وخصوصًا فِي أَوْقَات المحن والفِتن.
الشيخ: هذه الأقسام الأربعة وإن كانت واضحةً، ولكنها فائدة جيدة، يحسن نقلها؛ لأنها فائدة جيدة، وإن كانت معلومةً.
فَهَذِهِ الأخلاق وَالْأَفْعَال يحْتَاج إليها الْمُؤمن عُمُومًا وخصوصًا فِي أَوْقَات المحن والفتن الشَّدِيدَة، فَإِنَّهُم يَحْتَاجُونَ إلى صَلَاح نُفُوسهم، وَدفع الذُّنُوب عَن نُفُوسهم عِنْد الْمُقْتَضى للفتنة عِنْدهم، ويحتاجون أيضًا إلى أمر غَيرهم وَنَهْيه بِحَسب قُدرتهم.
وكل من هذَيْن الأمرين فِيهِ من الصُّعوبة مَا فِيهِ، وإن كَانَ يَسِيرًا على مَن يسَّره الله عَلَيْهِ، وَهَذَا لِأَنَّ الله أمر الْمُؤمنِينَ بِالْإِيمَان وَالْعَمَل الصَّالح، وأمرهم بدعوة النَّاس وجهادهم على الإيمان وَالْعَمَل الصَّالح، كَمَا قَالَ اللهُ تَعَالَى: وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ [الحج:40- 41]، وكما قَالَ: إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ [غافر:51]، وكما قَالَ: كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ [المجادلة:21]، وكما قَالَ: وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ [الصافات:173]، وَقَالَ: وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ [المائدة:56].
الشيخ: وهذا من توفيق الله للعبد، فإذا وفق العبد استعمله في هذا الخير، وصار جندًا من جنوده في الدَّعوة إلى الله، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر الذي شرعه الله، فيُنفق ويصبر في هذا السَّبيل، ويُشجع غيره لهذا السبيل، فيكون ممن اختاره الله لهذا الأمر، وجعله من جنده، ومن حزبه المفلحين، الإنسان يستمر على طاعة الله، وقيامه بأمر الله، وإحسانه إلى عباد الله، ودعوته إلى الخير، وأمره بالمعروف، ونهيه عن المنكر، هذه صفة الأخيار.
والواجب على أهل العلم في هذا الخير غير الواجب على الناس؛ الواجب على طلبة العلم الدَّعوة والتَّوجيه والإرشاد، والأمر بالمعروف، والنَّهي عن المنكر، أكثر من الواجب على غيرهم؛ لأنَّه أعطاهم من النِّعمة ما لم يُعْطِ غيرهم، فأعطاهم من العلم ما لم يُعْطِ غيرهم، فعليهم من الواجب أكثر، لكن مع العناية بالحكمة وتقدير الأمور، ووضع الأشياء في مواضعها؛ حتى تحصل الفائدة في أمره ونهيه ونحو ذلك، مع تحري الصبر على ما قد يُصيبه من الأذى والكلام، وبذلك يرفع الله له الدَّرجات، ويكون له نصيب وافرٌ من اتِّباع الرسل، والسير على منهاجهم حسب صبره وعلمه وفضله وتقواه لله وقيامه بأمره، ولا سيما في أوقات الغربة كهذه الأوقات، فالمسلمين وغير المسلمين في أشدّ الحاجة إلى الدَّعوة بالحكمة، والأسلوب الطيب، والأسلوب الحسن، والأدلة الواضحة، والصبر على الأذى.
وَلما كَانَ فِي الأمر بِالْمَعْرُوفِ، وَالنَّهْي عَن الْمُنكر، وَالْجهَاد فِي سَبِيل الله من الِابْتِلَاء والمحن مَا يتَعَرَّض بِهِ الْمَرْءُ للفتنة، صَار فِي النَّاس مَن يتعلل لترك مَا وَجب عَلَيْهِ من ذَلِك بِأَنَّهُ يَطْلب السَّلامَة من الْفِتْنَة، كَمَا قَالَ تَعَالَى عَن الْمُنَافِقين: وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلَا تَفْتِنِّي أَلَا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا [التوبة:49]، وَقد ذكرُوا فِي التَّفْسِير أنها نزلت فِي الْجدِّ بن قيس لما أمره النَّبِي ﷺ بالتَّجهز لغزو الرّوم، وأظن أَنَّ رَسُول الله ﷺ قَالَ لَهُ: هَل لَك فِي نسَاء بني الأصفر؟ فَقَالَ: يَا رَسُول الله، إني رجلٌ لَا أصبر على النِّسَاء، وإني أخاف الْفِتْنَةَ بنساء بني الأصفر، فائذن لي وَلَا تفتني.
وَهَذَا الْجدّ هُوَ الَّذِي تخلَّف عَن بيعَة الرِّضْوَان تَحت الشَّجَرَة، واستتر بجملٍ أحمر، وَجَاء فِيهِ الحَدِيث: إنَّ كلهم مغْفُورٌ لَهُ إلا صَاحب الْجَمل الأحمر، فَأَنْزل الله تَعَالَى فِيهِ: وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلَا تَفْتِنِّي أَلَا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا [التوبة:49]، يَقُول: إنه طلب الْقُعُود ليسلم من فتْنَة النِّسَاء، فَلَا يفتتن بِهنَّ، فَيَحْتَاج إلى الِاحْتِرَاز من الْمَحْظُور، ومجاهدة نَفسه عَنهُ، فيتعذَّب بذلك أو يُواقعه فيأثم.
فَإِنَّ مَن رأى الصُّور الجميلة وأحبّها فَإِن لم يتَمَكَّن مِنْهَا: إما لتَحْرِيم الشَّارِع، وَإما للعجز عَنْهَا؛ تُعذب قلبه، وإن قدر عَلَيْهَا وَفعل الْمَحْظُور هلك، وَفِي الْحَلَال من ذَلِك من مُعالجة النِّسَاء مَا فِيهِ بلَاء.
فَهَذَا وَجه قَوْله: وَلَا تَفْتِنِّي، قَالَ الله تَعَالَى: أَلَا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا، يَقُول: إنَّ نفس إعراضه عَن الْجِهَاد الْوَاجِب، ونكوله عَنهُ، وَضعف إيمانه، وَمرض قلبه الَّذِي زيَّن لَهُ ترك الْجِهَاد فتْنَة عَظِيمَة قد سقط فِيهَا، فَكيف يَطْلب التَّخَلُّص من فتْنَةٍ صَغِيرةٍ لم تُصبه بِوُقُوعِهِ فِي فتْنَةٍ عَظِيمَةٍ قد أصابته؟!
وَالله تَعَالَى يَقُول: وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ [الأنفال:39]، فَمَن ترك الْقِتَال الَّذِي أمر الله بِهِ لِئَلَّا تكون فتْنَة، فَهُوَ فِي الْفِتْنَة سَاقِطٌ بِمَا وَقع فِيهِ من ريب قلبه، وَمرض فُؤَاده، وَتَركه مَا أمر الله بِهِ من الْجِهَاد، فَتدبر هَذَا، فإنَّ هَذَا مقَام خطر.
وَالنَّاس فِيهِ على قسمَيْنِ:
قسم يأمرون وَينْهَوْنَ ويُقاتلون طلبًا لإِزَالَة الْفِتْنَة زَعَمُوا، وَيكون فعلهم ذَلِك أعظم فتْنَةً: كالمقتتلين فِي الْفِتَن الْوَاقِعَة بَين الأمة، مثل: الْخَوَارِج.
وأقوام ينكلون عَن الأمر وَالنَّهْي والقتال الَّذِي يكون بِهِ الدِّين كُله لله، وَتَكون كلمةُ الله هِيَ الْعُليا؛ لِئَلَّا يفتنوا وهم قد سقطوا فِي الْفِتْنَة.
وَهَذِه الْفِتْنَة الْمَذْكُورَة فِي سُورَة بَرَاءَة دخل فِيهَا الافتتان بالصور الجميلة، فَإِنَّهَا سَبَب نزُول الْآيَة، وَهَذِه حَال كثير من المتدينة: يتركون مَا يجب عَلَيْهِم من أمرٍ وَنهيٍ وَجِهَادٍ يكون بِهِ الدِّينُ لله، وَتَكون بِهِ كلمةُ الله هِيَ الْعُليا؛ لِئَلَّا يفتنوا بِجِنْس الشَّهَوَات، وهم قد وَقَعُوا فِي الْفِتْنَة الَّتِي هِيَ أعظم مِمَّا زَعَمُوا أنَّهم فرّوا مِنْهُ، وإنما الْوَاجِبَة عَلَيْهِم الْقيام بِالْوَاجِبِ من الأمر وَالنَّهْي، وَترك الْمَحْظُور، والاستعانة بِاللَّه على الأمرين.
الشيخ: هذا يقع في كثيرٍ من المسائل هذه، هذا باب عظيم: من الناس مَن يترك الدَّعوة إلى الله وهو يقول: أخشى أني ما أقوم بالواجب، وآخر يقول: لا أستطيع أن آمر بالمعروف، ولا أنهى عن المنكر، أخشى أني أُقصر، أخشى أني كذا، والآخر يقول: ما أستطيع الجهاد، أخشى أني أنكل، أخشى أني أضعف وقت الجهاد، أخشى أني أقصر. وكل هذا من تزيين الشَّيطان وتلبيسه.
فالواجب على المؤمن أن يعمل ويستعين بالله، ويترك ظنَّ السُّوء، ويترك العجز والكسل، ويدعو إلى الله، ويُجاهد نفسه، ويأمر بالمعروف، وينهى عن المنكر، ويُجاهد نفسه، عليه أن يمتثل ويسبق الناس إلى الخير وترك الشر، وهكذا الجهاد؛ يُجاهد ويُشارك المؤمنين، ويستعين بالله، ويسأل ربَّه العون والتوفيق، وأن يُعينه على الجهاد.
وهكذا في أمورٍ أخرى من: برّ والديه، وصلة أرحام، ونصر المظلوم، والإعانة على فعل الخيرات، لا يجبن، ولا يقول: أخاف، أخاف، فإنَّ الناس إذا فعلوا هذا: كل واحدٍ يقول: أخاف؛ تعطلت الأوامر والنَّواهي، عطل الجهاد، عطل الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر.
فالواجب على المؤمن أن تكون له همّة عالية، وأن يعمل ويجتهد ويتَّقي الله، ويسأل ربَّه العون، ولا يكسل، ولا يضعف ويترك الحبل على الغارب.
الشيخ: ولو فُرض أنه فعل.
الشيخ: كأنَّ المقام ساقط فيه شيء: ولو فُرض أنه ترك فعل الواجب، أو فعل المحظور. كأنَّ العبارة فيها شيء، حطّ عليها إشارة، العبارة فيها خلل.
الشيخ: والخلاصة من هذا الكلام أنَّ الدَّاعي إلى الله، والآمر بالمعروف، والنَّاهي عن المنكر، والمجاهد يتحرى ما هو الأقرب إلى مرضاة الله، وما هو الأقرب إلى صلاح العباد، يتحرى ويجتهد بحيث يرى أنَّ هذا الواجب الذي يرى أنه واجب، ويترتب عليه محظور أكبر ترك ذلك؛ لتلافي المحظور الذي يكون أكبر من فعل هذا الواجب.
وهكذا العكس: لو رأى أنَّ عمله يترتب عليه محظور أكبر، ويعتقد أنَّ هذا المحظور إذا فعل كذا وكذا ..... فإنه ..... الذي يريد فعله، وإن كان يستحسنه، وإن كان يرى أنه طيب، إذا كان يترتب عليه محظور أكبر، ومضرة على المسلمين، فيتحرى ترك أشد الأمرين خطرًا، وفعل ما هو أوجب الأمرين، وإن فات الآخر على القاعدة: ترك إحدى المصلحتين لتحصيل الكبرى، وارتكاب أدنى المفسدتين لتفويت المفسدة الكبرى. فهذا في الجهاد والأمر والنَّهي وغير ذلك لمراعاة هذه القواعد.
وتفصيل ذَلِك يطول، وكل بشرٍ على وَجه الأرض فَلَا بُدَّ لَهُ من أمرٍ وَنهيٍ، وَلَا بُدَّ أن يَأْمُر وَيَنْهى، حَتَّى لَو أنه وَحده لَكَانَ يَأْمُر نَفسه وينهاها: إما بِمَعْرُوفٍ، وإما بمُنكرٍ، كَمَا قَالَ الله تَعَالَى: إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ [يوسف:53].
فَإِنَّ الْأَمر هُوَ طلب الْفِعْل وإرادته، وَالنَّهْي طلب التّرْك وإرادته، وَلَا بُدَّ لكل حيٍّ من إرادةٍ وَطلبٍ فِي نَفسه يقتضي بهما فعل نَفسه، ويقتضى بهما فعل غَيره إذا أمكن ذَلِك، فَإِنَّ الإنسان حَيٌّ يَتَحَرَّك بإرادته، وَبَنُو آدم لَا يعيشون إلا باجتماع بَعضهم مَعَ بعضٍ، وإذا اجْتَمع اثْنَانِ فَصَاعِدًا فَلَا بُدَّ أن يكون بَينهمَا ائتمارٌ بِأَمْرٍ، وتناهٍ عَن أمْرٍ؛ وَلِهَذَا كَانَ أقل الْجَمَاعَة فِي الصَّلَاة اثْنَيْنِ، كَمَا قيل: الِاثْنَان فَمَا فَوْقَهمَا جمَاعَة. لَكِن لما كَانَ ذَلِك اشتراكًا فِي مُجَرّد الصَّلَاة حصل بِاثْنَيْنِ: أحدهما إمام، والآخر مَأْمُوم، كَمَا قَالَ النَّبِي ﷺ لمَالِك بْن الْحُوَيْرِث وَصَاحبه رَضِي الله عَنْهُمَا: إذا حضرت الصَّلَاةُ فأذِّنا وأقيما، وليؤمّكما أكبركما، وَكَانَا متقاربين فِي الْقِرَاءَة.
وَأمَّا فِي الأمور العادية فَفِي السُّنَن أنه ﷺ قَالَ: لَا يحلّ لثَلَاثَةٍ يكونُونَ فِي سفرٍ إِلَّا أمَّروا عَلَيْهِم أحدهم.
وإذا كَانَ الأمر وَالنَّهْي من لَوَازِم وجود بني آدم، فَمَن لم يَأْمُر بِالْمَعْرُوفِ الَّذِي أمر الله بِهِ وَرَسُوله، وينهَ عَن الْمُنكر الَّذِي نهى الله عَنهُ وَرَسُوله، وَيُؤمَر بِالْمَعْرُوفِ الَّذِي أمر الله بِهِ وَرَسُوله، ويُنْهَ عَن الْمُنكر الَّذِي نهى الله عَنهُ وَرَسُوله، وَإِلَّا فَلَا بُدَّ من أن يَأْمر وَينْهى، وَيُؤمَر وَيُنْهى: إما بِمَا يُضاد ذَلِك، وإما بِمَا يَشْتَرك فِيهِ الْحقّ الَّذِي أنزله الله بِالْبَاطِلِ الَّذِي لم يُنزله الله، وإذا اتَّخذ ذَلِك دينًا كَانَ دينًا مُبتدعًا، ضَالًّا، بَاطِلًا.
وَهَذَا كَمَا أنَّ كل بشرٍ فَإِنَّهُ حَيٌّ متحرك بإرادته، همام، حَارِث، فَمَن لم تكن نِيَّته صَالِحَة، وَعَمله عملًا صَالحًا لوجه الله، وإلا كَانَ عملًا فَاسِدًا، أو لغير وَجه الله، وَهُوَ الْبَاطِل، كَمَا قَالَ تَعَالَى: إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى [الليل:4]، وَهَذِه الأعمال كلهَا بَاطِلَة، من جنس أَعمال الْكُفَّار: الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ [محمد:1].
وَقَالَ تَعَالَى: وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ [النور:39]، وَقَالَ: وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا [الفرقان:23].
وَقد أمر الله تَعَالَى فِي كِتَابه بِطَاعَتِهِ، وَطَاعَة رَسُوله، وَطَاعَة أُولي الْأَمر من الْمُؤمنِينَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا [النساء:59].
وَأولُو الأمر: أصحاب الأمر وذووه، وهم الَّذين يأمرون النَّاس وينهونهم، وَذَلِكَ يشْتَرك فِيهِ أهل الْيَد وَالْقُدْرَة، وأهل الْعِلم وَالْكَلَام؛ فَلهَذَا كَانَ أولو الأمر صنفين: الْعلمَاء، والأُمراء. فإذا صلحوا صلح النَّاس، وإذا فسدوا فسد النَّاس، كَمَا قَالَ أبو بكر الصّديق للأحمسية لما سَأَلته: مَا بقاؤنا على هَذَا الأمر الصَّالح؟ قَالَ: "مَا استقامت لكم أئمّتكم".
الشيخ: والأئمة هم الأمراء والعلماء، وهو أولو الأمر، الذين يأمرون بأمر الله، وينهون عن نهي الله، ويجب على الناس أن يسمعوا لهم ويُطيعوا فيما يأمرونهم بأمر الله، وينهوهم عن نهي الله، وبذلك تصلح أمورهم، فإذا أخلَّ هؤلاء أو هؤلاء فسد الأمر، إن لم يأمر ولاةُ الأمر بالخير، وينهون عن الشَّر، أو أمروا ونهوا ولم يستجب لهم فسدت الأمور.
الشيخ: يعني أمراء القرى، وأمراء المدن، وشيوخ القبائل، وكل إنسانٍ متبوع في دائرةٍ، أمير على شيءٍ له أتباع، وله أعوان، فالمقصود كل مَن له أعوان، وله أتباع ينصاعون لأمره، ويتبعون أمره، يجب عليه، هكذا يجب عليه أن يأمر بأمر الله، وينهى عن نهي الله، ويجب أن يُطاع في المعروف بما هو الشَّرع.
الشيخ: يعني لا طاعةَ في المعصية التي عصاها، يعني ما هو معناه: إزالة الولاية، فهو يُطاع في طاعة الله، ولا يُطاع في معاصي الله، مع بقاء الولاء، وعدم جواز الخروج ما لم يوجد كفرٌ بواح.
..........
الطالب: هنا قول: ولو فُرض أنَّ فعل الواجب وترك المحظور مُتلازمان، فإنه ينظر أغلب الأمرين، فإن كان المأمور .....
الشيخ: ..... محتمل.
فصل
وإذا كَانَت جَمِيع الْحَسَنَات لَا بُدَّ فِيهَا من شَيْئَيْنِ: أن يُرَاد بهَا وَجه الله، وأن تكون مُوَافقَةً للشَّريعة. فَهَذَا فِي الأقوال والأفعال فِي الْكَلم الطّيب وَالْعَمَل الصَّالح فِي الأمور العلمية والأمور العملية العبادية.
وَلِهَذَا ثَبت فِي الصَّحِيح عَن النَّبِي ﷺ: أنَّ أول ثَلَاثَة تُسجر بهم جَهَنَّم: رجلٌ تعلم الْعِلم وَعلَّمه، وَقَرَأَ الْقُرْآن وأقرأه ليقول النَّاس: هُوَ عَالم وقارئ. وَرجلٌ قَاتل وجاهد ليقول النَّاس: هُوَ شُجَاع وجريء. وَرجل تصدق وأعطى ليقول النَّاس: هُوَ جواد وسخي. فَإِنَّ هَؤُلَاءِ الثَّلَاثَة الَّذين يُرِيدُونَ الرِّيَاء والسُّمعة هم بِإِزَاءِ الثَّلَاثَة الَّذين بعد النَّبِيين من الصِّديقين وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ، فَإِنَّ مَن تعلم الْعِلم الَّذِي بعث اللهُ بِهِ رسله وَعلَّمه لوجه الله، كَانَ صديقًا، وَمَن قَاتل لتَكون كلمةُ الله هِيَ الْعُليا وَقُتل كَانَ شَهِيدًا، وَمَن تصدَّق يَبْتَغِي بذلك وَجه الله كَانَ صَالحًا.
وَلِهَذَا يَسْأَل المفرط فِي مَاله الرَّجْعَة وَقت الْمَوْت، كَمَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِي الله عَنْهُمَا: "مَن أُعطي مَالًا فَلم يحجّ مِنْهُ، وَلم يُزَكِّ، سَأَلَ الرَّجْعَة وَقت الْمَوْت"، وَقَرَأَ قَوْله تَعَالَى: وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ [المنافقون:10].
فَفِي هَذِه الأمور العلمية الكلامية يحْتَاج الْمُخبر بهَا أن يكون مَا يُخبر بِهِ عَن الله وَالْيَوْمِ الآخر، وَمَا كَانَ وَمَا يكون حَقًّا وصوابًا، وَمَا يَأْمُر بِهِ، وَمَا ينهى عَنهُ، كَمَا جَاءَت بِهِ الرُّسُل عَن الله، فَهَذَا هُوَ الصَّوَاب الْمُوَافق للسّنة والشَّريعة، المتبع لكتاب الله وَسنة رَسُوله، كَمَا أن الْعِبَادَات الَّتِي يتعبد الْعِباد بهَا إذا كَانَت مِمَّا شرعه الله وأمر اللهُ بِهِ وَرَسُوله؛ كَانَت حَقًّا، صَوَابًا، مُوَافقًا لما بعث اللهُ بِهِ رسله، وَمَا لم يكن كَذَلِك من الْقِسْمَيْنِ كَانَ من الْبَاطِل والبدع المضلّة وَالْجهل، وإن كَانَ يُسَمِّيه مَن يُسَمِّيه: علومًا، ومعقولات، وعبادات، ومجاهدات، وأذواقًا، ومقامات.
الشيخ: والمعنى أنَّ كل العلوم التي ليست على أساسٍ شرعي فهي جهل، وكل عملٍ ليس على علمٍ وعلى بصيرةٍ فهو الجهل، وإنما تنفع العلوم وتنفع الأعمال إذا كانت عن علمٍ، وعن بصيرةٍ، الموافقة للشرع، وعن إخلاصٍ لله ونيَّةٍ طيبةٍ؛ حتى تنفعه علومه، وتنفع أعماله، فالعلوم التي لا أساسَ لها من الشرع جهل، وإن نفعته في الدنيا فهي جهل؛ لأنها لم تُعنه على طاعة الله، ولم تجعله من عباد الله الصالحين، والأعمال التي يفعلها رياءً وسمعةً، أو على غير علمٍ تضرّه ولا تنفعه، وإنما ينفعه علمه وعمله إذا كان لله، وكان مُطابقًا لشريعة الله وما جاء به رسول الله عليه الصلاة والسلام.
فالذي يقرأ ويتعلم لغير الله يضرّه ذلك، أو يقرأ ويتعلم ولا يعمل يضرّه ذلك، كاليهود، والذي يعمل على غير الشَّريعة يكون مُبتدعًا، والذي يعمل على الشَّريعة، ولكن لغير الله –للرِّياء- يكون أيضًا مُبْطِلًا، ضالًّا، نسأل الله السلامة، فلا بدَّ من علمٍ نافعٍ، ولا من نيةٍ صالحةٍ، ولا بدَّ من عملٍ صالحٍ مُوافقٍ للشرع.
وَيحْتَاج أيضًا أن يُؤمَر بذلك لأمر الله بِهِ، وَيُنْهى عَنهُ لنهي الله عَنهُ، ويخبر بِمَا أخبر الله بِهِ؛ لِأَنَّهُ حقّ وإيمان وَهدى، كَمَا أخْبرت بِهِ الرّسل، كَمَا تحْتَاج الْعِبَادَة إِلَى أَن يُقْصد بهَا وَجه الله، فإذا قيل ذَلِك لاتِّباع الْهَوى وَالْحمية، أو لإِظْهَار الْعِلم والفضيلة، أو لطلب السُّمعة والرِّياء؛ كَانَ بِمَنْزِلَة الْمُقَاتل شجاعةً وحميةً ورياءً.
وَمن هُنَا يتَبَيَّن لَك مَا وَقع فِيهِ كثيرٌ من أهل الْعِلم والمقال، وأهل الْعِبَادَة وَالْحَال، وأهل الْحَرْب والقتال.