وَبِالْجُمْلَةِ فَإِذا كَانَ الْمُسند الْمَحْفُوظ الْمَعْرُوف من قَول الْجُنَيْد أَنه رَحمَه الله لَا يحمد هَذَا السَّماع المبتدع، وَلَا يَأْمُر بِهِ، وَلَا يُثني عَلَيْهِ، بل الْمَحْفُوظ من أَقْوَاله يُنَافِي ذَلِك؛ لم يجز أَن يعمد إِلَى قَولٍ مُجملٍ رُوي عَنهُ بِغَيْر إِسْنَادٍ فَيُحمل على أَنه مدح هَذَا السَّماع الْمُحدَث.
وَقد روى بعضُ النَّاس أَنَّ الْجُنَيْد كَانَ يحضر هَذَا السَّماع فِي أول عمره، ثمَّ تَركه، وحضوره لَهُ فعل، وَالْفِعْل قد يُسْتَدلّ بِهِ على مَذْهَب الرجل، وَقد لَا يُسْتَدلّ؛ وَلِهَذَا يُنَازع النَّاس فِي مَذْهَب الْإِنْسَان: هَل يُوجد من فعله؟
وَقَالَ بعضُ السَّلف: أَضْعَف الْعِلم الرُّؤْيَة، وَهُوَ قَوْله: رَأَيْتُ فلَانًا يفعل. وَقد يفعل الشَّيء بِمُوجِب الْعَادة والموافقة، من بعد اعْتِقَادٍ لَهُ فِيهِ، وَقد يفعل نِسْيَانًا، لَا لاعْتِقَاده فِيهِ أَو حضًّا، وَقد يَفْعَله وَلَا يعلم أَنه ذَنْبٌ، ثمَّ يعلم بعد ذَلِك أَنه ذَنْبٌ، ثمَّ يَفْعَله وَهُوَ ذَنْبٌ، وَلَيْسَ أحدٌ مَعْصُومًا عَن أَن يفعل مَا هُوَ ذَنْب، لَكِن الْأَنْبِيَاء معصومون من الإقرار على الذُّنُوب، فيتأسَّى بأفعالهم الَّتِي أقرُّوا عَلَيْهَا؛ لِأَنَّ الْإِقْرَار عَلَيْهَا يَقْتَضِي أَنَّهَا لَيست ذَنبًا، وَأما غير الْأَنْبِيَاء فَلَا، فَكيف بِمَن يكون فعل فعلًا ثمَّ تَركه؟
وأقصى مَا يُقَال: إِنَّ الْجُنَيْد كَانَ يفعل أَولًا هَذَا السَّماع على طَرِيق الِاسْتِحْسَان لَهُ والاستحباب، أَو يَقُول ذَلِك، فَيكون هَذَا لَو صَحَّ مُعَارضًا لأقواله المحفوظة عَنهُ، فَيكون لَهُ فِي الْمَسْأَلَة قَولَانِ.
وَقد قَالَ أبو الْقَاسِم: حُكِيَ عَن الْجُنَيْد أَنَّه قَالَ: السَّماع يحْتَاج إِلَى ثَلَاثَة أَشْيَاء: الزَّمَان، وَالْمَكَان، والإخوان.
وَهَذِه حِكَايَة مُرْسَلَة، والمراسيل فِي هَذِه الرِّسَالَة لَا يُعْتَمد عَلَيْهَا إِن لم تُعرف صِحَّتهَا من وَجهٍ آخر كَمَا تقدم، وَلَو صَحَّ ذَلِك وَأَنه أَرَادَ سَماع القصائد لَكَانَ هَذَا أحد قوليه؛ وَذَلِكَ أَنَّ قَوْله: (السَّماع فتْنَة لمن طلبه، ترويحٌ لمن صادفه) صَرِيحٌ بِأَنَّهُ مَكْرُوهٌ، مَذْمُومٌ، منهيٌّ عَنهُ لمن قَصده، وَهَذَا هُوَ الَّذِي نُقرره، فَقَوْل الْجُنَيْد من مَحْضِ الَّذِي قُلْنَاهُ.
وَقَوله: (ترويحٌ لمن صادفه) لم يثبت مِنْهُ، وَإِنَّمَا أثبتوا أَنه رَاحَة، وَجعل ذَلِك مَعَ المصادفة، لَا مَعَ الْقَصْد والتَّعمد، والمصادفة فِيهَا قسمٌ لَا ريبَ فِيهِ، وَهُوَ اسْتِمَاعٌ دون الاسْتِمَاع.
الشيخ: يحتمل أنه سماعٌ دون استماعٍ؛ لأنَّ المارَّ سامعٌ، وليس بمُسْتَمِعٍ.
كالمرء يكون مارًّا فَيسمع قَائِلًا يَقُول بِغَيْر قَصده واختياره، أَو يكون جَالِسًا فِي مَوضِعٍ فيمرّ عَلَيْهِ مَن يَقُول، أَو يسمع قَائِلًا من مَوضِعٍ آخر بِغَيْر قَصده.
وَأمَّا إِذا اجْتَمع بِقومٍ لغير السَّماع: إِمَّا حضر عِنْدَهم، أَو حَضَرُوا عِنْده وَقَالُوا شَيْئًا، فَهَذَا قد يُقَال: إِنَّه صادفه السَّماع، فَإِنَّهُ لم يمشِ إِلَيْهِ ويقصده. وَقد يُقَال: بل إصغاؤه إِلَيْهِ واستماعه الصَّوْت يَجعله مُستمعًا، فَيَجْعَلهُ غير مُصادفٍ.
وَقد قَالَ تَعَالَى: وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ [النساء:140]، فَجعل الْقَاعِدَ المستمع بِمَنْزِلَة الْقَائِل.
فَأَكْثر مَا يُقَال: إِنَّ الْجُنَيْد أراد بالمصادفة هَذِه الصُّورَة، وَهُوَ مَعَ جعله ترويحًا لمن يَجعله سَببًا للرحمة، وَهَذَا غَايَته أَن يكون مُبَاحًا، لَا يكون حسنًا، وَلَا رَحْمَةً، وَلَا مُسْتَحبًّا، وَالْكَلَام فِي إِبَاحَته وتحريمه غير الْكَلَام فِي حُسنه وصلاحه ومنفعته وَكَونه قُربَة وَطَاعَة، فالجُنيد لم يقل شَيْئًا من هَذَا.
وَقَول الْقَائِل: (تنزل الرَّحْمَة على أهل السَّماع) إِذا أَرَادَ بِهِ سَماع القصائد يَقْتَضِي أَنه حسن، وَأَنه نَافِع فِي الدّين، وَكَلَام الْجُنَيْد صَرِيحٌ فِي خلاف ذَلِك.
الشيخ: وإنما قاله الجُنيد لأنَّ الجُنيد معروفٌ بالعلم والفضل واتِّباع السُّنة، وهو القائل: علمنا هذا مُقيد بالكتاب والسنة.
ولهذا أطال المؤلفُ في الدفاع عنه، وبيان أنه ليس من أهل السَّماع الذين هم أهل سماع الأغاني والطبول والدفوف التي يفعلها بعضُ الصُّوفية ويُسمونها: السَّماع، ويدَّعون أنها ترق القلوب، وهو بدعة مُنكرة، والله المستعان.
قَالَ أَبُو الْقَاسِم: وَسُئِلَ الشِّبلي عَن السَّماع فَقَالَ: ظَاهره فتْنَة، وباطنه عِبْرَة، فَمَن عرف الْإِشَارَة حلَّ لَهُ السَّماع بالعِبرة، وَإِلَّا فقد استدعى الْفِتْنَة، وَتعرَّض للبلية.
قلتُ: هَذَا القَوْل مُرْسَل، لم يُسْندهُ، فَالله أعلم بِهِ، فَإِن كَانَ مَحْفُوظًا عَن الشِّبلي فقد نبَّهنا على أنَّ الْأَئِمَّة فِي طَرِيق الْحقِّ الَّذين يُعْتدّ بأقوالهم كَمَا يُعْتد بأقوال أَئِمَّة الْهُدى هم مثل الْجُنَيْد وَسَهل وَنَحْوهمَا، فَإِنَّ أقوالهم صادرة عَن أصلٍ، وهم مُستهدون فِيهَا.
وَأمَّا الشِّبلي وَنَحْوه فَلَا بُدَّ من عرض أَقْوَاله وأحواله على الْحُجَّة، فَيُقبل مِنْهَا مَا وَافق الْحقَّ، دون مَا لم يكن كَذَلِك؛ لِأَنَّهُ قد كَانَ يعرض لَهُ زَوَالُ الْعَقل حَتَّى يُذهب بِهِ إِلَى المارستان غير مرّةٍ، وَقد يخْتَلط اختلاطًا دون ذَلِك.
وَمَن كَانَ بِهَذِهِ الْحَال فَلَا تكون أَقْوَاله وأفعاله فِي مثل هَذِه الْأَحْوَال مِمَّا يُعْتَمد عَلَيْهَا فِي طَرِيق الْحقِّ، وَلَكِن لَهُ أَقْوَالٌ وأفعالٌ حَسَنَة، قد علم حسنها بِالدَّلِيلِ، فَتُقبل لحسنها فِي نَفسِهَا، وَإِن كَانَ لَهُ حَالٌ أُخْرَى بِغَيْر عقله، أَو اخْتَلَط فِيهَا، أوْ وَقع مِنْهُ مَا لَا يصلح.
وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْجُنَيْد شَيْخه هُوَ الإِمَام المتَّبع فِي الطَّرِيق، وَقد أخبر أَنَّ للسَّمَاع فتْنَةً لمن طلبه، فتقليد الْجُنَيْد فِي ذَلِك أولى من تَقْلِيد الشِّبلي فِي قَوْله: (ظَاهره فتْنَة، وباطنه عِبْرَة)؛ إِذ الْجُنَيْد أَعلَى وَأفضل وَأجلّ باتِّفاق الْمُسلمين، وَقد أطلق القَوْلَ بِأَنَّهُ فتْنَة لطالبه، وَهُوَ لَا يُرِيد أَنه فتْنَة فِي الظَّاهِر فَقَط؛ إِذْ من شَأْن الْجُنَيْد أَن يتَكَلَّم على صَلَاح الْقُلُوب وفسادها، فَإِنَّمَا أَرَادَ أَنه يفتن الْقَلب لمن طلبه، وَهَذَا نهيٌ مِنْهُ وذمٌّ لمن يَطْلُبهُ مُطلقًا، ومخالفًا لما أرسل عَن الشِّبلي أَنه قَالَ: مَن عرف الْإِشَارَة حلَّ لَهُ السَّماع بالعبرة.
وَهَذَا التَّفْصِيل يُضاهي قَول مَن يَقُول: هُوَ مُبَاح أَو حسن للخاصَّة دون الْعَامَّة. وَقد تقدم الْكَلَامُ على ذَلِك، وَأَنَّه مَرْدُودٌ؛ لِأَنَّ قَائِله اخْتلف قَوْله فِي ذَلِك، وَمَا أعلم أحدًا من الْمَشَايِخ المقبولين يُؤثر عَنهُ فِي السَّماع نوعُ رخصَةٍ وَحمدٍ إِلَّا ويُؤثر عَنهُ الذَّمّ وَالْمَنْع، فهم فِيهِ -كَمَا يُذكر عَن كثيرٍ من الْعُلمَاء- أَنْوَاع من مسَائِل الْكَلَام.
فَلَا يُوجد عَمَّن لَهُ فِي الْأُمَّة حمدٌ شيءٌ من ذَلِك إِلَّا وَعنهُ مَا يُخَالِف ذَلِك، وَهَذَا من رَحْمَة الله بعباده الصَّالِحين، حَيْثُ يردّهم فِي آخر أَمرهم إِلَى الْحقِّ الَّذِي بَعث بِهِ رَسُوله ﷺ، وَلَا يجعلهم مُصرين على مَا يُخَالِف الدِّين الْمَشْرُوع، كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي صفة الْمُتَّقِينَ الَّذين أعدَّ لَهُم الْجنَّة فَقَالَ: وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ [آل عمران:133- 136].
وَقَول الْقَائِل: (مَن عرف الْإِشَارَة حلَّ لَهُ السَّماع بالعبرة) وَقد تقدم أنَّ الْإِشَارَة هِيَ الِاعْتِبَار وَالْقِيَاس لِأَن يَجْعَل الْمَعْنى الَّذِي فِي القَوْل مثلًا مَضْرُوبًا لِمَعْنى حقٍّ يُنَاسِب حَال المستمع؛ وَلِهَذَا قَالَ: (بَاطِنه عِبْرَة).
بل يُقَال لَهُ: هَبْ أَنَّه يُمكن الِاعْتِبَار بِهِ، لَكِن من أَيْن لَك أنَّ كلَّ مَا أمكن أَن يعْتَبر بِهِ الْإِنْسَان يكون حَلَالًا لَهُ؟! مَعَ أَنَّ الِاعْتِبَار قد يكون بِمَا يسمع وَيرى من الْمُحرَّمَات، فَهَل لَأحَدٍ أَن يعْتَبر بِقصد النَّظر إِلَى الزِّينَة الْبَاطِنَة من الْمَرْأَة الْأَجْنَبِيَّة، وَيعْتَبر بِقصد الِاسْتِمَاع إِلَى أقوال المستهزئين بآيَات الله، أَو غير ذَلِك مِمَّا لَا يجوز؟
س: يقول: والفعل قد يُستدلّ به على مذهب الرجل، وقد لا يُستدلّ به؟
ج: نعم، الأقوال أفضل؛ لأنَّ الفعل قد تكون له أسباب، الأقوال هي العُمدة في المذهب.
قَالَ أَبُو الْقَاسِم: وَقيل: لَا يَصحّ السَّماع إِلَّا لمن كَانَت لَهُ نفسٌ متينة، وقلب حَيٌّ، فنفسه ذُبحت بسيوف المجاهدة، وَقَلبه حَيٌّ بِنور الْمُشَاهدَة، وَهَذَا التَّفضيل من جنس مَا تقدَّم الْكَلَامُ عَلَيْهِ.
قَالَ: وَسُئِلَ أبو يَعْقُوب النَّهرجوري عَن السَّماع فَقَالَ: حَال يُبْدِي الرُّجُوع إِلَى الْأَسْرَار من حَيْثُ الإحراق.
قلتُ: وَهَذَا وصفٌ لما يعقب السَّماع من الأحوال الْبَاطِنَة، وَقُوَّة الْحَرَارَة والإحراق والوجودية، وَهَذَا أمْرٌ يحسّه الْمَرْء ويجده ويذوقه، لَكِن لَيْسَ فِي ذَلِك مدحٌ وَلَا ذمٌّ؛ إِذْ مثل هَذَا يُوجد لعُبَّاد الْمَسِيح والصَّليب، وَعُبَّاد الْعِجْل، وَعُبَّاد الطَّواغيت، وَيُوجد للعُشَّاق، وَغير ذَلِك، فَإِن لم تكن هَذِه الْأَحْوَال مِمَّا يُحِبُّهَا الله وَرَسُوله لم تكن محمودةً وَلَا ممدوحةً.
قَالَ أَبُو الْقَاسِم: وَقيل: السَّماع لطف غذَاء الْأَرْوَاح لأهل الْمَعرفَة.
وَهَذَا القَوْلُ لم يُسمّ قَائِله، وَلَا ريبَ أنَّ السَّماع فِيهِ غذَاء، وَقد قيل: إِنَّمَا سمّي الْغِناء غناء؛ لِأَنَّهُ يُغني النَّفس، لَكِن الأغذية والمطاعم مِنْهَا طيب، وَمِنْهَا خَبِيث، وَلَيْسَ كلُّ مَا استلذَّه الْإِنْسَان لحُسنه يكون طيبًا، فَإِنَّ أكل الْخِنْزِير يستلذّه آكله، وشارب الْخَمر يستلذها شاربها، وَمِمَّا يُبين ذَلِك أَنَّ سَماع الألحان يتغذَّى بِهِ أهلُ الْجَهْل أَكثر مِمَّا يتغذَّى بِهِ أهلُ الْمَعرفَة، كَمَا يتغذَّى بِهِ الْأَطْفَال والبهائم وَالنِّسَاء، وكما يكثر فِي أهل الْبَوَادِي والأعراب وكل مَن ضعف عقله ومعرفته، كَمَا هُوَ مشهودٌ.
فَأَمَّا السَّماع الشَّرْعِيّ فَلَا، إِنَّه غذَاء طيب لأهل الْمَعرفَة، كَمَا أخبر اللهُ بذلك فِي قَوْله: وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ [المائدة:83].
الشيخ: ومن هذا قوله جلَّ وعلا: الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ [الرعد:28]، فأهل الإيمان تطمئن قلوبهم وترتاح نفوسهم لسماع ما أُنزل على محمدٍ عليه الصلاة والسلام، فبالكتاب والسُّنة، والترغيب والترهيب تخشع القلوب، وتدمع العيون، ويشتاق العبدُ إلى ما عند الله من النَّعيم والخير الكثير، بخلاف أهل الفسوق والمعاصي؛ فإنَّهم يستلذون الأغاني والملاهي؛ لأنها عادتهم وطبيعتهم، نسأل الله السَّلامة.
ثمَّ ذكر أَبُو الْقَاسِم قَول أبي عليٍّ الدّقاق: السَّماع طبعٌ إِلَّا عَن شرعٍ، وخرقٌ إِلَّا عَن حقٍّ، وفتنةٌ إِلَّا عَن عِبْرَةٍ.
وَهَذَا كَلَامٌ حسنٌ، وَقد قدَّمنَا ذكره، فَإِنَّهُ جعل مَا لَيْسَ بمشروعٍ هُوَ عَن الطَّبْع، فَلَا يكون مَحْمُودًا مُستحسنًا فِي الدِّين وَطَرِيق الله.
وَقَوله: (خرقٌ إِلَّا عَن حقٍّ، وفتنةٌ إلا عَن عِبْرَةٍ) يَقْتَضِي أَنه إِذا لم يكن عَن حقٍّ فَهُوَ مَذْمُومٌ، وَأَنه إذا لم يكن عَن عِبْرَةٍ فَهُوَ فتْنَة، وَهَذَا كَلَامٌ صَحِيحٌ، وَلَا يَقْتَضِي ذَلِك أَن يسْتَحبّ كلّ مَا يظنّ أَنَّ فِيهِ عِبْرَةً، أَو أَنَّه عَن حقٍّ إِذا لم يكن مَشْرُوعًا؛ لِأَنَّهُ قد قَالَ: إِنَّه طبعٌ إِلَّا عَن شرعٍ.
قَالَ أَبُو الْقَاسِم: وَيُقَال: السَّماع على قِسْمَيْنِ:
سَماعٌ بِشَرْط الْعِلم والصَّحو: فَمن شَرط صَاحبه: معرفَة الأسامي وَالصِّفَات، وَإِلَّا وَقع فِي الْكُفْر الْمَحْض.
وَسَمَاعٌ بِشَرْط الْحَال: فَمن شَرط صَاحبه الفناء عَن أحوال البشرية، والتَّنقي من آثَار الحظوظ بِظُهُور أَحْكَام الْحَقِيقَة.
قلتُ: قَوْله: (معرفَة الْأَسَامِي وَالصِّفَات) يَعْنِي: أَسمَاء الْحقّ وَصِفَاته؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ المسموع هُوَ الْمَشْرُوع من الصِّفَات الَّتِي يُوصَف بهَا المخلوقون، وهم إِنَّمَا يَأْخُذُونَ مقصودهم مِنْهَا بطريقة الْإِشَارَة وَالِاعْتِبَار كَمَا تقدم، فَيحْتَاج ذَلِك إِلَى أَن نُفرق بَين مَا يُوصَف بِهِ الربّ، ويُوصَف بِهِ الْمَخْلُوق؛ لِئَلَّا تُجْعَل تِلْكَ الصِّفَات صِفَات لله، فَيكون فتْنَةً وَكفرًا، هَذَا إِذا كَانَ صَاحبُه صَاحِيًا يعلم مَا يَقُول، وَأمَّا إِذا كَانَ فانيًا عَن الشُّعُور بالكائنات لم يُحمل القَوْل على ذَلِك؛ لعدم شعوره بِهِ، فَلَا بُدَّ أَن يكون شَاعِرًا بالأحوال البشرية، وَيكون مُتنقيًا عَن الحظوظ البشرية الَّتِي تميل إِلَى الْمَخْلُوقَات، وَذَلِكَ بِظُهُور سُلْطَان التَّوْحِيد على قلبه، وَهُوَ قَوْله: (ظُهُور أَحْكَام الْحَقِيقَة)، وَهَذَا التَّفْصِيل يحْتَاج إِلَيْهِ مَن يستحسن بعض أَنْوَاع السَّماع الْمُحدَث لأهل الطَّرِيق إِلَى الله.
والفتنة تحصل بِالسَّمَاعِ من وَجْهَيْن: من جِهَة الْبِدْعَة فِي الدِّين، وَمن جِهَة الْفُجُور فِي الدُّنْيَا.
أمَّا الأول: فلما قد يحصل بِهِ من الاعتقادات الْفَاسِدَة فِي حقِّ الله، أو الإرادات والعبادات الْفَاسِدَة الَّتِي لَا تصلح لله، مَعَ مَا يصدّ عَنهُ من الاعتقادات الصَّالِحَة والعبادات الصَّالِحَة: تَارَةً بطرِيق المضادة، وَتارَةً بطرِيق الِاشْتِغَال، فَإِنَّ النَّفس تشتغل وتستغني بِهَذَا عَن هَذَا.
وَأما الْفُجُور فِي الدُّنْيَا: فلما يحصل بِهِ من دواعي الزِّنَا وَالْفَوَاحِش وَالْإِثْم وَالْبَغي على النَّاس.
فَفِي الْجُمْلَة جَمِيع الْمُحرَّمَات قد تحصل فِيهِ، وَهُوَ مَا ذكرهَا اللهُ فِي قَوْله: قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ [الأعراف:33].
قَالَ أَبُو الْقَاسِم: وَحُكي عَن أحْمَد ابن أبي الْحوَاري أَنه قَالَ: سَأَلتُ أَبَا سُلَيْمَان عَن السَّماع فَقَالَ: من اثْنَيْنِ أحبُّ إِلَيَّ من الْوَاحِد.
قلتُ: هَذِه الْمقَالة ذكرهَا مُرْسلَةً، فَلَا يُعْتَمد عَلَيْهَا، وَإِن أُرِيد بهَا السَّماع الْمُحدَث فَهِيَ بَاطِلَة عَن أبي سُلَيْمَان؛ فَإِنَّ أَبَا سُلَيْمَان لم يكن من رجال السَّماع، وَلَا مَعْرُوفًا بِحُضُورِهِ، كَمَا أَنَّ الفُضيل بن عِيَاض ومعروفًا الْكَرْخِي رحمهمَا الله وَنَحْوهمَا لم يَكُونَا مِمَّن يحضر هَذَا السَّماع.
قَالَ أَبُو الْقَاسِم: سُئِلَ أَبُو الْحُسَيْن النُّوري عَن الصُّوفِي فَقَالَ: مَن سمع السَّماع وآثر الْأَسْبَاب.
قلتُ: هَذَا النَّقْل مُرْسَل، فَلَا يُعْتَمد عَلَيْهِ، وَلَعَلَّ الْمَقْصُود بِهَذَا هُوَ الصُّوفِي المذموم عِنْدَهم، المدَّعي التَّصوف، فَإِنَّهُ جمع بَين إِيثَار السَّماع الَّذِي يدل على الْأَهْوَاء الْبَاطِلَة، وَضعف الْإِرَادَة وَالْعِبَادَة، وإيثار الْأَسْبَاب الَّتِي تنقصه عِنْدَهم عَن التَّوَكُّل، فضعف كَونه يعبد الله، وَضعف كَونه يستعينه، وَإِلَّا فالنُّوري لَا يَجْعَل هَذَا شرطًا فِي الصُّوفِي الْمُحَقق.
قَالَ أَبُو الْقَاسِم: وَسُئِلَ أَبُو عَليٍّ الرُّوذَبَارِي عَن السَّماع يَوْمًا فَقَالَ: ليتنا تخلصنا مِنْهُ رأسًا بِرَأْسٍ.
قلتُ: هَذَا الْكَلَام من مثل هَذَا الشَّيْخ الَّذِي هُوَ أجلّ الْمَشَايِخ الَّذين صحبوا الْجُنَيْد وطبقته يُقرر مَا قدَّمْنَاهُ من أَنَّ حُضُور الشَّيْخ السَّماع لَا يدل على مَذْهبه واعتقاد حُسنه، فَإِنَّهُ يتَمَنَّى أَلا يكون عَلَيْهِ فِيهِ إِثْمٌ، بل يخلص مِنْهُ لَا عَلَيْهِ وَلَا لَهُ، وَلَو كَانَ من جنس المستحبَّات لم يقل ذَلِك فِيهِ إِلَّا لتقصير المستمع، لَا لجنس الْفِعْل، وَلَيْسَ لَهُ أَن يَقُول ذَلِك إِلَّا عَن نَفسه، لَا يَجْعَل هَذَا حكمًا عَامًّا فِي أهل ذَلِك الْعَمَل.
كَمَا يُرْوَى عَن عمر بن الْخطَّاب أَنه كَانَ يَقُول: وددتُ أَنِّي انفلتُّ من هَذَا الأمر رَأْسًا بِرَأْسٍ.
قَالَ هَذَا بعد توليه الْخلَافَة لفرط خَشيته أَلا يكون قد قَامَ بِحُقُوقها، وَلم يقل هَذَا فِي أبي بكر ، بل مَا يزَال يَشْهد لَهُ بِالْقِيامِ فِي الْخلَافَة بِالْحَقِّ؛ وَلذَلِك كَانَ عمرُ خَوفُه يحملهُ على ذَلِك القَوْلِ.
فَقَوْل أبي عَليٍّ لَيْسَ من هَذَا الْجِنْس، بل وصف الطَّائِفَة كلهَا بذلك، فَعُلم أَنه لَا يعْتَقد فِيهِ أنه حسن، وَإِن كَانَ فَاعِلًا لَهُ.
وَقَالَ أَبُو الْقَاسِم: سَمِعتُ الشَّيْخ أَبَا عبدالرَّحْمَن السّلمِيّ يَقُول: سَمِعتُ أَبَا عُثْمَان المغربي يَقُول: مَن ادَّعى السَّماع وَلم يسمع صَوت الطُّيُور وصرير الْبَاب وصفير الرِّيَاح فَهُوَ مُفترٍ مُدَّعٍ.
قلتُ: هَذَا الَّذِي قَالَه أَبُو عُثْمَان هُوَ مِمَّا يفصلون بِهِ بَين سَماع الْعِبْرَة، وَسَمَاع الْفِتْنَة، فَإِنَّ سَماع الْعِبْرَة الَّذِي يُحَرِّك وجد السَّالكين بِالْحَقِّ يحصل بِسَمَاع هَذِه الْأَصْوَات، لَا يقف على السَّماع الَّذِي يهواه أهلُ الْفِتَن.
وَقَالَ أَبُو الْقَاسِم: سَمِعتُ أَبَا حَاتِم السّجسْتانِي يَقُول: سَمِعتُ أَبَا نصر السَّراج الطوسي يَقُول: سَمِعتُ أَبَا الطّيب أَحْمد بن مُقَاتل العكي يَقُول: قَالَ جَعْفَر: كَانَ ابْنُ زيري -من أَصْحَاب الْجُنَيْد- شَيخًا فَاضلًا، فَرُبمَا كَانَ يحضر مَوضِعَ السَّماع، فَإِن استطابه فرش إزَاره وَجلسَ، وَقَالَ: الصُّوفِي مَعَ قلبه. وَإِن لم يستطبه قَالَ: السَّماع لأرباب الْقُلُوب. وَمرَّ وَأخذ نَعْلَيْه.
قلتُ: سنتكلم إِن شَاءَ الله على مثل هَذِه الْحَال، وَهُوَ الْمَشْي مَعَ طيب الْقَلب، وَمَا يَذُوق الْإِنْسَانُ ويجد فِيهِ صَلَاح الْقَلب، ونُبين أَنَّ السُّلوك الْمُسْتَقيمَ هَكَذَا من غير اعْتِبَارٍ لطيب الْقَلب وَمَا يجده ويذوقه من الْمَنْفَعَة واللَّذة وَالْجَمع على الله وَنَحْو ذَلِك، أمَّا ذَلِك الْحَال فَهُوَ مَذْمُومٌ فِي الْكِتاب وَالسُّنة، ضلالٌ فِي الطَّرِيق، وَهُوَ مبدأ ضلال مَن ضلَّ من الْعُبَّاد والنُّسَّاك والمتصوفة والفقراء وَنَحْوهم، وَحَقِيقَته اتِّبَاع الْهَوى بِغَيْر هُدًى من الله، وَقد تقدَّم من كَلَام الْمَشَايِخ فِي ذمِّ هَذَا مَا فِيهِ الكِفَايَة.
فَإِنَّ مُجَرّد طيب الْقَلب لَيْسَ دَلِيلًا على أَنَّه إِنَّمَا طَابَ لما يُحِبّهُ الله ويرضاه، بل قد يطيب بِمَا لَا يُحِبّهُ الله ويرضاه، مِمَّا يكرههُ أَو لا يكرههُ أَيْضًا، لَا سِيمَا الْقُلُوب الَّتِي أُشربت حبّ الْأَصْوَات الملحنة، فقد قَالَ عبدُالله بن مَسْعُودٍ: "الْغِناء يُنْبِت النِّفَاق فِي الْقُلُوب كَمَا يُنْبِت المَاءُ البقلَ".
وَإِطْلَاق القَوْل بِأَنَّ الصُّوفِيَّ مَعَ قلبه هُوَ من جنس مَا ذمَّ بِهِ هَؤُلَاءِ المتصوفة، حَتَّى جُعِلُوا من أهل الْبِدَع؛ لأَنَّهم أَحْدَثُوا فِي طَرِيق الله أَشْيَاء لم يشرعها الله، فَكَانَ لَهُم نصيبٌ من قَوْله تَعَالَى: أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ [الشورى:21]، مثلمَا ذكره الْخلَّال بِإِسْنَادِهِ عَن عبدالرَّحْمَن بن مَهْدي، وَذكر الصُّوفِيَّة فَقَالَ: لَا تُجَالِسُوهُمْ، وَلَا أَصْحَاب الْكَلَام، وَعَلَيْكُم بأصحاب القماطر؛ فَإِنَّهُم بِمَنْزِلَة الْمَعَادِن والمفاصل، هَذَا يُخرج دُرَّة، وَهَذَا يُخرج قِطْعَةَ ذهبٍ.
الشيخ: أهل القماطر يعني: أهل الكتب، أهل الحديث، أمَّا الصُّوفية الذين ابتُلي الناسُ بهم، وحصل بهم الشَّر العظيم، فهم أحدثوا في دين الله ما لم يأذن الله، وحكَّموا مواجيدهم وقلوبهم وأذواقهم على الشَّرع، فهلكوا وأهلكوا، فلا يجوز تحكيم القلب، وتحكيم الذَّوق، وتحكيم المواجيد، وما يستلذّه وما يستطيبه؛ لأنَّ بعض الناس قد يستطيب الخبثَ، قد يستطيب الرديء، قد يستطيب الأغاني، قد يستطيب الأشياء الضَّارة، ليس قلبه بميزانٍ، إنما الميزان ما قاله الله ورسوله.
فالمواجيد التي يجدها الإنسان، والأذواق التي يجدها الإنسان لا بدَّ أن تُعرض على الكتاب والسُّنة، فإن وافقت الكتاب والسُّنة قُبلت، وإلا فهذا من وحي الشيطان، ومن إغوائه وإضلاله؛ ولهذا يقول بعضُهم: حدَّثني قلبي عن ربِّي! يعني: ما في حاجة إلى الرسول ﷺ، المحجوبون يروون عن الرسول عن الله، أما هؤلاء الذين كُشف لهم فهم يروون عن ربِّهم رأسًا، مباشرةً، وهذا من الجهل العظيم، والضَّلال البعيد، نعوذ بالله! ومَن يستطيع ذلك؟! مَن يحكم أنَّ ما رآه في النوم أو ما حلَّ في قلبه عن الله، ولم يقل له ذلك؟! فما يمنعه أن يكون من الشيطان؟!
فهذا من جهلهم العظيم، وضلالهم البعيد، نسأل الله العافية.
فالقلوب فيها الشّر والخير، ويقع فيها الشّر والخير، ويُوحي إليها الشيطان زخرف القول، ولا بدَّ أن تُعرض هذه المواجيد وهذه الأذواق التي تقع في القلوب، لا بدَّ أن تُعرض على الكتاب والسنة، فإن طابقت الكتاب والسُّنة، وصدَّقها الكتابُ والسنة وأباحها وشرعها فالحمد لله، وإلا وجب اطِّراحها، وبهذا يعلم الإنسان خطر هذه الطائفة وشرّها.
وهكذا أصحاب الكلام الذين أحدثوا الكلامَ وحكَّموا عقولهم، فهم من جنس هؤلاء، بل أشدّ وأخطر؛ ولهذا قال عبدالرحمن بن مهدي: تجد هؤلاء وهؤلاء: أصحاب هذه المواجيد، وأصحاب الكلام الذين شرعوا لأنفسهم قوانين ما أنزل اللهُ بها من سلطانٍ، وقالوا: هذا يجب على الله، وهذا يمتنع على الله. وهذا من عقولهم الفاسدة.
وطريق العصمة وطريق النَّجاة وطريق السَّعادة: التَّفقه في الكتاب والسُّنة، فيحمل ما قاله الله ورسوله، والحذر مما يقع في القلوب، أو يقوله أهلُ الكلام بعقولهم: من نفي صفات الله، أو تعطيل صفات الله، أو بعضها، أو الحكم على الله بغير حقٍّ، كل هذا باطل، فليس أحدٌ أعلم من الله بالله، هو أعلم بنفسه ، والرسول أعلم بالله من الناس عليه الصلاة والسلام، فلا طريقَ إلا معرفة أسماء الله وصفاته وحقّه إلا من طريق الكتاب والسنة، وما يحمله هؤلاء الصُّوفية أو هؤلاء المتكلِّمون كله يجب إيقافه، وأن لا يُقبل منه إلا ما شهد له الكتاب العزيز أو السُّنة المطهرة الصَّحيحة بأنه صحيح.
ويُروى عَن الشَّافِعِي أَنه قَالَ: لَو تصوف رجلٌ أول النَّهَار لم يَأْتِ نصفُ النَّهَار إِلَّا وَهُوَ أَحمَق.
قَالَ أبو الْقَاسِم: سَمِعتُ مُحَمَّد بن الْحُسَيْن رَحمَه الله تَعَالَى يَقُول: سَمِعتُ عبدالْوَاحِد بن بكر يَقُول: سَمِعتُ عبدالله بن عبدالْمَجِيد الصُّوفِي يَقُول: سُئِلَ رُوَيْم عَن وجود الصُّوفِيَّة عِنْد السَّماع، فَقَالَ: يَشْهدُونَ الْمَعَانِي الَّتِي تعزب عَن غَيرهم، فتُشير إِلَيْهِم: إِلَيَّ، إِلَيَّ، فيتنعمون بذلك من الْفَرح، ثمَّ يَقع الْحِجابُ فَيَعُود ذَلِك الْفَرحُ بكاءً: فَمنهم مَن يخرق ثِيَابَه، وَمِنْهُم مَن يَصِيح، وَمِنْهُم مَن يبكي، كل إِنْسَانٍ على قدره.
قلتُ: هَذَا وصفٌ لما يعتريهم من الْحَال، لَيْسَ فِي ذَلِك مدحٌ وَلَا ذمٌّ، إِذْ مثل هَذِه الْحَال يكون للْمُشْرِكين وَأهل الْكِتاب، إِذْ قد يَشْهدُونَ بقلوبهم مَعَ أنهم يفرحون بهَا، فتتبع ذَلِك الْمحبَّة، فَإِنَّ الْفَرح يتبع الْمحبَّة، فَمَن أحبَّ شَيْئًا فَرح بِوُجُودِهِ، وتألم لفقده، والمحبوب قد يكون حَقًّا، وَقد يكون بَاطِلًا، قَالَ تَعَالَى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ [البقرة:165]، وَقَالَ تَعَالَى: وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ [البقرة:93].
فقد يكون الْمَرْءُ محبًّا لله، صَادِقًا فِي ذَلِك، لَكِن يكون مَا يشهده من الْمعَانِي السَّارة خيالات لَا حَقِيقَةَ لَهَا، فيفرح بهَا، وَيكون فرحه لغير الْحقِّ، وَذَلِكَ مَذْمُومٌ، قَالَ تَعَالَى: الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتَابِ وَبِمَا أَرْسَلْنَا بِهِ رُسُلَنَا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ إِذِ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلَاسِلُ يُسْحَبُونَ فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُو مِنْ قَبْلُ شَيْئًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الْكَافِرِينَ ذَلِكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ [غافر:70- 75].
وَقد علم أَنَّ سَماع المكاء والتَّصدية إِنَّمَا ذكره اللهُ فِي القرآن عَن الْمُشْركين، وَلَا يَخْلُو من نوع شركٍ جليٍّ أَو خَفِيٍّ؛ وَلِهَذَا يَحْكِي عَنْهُم تِلْكَ الْأُمُور الْبَاطِلَة الَّتِي بَدَت لَهُم أَولًا، كَمَا قَالَ تَعَالَى: كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ [النور:39].
وَمَعَ هَذَا فقد يكون فِي تِلْكَ الْمعَانِي الَّتِي تُشاهد وتحتجب من حقائق الْإِيمَان مَا يفرح بِهِ الْمُؤْمِنُونَ أَيْضًا، وَلَوْلَا مَا فِيهِ من ذَلِك لما الْتَبس على فريقٍ من الْمُؤمنِينَ، لَكِن قد لبس الْحقّ فِيهِ بِالْبَاطِلِ، هَذَا الْأَمر مِنْهُ لَيْسَ بِحَقٍّ مَحْضٍ أصلًا، وبالحقِّ الَّذِي فِيهِ نفق على مَن نفق عَلَيْهِ من الْمُؤمنِينَ وزُهادهم وصُوفيَّتهم وفُقرائهم وعُبَّادهم، وَلَكِن لضعف إِيمَانهم نفق عَلَيْهِم، وَلَو تحقَّقوا بِكَمَال الْإِيمَان لتبين لَهُم مَا فِيهِ من الشّرك، وَلبس الْحقّ بِالْبَاطِلِ.
وَلِهَذَا تبين ذَلِك لمن أَرَادَ اللهُ أَن يكمل إيمَانه مِنْهُم فيتوبون مِنْهُ، كَمَا هُوَ الْمَأْثُور عَن عَامَّة الْمَشَايِخ الْكِبَار الَّذين حَضَرُوهُ، فَإِنَّهُم تَابُوا مِنْهُ، كَمَا تَابَ كثيرٌ من كبار الْعُلمَاء مِمَّا دخلُوا فِيهِ من الْبِدع الكلاميَّة.
قَالَ أَبُو الْقَاسِم: سَمِعتُ مُحَمَّد بن أَحْمد بن مُحَمَّد التَّمِيمِي يَقُول: سَمِعتُ عبدالله بن عَليّ يَقُول: سَمِعتُ الحصري يَقُول فِي بعض كَلَامه: أيش أعمل بِسَمَاعٍ يَنْقَطِع إِذا انْقَطع مَن يُستمع مِنْهُ! يَنْبَغِي أَن يكون سماعُك سَمَاعًا مُتَّصِلًا غير مُنْقَطعٍ.
وَقَالَ الحُصري: يَنْبَغِي أَن يكون ظمأ دَائِم وَشرب دَائِم، فَكلما ازْدَادَ شربُه ازْدَادَ ظمأه.
قلتُ: هَذَا الْكَلَام فِيهِ عيبٌ لأهل هَذَا السَّماع، وَبَيَان أَنَّ الْمُؤمن عمله دَائِم، لَيْسَ بمنقطعٍ، كَمَا قَالَ النَّبِي ﷺ: أحب الْعَمَل إِلَى الله مَا داوم عَلَيْهِ صَاحبُه، فَيكون اجْتِمَاعُ قلبه لمعاني الْقُرْآن دَائِمًا، غير مُنْقَطعٍ، لَا يزَال عطشانًا، طَالبًا، شاربًا، كَمَا قَالَ تَعَالَى لنَبيه: وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ [الحجر:99].
وَقَالَ الْحسنُ الْبَصْرِيّ: لم يَجْعَل اللهُ لعَبْدِهِ الْمُؤمن أَجَلًا دون الْمَوْت، وَقد اعْتَقد بعضُ الغالطين من هَؤُلَاءِ أنَّ الْمَعْنى: اعبد رَبَّك حَتَّى تحصل لَك الْمَعرفَة، ثمَّ اترك الْعِبَادَة. وَهَذَا جهلٌ وضلالٌ بإجماع الْأُمَّة، بل الْيَقِين هُنَا كاليقين فِي قَوْله: حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ [المدثر:47].
فِي الصَّحِيح: لما مَاتَ عُثْمَانُ بن مَظْعُون قَالَ النَّبِي ﷺ: أمَّا عُثْمَان فقد أَتَاهُ الْيَقِين من ربِّه، وَالله مَا أَدْرِي وَأَنا رَسُولُ الله مَا يفعل بِي.
فَأَمَّا الْيَقِين الَّذِي هُوَ صفة العَبْد فَذَاك قد فعله من حِين عبد ربَّه، وَلَا تصحّ الْعِبَادَة إِلَّا بِهِ، وَإِن كَانَ لَهُ دَرَجَات مُتَفَاوِتَة.
الشيخ: والمعنى هنا هو الموت؛ لأنَّ العبد مأمورٌ بالاستمرار في طاعة الله حتى يجيئه الموت، أو يذهب عقلُه، فليس له حدٌّ ينتهي إليه، إذا بلغ من العلم كذا وكذا، كما تقول جهلةُ الصُّوفية أو ضُلالهم أنه عندما تأتيه المعرفةُ الكاملةُ يسقط عنه التَّكليف؛ فلا يُصلي، ولا يصوم، ولا، ولا، ولا، فهذا من الضَّلال البعيد، والكفر، والإعراض، نسأل الله العافية، بل هو لا يزال مُكلَّفًا، مأمورًا، منهيًّا، وإن كان أعلم الناس، فالرسل أعلم الناس، وهم مُكلَّفون، ومَن دونهم من باب أولى، فلا يزال ..... والعبدُ مأمورًا: يُصلي، ويصوم، ويتَّقي المحارم حتى يأتيه الموت، أو يزول عقله فيُرفعُ عنه التَّكليف.
ولهذا قال هذا الرجل الذي قال عنه المؤلف: إنما نريد شيئًا لا ينقطع.
فالمقصود أنَّ تدبر القرآن والسُّنة شيء لا ينقطع، فعلى المؤمن أن يُعنى بكتاب الله، وسماع كلام الله، وسماع كلام رسوله، فإنَّ هذا شيء لا ينقطع، موجود، جعله الله رحمةً للعباد، أمَّا أذواق الصُّوفية وسماع أشعارهم وسماع قصائدهم فهذا شيء ينقطع، هذا يأتي بقصيدةٍ، وهذا يأتي بقصيدةٍ، وهذا يأتي بأشعارٍ فيها الشَّر، وهذه قد يكون فيها الغلو، وهذا يخلط: فتارةً كذا، وتارةً كذا، ثم ترجع إليهم حالاتهم وحيرتهم وشكّهم. أمَّا مَن كان إقبالُه على كتاب الله، وعلى سنة رسوله ﷺ، فهذا شيءٌ لا ينقطع، موجود، مستمر.
فطريق النَّجاة أن يُقبل على هذا الذي وضعه اللهُ للعباد، وجعله طريقًا لهم، كلما زادوا علمًا زادوا حاجةً إليه، كلما زاد العالمُ علمًا زاد حاجةً إلى العلم، وعرف جهله، وعرف أنه في حاجةٍ إلى المزيد؛ ولهذا قال اللهُ لنبيه: وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا [طه:114]، وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا [الإسراء:85]، فكلما زاد طلبُ العلم عرف الإنسانُ جهلَه، وأنه في حاجةٍ إلى مزيدٍ من العلم، وهكذا، وهكذا، فإذا علم اليوم مسائل عرف أنه بحاجة إلى مسائل أخرى يتعلَّمها ويستفيد منها.
فطلب العلم والتَّفقه في الدِّين يزداد به صاحبه معرفةً بجهله، ومعرفةً بحاجته لمزيدٍ من العلم، فلا يزال أبدًا في إقبالٍ على كتاب الله، وعلى سُنَّة رسوله ﷺ، يطلب المزيد من العلم، ويطلب إزالة الجهل الذي عنده حتى يلقى ربَّه، والله المستعان.
قَالَ تَعَالَى: الم ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ إِلَى قَوْله: وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ [البقرة:1- 4]، وَقَالَ: وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ [السجدة:24].
وَقَالَ عَن الْكُفَّار: وَإِذَا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لَا رَيْبَ فِيهَا قُلْتُمْ مَا نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ [الجاثية:32].
قَالَ أَبُو الْقَاسِم: وَجَاء عَن مُجَاهِدٍ فِي تَفْسِير قَوْله تَعَالَى: فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ [الروم:15] أَنه السَّماع من الْحُور الْعِين بِأَصْوَاتٍ شهيَّةٍ: نَحن الخالدات فَلَا نموت أبدًا، وَنحن النَّاعمات فَلَا نبأس أبدًا.
وَهَذَا فِيهِ أَنَّهم ينعمون فِي الْآخِرَة بِالسَّمَاعِ، وَقد تقدم الْكَلَامُ على هَذَا، وَأَنَّ التَّنعم بالشيء فِي الْآخِرَة لَا يَقْتَضِي أَن يكون عملًا حسنًا أَو مُبَاحًا فِي الدُّنْيَا.
وَقَالَ: وَقيل: السَّماع نِدَاء، والوجد قصد.
وَهَذَا كَلَامٌ مُطلقٌ؛ فَإِنَّ المستمع يُنَادِيه مَا يستمعه بِحَقٍّ تَارَةً، وبباطلٍ أُخْرَى، والواجد هُوَ قَاصدٌ يُجيب الْمُنَادِي الَّذِي قد يَدْعُو إِلَى حقٍّ، وَقد يَدْعُو إِلَى بَاطِلٍ، فَإِنَّ الْوَاجِدَ تَجِد فِي نَفسه إِرَادَةً وقصدًا.
قَالَ: وَسمعتُ مُحَمَّد بن الْحُسَيْن يَقُول: سَمِعتُ أَبَا عُثْمَان المغربي يَقُول: قُلُوب أهل الْحقِّ قُلُوبٌ حَاضِرَة، وأسماعهم أسماع مَفْتُوحَة.
وَهَذَا كَلَامٌ حسنٌ، قَالَ تَعَالَى: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ [ق:37]، قَالُوا: وَهُوَ حَاضر الْقَلب، لَيْسَ بغائبه، وَوصف اللهُ الْكفَّار بِأَنَّهُم صمٌّ، بُكْمٌ، عُمْيٌ، لَا يسمعُونَ، وَلَا يَعْقلُونَ، وَأَنَّ فِي آذانهم وقرًا، وَأَنَّه ختم على قُلُوبهم، وعَلى سمعهم.
قَالَ: وسمعتُه -يَعْنِي: أَبَا عبدالرَّحْمَن- يَقُول: سَمِعتُ الْأُسْتَاذ أَبَا سهل الصّعلوكي يَقُول: المستمع بَين استتارٍ وتجلٍّ، فالاستتار يُوجِب التَّلهيب، والتَّجلي يُورِث التَّرويح، والاستتار يتَوَلَّد مِنْهُ حركات المريدين، وَهُوَ مَحلّ الضَّعْف وَالْعَجْز، والتَّجلي يتَوَلَّد مِنْهُ سُكُونُ الواصلين، وَهُوَ مَحل الاسْتقَامَة والتَّمكن، وَذَلِكَ صفة الحضرة، لَيْسَ فِيهَا إِلَّا الذّبول تَحت موارد الهيبة، قَالَ تَعَالَى: فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا [الأحقاف:29].
قلتُ: هَذَا كَلَامٌ على أَحْوَال أهل السَّماع، وَهُوَ مُطلقٌ فِي السَّماع الشَّرْعِيّ والبدعي، لكنَّه إِلَى وصف حَال الْمُحدث أقرب، وَهُوَ وصفٌ لبَعض أَحْوَالهم، فَإِنَّ أَحْوَالهم أَضْعَاف ذَلِك، وَأمَّا الِاسْتِدْلَال بِالْآيَةِ فَفِيهِ كَلَامٌ لَيْسَ هَذَا مَوْضِعه.
قَالَ: وَقَالَ أَبُو عُثْمَان الْحِيرِي: السَّماع على ثَلَاثَة أوجهٍ: فَوجه مِنْهَا للمُريدين والمبتدئين، يستدعون بذلك الْأَحْوَال الشَّرِيفَة، ويُخشى عَلَيْهِم فِي ذَلِك الْفِتْنَة والمراءاة.
وَالثَّانِي للصَّادقين: يَطْلبُونَ الزِّيَادَة فِي أَحْوَالهم، ويستمعون من ذَلِك مَا يُوَافق أوقاتهم.
وَالثَّالِث لأهل الاسْتقَامَة من العارفين: وَهَؤُلَاء لَا يختارون على الله فِيمَا يرد على قُلُوبهم من الْحَرَكَة والسُّكون.
قلتُ: هَذَا الْكَلَام مُطلق فِي السَّماع، يتَنَاوَل الْقِسمَيْنِ.
فصلٌ فِي محبَّة الْجَمال
ثَبت فِي "صَحِيح مُسلم" عَن عبدالله بن مَسْعُودٍ، عَن النَّبِي ﷺ أَنه قَالَ: لَا يَدْخل النَّارَ أحدٌ فِي قلبه مِثْقَالُ حَبَّة خَرْدَلٍ من إِيمَانٍ، وَلَا يَدْخل الْجنَّةَ أحدٌ فِي قلبه مِثْقَال حَبَّة خَرْدَلٍ من كِبْرٍ.
وَفِي رِوَايَةٍ: لَا يَدْخل الْجنَّةَ مَن كَانَ فِي قلبه مِثْقَال ذرَّةٍ من كِبْرٍ، فَقَالَ رجلٌ: إِنَّ الرجل يُحبّ أَن يكون ثَوْبُه حسنًا، وَنَعله حسنًا، فَقَالَ: إِنَّ الله جميلٌ يُحبّ الْجَمال، الْكِبر: بطر الْحقِّ، وغمط النَّاس.
فَقَوله: إِنَّ الله جميلٌ يُحبّ الْجَمال قد أدرج فِيهِ حُسن الثِّيَاب الَّتِي هِيَ الْمَسْؤُول عَنْهَا، فَعُلم أَنَّ الله يُحبّ الْجَمال والجميل من اللِّبَاس، وَيدخل فِي عُمُومه وبطريق الفحوى: الْجَمِيلُ من كل شيءٍ.
هَذَا كَقَوْلِه فِي الحَدِيث الَّذِي رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ: إِنَّ الله نظيفٌ يُحبّ النَّظَافَة.
وَقد ثَبت عَنهُ فِي الصَّحِيح أَنَّه قَالَ: إِنَّ الله طيبٌ، لا يُحبّ إلا طيبًا.
وَهَذَا مِمَّا يُسْتَدلّ بِهِ على التَّجمل فِي الْجُمع والأعياد، كَمَا فِي الصَّحِيح: أَنَّ عمر بن الْخَطاب رأى حُلَّةً تُبَاع فِي السُّوق، فَقَالَ: يَا رَسُول الله، لَو اشْتريتَ هَذِه تلبسها. فَقَالَ: إِنَّمَا يلبس هَذِه مَن لَا خلاقَ لَهُ فِي الْآخِرَة.
وَهَذَا يُوَافقهُ فِي حُسن الثِّيَاب مَا فِي السُّنَن: عَن أبي الْأَحْوَص الْجُشَمِي قَالَ: رَآنِي النَّبِيُّ ﷺ وعَليَّ أطمار، فَقَالَ: هَل لَك من مَالٍ؟ قلتُ: نعم، قَالَ: من أَيِّ المَال؟ قلتُ: من كلِّ مَا أَتَى اللهُ من الْإِبِل وَالشَّاء، قَالَ: فَلْتُرَ نعْمَةُ الله وكرامتُه عَلَيْك.
وَفِي السّنَن أَيْضًا: عَن عَمْرو بن شُعَيْب، عَن أَبِيه، عَن جدِّه قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله ﷺ: إِنَّ الله يُحبُّ أَن يرى أثرَ نِعْمَته على عَبده.
الشيخ: والمعنى في هذا أنَّ التزين، ولبس الحسن من الثياب، وتعاطي الحسن والجيد من الطعام، من باب إظهار نعمة الله على العبد؛ أن يسَّر اللهُ له ذلك، وأنعم عليه، فينبغي أن يُري نفسَه أثر نعمة الله عليه، وأن لا يتظاهر بمظهر الفقراء: بملبسه، ومأكله، ومشربه، ونحو ذلك، بل يُظهر نِعَم الله عليه ويُبينها، فإذا تعاطى بعض الأحيان شيئًا من التَّواضع والذِّلة لكسر النفس فهذا هو المطلوب، أمَّا أن تكون مظاهره مظاهر الفقراء والعاجزين، وهو قد أنعم الله عليه، فهذا هو المكروه الذي لا ينبغي؛ ولهذا لما قال رجلٌ: يا رسول الله، الرجل يُحب أن يكون ثوبُه حسنًا، ونعله حسنةً، أفذلك من الكِبْر؟ قال: إنَّ الله جميلٌ يُحبُّ الجمال، الكبر: بطر الحقِّ، وغمط الناس.
بطر الحقِّ: ردّ الحق، والتَّكبر عن قبوله. وغمط الناس أي: احتقارهم. خرَّجه الإمام مسلم في الصحيح رحمه الله.
فهذا يدل على أنه ينبغي التَّجمل ولبس الحسن من الثياب بين الناس، في صلاته وبين الناس، ولا سيما الجمعة؛ ولهذا لما رأى عمرُ حُلَّةً من ديباجٍ قال: يا رسول الله، لو اشتريتها للوفد والجمعة. فقال: إنما يلبسها مَن لا خلاقَ له؛ لأنها حرير، مَن لا خلاقَ له في الآخرة، فدلَّ على أنَّ الجمعة يُلبس لها الحسن من الثياب، وعند مقابلة الوفود.
فهذا كله يُبين لنا أنه ينبغي للمؤمن أن تكون له مظاهر حسنة بحسب ما أعطاه الله من النِّعمة.
وهكذا حديث عبدالله بن عمرو: إنَّ الله يُحبُّ أن يرى أثرَ نعمته على عبده، فإذا كانت عنده النِّعمة والخير فليكن مظهرُه مظهرَ أهل الغنى والسَّعة في لباسه ومأكله ونحو ذلك.
أمَّا أن يلبس الخرقان والرديء من الطعام، وقد أنعم اللهُ عليه، فهذا معناه نوعٌ من الجحد لنِعَم الله بالفعل، وإظهار للفقر بالفعل، نسأل الله السَّلامة.
س: أحسن الله إليك، يُؤخذ من الأحاديث هذه -إنَّ الله جميلٌ يُحب الجمال، إنَّ الله طيب- إثبات أنَّ من أسماء الله: الطيب والجميل؟
ج: نعم، أما حديث: إنَّ الله نظيفٌ يُحب النَّظافة فهو ضعيفٌ، لكن معناه صحيح، معناه: إنَّ الله جميلٌ، إنَّ الله تعالى طيب، لا يقبل إلا طيِّبًا. رواه مسلم.
لَكِن هَذَا الظُّهُور لنِعمة الله، وَمَا فِي ذَلِك من شكره، وَالله يُحب أَن يُشْكر، وَذَلِكَ لمحبَّته الْجَمال.
وَهَذَا الحَدِيث قد ضلَّ قومٌ بِمَا تأوَّلوه عَلَيْهِ، وَآخَرُونَ رَأَوْهُ مُعَارضًا لغيره من النُّصُوص، وَلم يهتدوا للجَمْع.
فالأوَّلون قد يَقُولُونَ: كل مَصْنُوع الربّ جميل؛ لقَوْله: الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ [السجدة:7]، فَنُحب كلَّ شيءٍ.
وَقد يستدلُّون بقول بعض الْمَشَايِخ: الْمحبَّة نَار تحرق فِي الْقَلب كلَّ مَا سوى مُرَاد المحبوب. والمخلوقات كلهَا مُرَاده، وَهُوَ لَا يَقُوله قَائِلهمْ، فَصرَّحَ بِإِطْلَاق الْجَمال.
وَأَقلّ مَا يُصِيب هَؤُلَاءِ أَنَّهم يتركون الْغِيرَة لله، وَالنَّهْي عَن الْمُنكر، والبُغض فِي الله، وَالْجهَاد فِي سَبيله، وَإِقَامَة حُدُوده، وهم فِي ذَلِك مُتناقضون؛ إِذْ لَا يتمكَّنون من الرِّضَا بِكُل مَوْجُودٍ، فَإِنَّ الْمُنْكَرَات هِيَ أُمُور مُضرَّة لَهُم ولغيرهم، وَيبقى أحدُهم مَعَ طبعه وذوقه وهواه؛ يُنكِر مَا يكره ذوقه، دون مَا لَا يكره ذوقه، وينسلخون عَن دين الله، وَرُبمَا دخل أحدُهم فِي الِاتِّحَاد والحلول الْمُطلَق، وَمِنْهُم مَن يخصّ الْحُلُول أَو الِاتِّحَاد بِبَعْض الْمَخْلُوقَات: كالمسيح، أَو عَليّ بن أبي طَالب، أَو غَيرهمَا من الْمَشَايِخ والملوك والمردان، فَيَقُولُونَ بحلوله فِي الصُّور الجميلة ويعبدونها.
وَمِنْهُم مَن لَا يرى ذَلِك، لَكِن يتدين بحبِّ الصُّور الجميلة من النِّسَاء الْأَجَانِب والمردان وَغير ذَلِك، وَيرى هَذَا من الْجَمال الَّذِي يُحِبّهُ الله وَيُحِبّهُ هُوَ، ويُلبس الْمحبَّة الطَّبيعية الْمُحرَّمَة بالمحبَّة الدِّينِيَّة، وَيجْعَل مَا حرَّمه الله مِمَّا يقرب إِلَيْهِ: وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ [الأعراف:28].
وَالْآخرُونَ قَالُوا: ثَبت فِي "صَحِيح مُسلم" عَن أبي هُرَيْرَة، عَن النَّبِي ﷺ أَنه قَالَ: إِنَّ الله لَا ينظر إِلَى صُوركُمْ وَأَمْوَالكُمْ، وَإِنَّمَا ينظر إِلَى قُلُوبكُمْ وَأَعْمَالكُمْ.
وَمَعْلُومٌ أَنه لم يَنْفِ نظر الْإِدْرَاك، لَكِن نظر الْمحبَّة، وَقد قَالَ تَعَالَى عَن الْمُنَافِقين: وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ [المنافقون:4]، وَقَالَ تَعَالَى: وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثًا وَرِئْيًا [مريم:74]، والأثاث: المَال من اللِّبَاس وَنَحْوه. والرّئي: المنظر، فَأَخْبر أنَّ الَّذين أهلكهم قبلهم كَانُوا أحسن صورًا وأموالًا؛ لنتبين أَنَّ ذَلِك لَا ينفع عِنْده، وَلَا يعبأ بِهِ.
وَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: لَا فضلَ لعربيٍّ على أعجميٍّ، وَلَا لأبيض على أسود إِلَّا بالتَّقوى.
وَفِي السُّنَن عَنهُ أَنه قَالَ: البذاذة من الإيمان.
وَأَيْضًا فقد حرَّم علينا من لِبَاس الْحَرِير وَالذَّهَب، وآنية الذَّهَب وَالْفِضَّة مَا هُوَ أعظم الْجَمال فِي الدُّنْيَا، وَحرَّم اللهُ الْفَخرَ وَالْخُيَلَاء واللِّباس الَّذِي فِيهِ الْفَخر وَالْخُيَلَاء: كإطالة الثِّيَاب، حَتَّى ثَبت فِي الصَّحِيح عَن أبي هُرَيْرَة: أَن رَسُول الله ﷺ قَالَ: لَا ينظر اللهُ يَوْم الْقِيَامَة إِلَى مَن جرَّ إزَاره بطرًا.
وَفِي الصَّحِيح عَن ابْن عمر: أَن النَّبِي ﷺ قَالَ: مَن جرَّ ثَوْبَه خُيَلَاء لم ينظر اللهُ إِلَيْهِ يَوْم الْقِيَامَة.
وَفِي الصَّحِيح أَيْضًا قَالَ: بَيْنَمَا رجلٌ يجرُّ إزاره من الْخُيَلَاء خُسف بِهِ، فَهُوَ يتجلجل فِي الأَرْضِ إِلَى يَوْم الْقِيَامَة.
وَقد قَالَ تَعَالَى فِي حقِّ قَارون: فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ [القصص:79]، قَالُوا: ثِيَاب الأرجوان.
وَلِهَذَا ثَبت فِي الصَّحِيح عَن عبدالله بن عَمْرو قَالَ: رَآنِي رَسُولُ الله ﷺ وعليَّ ثوبان مُعصفران، فَقَالَ: إِنَّ هَذِه من ثِيَاب الْكفَّار فَلَا تلبسها، قلتُ: أغسلهما؟ قَالَ: أحرقهما.
وَلِهَذَا كره الْعُلمَاء الْمُحَقِّقُونَ الْأَحْمَر المشبع حمرَةً، كَمَا جَاءَ النَّهْي عَن الميثرة الْحَمْرَاء، وَقَالَ عمرُ بن الْخطَّاب: دعوا هَذِه الرَّايَات للنِّسَاء.
وَقد بسطنا القَوْلَ فِي هَذِه الْمَسْأَلَة فِي موضعهَا.
وَأَيْضًا فقد قَالَ اللهُ تَعَالَى: قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ إِلَى قَوْله: وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ [النور:30- 31].
وَقَالَ النَّبِي ﷺ فِي الحَدِيث الصَّحِيح عَن أبي هُرَيْرَة: العينان تزنيان وزناهما النَّظر.
وَفِي الصَّحِيح عَن جرير بن عبدالله قَالَ: سَأَلتُ النَّبِيَّ ﷺ عَن نظر الْفَجأَة، فَقَالَ: اصرف بَصرك.
وَفِي السّنَن أَنه قَالَ لعَليٍّ: يَا عَليّ، لَا تُتبع النَّظرة النَّظرة، فَإِنَّمَا لَك الأولى، وَلَيْسَت لَك الْآخِرَة.
وَقد قَالَ تَعَالَى: وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى [طه:131].
وَقَالَ: لَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ [الحجر:88].
وَقَالَ: زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ [آل عمران:14- 15].
وَقد قَالَ مَعَ ذمِّه لمذامّه من هَذِه الزِّينَة: قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ [الأعراف:32].
فَنَقُول: اعلم أَنَّ مَا يصفه بِهِ النَّبِيُّ ﷺ من محبَّة الْأَجْنَاس المحبوبة من الْأَعْيَان وَالصِّفَات وَالْأَفْعَال، وَمَا يبغضه من ذَلِك، هُوَ مثلمَا يَأْمُر بِهِ من الْأَفْعَال، وَيَنْهى عَنهُ من ذَلِك؛ فَإِنَّ الْحبَّ والبُغض هما أصل الأمر والنَّهي، وَذَلِكَ نَظِير مَا يعده على الأعمال الْحَسَنَة من الثَّوَاب، ويتوعد بِهِ على الْأَعْمَال السَّيئَة من الْعِقَاب.
فَأمره وَنَهْيه، ووعده ووعيده، وحبّه وبُغضه، وثوابه وعقابه، كل ذَلِك من جنسٍ وَاحِدٍ، والنصوص النَّبَوِيَّة تَأتي مُطلقَةً عَامَّةً من الْجَانِبَيْنِ، فتتعارض فِي بعض الْأَعْيَان وَالْأَفْعَال الَّتِي تندرج فِي نُصُوص الْمَدْح والذَّم، وَالْحبّ والبُغض، وَالْأَمر وَالنَّهْي، والوعد والوعيد.
وَقد بسطنا الْكَلَام على مَا يتَعَلَّق بِهَذِهِ الْقَاعِدَة فِي غير مَوضِعٍ؛ لتعلقها بأصول الدِّين وفروعه.
فَإِنَّ من أكبر الْمسَائِل الَّتِي تتبعها مَسْأَلَةُ الْأَسْمَاء وَالْأَحْكَام فِي فُسَّاق أهل الْمِلَّة، وَهل يجْتَمع فِي حقِّ الشَّخْص الْوَاحِد الثَّوَابُ وَالْعِقَابُ كَمَا يَقُوله أهلُ السُّنة وَالْجَمَاعَة أم لَا يجْتَمع ذَلِك؟ وَهل يكون الشَّيء الْوَاحِدُ محبوبًا من وَجهٍ، مبغوضًا من وَجهٍ، مَحْمُودًا من وَجهٍ، مذمومًا من وَجهٍ كَمَا يَقُوله جُمْهُور الْخَوَارِج والمعتزلة؟ وَهل يكون الْفِعْلُ الْوَاحِد مَأْمُورًا بِهِ من وَجهٍ، مَنْهِيًّا عَنهُ من وَجهٍ؟
الشيخ: وهذا الذي ذكره المؤلفُ رحمه الله من المجملات، وإنما يفصله النُّصوص الأخرى، فإذا أحبَّ اللهُ شيئًا، وأثنى عليه إجمالًا، أو ذمَّ شيئًا وعابه إجمالًا؛ فلا بدَّ من الرجوع إلى النُّصوص بالتَّفصيل، فما فصَّله من المباح أُخِذَ به، وما فصَّله من النَّهي أُخِذَ به، فإذا قال: إنَّ الله جميلٌ يُحبُّ الجمال، ليس معناه أنَّ كلَّ جميلٍ محبوبٌ إلى الله مطلقًا، المقصود أنه يُحب الجمال –يعني- الذي أباحه وشرعه لعباده، فالله يُحب الجمال الذي شرعه لعباده وأحبَّه لهم، دون ما نهاهم عنه: فالذهب مثلًا، والحرير جميل، ولكنه ما أحبَّه للرجال ، وجعله للنِّساء، فلا يقول قائلٌ: إنَّ الذهبَ جميلٌ، فيتحلَّى به الرجل، ويجعله خاتمًا له، أو قلادةً له؛ لأنَّ هذا جميلٌ، لكن في محلِّه، في محل النِّساء، لا محلّ الرجال.
وهكذا الحرير: فهو جميلٌ في نفسه ونفيس، لكنه لجنسٍ آخر، وهو النساء، لا للرجال. وهكذا الأواني جميلة وطيبة، لكنه ما أباح لنا أواني الذَّهب والفضَّة، ولا أباحها لعباده في الدنيا، بل جعلها في الآخرة في الجنَّة والنَّعيم المقيم، ولا ينبغي أن يستعجلوها في الدنيا، أو يتشبَّهوا بأعداء الله في الدنيا الذين استحلُّوها.
وهكذا ما أشبه ذلك من قوله: إنه يُحب أن يرى أثرَ نعمته عليه، ليس معناه: أنه يُحب أن يرى أثرَ نعمته عليه أن يلبس الحرير، ويلبس الذهب، أو يتبختر، أو يجرّ ثيابه، لا، بل يلبس منها ما شرعه الله، ويتجمَّل بما جعله الله من اللباس الجميل المباح، غير الحرير.
وهكذا يتجمَّل بالثياب من دون إرخائها وإسبالها، ويتجمل بها بالحدود الشَّرعية.
الحاصل أنَّ الألفاظ المجملة العامَّة لا بدَّ من تفصيلها وتقييدها بالنصوص الخاصَّة المفصلة لما أباح الله جلَّ وعلا، أمَّا أهل الباطل فيأخذون ما ناسب أهواءهم، ويتأوَّلون النصوص بغير تأويلها.
فالواجب على أهل الإيمان أن يُفسروا النصوص بما جاءت به، وأن يُقيدوا المطلق بالمقيد، ويخصّوا العام بالخاصِّ، وألا يأخذوها هكذا مُطلقةً فيجعلوها مُتعارضةً مُتناقضةً، لا، فإنَّ كتاب الله وسنة رسوله لا يتناقضان، وكلاهما حقٌّ، فما أُطلق في مكانٍ فسّره مكانٌ آخر، وما عُمِّم في مكانٍ فسَّره تخصيصٌ آخر، وهكذا.
س: كيف يجمع بين الحثِّ على الزهد والحثِّ على لبس أجمل الثِّياب؟
ج: لا منافاة، يكون زاهدًا في الدنيا، وراغبًا في الآخرة، وهو عليه ملابس جيدة، ما عنده مُفاخرة، ولا تكبر، ولا إضاعة للآخرة في مسائل الدنيا، وهو يلبس الجميل، ويتواضع لله، ويزهد في الدنيا، لا يُؤثرها على الآخرة.
فالمؤمن زاهدٌ في الدنيا وإن لبس الجميل، وإن أكل الطيب من الطيبات: من اللحوم والطعام ونحو ذلك، فالزهد محله القلب، وإذا ترك ذلك بعض الأحيان من باب كسر النفس، من باب البذاذة بعض الأحيان، فهذا حسنٌ، من باب كسر النفس عن ترفعها وتكبرها ونحو ذلك؛ لهذا قال تعالى: يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا [المؤمنون:51]، فهو يأكل من الطيبات ويعمل صالحًا، وهو زاهد، أزهد الناس الأنبياء، ومع ذلك أمرهم أن يأكلوا من الطيبات عليهم الصلاة والسلام.
وهكذا قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ [البقرة:172]، وكان لا يتكلف عليه الصلاة والسلام: يأكل ما تيسر، يأكل من اللَّحم: من الإبل، ومن الغنم، ومن الطيور، ويشرب العسل، ويأكل الفاكهة، ويلبس الحسن من الثياب إذا تيسر ذلك.
س: التَّكبر على المتكبرين؟
ج: التَّكبر قسمان: التَّكبر عنهم معناه: أنه لا يُعاملهم بالشَّرع، فهذا غلطٌ، أما أنه لا يهتم بهم، ولا يُبالي بهم بالةً، ولكن يُنصفهم ويُعطيهم حقوقَهم فحقٌّ، يُعطيهم حقوقَهم: يردّ السلام، يبدأ بالسلام، إلى غير ذلك.
س: الوعيد الذي ورد في جرِّ الثوب يدخل في جميع أنواع الخُيلاء: كالسيارة والملبس؟
ج: يكون له ناقة طيبة، وفرس طيب، ما هو من الخيلاء، هي مُقيدة في القلوب، وفي الملابس، ونحوها مما بيَّنه الرسول ﷺ، لكن قلبه فيه تكبر، ولو عليه خميصَة.
س: يقول بعضُهم: مَن جرَّ ثوبه خُيلاء أنه لا يحرم إلا ما كان بطرًا وكِبْرًا؟
ج: لا، هذا يكون أشدّ تحريمًا، وإلا فالإسبال كله مُحرَّم، لكن ما كان عن كبرٍ يكون أشدّ في الإثم، نسأل الله العافية؛ ولهذا قال ﷺ: ما أسفل الكعبين من الإزار فهو في النار، ولم يُقيده.
وَقد تنَازع فِي ذَلِك أهلُ الْعِلم من الْفُقَهَاء والمتكلمين وَغَيرهم، والتَّعارض بَين النُّصُوص إِنَّمَا هُوَ لتعارض المتعارض الْمُقْتَضي للحمد والذَّم من الصِّفَات الْقَائِمَة بِذَاتِهِ تَعَالَى؛ وَلِهَذَا كَانَ هَذَا الْجِنْسُ مُوجبًا للكفر أَو الْفِتْنَة، فَأول مَسْأَلَةٍ فرَّقت بَين الْأُمة: مَسْأَلَة الْفَاسِق الملّيّ، فأدرجته الخوارجُ فِي نُصُوص الْوَعيد وَالْخُلُود فِي النَّار، وحكموا بِكُفْرِهِ، ووافقتهم الْمُعْتَزلَة على دُخُوله فِي نُصُوص الْوَعيد وخلوده فِي النَّار، لَكِن لم يحكموا بِكُفْرِهِ، فَلَو كَانَ الشيء خيرًا مَحْضًا لم يُوجِب فُرقةً، وَلَو كَانَ شرًّا مَحْضًا لم يخفَ أمره، لَكِن لِاجْتِمَاع الْأَمريْنِ فِيهِ أوجب الْفِتْنَة.
وَكَذَلِكَ مسألة الْقَدر الَّتِي هِيَ من جملَة فروع هَذَا الأَصْل، فَإِنَّهُ اجْتَمع فِي الْأَفْعَال الْوَاقِعَة الَّتِي نهى اللهُ عَنْهَا أَنَّهَا مُرَادة لَهُ؛ لكَونهَا من الموجودات، وَأَنَّهَا غير محبوبةٍ لَهُ، وَلَا مرضيَّة، بل ممقوتة، مبغوضة؛ لكَونهَا من المنهيَّات.
فَقَالَ طوائف من أهل الْكَلَام: الْإِرَادَة والمحبَّة وَالرِّضَا وَاحِدَة أَو مُتلازمة؟ ثمَّ قَالَت الْقَدَرِيَّة: وَالله لم يُحبّ هَذِه الأفعال، وَلم يرضها، فَلم يردهَا، فأثبتوا وجود الكائنات بِدُونِ مَشِيئَةٍ؛ وَلِهَذَا لما قَالَ غيلَان القدري لِرَبِيعَة بن عبدالرَّحْمَن.
الشيخ: ربيعة ابن أبي عبدالرحمن.
لربيعة ابن أبي عبدالرحمن: يَا ربيعَة، نشدتك بِاللَّه، أَتَرَى اللهَ يُحبّ أَن يُعْصَى؟ فَقَالَ لَهُ ربيعَةُ: أفترى اللهَ يُعْصَى قسرًا؟ فَكَأَنَّهُ ألقَمَه حجرًا، يَقُول لَهُ: نزّهته عَن محبَّة الْمَعاصِي فسلبته الْإِرَادَة وَالْقُدْرَة، وَجَعَلته مقهورًا مقسورًا.
وَقَالَ مَن عَارض الْقَدَرِيَّة: بل كلّ مَا أَرَادَهُ فقد أحبَّه ورضيه. ولزمهم أن يكون الْكُفْر والفُسوق والعِصيان محبوبًا لله، مرضيًّا.
وَقَالُوا أَيْضًا: يَأْمُر بِمَا لَا يُريدهُ، وكل ما أمر بِهِ من الْحَسَنَات فَإِنَّهُ لم يُردهُ، وَرُبمَا قَالُوا: وَلم يُحِبّهُ، وَلم يرضه، إِلَّا إِذا وجد، وَلَكِن أَمر بِهِ وَطَلَبه.
فَقيل لَهُم: هَل يكون طلبٌ وَإِرَادَةٌ واستدعاءٌ بِلَا إِرَادَةٍ، وَلَا محبَّةٍ، وَلَا رضا؟! هَذَا جمعٌ بَين النَّقيضين، فتحيَّروا.
فَأُولَئِك سلبوا الربَّ خلقه وَقُدرته وإرادته، وَهَؤُلَاء سلبوا محبَّته وَرضَاهُ وإرادته الدِّينِيَّة، وَمَا يَصْحَبهُ أمره وَنَهْيه من ذَلِك، فَكَمَا أَنَّ الْأَوَّلين لم يُثبتوا أَنَّ الشَّخْص الْوَاحِد يكون مُثابًا مُعاقبًا، بل إِمَّا مثاب، وَإِمَّا مُعاقب، فَهَؤُلَاءِ لم يُبيِّنوا أَنَّ الْفِعْلَ الْوَاحِدَ يكون مُرَادًا من وَجهٍ دون وَجهٍ، مُرَادًا غير مَحْبُوبٍ، بل إِمَّا مُرَاد مَحْبُوبٌ، وَإِمَّا غير مُرَادٍ وَلَا مَحْبُوبٍ، وَلم يجْعَلُوا الْإِرَادَةَ إِلَّا نوعًا وَاحِدًا، وَالتَّحْقِيق أَنه يكون مُرَادًا غير مَحْبُوبٍ وَلَا مرضيٍّ، وَيكون مرَادًا من وَجهٍ دون وَجهٍ، وَيكون محبوبًا مرضيًّا غير مُرَاد الْوُقُوع.
والإرادة نَوْعَانِ:
إِرَادَة دينية: وَهِي الْمُقَارنَة للْأَمر وَالنَّهْي، وَالْحبّ والبُغض، وَالرِّضَا وَالْغَضَب.
وَإِرَادَة كونية: وَهِي الْمُقَارنَة للْقَضَاء وَالْقَدر، والخلق وَالْقُدْرَة.
وكما تفَرَّقُوا فِي صِفَات الْخَالِق تفَرَّقُوا فِي صِفَات الْمَخْلُوق: فَأُولَئِك لم يُثبتوا لَهُ إِلَّا قُدرَة وَاحِدَة تكون قبل الْفِعْل، وَهَؤُلَاء لم يُثبتوا لَهُ إِلَّا قُدرَة وَاحِدَة تكون مَعَ الْفِعْل.
أُولَئِكَ نفوا الْقُدْرَة الكونيَّة الَّتِي بهَا يكون الْفِعْلُ، وَهَؤُلَاء نفوا الْقُدْرَة الدِّينِيَّة الَّتِي بهَا يَأْمُر الله العَبْدَ وينهاه.
وَهَذَا من أصُول تفرُّقهم فِي مَسْأَلَة تَكْلِيف مَا لَا يُطَاق، وانقسموا إِلَى قدرية مَجُوسِيَّة تُثبت الْأَمر وَالنَّهْي، وتنفي الْقَضَاء وَالْقَدر. وَإِلَى قدرية مُشركية شَرٌّ مِنْهُم، تُثبت الْقَضَاء وَالْقَدر، وَتكذب بِالْأَمر وَالنَّهْي، أَو بِبَعْض ذَلِك. وَإِلَى قدرية إبليسية، تُصدق بالأمرين، لَكِن ترى ذَلِك تناقُضًا مُخَالفًا للحقِّ وَالْحِكْمَة.
وَهَذَا شَأْن عَامَّة مَا تتعارض فِيهِ الْأَسْبَاب والدَّلائل: تَجِد فريقًا يَقُولُونَ بِهَذَا دون هَذَا، وفريقًا بِالْعَكْسِ، وفريقًا رَأَوا الْأَمْرَيْنِ، واعتقدوا تناقُضهما، فصاروا مُتحيرين، أَو مُعرضين عَن التَّصْدِيق بهما جَمِيعًا، أَو مُتناقضين: مَعَ هَذَا تَارَةً، وَمَعَ هَذَا تَارَةً.
وَهَذَا تَجدهُ فِي مسَائِل الْكَلَام والاعتقادات، ومسائل الْإِرَادَة والعبادات: كَمَسْأَلَة السَّماع الصَّوتي، وَمَسْأَلَة الْكَلَام، ومسائل الصِّفَات، وَكَلَام الله، وَغير ذَلِك من الْمَسَائِل.
الشيخ: والخلاصة في هذا أنَّ الله له إرادتان:
إرادة كونية: كالمشيئة، فهذه بها خلق الأشياء، وبها أوجد الأشياء، وهي المرادة في قوله سبحانه: إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [يس:82]، وقوله جلَّ وعلا: وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ [الأنعام:112]، وفي الحديث: ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن، هذه بها أوجد اللهُ الأشياء، وخلق الأشياء: خيرها وشرّها.
وهناك إرادة دينية: تتبعها المحبَّة والرِّضا، وهي ما جاءت به الرسل، فما أمر اللهُ به فقد أراده شرعًا، وأحبَّه شرعًا، فإن وجد فقد شاءه وأراده قدرًا، وإن لم يُوجد فذلك لأنه لم يشاءه قدرًا، ولم يُرده قدرًا .
فإذا وُجد من المؤمن اجتمع في حقِّه الإرادتان: الإرادة الشَّرعية، والإرادة الكونية. فإنه إنما صلَّى وصام ووحَّد ربَّه بإرادة الله سبحانه الكونية، ووافق إرادته الشَّرعية ومحبَّته .
وتنفرد الإرادة الكونية في حقِّ العاصي والكافر؛ فإنه إنما كفر وعصى بما سبق من المشيئة والإرادة الكونية، ولكنه لم يُوفق لقبول الإرادة الشَّرعية والأمر الشَّرعي، فصار عاصيًا ضالًّا، ولكنه لم يخرج عن قدر الله، ولا عن إرادته الكونية ، فإنه سبحانه لا يكون في ملكه ما لا يُريد، فتجتمع الإرادتان في حقِّ المطيع، وتنفرد الإرادة الكونيَّة والمشيئة في حقِّ العاصي أو الكافر.
وهذا فصل النِّزاع بين أهل السنة، وبين أهل البدع، والله المستعان.
وجماع القَوْل فِي ذَلِك أَنَّ كلَّ أَمريْن تَعَارضا فَلَا بُدَّ أَن يكون أَحدُهمَا راجحًا، أَو يَكُونَا مُتكافئين، فَيُحكم بَينهمَا بِحَسب الرُّجحان، وبحسب التَّكافؤ، فالعملان والعاملان إِذا امتاز كلٌّ مِنْهُمَا بِصِفَاتٍ، فَإِن ترجَّح أَحدُهمَا فَهُوَ الرَّاجِح، وَإِن تكافآ سُوِّي بَينهمَا فِي الْفَضل والدَّرجة، وَكَذَلِكَ أَسبَاب الْمصَالح والمفاسد، وَكَذَلِكَ الْأَدِلَّة بِأَنَّهُ يُعْطى كل دَلِيلٍ حَقّه، وَلَا يجوز أَن تَتَكَافَأ الْأَدِلَّةُ فِي نفس الْأَمر عِنْد الْجُمْهُور، لَكِن تَتَكَافَأ فِي نظر النَّاظر، وَأمَّا كَون الشَّيء الْوَاحِد من الْوَجْه الْوَاحِد ثَابتًا مُنتفيًا فَهَذَا لَا يَقُوله عَاقلٌ.
وأصل هَذَا كُله الْعَدْل بالتَّسوية بَين المتماثلين، فَإِنَّ الله تَعَالَى يَقُول: لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ [الحديد:25].
وَقد بسطنا القَوْلَ فِي ذَلِك، وَبينا أَنَّ الْعَدْل جماع الدِّين وَالْحقّ وَالْخَيْر كُله فِي غير مَوضِعٍ.
وَالْعَدْل الْحَقِيقِيّ قد يكون مُتعذِّرًا: إِمَّا عمله، وَإِمَّا الْعَمَل بِهِ، لَكِن التَّمَاثُل من كل وَجهٍ غير مُمكنٍ، أَو غير مَعْلُومٍ، فَيكون الْوَاجِبُ فِي مثل ذَلِك مَا كَانَ أشبه بِالْعَدْلِ، وَأقرب إِلَيْهِ، وَهِي الطَّرِيقَة المثلى.
الشيخ: ولذلك يقول الله جلَّ وعلا: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ [النحل:90]، ويقول ﷺ في السَّبعة الذين يُظلهم اللهُ في ظلِّه: إمام عادل، ويقول تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ [النساء:135]، ويقول: وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ [الحجرات:9]، هذا كله العدل في الأمور كلها: في نفسه، وفي النَّاس.
وَقَالَ سُبْحَانَهُ: وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا [الأنعام:152].
وعَلى هَذَا فَالْحقّ الْمَوْجُود -وَهُوَ الثَّابِت الَّذِي يُقَابله الْمَنْفِيّ- وَالْحقّ الْمَقْصُود -وَهُوَ الْمَأْمُور بِهِ المحبوب الَّذِي يُقَابله المنهي عَنهُ المبغوض- ثَلَاثَة أَقسَامٍ:
فَإِنَّهَا فِي الْحقِّ الْمَقْصُود: إِمَّا أَمرٌ ترجَّحت الْمصلحَةُ المحبوبةُ فِيهِ، وَهَذَا يُؤمَر بِهِ.
وَإِمَّا أَمرٌ ترجَّحت فِيهِ الْمَفْسدَة الْمَكْرُوهَة، فَهَذَا يُنْهَى عَنهُ.
وَإِمَّا أَمرٌ اسْتَوَى فِيهِ هَذَا وَهَذَا، فَهَذَا لَا يُؤمَر بِهِ، وَلَا يُنْهَى عَنهُ، وَلَا يتَرَجَّح فِيهِ الْحبّ، وَلَا يتَرَجَّح فِيهِ البُغض، بل يكون عفوًا.
وَمَا دون هَذَا إِن كَانَ مثل هَذَا مَوْجُودًا؛ فَإِنَّ النَّاس يتنازعون فِي وجوده، فَقيل: هُوَ مَوْجُود. وَقيل: بل هُوَ يقدر فِي الْفِعْل، لَا وجودَ لَهُ، بل لَا بُدَّ من الرُّجحان، كَمَا قيل مثل ذَلِك فِي تكافؤ الْأَدِلَّة.
وعَلى هَذَا فَالْأَمْر الَّذِي ترجَّحت فِيهِ الْمصلحَةُ وَأُمِرَ بِهِ غلب فِيهِ جَانبُ الحقِّ، مَعَ أَنَّ الَّذِي فيه المصلحة مُبغض، لكنه مُرَادٌ، فَهُوَ مُرَادٌ، بغيضٌ، وَالْأَمر الَّذِي ترجَّح فِيهِ جَانبُ الْمصلحَة مَحْبُوبٌ، لكنه مُرَاد التَّرْك مَحْبُوبٌ، فَهُوَ مَحْبُوبٌ فِي نَفسه، لَكِن لملازمته لما هُوَ بغيض وَجب أَن يُرَاد تَركه تبعًا لكَرَاهَةٍ لَازِمَةٍ، فَإِنَّهُ بُغض اللَّازِم، وَنفي الْمَلْزُوم.
فحاصله أَنَّ المُرَاد إِرَادَة جازمة هُوَ أحد الْأَمريْنِ: إِمَّا الْفِعْل، وَإِمَّا التّرْك.
وَالْأوَّل هُوَ الْمَأْمُور بِهِ، وَالثَّانِي هُوَ المنهيّ عَنهُ، لَكِن مَعَ هَذَا فقد يَشْتَمل الْمَفْعُول على بغيضٍ مُحْتَملٍ، ويشتمل الْمَتْرُوك على حبيبٍ مرفوضٍ، فَهَذَا أصلٌ نَافِعٌ.
فَهَذَا فِي الْفِعْل الْوَاحِد، وَأمَّا الْفَاعِل الْوَاحِد الَّذِي يَعْمل الْحَسَنَة والسَّيئة مَعًا، وَهُوَ وَإِن كَانَ التَّفْرِيقُ بَينهمَا مُمكنًا، لكنه هُوَ يعملهما جَمِيعًا، أَو يتركهما جَمِيعًا؛ لكَون محبَّته لأَحَدهمَا مُستلزمة لمحبَّته للأخرى، وبُغضه لأَحَدهمَا مُستلزمًا لبُغضه لِلْأُخْرَى، فَصَارَ لَا يُؤمَر إِلَّا بالْحسنِ من الْفِعْلَيْنِ، وَلَا يُنْهَى إِلَّا عَن السَّيئ مِنْهُمَا، وَإِن لزم ترك الْحَسَنَة لَا يَنْبَغِي أَن يَأْمُرهُ فِي مثل هَذَا بِالْحَسَنَة المرجوحة، فَإِنَّهُ يكون أمرًا بِالسَّيِّئَةِ، وَلَا ينهاه عَن السَّيئَة المرجوحة، فَإِنَّهُ يكون نهيًا عَن الْحَسَنَة الرَّاجحة، وَهَكَذَا الْمُعِين يُعين على الْحَسَنَة الرَّاجحة، وعَلى ترك السَّيئَة المرجوحة.
وَهَذَا أصلٌ عَظِيمٌ تدخل فِيهِ أمور عَظِيمَة، مثل: الطَّاعَة لأئمة الْجَور، وَترك الْخُرُوج عَلَيْهِم، وَغير ذَلِك من الْمسَائِل الشَّرْعِيَّة، وَهَكَذَا حكم الطَّائِفَة الْمُشْتَمِلَة أفعالها على حَسَنَات وسيئات بِمَنْزِلَة الْفَاعِل فِي ذَلِك.
وَبِمَا ذَكرْنَاهُ فِي الْفِعْل الْوَاحِد وَالْفَاعِل الْوَاحِد تظهر أُمُورٌ كَثِيرَةٌ: إِمَّا الْحقّ الْمَوْجُود، وَإِمَّا أَن يكون الشَّيء فِي نَفسه ثَابتًا ومُنتفيًا، لَكِن كثيرًا مَا تحصل الْمُقَابلَة بَين إِثْبَاتٍ عَامٍّ، وَنفيٍ عَامٍّ، وَيكون الْحقُّ فِي التَّفْصِيل، وَهُوَ ثُبُوت بعض ذَلِك الْعَامّ، وَانْتِفَاء بعضه، وَهَذَا هُوَ الْغَالِب على الْمَسَائِل الْكِبَار الَّتِي يتنازع فِيهَا أحزابُ الْكَلَام والفلسفة وَنَحْوهم.
وَالدَّلِيل إِمَّا أَن يكون دَلِيلًا مَعْلُومًا، فَهَذَا لَا يكون إِلَّا حَقًّا، لَكِن كثيرًا مَا يظنّ الْإِنْسَانُ أَنَّ الشيء مَعْلُومٌ، وَلَا يكون مَعْلُومًا، وَحِينَئِذٍ فَإِذا ظنَّ ظانٌّ تعَارض الْأَدِلَّة الْمَعْلُومَة كَانَ غالطًا فِي تعارضها، بل يكون أحدُ الْأَمريْنِ لَازِمًا: إِمَّا كلهَا أَو بَعْضهَا غير مَعْلُومٍ، وَإِمَّا أَنَّ مُوجب الدَّلِيل حقّ من غير تعَارض، وَإِن ظَنّه الظَّانُّ تَعَارضًا فَالْحقُّ الْمَوْجُود لَا يُنافي الْحقَّ الْمَوْجُود، بل يكون كلٌّ مِنْهُمَا مَوْجُودًا، بِخِلَاف الْحقِّ المفقود فَإِنَّهُ قد يقصد الضِّدان؛ لما فِي كلٍّ مِنْهُمَا من الْمصَالح الْمَقْصُودَة، لَكِن لَا يُوجد الضِّدان، وَإِن كَانَ الدَّلِيلُ مُغلِّبًا للظنّ اعْتقد فِيهِ مُوجبه، وَإِذا تَعَارَضَت هَذِه الْأَدِلَّة رجّح راجحُها، وَسُوِّي بَين مُتكافيها.
إِذا تقرر ذَلِك فَنَقُول: قَول النَّبِي ﷺ: إِنَّ الله جميلٌ يُحب الْجمال كَقَوْلِه للَّذي علَّمه الدُّعَاء: اللَّهُمَّ إِنَّك عَفُوٌّ تُحبُّ الْعَفْوَ فاعْفُ عني، وَقَوله تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ [البقرة:222]، وَإِنَّ الله نظيفٌ يُحبُّ النَّظَافَة.
الشيخ: حطّ على الحديث إشارة، الحديث ضعيف، لكن لا أدري المؤلف أين وجده؟!
فَهُوَ سُبْحَانَهُ إِذا كَانَ يُحبُّ الْعَفْوَ لم يُوجِب هَذَا، أَلا يكون فِي بعض أَنْوَاع الْعَفو من الْمُعَارض الرَّاجِح مَا يُعَارِض مَا فِيهِ من محبَّة الْعَفو، وَلَوْلَا ذَلِك لَكَانَ يَنْبَغِي أَن يعْفُو عَن كل مُحرمٍ، فَلَا يُعَاقِب مُشْركًا، وَلَا فَاجِرًا، لَا فِي الدُّنْيَا، وَلَا فِي الْآخِرَة، وَهَذَا خلافُ الْوَاقِع.
ولوجب أَن يسْتَحبّ لنا الْعَفو عَن كل كَافِرٍ وَفَاجِرٍ، فَلَا نُعاقب أحدًا على شيءٍ، وَهَذَا خلافُ مَا أمرنَا بِهِ، وَخلاف مَا هُوَ صَلَاحٌ لنا وَنَافِعٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة.
وَكَذَلِكَ محبَّته للمُتطهرين، ومحبَّته للنَّظافة لَا تمنع حُصُول الْمُعَارض الرَّاجِح، مثل: أَن يكون المَاءُ مُحْتَاجًا إِلَيْهِ للعطش، فمحبَّته لسقي العطشان راجحة على محبَّته للطَّهَارَة والنَّظافة، وَكَذَلِكَ سَائِر مَا يتزاحم من الْوَاجِبَات والمستحبَّات، فَإِنَّهَا جَمِيعهَا محبوبة لله، وَعند التَّزاحم يُقدم أحبّها إِلَى الله، والتَّقرب إِلَيْهِ بالفرائض أحبّ إِلَيْهِ من التَّقَرُّب إِلَيْهِ بالنَّوافل، وَبَعض الْوَاجِبَات والمستحبَّات أحبّ إِلَيْهِ من بعضٍ.
وَكَذَلِكَ إِذا تعَارض الْمَأْمُور والمحظور، فقد تعَارض حَبِيبه وبغيضه، فَيُقدم أعظمهما فِي ذَلِك، فَإِن كَانَ محبَّته لهَذَا أعظم من بُغضه لهَذَا قُدِّم، وَإِن كَانَ بغضُه لهَذَا أعظم من حبِّه لهَذَا قُدِّم، كَمَا قَالَ تَعَالَى: يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا [البقرة:219]، وعَلى هَذَا اسْتَقَرَّتِ الشَّرِيعَةُ بترجيح خير الخيرين، وَدفع شَرِّ الشَّرين، وترجيح الرَّاجِح من الْخَيْر وَالشَّر المجتمعين.
وَالله سُبْحَانَهُ يُحبّ صِفَات الْكَمَال، مثل: الْعِلم وَالْقُدْرَة وَالرَّحْمَة، وَنَحْو ذَلِك.
فَفِي "صَحِيح مُسلم" عَن أبي هُرَيْرَة، عَن النَّبِي ﷺ: الْمُؤمن الْقَويّ خيرٌ وَأحبُّ إِلَى الله من الْمُؤمن الضَّعِيف، وَفِي كلٍّ خيرٌ.
وَفِي الصَّحِيح عَنهُ أنه قَالَ: لَا يرحم اللهُ مَن لَا يرحم النَّاس.
وَفِي الصَّحِيح أَيْضًا عَنهُ: إِنَّمَا يرحم اللهُ من عباده الرُّحَمَاء.
وَفِي السُّنَن حَدِيثٌ ثَابتٌ عَنهُ: الرَّاحمون يرحمهم الرَّحْمَن، ارحموا مَن فِي الأَرْض يَرْحَمُكُمْ مَن فِي السَّمَاء.
وَمَعَ هَذَا فقد قَالَ تَعَالَى فِي حدِّ الزَّانِي والزَّانية: وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ [النور:2]، وَقَالَ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ [التوبة:73].
وَهَذَا فِي الْحَقِيقَة من رَحْمَة الله بعباده؛ فَإِنَّ الله إِنَّمَا أرسل مُحَمَّدًا رَحْمَةً للْعَالمين، وَهُوَ سُبْحَانَهُ أرْحمُ بعباده من الوالدة بِوَلَدِهَا، لَكِن قد تكون الرَّحْمَةُ الْمَطْلُوبَة لَا تحصل إِلَّا بِنَوْعٍ من ألمٍ وَشدَّةٍ تَلْحق بعض النُّفُوس، كَمَا ورد فِي الْأَثر: إِذا قَالُوا للْمَرِيض: اللَّهُمَّ ارحمه، يَقُول الله: كَيفَ أرحمه من شيءٍ بِهِ أرحمه؟!
الشيخ: والمعنى في هذا أنَّ الرحمة ونحوها وسائر ما أمر اللهُ به ورسوله قد يفضل بعضُها على بعضٍ، يكون الشَّيء محبوبًا لله، مُفضلًا، ولكن يعتريه شيءٌ يُوجب إزالة ذلك، وتقديم ذلك عليه، فمثلًا: رحمة المؤمن، والإحسان إليه، وكراهة الضَّرر عليه لمرضٍ، أو قطع طرفٍ، أو سجنٍ، أو غير ذلك؛ محبَّةً للمؤمن، ورحمةً له، لكن قد يُعارض هذا شيء يضرّه، وهو إذا فعل ما يُوجب التَّعذيب، يُوجب السجن، يُوجب الحدّ، فإذا زنا وثبت الأمر، أو سرق وثبت الأمر، أو عقَّ والديه وثبت الأمر، فمن رحمته أن يُعاقب؛ لأنه إذا استمرَّ في هذا الأمر ضرَّ نفسه وأهلكها، فمن رحمته أن يُعاقب على ما جنى حتى يقف عند الحدِّ، حتى لا يضرَّ نفسه، وحتى لا يضرَّ غيره.
فإقامة الحدود عليه وسجنه عند الحاجة إلى ذلك، وعقوبة العاقّ، وعقوبة القاطع، وعقوبة مَن حارب الله ورسوله في قطع الطريق، أو ما أشبه ذلك، لا تُنافي الرَّحمة، بل هي من الرحمة، وهي من الرحمة والإحسان؛ لأنها تزجره، وتحول بينه وبين الإيذاء للناس، وبين إيذاء نفسه، فقد رحم رحمةً تنفعه، فعقوبته وسجنه ونحو ذلك كلها من رحمته، فلا يُنافي قوله جلَّ وعلا: إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ [الأعراف:56]، وقال ﷺ: مَن لا يَرْحَم لا يُرْحَم، هذه رحمة خاصَّة تقتضي تكفير سيئاته، وكفّ الشَّر عن الناس، وهكذا قتله في القصاص، إلى غير ذلك.
الشيخ: ومن هذا مثلًا القصاص، فالعفو مطلوبٌ: وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى [البقرة:237]، ولكن قد يحصل في العفو مضرَّة وشرّ، فيُترك ولا يُعفا عنه، فيُقام الحدّ، ويُنفذ التَّعزير، ويُنفذ القصاص؛ لأنه لو عفا عن هؤلاء الذين هم أهل القصاص لزاد شرّ هذا وفتنته، وضرّ الناس، فقد يكون هذا القصاص لجماعة، فلو عفا بعضُهم صارت بينهم فتنة وشرور، فلا ينبغي أن يُخالف جماعته ويعفو ويُسبب فتنةً بينهم وشرًّا وقتالًا وتقاطعًا ونحو ذلك، وترك العفو في هذه الحال حتى ينفذ القصاص، وتهدأ الأمور، وتُطفأ الفتن، ويردع الظالم، وتجتمع الأسرة على الخير والمحبَّة أولى من العفو الذي يُفرِّقهم، ويُشتت شملهم، ويُوقع بينهم العداوة والبغضاء، أو يُجرئ مَن عُفي عنه على فسادٍ آخر.
فكون الشيء جميلًا يَقْتَضِي محبَّة الله لَهُ، وَهُوَ سُبْحَانَهُ أحسن كل شيءٍ خلقه، إِذْ كل مَوْجُودٍ فَلَا بُدَّ فِيهِ من وَجه الْحِكْمَة الَّتِي خلقه اللهُ لَهَا، وَمن ذَلِك الْوَجْه يكون حسنًا محبوبًا، وَإِن كَانَ من وَجهٍ آخر يكون مُستلزمًا شَيْئًا يُحِبّهُ الله ويرضاه أعظم مِمَّا فِيهِ نَفسه من البُغْضِ.
فَهَذَا مَوْجُودٌ فِينَا، فقد يفعل الشَّخْصُ الْفِعْلَ: كشرب الدَّوَاء الكريه الَّذِي بُغضه لَهُ أعظم من حبِّه لَهُ، وَهَذَا لما تضمن مَا هُوَ محبَّته لَهُ أعظم من بُغضه للدَّواء، أَرَادَهُ وشاءه وَفعله، فَأَرَادَ بالإرادة الجازمة الْمُقَارِنَة للقُدرة فعلًا فِيهِ مِمَّا يبغضه أَكثر مِمَّا يُحِبّهُ؛ لكَونه مُستلزمًا لدفع مَا هُوَ إِلَيْهِ أبْغض؛ ولحصول مَا محبَّته لَهُ أعظم من بُغضه لهَذَا، فَإِنَّ بُغضه للمرض ومحبَّته للعافية أعظم من بُغضه للدَّواء.
فالأعيان الَّتِي نبغضها: كالشياطين والكافرين، وَكَذَلِكَ الْأَفْعَال الَّتِي نبغضها من الْكُفْر والفسوق والعصيان خلقهَا، وَأَرَادَ وجودهَا؛ لما تستلزمه من الْحِكْمَة الَّتِي يُحِبّهَا؛ وَلما فِي وجودهَا من دفع مَا هُوَ إِلَيْهِ أبْغَض، فَهِيَ مُرَادة لَهُ، وَهِي مُبغضة لَهُ، مسخوطة، كَمَا بَيَّنا هَذَا فِي غير هَذَا الْمَوضع.