الشيخ: وهذا هو أعظم الذُّنوب، وأعظم الجرائم: الشرك بالله عزَّ وجلَّ هو الذي قال فيه النبيُّ ﷺ لما سأله ابنُ مسعودٍ: أي الذنب أعظم؟ قال: أن تجعل لله ندًّا وهو خلقك متَّفق عليه.
فأعظم الذنوب وأعظم الجرائم جنس الشرك، سواء كان الشركُ بالجمادات: كالشمس والقمر والأصنام والأشجار، أو بغير الجمادات: كالأنبياء والأولياء والجنّ، كل ذلك ممنوع، وكله شرك أكبر.
فدُعاؤهم، والاستغاثة بهم، والنَّذر لهم، والصلاة لهم، والسجود لهم، والطواف بقبورهم تقرُّبًا إليهم، إلى غير هذا من أنواع العبادة، كله داخلٌ في قوله جلَّ وعلا: وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [الأنعام:88]، وفي قوله سبحانه: إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لقمان:13]، وقوله : إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ [النساء:48].
وهذه البلية والمصيبة ابتُلي بها الناس من قرونٍ طويلةٍ بسبب الجهل، وتقليد الكفرة من اليهود والنصارى، وغيرهم، وقع هذا الأمر العظيم الخطير؛ لقوله ﷺ: لتتبعنَّ سَنن مَن كان قبلكم، وقال: لتأخذنَّ أمتي بأخذ الأمم قبلها شبرًا بشبرٍ، وذراعًا بذراعٍ، فلما كانت اليهودُ والنصارى والمجوس يعبدون غير الله، ويُشركون به، تبعهم الناسُ، إلا مَن عصمه الله وحفظه، ولا حولَ ولا قوة إلا بالله.
وَمن الْمُنكر كلّ مَا حرَّمه الله: كَقَتل النَّفس بِغَيْر الْحقِّ، وأكل أموال النَّاس بِالْبَاطِلِ بِالْغَصْبِ، أو بالربا، أو الميسر والبيوع والمعاملات الَّتِي نهى عَنْهَا رَسُولُ الله ﷺ، وَكَذَلِكَ قطيعة الرَّحِم، وعقوق الْوَالِدين، وتطفيف الْمِكْيَال وَالْمِيزَان، والإثم، وَالْبَغي، وَكَذَلِكَ الْعِبَادَات المبتدعة الَّتِي لم يشرعها الله وَرَسُوله ﷺ، وَغير ذَلِك.
والرفق سبيل الأمر بِالْمَعْرُوفِ، وَالنَّهْي عَن الْمُنكر؛ وَلِهَذَا قيل: ليكن أمرك بِالْمَعْرُوفِ بِالْمَعْرُوفِ، ونهيك عَن الْمُنكر غير مُنكرٍ.
وإذا كَانَ الأمرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْي عَن الْمُنكر من أعظم الْوَاجِبَات أو المستحبَّات، فالواجبات والمستحبَّات لَا بُدَّ أن تكون الْمصلحَةُ فِيهَا راجحةً على الْمَفْسدَة؛ إذ بِهَذَا بُعثت الرُّسُل، وأُنزلت الْكُتب، وَالله لَا يُحب الْفَساد، بل كل مَا أمر اللهُ بِهِ فَهُوَ صَلَاح، وَقد أثنى اللهُ على الصَّلاح والمصلحين، وَالَّذين آمنوا وَعمِلُوا الصَّالِحَات، وذمَّ الْفَساد والمفسدين فِي غير مَوضِعٍ، فَحَيْثُ كَانَت مفْسدَةُ الأمر وَالنَّهْي أعظم من مصْلحَته لم يكن مِمَّا أمر اللهُ بِهِ.
س: الإلحاد أعظم من الشِّرك؟
ج: الإلحاد فيه تفصيل: قد يكون إلحادًا في معصيةٍ، وقد يكون إلحادًا في كفرٍ، الإلحاد إن كان معناه إنكار الرُّبوبية وإنكار وجود الله فهذا كفرٌ أكبر، أكبر من كفر المشركين: كالشُّيوعيين وأشباههم، أمَّا الإلحاد في بعض المسائل التي دون الشِّرك، مثل: تأويل بعض الصِّفات جهلًا منه في بعض الصِّفات أو غيرها، فهو أقلّ من ذلك، الإلحاد: الميل عن الحقِّ، وقد يكون شركًا، وقد يكون معصيةً.
وإذا كَانَ الأمرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَن الْمُنكر من أعظم الْوَاجِبَات أو المستحبَّات، فالواجبات والمستحبَّات لَا بُدَّ أن تكون الْمصلحَةُ فِيهَا راجحةً على الْمَفْسدَة؛ إذ بِهَذَا بُعثت الرُّسُل، وأُنزلت الْكُتب، وَالله لَا يُحب الْفَساد، بل كل مَا أمر اللهُ بِهِ فَهُوَ صَلَاح، وَقد أثنى اللهُ على الصَّلاح والمصلحين وَالَّذين آمنوا وَعمِلُوا الصَّالِحَات، وذمَّ الْفساد والمفسدين فِي غير مَوضِعٍ، فَحَيْثُ كَانَت مفْسدَةُ الأمر وَالنَّهْي أعظم من مصْلحَته لم يكن مِمَّا أمر الله بِهِ.
وإن كَانَ قد ترك وَاجِبًا، وَفعل مُحرَّمًا، إِذِ المُؤْمِن عَلَيْهِ أن يتَّقي الله فِي عباد الله، وَلَيْسَ عَلَيْهِ هُدَاهُم، وَهَذَا من معنى قَوْله تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ [المائدة:105].
والاهتداء إنما يتم بأَدَاء الْوَاجِب، فَإِذا قَامَ الْمُسلمُ بِمَا يجب عَلَيْهِ من الأمر بِالْمَعْرُوفِ، وَالنَّهْي عَن الْمُنكر، كَمَا قَامَ بِغَيْرِهِ من الْوَاجِبَات؛ لم يضرّهُ ضلال الضَّال، وَذَلِكَ يكون تَارَةً بِالْقَلْبِ، وَتارَةً بِاللِّسَانِ، وَتارَةً بِالْيَدِ.
فَأَمَّا الْقَلب فَيجب بِكُل حَالٍ؛ إذ لَا ضَرَرَ فِي فعله، وَمَن لم يَفْعَله فَلَيْسَ هُوَ بِمُؤْمِنٍ، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ ﷺ، وَذَلِكَ أدنى أو أضعف الإيمان، وَقَالَ: لَيْسَ وَرَاء ذَلِك من الإيمان حبَّة خَرْدَلٍ.
وَقيل لِابْنِ مَسْعُودٍ : مَن ميت الأحياء؟ فَقَالَ: الَّذِي لَا يعرف مَعْرُوفًا، وَلَا يُنكر مُنْكرًا.
وَهَذَا هُوَ الْمَفْتُون الْمَوْصُوف بِأَنَّ قلبه كالكوز مُجخِّيا فِي حَدِيث حُذَيْفَة بن الْيَمَان رَضِي الله عَنهُ فِي "الصَّحِيحَيْنِ": تُعرض الْفِتَنُ على الْقُلُوب عرض الْحَصِير .. الحَدِيث. وَهنا يغلط فريقان من النَّاس:
فريق يَتْرك مَا يجب من الأمر وَالنَّهْي تَأْوِيلًا لهَذِهِ الآية، كَمَا قَالَ أبو بكر الصّديق فِي خُطبَته: "أيُّها النَّاس، إنَّكم تقرؤون هَذِه الآية: عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ [المائدة:105]، وإنَّكم تضعونها فِي غير موضعهَا، وإني سَمِعتُ النَّبِيَّ ﷺ يَقُول: إنَّ النَّاس إذا رَأَوا الْمُنكر فَلم يُغيروه أوْشَك أن يعمَّهم الله بعقابٍ مِنْهُ".
والفريق الثَّانِي: مَن يُرِيد أن يَأْمُر وينهى: إما بِلِسَانِهِ، وإما بِيَدِهِ مُطلقًا، من غير فقهٍ وَلَا حكمٍ.
الطالب: يقول في بعض النُّسخ: "ولا حلم"، ومُصححة: "حكم".
الشيخ: نعم، كمّل.
وَلَا صَبر، وَلَا نظر فِيمَا يصلح من ذَلِك، وَمَا لَا يصلح، وَمَا يقدر عَلَيْهِ، وَمَا لَا يقدر، كَمَا فِي حَدِيث أبي ثَعْلَبة الْخُشَنِي: سَأَلتُ عَنْهَا -أي الآية- رَسُولَ الله ﷺ، فَقَالَ: بل ائْتَمرُوا بالمعروف، وَتَنَاهوا عَن الْمُنكر، حَتَّى إذا رَأَيْتَ شُحًّا مُطَاعًا، وَهوًى مُتَّبَعًا، ودُنيا مُؤثِرَة، وإعجاب كل ذِي رأيٍ بِرَأْيهِ، وَرَأَيْتَ أمْرًا لَا يدانِ لَكَ بِهِ، فَعَلَيْك بِنَفْسِك، ودع عَنْك أمْرَ الْعَوام، فَإِنَّ من ورائك أيام الصَّبْر، الصَّبْر فِيهِنَّ مثل قبضٍ على الْجَمْر، لَلْعَامِل فِيهِنَّ كَأَجر خمسين رجلًا يَعْملُونَ مثل عمله.
فَيَأْتِي بِالأمر وَالنَّهْي مُعْتَقدًا أنه مُطِيع فِي ذَلِك لله وَرَسُوله، وَهُوَ مُعْتَدٍ فِي حُدُوده، كَمَا نصب كثيرٌ من أهل الْبِدَع والأهواء نَفسه لِلْأَمْرِ وَالنَّهْي: كالخوارج، والمعتزلة، والرَّافضة، وَغَيرهم ممن غلط فِيمَا أتاه من الأمر وَالنَّهْي وَالْجِهَاد وَغير ذَلِك.
الشيخ: والمقصود من هذا في الأمر بالمعروف والنَّهي عن المنكر أنَّ الواجبَ التَّثبت في الأمور، والنَّظر والتَّبصر، وأن يكون في أمره ونهيه على بصيرةٍ، وعلى علمٍ؛ ولهذا قال: الناس في هذا طائفتان: أهل الحق من عندهم بصيرة، وهم الذين امتثلوا أمر الرسول ﷺ، فأمروا بالمعروف، ونهوا عن المنكر حسب الطاقة باليد، ثم اللسان، ثم القلب، لم يدعوا شيئًا من ذلك، بل حسب طاقتهم، أقلّ شيءٍ كراهة القلب لما حرَّم الله، وإنكار لما حرَّم الله.
ومن هذا أنه قيل لابن مسعودٍ : هلكتُ إذ لم آمر بالمعروف، وأنهى عن المنكر؟ قال: هلكتَ إن لم تعرف المعروف وتُنكر المنكر.
والمقصود أنَّ الإنسان لا بدَّ أن يعرف المعروف ويُنكر المنكر على بصيرةٍ، وعلى بينةٍ.
وطائفة أعرضوا ولم يُبالوا، ولم يمتثلوا ما أوجب اللهُ عليهم.
وطائفة لم يتبصَّروا، وأمروا على غير بصيرةٍ، وربما وقع منهم من الفساد والضَّرر والعواقب الوخيمة ما لا يعلم به إلا الله، كما جرى للخوارج وغيرهم من أهل البدع بزعمهم أنَّهم يأمرون بالمعروف، وأنهم يُنكرون المنكر، فكفَّروا الناس، وظلموا الناس، وخرجوا على الناس بالسلاح، وخالفوا الشَّريعة.
وأغلب الناس قد ما يكون عندهم حكمة، ما عندهم حلم، ما عندهم بصيرة، قد يُؤتى من جهله، قد يُؤتى من عجلته، قد يُؤتى من جهة أسلوبه، قد يُؤتى من جهة عدم معرفة الحكم الشَّرعي في هذه المسألة؛ فيقع فيما يضرّ الناس ويُسبب المشاكل.
فالواجب على الآمر والنَّاهي أن يتبصَّر، وأن ينظر في حدود الله، وأن يعلم بما تقتضيه الشَّريعة في إنكار المنكر، والأمر بالمعروف على حدِّ كتاب الله وسنة رسوله، على حدِّ العلم والبصيرة والنَّظر في العواقب؛ ولهذا في حديث أبي ثعلبة الخشني يقول ﷺ: إذا رأيتَ شحًّا مُطاعًا، وهوًى مُتَّبعًا، ودُنيا مُؤثرة، وإعجاب كل ذي رأيٍ برأيه، فعليك بنفسك، ودع عنك أمر العامَّة، وفي اللَّفظ الآخر: وأمرًا لا يدانِ لك به يعني: لا طاقةَ لك به.
والصديق بيَّن للناس معنى قوله جلَّ وعلا: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ [المائدة:105]، وظنَّ بعضُ الناس أنه إذا أعرض ما عليه شيء، إذا كان مُهتديًا. وهذا تأويلٌ، لكن في غير تأويلها؛ ولهذا قال: إنه سمع النبيَّ ﷺ يقول: إنَّ الناس إذا رأوا المنكر فلم يُغيروه أوشك أن يعمَّهم الله بعقابٍ.
فلا يكون مُهتديًا إلا إذا أدَّى الواجب، أدَّى الواجبات، وترك المحرَّمات، يكون مُهتديًا، ومن الواجب: الأمر بالمعروف، والنَّهي عن المنكر، فإذا لم يتيسر ذلك، وتغيرت الأحوال، وزاد الناسُ في الفوضى وقلَّة العلم، ورأيت أمرًا لا يدانِ لك به، بل أمر يصعب عليك ولا تستطيعه؛ فعليك بنفسك، ولا تتعاطى شيئًا يُسبب ما هو أنكر لما فعلت.
ولهذا ذكر العلماءُ أنَّ إنكار المنكر له أحوال:
تارةً يُنكره ويرجو أن يزول بالكلية؛ لما عرف من الأسباب، ولا يعقبه شرٌّ منه ولا مثله، فهذا يجب إنكاره.
وتارةً يخشى أن يقع مثله، يزول ولكن يقع مثله أو قريب منه، فهذا محل نظرٍ، ومحل اجتهادٍ، وفي إنكاره نظرٌ حينئذٍ، ما دام يحل محله مثله أو قريب منه.
وتارةً يعرف ويعلم أنه متى أنكر هذا وقع ما هو أكبر، فإنه يتجنب ذلك إلى وقتٍ آخر؛ لئلا يقع ما هو أكبر.
وفي هذا المعنى ما حُكي عن شيخ الإسلام رحمه الله أنه مرَّ مع جماعةٍ من أصحابه على قومٍ من التتر يشربون الخمر، فقال بعضُ أصحابه: يُنكر عليهم؟ قال: لا، دعهم؛ فإنَّهم إن تركوها قاموا يقتلون المسلمين، فدعهم مشغولين بما هم فيه؛ لأنَّ خمرهم أقلّ ضررًا من قتلهم المسلمين؛ لأنَّهم يقتلون، لا يُبالون؛ لكفرهم وضلالهم وجهلهم.
كَمَا نصب كثيرٌ من أهل الْبِدَع والأهواء نَفسَه لِلْأَمْرِ وَالنَّهْي: كالخوارج والمعتزلة والرافضة، وَغَيرهم ممن غلط فِيمَا أتاه من الأمر وَالنَّهْي وَالْجهَاد وَغير ذَلِك، فَكَانَ فَسَادُه أعظم من صَلَاحه.
وَلِهَذَا أمر النَّبِيُّ ﷺ بِالصَّبرِ على جور الأئمة، وَنهى عَن قِتَالهم مَا أقاموا الصَّلَاة، وَقَالَ: أدُّوا إليهم حُقُوقَهم، وسلوا الله حقوقَكم، وَقد بسطنا القَوْلَ فِي ذَلِك فِي غير هَذَا الْمَوضع.
وَلِهَذَا كَانَ من أصول أهل السُّنة وَالْجَمَاعَة: لُزُوم الْجَمَاعَة، وَترك قتال الأئمة، وَترك الْقِتَال فِي الْفِتْنَة، وأما أهل الأهواء -كالمعتزلة- فيرون الْقِتَال للأئمة من أصول دينهم.
وَيجْعَل الْمُعْتَزلَةُ أصولَ دينهم خَمْسَةً: التَّوْحِيد الَّذِي هُوَ سلب الصِّفَات، وَالْعَدْل الَّذِي هُوَ التَّكْذِيب بِالْقَدرِ، والمنزلة بَين المنزلتين، وإنفاذ الْوَعيد، والأمر بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْي عَن الْمُنكر الَّذِي فِيهِ قتال الأئمة. وَقد تَكَلَّمتُ على قتال الأئمة فِي غير هذا الْمَوضع.
الشيخ: وهذه أصول المعتزلة الخبيثة، بدل الأصول الخمسة: الشَّهادتان، والصلاة، والصوم، والحجّ، هذه أصولهم: التوحيد: سلب صفات الله عزَّ وجلَّ، والعدل: نفي القدر، وأنه لا قدرَ بزعمهم أنَّ سبق القدر خلاف العدل، والمنزلة بين المنزلتين: إخراج العاصي من الإيمان، وعدم دخوله في الكفر بينهما، ولكنه مُخلَّدٌ في النار.
والخوارج جعلوه خارجًا من الإسلام بالكلية، وهم قالوا: منزلة بين المنزلتين، لا مؤمن ولا كافر، ولكنه مخلَّدٌ في النار، فهذا من جهلهم وضلالهم وعدم بصيرتهم.
والأصل الرابع: إنفاذ الوعيد: يعني أنَّ العاصي يُخلد في النار، يُنفذ فيه الوعيد، لا كما قال أهلُ السنة والجماعة: تحت مشيئة الله، العاصي تحت المشيئة، كما قال سبحانه: وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ [النساء:48]، قالوا: لا، بل العاصي مثل الكافر يُنفذ فيه الوعيد.
ومَن مات على الزنا أو الخمر فهو مخلَّدٌ في النار، ولا يخرج من النار: كمَن مات على الشِّرك بالله، نسأل الله العافية.
والأصل الخامس عندهم: الأمر بالمعروف، والنَّهي عن المنكر، لكن ليس كما عند أهل السُّنة، بل المعنى عندهم: الخروج على الأئمة إذا عصوا، الخروج عليهم وقتالهم، ولو كانوا مسلمين، ما دام ظهرت منهم معصية فيُقاتلون، هذا الذي نهى عنه النبيُّ ﷺ وشدد فيه، وأمر بلزوم الجماعة وقال: مَن رأى من أميره معصيةً فليكره ما يأتيه من معصية الله، ولا ينزع يدًا من طاعةٍ، وقال: لا تُقاتلوهم ما أقاموا فيكم الصَّلاة، إلا أن تروا كفرًا بواحًا عندكم من الله فيه برهان.
فالمعتزلة والخوارج خالفوا هذه الأحاديث، وجعلوا من أصولهم: الخروج على الأئمة، وسموه: الأمر بالمعروف والنَّهي عن المنكر، ولبسوا على الناس؛ ولهذا خرجوا على عليٍّ، وقاتلوا عليًّا بزعمهم أنه عصى لما حكم في الأمر بينه وبين معاوية، والله المستعان.
وجماع ذَلِك دَاخلٌ فِي الْقَاعِدَة الْعَامَّة فِيمَا إذا تَعَارَضَت الْمصَالح والمفاسد، والحسنات والسَّيئات، أو تزاحمت، فإنه يجب تَرْجِيح الرَّاجِح مِنْهَا فِيمَا إذا ازدحمت المصَالح والمفاسد، وتعارضت المصَالح والمفاسد، فَإِنَّ الأمر والنَّهي وَإِن كَانَ مُتضمنًا لتحصيل مصلحَةٍ، وَدفع مَفْسدَةٍ، فَينْظر فِي الْمُعَارض لَهُ، فَإِن كَانَ الَّذِي يفوت من المصَالح أو يحصل من الْمَفَاسِد أكثر؛ لم يكن مَأْمُورًا بِهِ، بل يكون مُحرَّمًا إذا كَانَت مفسدته أكثر من مَصْلحَته، لَكِن اعْتِبَار مقادير الْمصَالح والمفاسد هُوَ بميزان الشَّرِيعَة، فَمَتَى قدر الإنسانُ على اتِّبَاع النُّصُوص لم يعدل عَنْهَا، وَلَا اجْتَهد رَأْيه لمعْرِفَة الأشباه والنَّظائر، وَقلَّ أن تعوز النُّصُوص مَن يكون خَبِيرًا بهَا وبدلالتها على الأحكام.
وعَلى هَذَا إذا كَانَ الشَّخْصُ أو الطائفة جامعين بَين مَعْرُوفٍ ومُنكرٍ، بِحَيْثُ لَا يُفرِّقون بَينهمَا، بل إما أن يفعلوهما جَمِيعًا، أو يتركوهما جَمِيعًا؛ لم يجز أن يُؤمَروا بِمَعْرُوفٍ، وَلَا أن يُنهوا عَن مُنكرٍ، بل يُنظر: فَإِن كَانَ الْمَعْرُوف أكثر أمر بِهِ، وإن استلزم مَا هُوَ دونه من الْمُنكر، وَلم ينْهَ عَن مُنكرٍ يَسْتَلْزم تَفْوِيت مَعْرُوفٍ أعظم مِنْهُ، بل يكون النَّهْيُ حِينَئِذٍ من بَاب الصَّدِّ عَن سَبِيل الله، وَالسَّعْي فِي زَوَال طَاعَته وَطَاعَة رَسُوله ﷺ، وَزَوَال فعل الْحَسَنَات.
وإن كَانَ الْمُنكر أغلب نُهي عَنهُ، وإن استلزم فَوَات مَا هُوَ دونه من الْمَعْرُوف، وَيكون الأمرُ بذلك الْمَعْرُوف المستلزم للْمُنكر الزَّائِد عَلَيْهِ أمرًا بمُنكر، وسعيًا فِي مَعْصِيَة الله وَرَسُوله.
وإن تكافأ الْمَعْرُوف وَالْمُنكر المتلازمان لم يُؤمَر بهما، وَلم ينْهَ عَنْهُمَا، فَتَارَةً يصلح الأمر، وَتارَةً يصلح النَّهْي، وَتارَةً لَا يصلح لَا أَمْر وَلَا نهي، حَيْثُ كَانَ الْمُنكر وَالْمَعْرُوف مُتلازمين، وَذَلِكَ فِي الأمور الْمعينَة الْوَاقِعَة.
وأمَّا من جِهَة النَّوْع فَيُؤْمَر بِالْمَعْرُوفِ مُطلقًا، وَيُنْهى عَن الْمُنكر مُطلقًا، وَفِي الْفَاعِل الْوَاحِد، والطَّائفة الْوَاحِدَة يُؤمَر بمعروفها، وَيُنْهى عَن مُنكرها، ويحمد محمودها، ويذمّ مذمومها، بِحَيْثُ لَا يتَضَمَّن الأمر بِمَعْرُوفٍ فَوَات مَعْرُوفٍ أكبر مِنْهُ، أو حُصُول مُنكرٍ فَوْقه، وَلَا يتَضَمَّن النَّهْي عَن الْمُنكر حُصُول مَا هُوَ أنكر مِنْهُ، أوْ فَوَات مَعْرُوف أرجح مِنْهُ.
وإذا اشْتَبَهَ الأمرُ استثبت الْمُؤمنُ حَتَّى يتَبَيَّن لَهُ الْحقّ، فَلَا يقدم على الطَّاعَة إلا بِعلمٍ وَنِيَّةٍ، وإذا تَركهَا كَانَ عَاصِيًا، فَترك الأمر الْوَاجِب مَعْصِية، وَفعل مَا نهي عَنهُ من الأمر مَعْصِية.
وَهَذَا بَابٌ وَاسعٌ، وَلَا حول وَلَا قُوَّة إلا بِاللَّه.
وَمن هَذَا الْبَاب: إقرار النَّبِي ﷺ لعبدالله بن أُبي وأمثاله من أئمة النِّفَاق والفجور؛ لما لَهُم من الأعوان، فإزالة مُنكره بِنَوْعٍ من عِقَابه مُستلزمة إزالة مَعْرُوف أكبر من ذَلِك بغضب قومه وحميَّتهم، وبنفور النَّاس إذا سمعُوا أنَّ مُحَمَّدًا يقتل أصحابه.
وَلِهَذَا لما خطب النَّاس فِي قصَّة الْإِفْك بِمَا خاطبهم بِهِ، وَاعْتَذر مِنْهُ، وَقَالَ لَهُ سعد بن معَاذ قَوْله الَّذِي أحسن فِيهِ، حمى لَهُ سعد بن عُبَادَة، مَعَ حُسن إيمانه وَصدقه، وتعصب لكلٍّ مِنْهُم قبيله، حَتَّى كَادَت تكون فتْنَة.
وَأصل هَذَا أن تكون محبَّةُ الإنسان للمعروف، وبُغضه للْمُنكر، وإرادته لهَذَا، وكراهته لهَذَا مُوَافقًا لحبِّ الله وبُغضه، وإرادته وكراهيته الشَّرعيتين، وأن يكون فعله للمحبوب وَدفعه للمكروه بِحَسب قوته وَقُدرته، فَإِنَّ الله لَا يُكَلِّف نفسًا إلا وسعهَا، وَقد قَالَ: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ [التغابن:16].
فَأَمَّا حبُّ الْقَلب وبُغضه، وإرادته وكراهيته فَيَنْبَغِي أن تكون كَامِلَةً جازمةً، لَا يُوجب نقص ذَلِك إلا نقص الإيمان، وأما فعل الْبَدن فَهُوَ بِحَسب قُدرته، وَمَتى كَانَت إرادةُ الْقَلب وكراهته كَامِلَةً تَامَّةً.
الشيخ: ولهذا يجب على المسلم أن يُحب الله ورسوله، ويُحب ما شرعه الله محبةً كاملةً، وأن يكره ما نهى الله عنه ورسوله كراهةً كاملةً، أما التَّنفيذ فعلى حسب قُدرته: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ، فهو يحب مثلًا أن يحجَّ كل عامٍ، لكن ما يلزم منه ذلك، ولا يلزم من كمال المحبَّة أن يفعل ذلك، ولا يلزمه أيضًا أن يحجَّ وهو غير مُستطيعٍ، وإن كان كامل المحبَّة لله ولرسوله، لكن فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ، يُحب الله ورسوله، ويُحب الجهاد، لكن لا يستطيع الجهاد: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ.
كذلك الأمور الأخرى: من شكران والديه وجيرانه، يتَّقي الله فيها ما استطاع حسب طاقته، لكن قلبه مملوءٌ بحب الله ورسوله، وحب ما أحبّه الله ورسوله، ومن كراهة ما كرهه الله ورسوله، هذا مقدورٌ عليه، فيما يتعلق بالقلب مقدور عليه، يعني: يُحب الله ورسوله محبةً صادقةً كاملةً، ومحبة طاعته، ويكره ما كرهه ورسوله كراهةً كاملةً، والتَّنفيذ على حسب الطاقة: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ.
ولولي الأمر النظر في أمور الناس: فإذا كان هناك مَن يُخشى من سجنه أو قتله فتنة كبرى وشرّ أعظم أمهل ولم يعجل بقتله ولا بسجنه؛ لئلا تقع فتنةٌ أكبر من قتله ومن سجنه؛ لأنَّ له أعوانًا، وله أصحابًا يغضبون له، كما جرى لعبدالله بن أُبي بن سلول، فإنَّ الرسول أمهله ولم يقتله، مع ظهور نفاقه، والدلائل على نفاقه؛ لئلا يغضب له قومه فتقع فتنة.
وَمَتى كَانَت إرادةُ الْقَلب وكراهته كَامِلَةً تَامَّةً، وَفعل العَبْد مَعهَا بِحَسب قُدرته، فَإِنَّهُ يُعْطَى ثَوَاب الْفَاعِل الْكَامِل، كَمَا قد بَيَّناهُ فِي غير هَذَا الْموضع، فَإِنَّ من النَّاس مَن يكون حبُّه وبُغضه وإرادته وكراهته بِحَسب محبَّته نَفسه وبغضها، لَا بِحَسب محبَّة الله وَرَسُوله، وبُغض الله وَرَسُوله، وَهَذَا من نوع الْهَوى، فَإِن اتَّبعهُ الإنسان فقد اتَّبع هَوَاهُ: وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ [القصص:50]، فَإِنَّ أصل الْهَوى هُوَ محبَّة النَّفس، وَيتبع ذَلِك بُغضها.
والهوى نَفسه -وَهُوَ الْحبّ والبُغض الَّذِي فِي النَّفس- لَا يُلام العَبْدُ عَلَيْهِ، فَإِنَّ ذَلِك لَا يملكهُ، وإنما يُلام على اتِّبَاعه، كَمَا قَالَ تَعَالَى: يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ [ص:26]، وَقَالَ تَعَالَى: وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ [القصص:50].
وَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ثَلَاثٌ مُنجيات: خشيَة الله فِي السِّرّ وَالْعَلَانِيَة، وَالْقَصْد فِي الْفَقر والغِنى، وَكلمَة الْحقِّ فِي الْغَضَب وَالرِّضَا. وَثَلَاثٌ مُهلكات: شُحٌّ مُطَاعٌ، وَهوًى مُتَّبعٌ، وإعجاب الْمَرْء بِنَفسِهِ.
وَالْحُبّ والبُغض يتبعهُ ذوق عِنْد وجود المحبوب والمبغوض، وَوجد وإرادة وَغير ذَلِك، فَمَن اتَّبع ذَلِك بِغَيْر أمر الله وَرَسُوله فَهُوَ مِمَّن اتَّبع هَوَاهُ بِغَيْر هُدًى من الله، بل قد يتمادى بِهِ الأمرُ إلى أن يتَّخذ إلهه هَوَاهُ.
وَاتِّبَاع الأهواء فِي الدِّيانَات أعظم من اتِّبَاع الأهواء فِي الشَّهَوَات، فَإِنَّ الأول حَال الَّذين كفرُوا من أهل الْكِتاب وَالْمُشْرِكين، كَمَا قَالَ تَعَالَى: فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ [القصص:50].
وَقَالَ تَعَالَى: ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ .. الآية، إلى قَوْله: بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْوَاءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ [الروم:28- 29].
وَقَالَ تَعَالَى: وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ وَإِنَّ كَثِيرًا لَيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ [الأنعام:119] الآية.
وَقَالَ تَعَالَى: يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ [المائدة:77].
وَقَالَ تَعَالَى: وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ [البقرة:120].
وَقَالَ تَعَالَى فِي الآية الأخرى: وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ [البقرة:145].
وَقَالَ: وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ [المائدة:49].
وَلِهَذَا كَانَ مَن خرج عَن مُوجِب الْكِتاب وَالسُّنة من المنسوبين إلى الْعُلمَاء والعُبَّاد يُجْعَل من أهل الأهواء، كَمَا كَانَ السّلفُ يُسمونهم: أهل الأهواء، وَذَلِكَ أنَّ كلَّ مَن لم يتبع الْعِلم فقد اتَّبع هَوَاهُ، وَالْعِلم بِالدّينِ لَا يكون إلا بِهَدي الله الَّذِي بعث بِهِ رَسُوله ﷺ.
وَلِهَذَا قَالَ الله تَعَالَى فِي مَوضِعٍ: وَإِنَّ كَثِيرًا لَيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ [الأنعام:119].
وَقَالَ فِي مَوضِعٍ آخر: وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ [القصص:50].
فَالْوَاجِب على العَبْد أن ينظر فِي نفس حبِّه وبُغضه، وَمِقْدَار حبِّه وبُغضه: هَل هُوَ مُوَافقٌ لأمر الله وَرَسُوله؟ وَهُوَ هُدى الله الَّذِي أنزله على رَسُوله ﷺ، بِحَيْثُ يكون مَأْمُورًا بذلك الْحبِّ والبُغض، لَا يكون مُتَقَدِّمًا فِيهِ بَين يَدي الله وَرَسُوله، فَإِنَّهُ قد قَالَ تَعَالَى: لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ [الحجرات:1].
وَمَن أحبَّ أو أبغض قبل أن يَأْمُرهُ الله وَرَسُوله فَفِيهِ نوعٌ من التَّقَدُّم بَين يَدي الله وَرَسُوله.
وَمُجَرَّد الْحبِّ والبُغض هُوَ هوى، لَكِن الْمُحرَّم مِنْهُ اتِّبَاع حُبِّه وبُغضه بِغَيْر هدًى من الله؛ وَلِهَذَا قَالَ الله لنَبيه دَاوُد: وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ [ص:26]، فَأَخْبر أنَّ مَن اتَّبع هَوَاهُ أضلَّه ذَلِك عَن سَبِيل الله، وَهُوَ هداه الَّذِي بعث بِهِ رَسُوله، وَهُوَ السَّبِيل إليه.
وَتَحْقِيق ذَلِك: أنَّ الأمر بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْي عَن الْمُنكر هُوَ من أوجب الأعمال وأفضلها وأحسنها، وَقد قَالَ تَعَالَى: لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا [الملك:2]، وَهُوَ كَمَا قَالَ الفُضيل بن عِيَاض رَحمَه الله: أخلصه وأصوبه، فَإِنَّ الْعَمَلَ إذا كَانَ خَالِصًا وَلم يكن صَوَابًا لم يُقبل، وإذا كَانَ صوابًا وَلم يكن خَالِصًا لم يُقبل، حَتَّى يكون خَالِصًا صَوَابًا، والخالص أن يكون لله، وَالصَّوَاب أن يكون على السُّنة.
الشيخ: هذه الأمور التي ذكرها المؤلفُ هي أخطر شيءٍ على الناس في كل زمانٍ، فإنَّ الرجل قد يكون صالحًا، وقد يكون عنده خير وعلم، ولكن إذا خالف الواقع هواه تغيرت حاله، ولم ينضبط، وحرص على أن يتبع هواه، وأن يميل إلى هواه، إلا مَن رحم الله.
فهذه الأمور في النَّفس بما يهواه هو، وكراهة لما يكرهه كثيرًا ما يُقدِّمها الإنسانُ على ما يُريده الله ويُحبّه الله من أجل ضعف إيمانه، وضعف بصيرته، فإذا أعانه الله ترك هواه، وقمع نفسه، واتَّبع الحقَّ وإن خالف هواه، وناصر الحقَّ وإن خالف هواه؛ لأنه عنده من الإيمان والتَّقوى ما يحمله على ذلك، كما قال تعالى: وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى [النازعات:40- 41]، بخلاف ما قال الله: فَأَمَّا مَنْ طَغَى وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى [النازعات:37- 39].
فمُؤثر الدنيا قد تابع هواه؛ لأنه يستميل الدنيا والشَّهوات، فإذا تابع ذلك ومال إلى ذلك وأقرَّه صار ممن آثر الحياة الدنيا، وصار ممن تبع الهوى، فإذا منعها من الربا، منعها من الغشِّ، منعها من الخيانة، منعها من ظلم الناس في أنواع الظلم؛ صار هذا ممن خالف هواه، ونهى النفس عن هواها، وإن كان فيه طمعٌ له في مالٍ وفي دنيا، لكن حبّه لله ولرسوله وخوفه من الله حمله على أن يمنع نفسه من هذا الهوى، وأن يُلزمها بالحدِّ في كل شيءٍ.
س: كيف يكون الشُّحُّ مُطاعًا؟
ج: من طبيعة النفس الشّح، حرصك على المال، الشح: الحرص، فإذا أطعته هلكت، فإنَّك إذا أطعت الشُّح طلبت المالَ من كل طريقٍ: من الربا، والخيانة، وغيرها، والسرقة؛ لأنَّ الشح: الحرص على المال، ثم المنع، يطلبه بغير حلِّه، ويمنعه من وجهه، فإذا أطاع شُحَّه منع الواجب، وأخذ المال من غير حلِّه، ومَن لم يُطع الشُّح وقف عند الحدِّ الشَّرعي، وخالف هواه، فلم يقبل من المال إلا ما كان حلالًا، ولم يُطع نفسه في هواها في منع واجبٍ، بل يُخرج الصَّدقة والزكاة، ويُنفق على مَن تحت يده، ويُكرم الضيف، ويُنفق في وجوه الخير، مخالفًا لهواه وللشُّحِّ.
فَالْعَمَل الصَّالح لَا بُدَّ أن يُرَاد بِهِ وَجه الله تَعَالَى، فَإِنَّ الله تَعَالَى لَا يقبل من الْعَمَل إلا مَا أُريد بِهِ وَجهه وَحده، كَمَا فِي الحَدِيث الصَّحِيح عَن أبي هُرَيْرَة، عَن النَّبِي ﷺ قَالَ: يَقُول الله تَعَالَى: أنا أغنى الشُّرَكَاء عَن الشِّرك، مَن عمل عملًا أشرك فِيهِ غَيْرِي فَأَنا مِنْهُ برِيءٌ، وَهُوَ كُله للَّذي أشرك.
وَهَذَا هُوَ التَّوْحِيد الَّذِي هُوَ أصل الإسلام، وَهُوَ دين الله الَّذِي بعث بِهِ جَمِيع رسله، وَله خلق الْخَلق، وَهُوَ حَقّه على عباده: أن يعبدوه وَلَا يُشركوا بِهِ شَيْئًا، وَلَا بُدَّ مَعَ ذَلِك أن يكون الْعَمَلُ صَالحًا، وَهُوَ مَا أمر الله بِهِ وَرَسُوله، وَهُوَ الطَّاعَة، فَكل طَاعَةٍ عمل صَالح، وكل عملٍ صَالحٍ طَاعَة، وَهُوَ الْعَمَل الْمَشْرُوع الْمَسنون؛ إذ الْمَشْرُوع الْمسنون هُوَ الْمَأْمُور بِهِ أمر إيجابٍ أو اسْتِحْبَابٍ، وَهُوَ الْعَمَل الصَّالح، وَهُوَ الْحسن، وَهُوَ الْبرّ، وَهُوَ الْخَيْر، وضدّه الْمَعْصِيَة، وَالْعَمَل الْفَاسِد، والسَّيئة، والفجور، وَالشَّر، وَالظُّلم، وَالْبَغي.
وَلما كَانَ الْعَمَلُ لَا بُدَّ فِيهِ من شَيْئَيْنِ: النِّيَّة وَالْحَرَكَة، كَمَا قَالَ النَّبِي ﷺ: أصدق الأسماء: حَارِث وَهَمَّام، فَكل أحدٍ حَارِث وَهَمَّام لَهُ عمل وَنِيَّة، لَكِن النِّيَّة المحمودة الَّتِي يتقبلها الله ويُثيب عَلَيْهَا هِيَ أن يُرَاد الله وَحده بذلك الْعَمَل، وَالْعَمَل الْمَحْمُود هُوَ الصَّالح، وَهُوَ الْمَأْمُور بِهِ.
وَلِهَذَا كَانَ عمرُ بن الْخطَّاب رَضِي الله عَنهُ يَقُول فِي دُعَائِهِ: اللَّهُمَّ اجْعَل عملي كُلَّه صَالحًا، واجعله لوجهك خَالِصًا، وَلَا تجْعَل لأحدٍ فِيهِ شَيْئًا.
وإذا كَانَ هَذَا حدّ كل عملٍ صَالحٍ، فَالْأَمْر بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْي عَن الْمُنكر.
الشيخ: العمل الصالح عند الإطلاق هو الذي صدر من المسلم، قد اشتمل على أمرين: الإخلاص، والموافقة للشَّريعة. هذا هو العمل الصالح، فإن فقد الإخلاص صار شركًا، وإن فقد المتابعةَ صار بدعةً، فلا يتم أن يكون عملًا صالحًا إلا بإخلاصه لله، وبمُتابعته للشَّريعة، ومُوافقته لها؛ ولهذا كان من دعاء عمر أنه كان يقول: "اللهم اجعل عملي كله صالحًا، واجعله لوجهك خالصًا، ولا تجعل لأحدٍ فيه شيئًا"، ويقول سبحانه في كتابه العظيم: فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا يعني: مُوافقًا للشَّريعة وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا [الكهف:110] .....
الشيخ: مَن تعبد بغير علمٍ كان ما يُفسده أكثر مما يُصلحه، لا بدَّ من علمٍ في العبادات وفقهٍ، ومن ذلك الأمر بالمعروف والنَّهي عن المنكر؛ لأنه عمل صالح، عمل عظيم، فلا بدَّ فيه من علمٍ وبصيرةٍ؛ حتى لا يأمر بمنكرٍ، وحتى لا ينهى عن معروفٍ، فلا بدّ فيه من الإخلاص له، لا بدّ من الأمرين: إخلاص لله، ومُوافقة الشَّريعة في أمره ونهيه، حتى لا يُفسد أكثر مما يُصلح، وهذا المقام مقام عظيم خطير، فيجب أن لا يتولاه إلا أهل البصيرة والعلم والحلم والرِّفق؛ حتى يحصل بذلك من الخير العظيم ما لا يُحصيه إلا الله ، إذا دخله الرِّياء ودخله الجهل والعجلة والعنف صار بذلك شرٌّ عظيمٌ.
وكما فِي حَدِيث معَاذ بن جبل : "الْعِلم إمام الْعَمَل، وَالْعَمَل تَابعه".
وَهَذَا ظَاهرٌ، فَإِنَّ الْقَصْدَ وَالْعَمَل إن لم يكن بِعلمٍ كَانَ جهلًا وضلالًا واتِّباعًا للهوى كَمَا تقدم، وَهَذَا هُوَ الْفَرق بَين أهل الْجَاهِلِيَّة وأهل الإسلام، فَلَا بُدَّ من الْعِلم بِالْمَعْرُوفِ وَالْمُنكر، والتَّمييز بَينهمَا، وَلَا بُدَّ من الْعِلم بِحَال الْمَأْمُور، وَحَال الْمَنْهِي، وَمن الصَّلاح أن يَأْتِي بالأمر وَالنَّهْي على الصِّرَاط الْمُسْتَقيم، وَهُوَ أقْرَب الطُّرق إلى حُصُول الْمَقْصُود.
وَلَا بُدَّ فِي ذَلِك من الرِّفْق، كَمَا قَالَ النَّبِي ﷺ: مَا كَانَ الرِّفْقُ فِي شَيْءٍ إلا زانه، وَلَا كَانَ العنفُ فِي شَيْءٍ إلا شانه، وَقَالَ ﷺ: إنَّ الله رَفِيقٌ يُحبّ الرِّفْقَ فِي الأمر كُلِّه، وَقَالَ: إنَّ الله رَفِيقٌ يُحبّ الرِّفْقَ، وَيُعْطِي عَلَيْهِ مَا لَا يُعْطِي على العُنف.
الشيخ: الأمر عظيم، ففي "صحيح مسلم" عن النبي ﷺ من حديث عائشةَ رضي الله عنها أنه قال عليه الصلاة والسلام: اللهم مَن ولي من أمر أُمَّتي شيئًا فرفق بهم فارفق به، اللهم مَن ولي من أمر أُمَّتي شيئًا فشقَّ عليهم فاشقُقْ عليه.
الشيخ: لا بدَّ أن يكون في الآمر والنَّاهي والدَّاعي، لا بدَّ من حلمٍ وصبرٍ مع العلم، لا بدَّ من حلمٍ وصبرٍ، أي: لا بدّ أن يُؤذَى، لا بدَّ أن يحصل له ما يُوجب الغضب، لا بدَّ من حلمٍ؛ حتى لا يبطش ويتكلم بما لا ينبغي، بل لا بدَّ من صبرٍ على الأذى، هكذا أمر المؤمن، كما قال لقمان لابنه: يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ [لقمان:17]، وقال جلَّ وعلا: لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ [آل عمران:186].
كَمَا قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ: وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ [لقمان:17].
وَلِهَذَا أمر اللهُ الرُّسُلَ -وهم أئمّة الأمر بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْي عَن الْمُنكر- بِالصَّبرِ، كَقَوْلِه لخاتم الرُّسُل ، بل ذَلِك مقرونٌ بتبليغ الرِّسَالَة، فَإِنَّهُ أول مَا أُرسل أُنزلت عَلَيْهِ سُورَة: يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ [المدثر] بعد أن أُنزلت عَلَيْهِ سُورَة "اقْرَأ" الَّتِي بها نُبئ، فَقَالَ الله تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ [المدثر:1- 7].
الشيخ: هذه أول سورةٍ أُرسل بها، قال الله تعالى: وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ؛ لأنه يعلم سبحانه أنه لا بدَّ أن يحصل له أذى، مَن قام يدعو الناس إلى خلاف أهوائهم، وإلى خلاف عاداتهم.
فَافْتتحَ آيَات الإرسال إلى الْخَلق بالأمر بالإنذار، وختمها بالأمر بِالصبرِ، وَنَفس الإنذار أمْرٌ بِالْمَعْرُوفِ، وَنهيٌ عَن الْمُنكر، فَعلم أنه يجب بعد ذَلِك الصَّبْر.
وَقَالَ تَعَالَى: وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا [الطور:48]، وَقَالَ تَعَالَى: وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا [المزمل:10]، وَقَالَ: فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ [الأحقاف:35]، وَقَالَ: فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ [القلم:48]، وَقَالَ: وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ [النحل:127]، وَقَالَ: وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ [هود:115].
فَلَا بُدَّ من هَذِه الثَّلَاثَة: الْعِلم، والرِّفق، وَالصَّبْر.
العلم قبل الْأَمر وَالنَّهْي، والرِّفق مَعَه، وَالصَّبْر بعده، وإن كَانَ كلٌّ من الثَّلَاثَة لَا بُدَّ أن يكون مُستصحبًا فِي هَذِه الأحوال.
وَهَذَا كَمَا جَاءَ فِي الأثر عَن بعض السَّلف، وَرَوَوْهُ مَرْفُوعًا، ذكره القَاضِي أبو يعلى فِي "الْمُعْتَمد": لَا يَأْمُر بِالْمَعْرُوفِ وَينْهى عَن الْمُنكر إلا مَن كَانَ فَقِيهًا فِيمَا يَأْمُر بِهِ، فَقِيهًا فيما ينهى عَنهُ، رَفِيقًا فِيمَا يَأْمُر بِهِ، رَفِيقًا فِيمَا ينْهَى عَنهُ، حَلِيمًا فِيمَا يَأْمُر بِهِ، حَلِيمًا فِيمَا ينْهَى عَنهُ.
الشيخ: ذكر الحلمَ، وذكر الصبر، المعنى متقارب؛ لأنَّ الحليم هو الصبور، والصبور هو الحليم، فمَن حلم صبر.
وفي الصحيح أنَّ وفد عبد القيس كان فيهم شخصٌ يُقال له: الأشجّ، فقال له النبيُّ ﷺ: يا أشج عبد القيس، إنَّ فيك خصلتين يُحبهما الله، قال: ما هما يا رسول الله؟ قال: الحلم والأناة، قال: يا رسول الله، هل تخلَّقتُ بهما أو جُبِلتُ عليهما؟ قال: بل جُبِلْتَ عليهما، قال: الحمد لله الذي جبلني على كل خيرٍ يحبّه الله ورسوله.
الشيخ: والمعنى في هذا أنَّ الأمر مهمٌّ وعظيمٌ، فيقول: إنَّ بعض الناس قد يصعب عليه الأمر فيترك الأمر والنَّهي، يقول: أنا ما أقوى على الصبر، أنا ما أقوى على الرِّفق، أنا، أنا. هذه مُصيبة قد تكون أشدّ من كونه يغلط في الأمر والنَّهي، لا بدّ من تحملٍ، لا بدّ من جهادٍ وصبرٍ وتحملٍ؛ حتى يأمر وينهى، فإنه إذا ترك الأمر والنَّهي معناه جاء الفساد، وعمَّ البلاء، لا بدّ من جهاد النفس حتى يقوم بالواجب، وحتى يصبر، وحتى يرفق، ولا يكون عذرًا له أن يقول: إني أخاف ما أرفق، أخاف، أخاف، لا، هذا من الشيطان، ومن تزهيد الشيطان، ولكن عليه أن يُجاهد، وأن يتَّقي الله، ويأمر بالمعروف، وينهى عن المنكر، إذا كان عنده علمٌ فإنه يأمر وينهى، ويُجاهد نفسه بالرفق والتَّحمل والصبر، ولا يقول: أنا ما أستطيع. ثم يُهمل الأمر، ويدع الحبل على الغارب.
الشيخ: هذا بحثٌ جيدٌ، بحثٌ مُفيدٌ، بحثٌ عظيمٌ رحمه الله.
الشيخ: وهذا يُوجب للمؤمن أنَّ ما يُصيبه من المصائب والكوارث بأسباب أعماله السَّيئة وتقصيره عن أمر الله، وعدم قيامه بما أوجب الله من طاعةٍ وأخذٍ بالأسباب، فتُصيبه المصائب بهذا؛ ولهذا يقول جلَّ وعلا: وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ، فالمصائب ناتجة عن المعايب، كما أنَّ الخيرات والنِّعَم ناتجة عن الحسنات والأعمال الصَّالحات، وما يجود الله به فوق ذلك .
ومن الأمور العظيمة التي يجب التَّنبه لها: أنَّ المصائب قد تُصيب الأخيار، وتُصيب الرسل، وهم أفضل الناس، بسبب الخلل الذي يقع من بعض أتباعهم، ولو كان أحد يسلم من العقوبات لسلم الأنبياء والأخيار.
يوم أحد، وما الذي جرى يوم أحد؟! ويوم أحد مَن الذي فيه؟! النبي ﷺ أفضل الخلق، والصحابة أفضل الخلق بعد الأنبياء، فماذا أصابهم؟ أصابتهم الهزيمة، وقُتل جماعة، وقُتل سبعون، وجراحات كثيرة، ومُصيبة عظيمة بإخلال الرُّماة، ومعصية الرُّماة، وقد أُمروا أن يمسكوا الثَّغر، ولو رأوا المسلمين قد انتصروا لا يتعدون الثَّغر، فلما رأوا الهزيمةَ على الكفَّار ظنُّوا أنها الفيصلة، وأخلوا بالموقف، فدخل الكفَّار على المسلمين، فصارت الكارثة بأسباب هؤلاء؛ ولهذا قال جلَّ وعلا: أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا يعني: يوم بدر قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا يعني: من أين أُصبنا؟ قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ [آل عمران:165] يعني: بما فعلتم، يعني: فعله هؤلاء الجماعة.
ويقول سبحانه: وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ [آل عمران:152] يعني: عُوقبتم، الجواب محذوف، ففشل الرُّماة وتنازعهم وإخلالهم بالموقف وعصيانهم سبب على المسلمين كارثة.
فلو أنَّ أحدًا يسلم من عقوبات الذنوب والخلل بالواجب وإعطاء الكفَّار الفرصة، لو أحد يسلم لسلم الرسول ﷺ وأصحابه.
هذا يُفيد المؤمنين الحذر، وأن لا يغتروا بأنَّهم مؤمنين، ويقولوا: أن الله معنا فقط، لا، معكم إن استقمتم، مع المؤمنين إذا استقاموا، وأدّوا الواجب، واجتهدوا في الخير، وصبروا وصابروا، أما إذا فرَّطوا وفرَّط بعضُهم فعليهم الخطر.
وَقد أخبر اللهُ سُبْحَانَهُ بِمَا عاقب بِهِ أهل السَّيِّئَات من الأمم: كقوم نوحٍ، وَعَاد، وَثَمُود، وَقوم لوط، وأصحاب مَدين، وَقوم فِرْعَوْن فِي الدُّنْيَا، وَأَخْبَر بِمَا سيُعاقبهم بِهِ فِي الآخرة.
وَلِهَذَا قَالَ مُؤمنُ آل فِرْعَوْن: يَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزَابِ مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعِبَادِ وَيَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ مَا لَكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ [غافر:30- 33]، وَقَالَ تَعَالَى: كَذَلِكَ الْعَذَابُ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ [القلم:33]، وَقَالَ: سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ [التوبة:101]، وَقَالَ: وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [السجدة:21]، وَقَالَ: فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ إلى قَوْله: يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ [الدخان:10- 16].
وَلِهَذَا يذكر الله فِي عَامَّة سور الإنذار مَا عاقب بِهِ أهل السَّيِّئَات فِي الدُّنْيَا، وَمَا أعدَّه لَهُم فِي الآخرة، وَقد يذكر فِي السُّورَة وعد الآخرة فَقَط؛ إذ عَذَاب الآخرة أعظم، وثوابها أعظم، وَهِي دَار الْقَرار، وإنما يذكر مَا يذكرهُ من الثَّوَاب وَالْعِقَاب فِي الدُّنْيَا تبعًا، كَقَوْلِه فِي قصَّة يُوسُف: وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ وَلَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ [يوسف:56- 57]، وَقَالَ: فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآخِرَةِ [آل عمران:148]، وَقَالَ: وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ [النحل:41- 42]، وَقَالَ عَن إبراهيم عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام: وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ [العنكبوت:27].
وأمَّا ذكره لعقوبة الدُّنْيَا والآخرة فَفِي مثل: وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطًا [النازعات:1- 2]، ثمَّ قَالَ: يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ [النازعات:6- 7]، فَذكر القيامة مُطلقًا، ثمَّ قَالَ: هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى إلى قَوْله: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشَى [النازعات:15- 26].
ثمَّ ذكر المبدأ أو الْمعَاد مُفصلًا فَقَالَ: أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا إلى قَوْله: فَإِذَا جَاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرَى إلى قَوْله تَعَالَى: فَأَمَّا مَنْ طَغَى وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى [النازعات:27- 41] إلى آخر السُّورَة.
وَكَذَلِكَ فِي "المزمل" ذكر قَوْله: وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلًا إِنَّ لَدَيْنَا أَنْكَالًا وَجَحِيمًا إلى قَوْله: فَأَخَذْنَاهُ أَخْذًا وَبِيلًا [المزمل:11- 16].
وَكَذَلِكَ فِي سُورَة الحاقة ذكر قصَص الأمم: كثمود، وَعَاد، وَفرْعَوْن، ثمَّ قَالَ تَعَالَى: فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً [الحاقة:13- 14] إلى تَمام مَا ذكره من أَمْر الْجنَّة وَالنَّار.
وَكَذَلِكَ فِي سُورَة "ن والقلم" ذكر قصَّة أهل الْبُسْتَان الَّذين منعُوا حقَّ أموالهم، وَمَا عاقبهم بِهِ، ثمَّ قَالَ: كَذَلِكَ الْعَذَابُ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ [القلم:33].
وَكَذَلِكَ فِي سُورَة التَّغابن قَالَ: أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ فَذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ذَلِكَ بِأَنَّهُ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا وَاسْتَغْنَى اللَّهُ وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ [التغابن:5- 6]، ثمَّ قَالَ: زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ [التغابن:7].
وَكَذَلِكَ فِي سُورَة "ق" ذكر حَال الْمُخَالفين للرُّسل، وَذكر الْوَعْد والوعيد فِي الآخرة.
وَكَذَلِكَ فِي سُورَة الْقَمَر ذكر هَذَا وَهَذَا، وَكَذَلِكَ فِي "آل حم" مثل: "حم" غَافِر، والسَّجدة، والزخرف، وَالدُّخَان، إلى غير ذَلِك مِمَّا لَا يُحْصَى، فَإِنَّ التَّوْحِيدَ والوعدَ والوعيدَ من أول مَا أُنْزِل.
كَمَا فِي "صَحِيح البُخَارِيّ" عَن يُوسُف بن مَاهك قَالَ: إني عِنْد عَائِشَة أم الْمُؤمنِينَ رَضِي الله عَنْهَا، إذ جاءها عراقي فَقَالَ: أَي الْكَفَن خيرٌ؟ قَالَت: وَيحك! وَمَا يَضرّك؟ قَالَ: يَا أم الْمُؤمنِينَ، أريني مصحفك. قَالَت: لم؟ قَالَ: لعَلي أُؤلِّف الْقُرْآنَ عَلَيْهِ، فَإِنَّهُ يُقْرَأ غير مُؤلف. قَالَت: وَمَا يَضرُّك أيّه قَرَأتَ قبل؟ إنما نزل أول مَا نزل مِنْهُ سُورَة من الْمُفصل، فِيهَا ذكر الْجنَّة وَالنَّار، حَتَّى إذا ثاب النَّاسُ إلى الإسلام نزل الْحَلَال وَالْحرَام، وَلَو نزل أول شَيْءٍ: "لَا تَشْربُوا الْخمرَ" لقالوا: لَا نَدع الْخَمر أبدًا. وَلَو نزل: "لَا تَزْنُوا" لقالوا: لَا نَدع الزِّنَا أبدًا، لقد نزل بِمَكَّة على مُحَمَّدٍ ﷺ وإني لجارية ألعب: بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ [القمر:46]، وَمَا نزلت سُورَة الْبَقَرَة وَالنِّسَاء إلَّا وأنا عِنْده. قَالَ: فأخرجت لَهُ الْمُصحفَ، فَأَمْلَتْ عَلَيْهِ آي السُّور.
وإذا كَانَ الْكُفْر والفسوق والعصيان سَبَب الشَّرّ والعدوان، فقد يندب الرجل أَو الطَّائِفَة، ويسكت آخرون عَن الأمر وَالنَّهْي، فَيكون ذَلِك من ذنوبهم، وينكر عَلَيْهِم آخرون إنكارًا مَنْهِيًّا عَنهُ، فَيكون ذَلِك من ذنوبهم، فَيحصل التَّفَرُّق وَالِاخْتِلَاف وَالشَّر، وَهَذَا من أعظم الْفِتَن والشُّرور قَدِيمًا وحديثًا.
الشيخ: وهذا يقع كثيرًا: إما السُّكوت عن المنكر، وإما إنكار على طريقة غير شرعية، فيحصل التَّفرق والاختلاف والنِّزاع، أما إذا أنكر المنكر بطريقةٍ متبعةٍ، بطريقةٍ إسلاميةٍ حسب الطاقة، بالأساليب الحسنة، وبالدَّعوة إلى الله، وبإنزال الناس منازلهم؛ حصل بهذا من الخير العظيم ما لا يُحصيه إلا الله.
إذ الإنسان ظلوم جهول، وَالظُّلم وَالْجَهل أنواع، فَيكون ظلم الأول وجهله من نوعٍ، وظلم كلٍّ من الثَّانِي وَالثَّالِث وجهلهما من نوعٍ آخر وآخر.
وَمَن تدبر الْفِتَن الْوَاقِعَة رأى سَببهَا ذَلِك، وَرَأى أنَّ مَا وَقع بَين أُمراء الْأُمَّة وعُلمائها، وَمَن دخل فِي ذَلِك من مُلُوكهَا ومشايخها، وَمَن تَبِعَهُمْ من الْعَامَّة من الْفِتَن، هَذَا أصلها، يَدْخل فِي ذَلِك أسباب الضَّلال والغي الَّتِي هِيَ الأهواء الدِّينِيَّة والشَّهوانية، وَهِيَ الْبِدَع فِي الدِّين، والفجور فِي الدُّنْيَا.
وَذَلِكَ أنَّ أسباب الضَّلال والغي -الَّتِي هِيَ الْبِدع فِي الدِّين والفجور فِي الدُّنْيَا- مُشْتَركَة، تعمّ بني آدم؛ لما فيهم من الظُّلم وَالْجَهل، فبذنب بعض النَّاس يظلم نَفسه وَغَيره: بِفعل الزِّنَا، أو التَّلوط، أو غَيره، أَوْ بِشُرب خمرٍ، أَوْ ظلمٍ فِي المَال بِجِنَايَةٍ، أو سَرقَةٍ، أو غصبٍ، وَنَحْو ذَلِك.
وَمَعْلُومٌ أنَّ هَذِه الْمَعاصِي وإن كَانَت مُستقبحةً مذمومةً فِي الْعَقل وَالدِّين، فَهِيَ مُشتهاة فِي الطِّباع أيضًا، وَمن شَأْنِ النُّفُوس أنها لَا تُحبّ اخْتِصَاص غَيرهَا بِشَيْءٍ وزيادته عَلَيْهَا، لَكِن تُرِيدُ أن يحصل لَهَا مَا حصل لَهُ، وَهَذَا هُوَ الْغِبْطَة الَّتِي هِيَ أدنى نَوْعي الْحَسَد، فَهِيَ تُرِيدُ الاستعلاء على الْغَيْر، والاستئثار دونه، أَوْ تحسده وتتمنى زَوَال النِّعْمَة عَنهُ، وإن لم يحصل فَفِيهَا من إِرَادَة الْعُلُوّ وَالْفَساد والاستكبار والحسد مَا مُقْتَضَاهُ أنَّها تخْتَص عَن غَيرهَا بالشَّهوات، فَكيف إذا رَأَتِ الْغَيْر قد اسْتَأْثَر عَلَيْهَا بذلك، واختصَّ بهَا دونهَا.
فالمعتدل مِنْهُم فِي ذَلِك الَّذِي يُحب الِاشْتِرَاك والتَّساوي، وأما الآخر فظلوم حسود، وَهَذَانِ يقعان فِي الأمور الْمُبَاحَة والأمور الْمُحرَّمَة لحقِّ الله، فَمَا كَانَ جنسه مُبَاحًا -من أكلٍ وَشربٍ وَنِكَاحٍ ولباسٍ وركوبٍ وأموالٍ- إذا وَقع فِيهَا الِاخْتِصَاص حصل بِسَبَبِهِ الظُّلمُ وَالْبخل والحسد، وأصلها الشُّح.
كَمَا فِي الصَّحِيح عَن النَّبِي ﷺ أنه قَالَ: إيَّاكُمْ وَالشُّح؛ فإنَّ الشُّحَّ أهلك مَن كَانَ قبلكُمْ؛ أمرهم بالبخل فبخلوا، وأمرهم بالظلم فظلموا، وأمرهم بالقطيعة فَقطعُوا؛ وَلِهَذَا قَالَ الله تَعَالَى فِي وصف الأنصار: وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ أَي: من قبل الْمُهَاجِرين وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا أَي: لَا يَجدونَ الْحَسَدَ مِمَّا أُوتي إخوانهم من الْمُهَاجِرين وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ، ثمَّ قَالَ: وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [الحشر:9].
ورُئِيَ عبدالرَّحْمَن بن عَوْف يطوف بِالْبَيْتِ وَيَقُول: ربِّ قني شُحَّ نَفسِي، ربِّ قني شُحَّ نَفسِي، ربِّ قني شُحَّ نَفسِي. فَقيل لَهُ فِي ذَلِك، فَقَالَ: إذا وُقيت شُحَّ نَفسِي فقد وُقيت الْبُخْل وَالظُّلم والقطيعة. أو كَمَا قَالَ.
الشيخ: المفلح هو الفائز بالظّفر، وهو الحصول على الخير، وأكثر ما يقع للناس في الشُّرور من هذه الأشياء: من اتِّباع الهوى، والظلم، والبدع، والمنافسة في المعاصي والسيئات، فتقع الشرور، والاختلاف، والقتال بأسباب ذلك، نسأل الله العافية.
لأنه إذا اجتمع الناسُ في الاستقامة على الحقِّ، والمنافسة في الحقِّ واتِّباعه، والتَّواصي به؛ اجتمعت أمورهم، واتَّحدت كلمتهم، وفازوا بالنصر على عدوهم.
وإنما تقع البلايا والمحن إذا اختلفوا في المعاصي والبدع والأهواء، نسأل الله السَّلامة.
الشيخ: والشَّحيح أشد من البخيل، وأنَّ الشُّح أشدّ من البخل، فكل شحيحٍ بخيل، وليس كل بخيلٍ شحيحًا؛ لأنَّ الله قال سبحانه: وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [الحشر:9].
وإذا كان البخلُ مذمومًا لأنه امتناع من الواجب، وتركه للواجب من النَّفقة، ويُسمَّى البخيل، وقد يبخل أيضًا بالواجب من الكلام الطيب، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، لكن الشَّحيح أشدّ من هذا، الشَّحيح حريصٌ على أكل مال الغير، وعلى الباطل، وعلى جمع المال بغير حقٍّ، وعلى ظلم الناس بسبب حبِّه للمال، وحبه للمعصية، ومع ذلك بخيلٌ بما عنده؛ لا يُؤدي الواجب من زكاةٍ، ولا صلة رحم، ولا غير ذلك، فهو قد جمع بين الأمرين: الحرص على المال بالطرق المذمومة، والحرص على الإصرار على المعاصي، وبخل بما يجب عليه؛ ولهذا قال سبحانه: وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ.
فَإِذا كَانَ هَذَا فِي جنس الشَّهَوَات الْمُبَاحَة، فَكيف بالمحرَّمة: كَالزِّنَا، وَشُرب الْخَمر، وَنَحْو ذَلِك، وإذا وَقع فِيهَا اخْتِصَاصٌ فَإِنَّهُ يصير فِيهَا نَوْعَانِ:
أَحدهمَا: بُغضها هذه؛ لما فِي ذَلِك من الِاخْتِصَاص وَالظُّلم، كَمَا يَقع فِي الأمور الْمُبَاحَة الْجِنْس.
وَالثَّانِي: بُغضها؛ لما فِي ذَلِك من حقِّ الله؛ وَلِهَذَا كَانَت الذُّنُوبُ ثَلَاثَة أَقسَامٍ:
أحدها: مَا فِيهِ ظلمٌ للنَّاس: كالظلم بِأخذ الْأَمْوَال، وَمنع الْحُقُوق، والحسد، وَنَحْو ذَلِك.
وَالثَّانِي: مَا فِيهِ ظلمٌ للنَّفس فَقَط: كشرب الْخَمر، وَالزِّنَا، إذا لم يَتَعَدَّ ضررهما.
وَالثَّالِث: مَا يجْتَمع فِيهِ الْأَمْرَانِ، مثل: أن يَأْخُذ المتولي أَمْوَالَ النَّاس يزني بهَا، وَيشْرب بهَا الْخَمر، وَمثل: أن يَزْنِي بِمَن يرفعهُ على النَّاس بذلك السَّبَب ويضرّهم، كَمَا يَقع مِمَّن يُحب بعض النِّسَاء وَالصِّبيان.
وَقد قَالَ الله تَعَالَى: قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ [الأعراف:33].
وأمور النَّاس إنما تستقيم فِي الدُّنْيَا مَعَ الْعَدْل الَّذِي قد يكون فِيهِ الِاشْتِرَاك فِي بعض أنواع الْإِثْم أكثر مِمَّا تستقيم مَعَ الظُّلم فِي الْحُقُوق، وإن لم يشْتَرك فِي إثمٍ؛ وَلِهَذَا قيل: إنَّ الله يُقيم الدولة العادلة وإن كَانَت كَافِرَةً، وَلَا يُقيم الظَّالمة وإن كَانَت مُسلمةً. وَيُقَال: الدُّنْيَا تدوم مَعَ الْعَدْل وَالْكُفْر، وَلَا تدوم مَعَ الظُّلم والإسلام.
وَقد قَالَ النَّبِي ﷺ: لَيْسَ ذَنْب أسرع عُقُوبَةً من الْبَغي وَقَطِيعَة الرَّحِم، فالباغي يُصرع فِي الدُّنْيَا، وإن كَانَ مغفورًا لَهُ مرحومًا فِي الآخرة.
وَذَلِكَ أنَّ الْعَدْل نظام كل شَيْءٍ، فَإِذا أُقيم أمْر الدُّنْيَا بِالْعَدْلِ قَامَت، وَإِن لم يكن لصَاحِبهَا فِي الآخرة من خلاقٍ، وَمَتى لم تقم بِالْعَدْلِ لم تقم، وإن كَانَ لصَاحِبهَا من الإيمان مَا يُجزى بِهِ فِي الآخرة، فَالنَّفْس فِيهَا دَاعِي الظُّلم لغَيْرهَا بالعلو عَلَيْهِ، والْحَسَد لَهُ، والتَّعدي عَلَيْهِ فِي حَقِّه، وفيهَا دَاعِي الظُّلم لنَفسهَا بتناول الشَّهَوَات القبيحة: كَالزِّنَا، وَأكل الْخَبَائِث، فَهِيَ قد تظلم مَن لَا يظلمها، وتُؤثر هَذِه الشَّهَوَات وإن لم يَفْعَلهَا غَيرهَا.
الشيخ: كل هذا الذي قاله المؤلف رحمه الله من المعاصي، أقسام ثلاثة مثلما تقدم:
قسمٌ منها يتضمن العدوان على الغير، العدوان على الناس بغير حقٍّ، وأكل أموالهم بغير حقٍّ.
وقسمٌ منها يتعلق بالنفس فقط، بينه وبين الله، وهذا ليس له تعلق بالناس، مثل: أكل الميتة، والتَّلوث بالنَّجاسة، والزنا، وشرب الخمر، فهذا يتعلق بظلم نفسه، وهو بينه وبين الله، والمجبورة كذلك لها حكمها، ولها سيئتها.
وقسمٌ يجمع بين الأمرين: فيزني ظلمًا، فيقهرها ويظلمها، أو باللواط ظلمًا، وأخذ المال، والاستعانة على المعاصي، ونحو ذلك مما يجمع بين الشَّرين، نسأل الله السَّلامة، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
فَإِذا رَأَتْ نُظرائها قد ظلمُوا أو تناولوا هَذِه الشَّهَوَات، صَار دَاعِي هَذِه الشَّهَوَات أو الظُّلم فِيهَا أعظم بِكَثِيرٍ، وَقد تصبر ويهيج ذَلِك لَهَا من بُغض ذَلِك الْغَيْر، وحسده، وَطلب عِقَابه، وَزَوَال الْخَيْر عَنهُ مَا لم يكن فِيهَا قبل ذَلِك، وَلها حُجَّة عِنْد نَفسهَا من جِهَة الْعَقل وَالدِّين: بِكَوْن ذَلِك الْغَيْر قد ظلم نَفسه وَالْمُسْلِمين، وإنَّ أمْرَه بِالْمَعْرُوفِ وَنَهْيه عَن الْمُنكر وَاجِبٌ، وَالْجهَاد على ذَلِك من الدِّين.
وَالنَّاس هُنَا ثَلَاثَة أقسام:
قومٌ لَا يقومُونَ إِلَّا فِي أهواء نُفُوسهم، فَلَا يرضون إلا بِمَا يُعطونه، وَلَا يغضبون إلا لما يُحرمونه، فَإِذا أُعطي أحدهم مَا يشتهيه من الشَّهَوَات الْحَلَال أو الْحَرَام زَالَ غَضَبُه، وَحصل رِضَاهُ، وَصَارَ الْأَمر الَّذِي كَانَ عِنْدَه مُنْكرًا يَنْهَى عَنهُ، ويُعاقب عَلَيْهِ، ويذمّ صَاحبه، ويغضب عَلَيْهِ؛ مرضيًّا عَنهُ، وَصَارَ فَاعِلًا لَهُ، وشريكًا فِيهِ، ومُعاونًا عَلَيْهِ، ومُعاديًا لمن ينْهَى عَنهُ ويُنكر عَلَيْهِ.
وَهَذَا غَالبٌ فِي بني آدم، يرى الإنسانُ وَيسمع من ذَلِك مَا لَا يُحْصِيه إلا الله.
الشيخ: وفي هذا المعنى يقول ﷺ: تعس عبدُ الدِّينار، تعس عبد الدرهم، تعس عبد الخميصة؛ إن أُعطي رضي، وإن لم يُعْطَ سخط، هذه حال كثيرٍ من الناس، أو أكثر الناس يرضى لهواه، ويغضب لهواه، وإن كان فيما رضي به معصية الله ، لكن لما وافق هواه امتثل ورضي، نسأل الله العافية.
هَذَا غَالبٌ فِي بني آدم، يرى الإنسانُ وَيسمع من ذَلِك مَا لَا يُحْصِيه إلا الله، وَسَببه أنَّ الإنسان ظلومٌ جهولٌ؛ فَلذَلِك لَا يعدل، بل رُبمَا كَانَ ظَالِمًا فِي الْحَالين، يرى قومًا يُنكرُونَ على المتولي ظلمه لرعيته واعتداءه عَلَيْهِم، فيرضى أولئك المنكرين بِبَعْض الشَّيْء من منصبٍ أو مَالٍ، فينقلبون أعوانًا لَهُ، وأحسن أحوالهم أن يسكتوا عَن الإنكار عَلَيْهِ.
وَكَذَلِكَ تراهم يُنكرُونَ على مَن يشرب الْخَمر، ويزني، وَيسمع الملاهي، حَتَّى يُدخلُوا أحدهم مَعَهم فِي ذَلِك، أو يُرضوه بِبَعْض ذَلِك، فتراه حِينَئِذٍ قد صَار عونًا لَهُم.
وَهَؤُلَاء قد يعودون بإنكارهم إلى أقبح من الْحَال الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا، وَقد يعودون إلى مَا هُوَ دون ذَلِك، أو نَظِيره.
وَقومٌ يقومُونَ قومة ديانَةٍ صَحِيحَةٍ، يكونُونَ فِي ذَلِك مُخلصين لله، مُصلحين فِيمَا عملوه، ويستقيم لَهُم ذَلِك حَتَّى يصبروا على مَا أُوذوا، فَهَؤُلَاءِ هم الَّذين آمنُوا وَعمِلُوا الصَّالِحَات، وهم من خير أُمَّةٍ أُخرجت للنَّاس، يأمرون بِالْمَعْرُوفِ، وَيَنْهَوْنَ عَن الْمُنكر، ويؤمنون بِاللَّه.
وَقومٌ يجْتَمع فيهم هَذَا وَهَذَا، وهم غَالب الْمُؤمنِينَ، فَمَن فِيهِ دينٌ، وَله شَهْوَة، تَجْتَمِع فِي قُلُوبهم إرادة الطَّاعَة، وإرادة الْمَعْصِيَة، وَرُبمَا غلب هَذَا تَارَةً، وَهَذَا تَارَةً.
وَهَذِه الْقِسْمَة الثُّلاثية كَمَا قيل: الأنفس ثَلَاث: أمَّارة، ومُطمئنة، ولوَّامة.
فالأولون هم أهل الأنفس الأمَّارة الَّتِي تَأْمُرهُمْ بالسُّوء.
والأوسطون هم أهل النُّفُوس المطمئنة الَّتِي قيل فِيهَا: يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً فَادْخُلِي فِي عِبَادِي وَادْخُلِي جَنَّتِي [الفجر:27- 30].
والآخرون هم أهل النُّفُوس اللَّوامة الَّتِي تفعل الذَّنبَ، ثمَّ تلوم عَلَيْهِ، وتتلوم تَارَةً كَذَا، وَتارَةً كَذَا، أو تخلط عملًا صَالحًا وَآخر سَيِّئًا.
وَهَؤُلَاء يُرْجَى أن يَتُوب عَلَيْهِم إذا اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ، كَمَا قَالَ الله تَعَالَى: وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [التوبة:102].
الشيخ: وهذه حال الناس، أقسام ثلاثة:
قسمٌ مثلما قال المؤلفُ: عنده النفس الأمَّارة بالسُّوء، كونهم يجتهدون في الأمر بالمعروف، والنَّهي عن المنكر، والإنكار على الظلمة، ونحو ذلك؛ لغرضٍ وهوى، لا إخلاصًا لله ، فإذا أُعطوا شيئًا سكتوا.
والقسم الثاني: مُؤمنون، صادقون، يأمرون بالمعروف، وينهون عن المنكر، ويصبرون على الأذى، ويستمرون على ذلك، وهم أصحاب النفس المطمئنة، وهم المخلصون الصَّادقون مهما كانت الحال، فهم صابرون على الأذى، سواء حصل مطلوبهم، أو لم يحصل مطلوبهم، وهؤلاء هم القائمون في الناس.
والقسم الثالث: خلطوا عملًا صالحًا، وآخر سيئًا، يأمرون وينهون ويجتهدون، ولكن مع هذا يقعون في المعاصي والشُّرور، ويخلطون هذا بهذا، فهؤلاء على خطرٍ عظيمٍ، إلا أن يُدركهم الله برحمةٍ منه وفضلٍ وتوبةٍ صادقةٍ، فعسى الله أن يتوب عليهم، وما أكثر هذا، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
وَلِهَذَا لما كَانَ النَّاسُ فِي زمن أبي بكر وَعمر اللَّذين أُمِرَ الْمُسلمُونَ بالاقتداء بهما -كَمَا قَالَ ﷺ: اقتدوا باللَّذين من بعدِي: أبي بكر وَعمر- أقرب عهدًا بالرِّسالة، وَأعظم إيمانًا وصلاحًا، وأئمّتهم أقوم بِالْوَاجِبِ، وأثبت فِي الطُّمَأْنِينَة؛ لم تقع فتْنَة، إذ كَانُوا فِي حُكم الْقِسم الْوَسط.
وَلما كَانَ فِي آخر خلَافَة عُثْمَان وفِي خلَافَة عليٍّ رَضِي الله عَنْهُمَا كثر الْقِسم الثَّالِث، فَصَارَ فيهم شَهْوَة وشُبهة، مَعَ الإيمان وَالدِّين، وَصَارَ ذَلِك فِي بعض الْوُلَاة وَبَعض الرَّعايا، ثمَّ كثر ذَلِك بعد، فَنَشَأَتِ الْفِتْنَة الَّتِي سَببهَا مَا تقدم من عدم تمحيص التَّقْوَى وَالطَّاعَة فِي الطَّرفَيْنِ، واختلاطما بِنَوْعٍ من الْهوى والعصبية فِي الطَّرفين، وكلٌّ مِنْهُمَا مُتأول أَنه يَأْمُر بِالْمَعْرُوفِ، وَيَنْهى عَن الْمُنكر، وأنَّ مَعَه الْحقّ وَالْعَدْل، وَمَعَ هَذَا التَّأْوِيل نوعٌ من الْهَوى، فَفِيهِ نوعٌ من الظَّنِّ وَمَا تهوى الأنفس، وإن كَانَت إحدى الطَّائِفَتَيْنِ أولى بِالْحَقِّ من الأخرى؛ فَلهَذَا يجب على الْمُؤمن أن يَسْتَعِين بِاللَّه، ويتوكل عَلَيْهِ فِي أن يُقيم قلبه وَلَا يُزيغه، ويُثبته على الْهُدى وَالتَّقوى، وَلَا يتبع الْهَوى، كَمَا قَالَ تَعَالَى: فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ [الشورى:15]، وَهَذَا أيضًا حَال الأُمة فِيمَا تَفَرَّقت فِيهِ وَاخْتَلفت فِي المقالات والعبادات.
وَهَذِه الأمور مِمَّا تعظم بهَا المحنة على الْمُؤمنِينَ، فَإِنَّهُم يَحْتَاجُونَ إلى شَيْئَيْنِ: إلى دفع الْفِتْنَة الَّتِي ابتُلي بهَا نُظراؤهم: من فتْنَة الدِّين وَالدُّنْيَا عَن نُفُوسهم، مَعَ قيام الْمُقْتَضى لَهَا، فَإِنَّ مَعَهم نفوسًا وشياطين كَمَا مَعَ غَيرهم.
فَمَعَ وجود ذَلِك من نُظرائهم يقوى الْمُقْتَضى عِنْدَهم، كَمَا هُوَ الْوَاقِع، فيقوى الدَّاعِي الَّذِي فِي نفس الإنسان وشيطانه، ودواعي الْخَيْر كَذَلِك، وَمَا يحصل من الدَّاعِي بِفعل الْغَيْر والنَّظير.
فكم من النَّاس لم يُرد خيرًا وَلَا شرًّا حَتَّى رأى غَيره، لَا سِيمَا إن كَانَ نَظِيره يَفْعَله، فَفعله، فَإِنَّ النَّاس كأسراب القطا، مجبولون على تشبه بَعضهم بِبَعْضٍ.
وَلِهَذَا كَانَ الْمُبْتَدِئ بِالْخَيرِ وبالشَّر لَهُ مثل مَن تبعه من الأجر والوزر، كَمَا قَالَ النَّبِي ﷺ: مَن سنَّ سنةً حَسَنَةً فَلهُ أجرها وأجر مَن عمل بهَا إلى يَوْم الْقِيَامَة، من غير أن ينقص من أجورهم شَيْئًا، وَمَن سَنَّ سنةً سَيِّئَةً فَعَلَيهِ وزرها ووزر مَن عمل بهَا إلى يَوْمِ الْقِيَامَة، من غير أن ينقص من أوزارهم شَيْئًا؛ وَذَلِكَ لاشتراكهم فِي الْحَقِيقَة، وأن حكم الشَّيْء حكم نَظِيره، وشبيه الشَّيْء مُنجذب إليه.
فَإِذا كَانَ هَذَانِ داعيين قويين، فَكيف إذا انْضَمَّ إليهما داعيان آخران؟ وَذَلِكَ أنَّ كثيرًا من أهل الْمُنكر يُحبونَ مَن يُوافقهم على مَا هم فِيهِ، ويبغضون مَن لَا يُوافقهم، وَهَذَا ظَاهرٌ فِي الدِّيانَات الْفَاسِدَة من مُوالَاة كل قومٍ لموافقيهم، ومُعاداتهم لمخالفيهم.
وَكَذَلِكَ فِي أمور الدُّنْيَا والشَّهوات كثيرًا مَا يخْتَار أهلها، ويُؤثرون مَن يُشاركهم فِي أمورهم وشهواتهم: إما للمعاونة على ذَلِك، كَمَا فِي المتغلبين من أهل الرِّياسات، وقُطَّاع الطَّرِيق، وَنَحْو ذَلِك. وإما لتلذذهم بالموافقة، كَمَا فِي المجتمعين على شرب الْخَمر مثلًا، فَإِنَّهُم يحبونَ أن يشرب كلُّ مَن حضر عِنْدَهم. وإما لكراهتهم امتيازه عَنْهُم بِالْخَيرِ: إمَّا حسدًا لَهُ على ذَلِك، وَإمَّا لِئَلَّا يَعْلُو عَلَيْهِم بذلك ويُحمد دونهم، وَإِمَّا لِئَلَّا يكون لَهُ عَلَيْهِم حُجَّة، وَإِمَّا لخوفهم من مُعاقبته لَهُم بِنَفسِهِ، أو بِمَن يرفع ذَلِك إليهم؛ وَلِئَلَّا يَكُونُوا تَحت مِنَّته وحظره، وَنَحْو ذَلِك من الأسباب.
قَالَ الله تَعَالَى: وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ [البقرة:109]، وَقَالَ تَعَالَى فِي الْمُنَافِقين: وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً} [النساء:89]، وَقَالَ عُثْمَان بن عَفَّان رَضِي الله عَنهُ: ودَّت الزَّانِيَةُ لَو زنى النِّسَاءُ كُلهنَّ.
والمشاركة قد يختارونها فِي نفس الْفُجُور: كالاشتراك فِي شرب الْخَمر، وَالْكذب، والاعتقاد الْفَاسِد. وَقد يختارونها فِي النَّوْع الثَّانِي: كالزاني الَّذِي يود أنَّ غَيره يَزْنِي، أو السَّارِق الَّذِي يود أنَّ غَيره يسرق، لَكِن فِي غير الْعَين الَّتِي زنى بهَا أو سَرَقهَا.
وَأما الدَّاعِي الثَّانِي: فقد يأمرون الشَّخْصَ بمُشاركتهم فِيمَا هم ..