الشيخ: وهذا حقٌّ، فإنَّ أهل السنة والجماعة وصفوا الله بالعلم: بما قال عن نفسه، وبما قاله رسولُه عنه عليه الصلاة والسلام، ووصفوه بصفاته: من العلم، والحكمة، والخبرة، والسمع، والبصر، والاستواء، وغير هذا، لكن نزَّهوه عن مُشابهة الخلق، قالوا: هذه الصِّفات حقّ، وأسماؤه حقّ، وهو موصوفٌ بها: سميع، عليم، قدير، رؤوف، رحيم، إلى غير هذا من صفاته، فأصاب أهلُ السنة في هذا حيث وصفوه بالعلم، ووصفوه بما جاء به كتابه وسُنة رسوله عليه الصلاة والسلام، فأصابوا، وتوقفوا عمَّا سوى ذلك فلم يصفوه بآرائهم وأهوائهم، بل اقتصروا على ما جاء به النصّ.
أما الجهمية والمعتزلة ومَن سلك مسلَكهم: فحكَّموا آراءهم، ووصفوه بمقتضى عقولهم، ونفوا عنه صفاته التي جاءت في كتابه وسنة رسوله، فقالوا: ليس بسميعٍ، ولا بصيرٍ، ولا، ولا، ولا! فخالفوا الكتابَ والسنةَ، والعياذ بالله.
وغرَّ المساكين والمخذولين أنه إذا وُصِفَ فهذا مُشابهة، إذا قلنا: سميع، والعبد سميع، فهذه مُشابهة، وإذا قلنا: عليم، والعبد عليم، فهذه مُشابهة، وإذا قلنا: رحيم، والعبد رحيم، فهذه مُشابهة.
ولم يعلم أولئك المخذولون أنَّ التَّخصيص يُبين الفرق؛ فعلم الله غير علم المخلوقين، وسمع الله غير سمع المخلوقين، ووجهه غير وجه المخلوقين، ويده غير أيديهم، وأصابعه غير أصابعهم، واستواؤه غير استوائهم، فهذه الإضافات تُخصص، فاستواؤه يليق به، لا يُشابه خلقه، وسمعه يليق به، لا يُشابه خلقه، وبصره يليق به، لا يُشابه خلقه، وهكذا بقية الصِّفات، كما قال عن نفسه: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ [الشورى:11]، فاتَّضح الأمر.
فإذا قلت: البعير له عين، وله يد، وله رِجل، وله رأس. والبعوضة لها رأس، ولها عين، فهل هذا يقبل المشابهة؟ لا، هذا له شيء، وهذا له شيء، البعوضة شيء، والبعير شيء، وإن كانت كلها مخلوقةً، فهذا مخلوق، وهذا مخلوق، لكن البعير غير البعوض، هذا يُحمل عليه، ويُركب، وينفع الناس، ويأكلون لحمه، وهذه البعوضة لا تُساوي شيئًا، ومع ذلك لها سمعٌ، ولها بصرٌ، ولها، ولها، فلا يلزم من مماثلات المخلوقات ما تلزم المشابهة، إذا قلت: أنَّ البعير يسمع، والبعوضة تسمع، والبعير يحسّ، والبعوضة تحس، ما يلزم التَّشابه بين المخلوقين. فكيف بربِّ العالمين الذي لا يُشبهه شيء ؟!
إذا كانت المخلوقات أنفسها لا تتشابه، وإن كانت لها سمع، ولها بصر، ولها، ولها، ولها، لكنَّها مختلفة، فالبعير شيء، والبعوضة شيء، والذباب شيء، والكلب شيء، وهكذا المخلوقات مختلفة، وهكذا إذا قيل: إنَّ الله يسمع ويُبصر، والمخلوق يسمع ويُبصر، لا يلزم التَّشابه، هذا شيء، وهذا شيء: وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ [الإخلاص:4]، فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ [النحل:74]، نسأل الله السَّلامة والعافية.
س: هؤلاء الصوفية أليس منهم علماء حديث وغيره؟
ج: المقصود أنَّ هذا أصلهم، ما هو المقصود أنهم مُستقيمون، المقصود أنَّ هذا أصلهم، كل واحدٍ له انحرافات، وله أغلاط، علماء السنة، كل واحدٍ من علماء السنة معصوم؟! كل واحدٍ له أغلاط.
س: لماذا سُمّوا بالصُّوفيَّة؟
ج: قيل فيه أسباب، قيل: من صفاء القلوب، من جهة تحري صفاء القلوب. وقيل: من أجل تقميص الصُّوف؛ لأنهم ..... الصُّوف من باب الزهد، ومن باب التَّواضع، هذا له أسباب عندهم، وهم أخطأوا في هذا، لو سلكوا مسلك الصحابة، وساروا على منهج المسلمين، ولم يكن لهم شعار خاصٌّ كان انتهى المشكل، لم تحصل لهم هذه المشاكل.
س: التَّسمي باسم "صوفيّ" ما هو بدعة هذا؛ لان الله سمانا المسلمين؟
ج: ما ينبغي لهم هذا، ينبغي لهم التَّسمي بأسماء الله.
وَهَذَا الَّذِي ذكره الشَّيْخ أَبُو عَليٍّ من أَنَّ الصُّوفِيَّة يُخالفون الْمُعْتَزلَة، فَأمر مُتَّفقٌ عَلَيْهِ، فَإِنَّ أصُول الصُّوفِيَّة لَا تُلائم نفي الصِّفَات، بل هم أبعد النَّاس عَن الاعتزال فِي الصِّفَات وَالْقَدر.
وَمن الْمَعْلُوم أَنَّ طَريقَة الْكَلَام فِي الْجَوَاهِر والأعراض فِي أَدِلَّة أصُول الدِّين ومسائله هِيَ الطَّرِيقَة الَّتِي سلكها الْمُعْتَزلَةُ، وَأَخذهَا عَنْهُم مُتكلِّمة الصِّفاتية من الأشعرية وَنَحْوهم، وَهِي الطَّرِيقَة الَّتِي أَشَارَ إِلَيْهَا أَبُو الْقَاسِم.
فَعُلم أَنَّ الْقَوْمَ مخالفون لهَذِهِ الطَّرِيقَة الكلامية الَّتِي أَشَارَ أَبُو الْقَاسِم إِلَى بَعْضهَا، وَكَذَلِكَ قد ذكر أَبُو الْقَاسِم فِي تَرْجَمَة الشَّيْخ أبي الْحَسن ابن الصايغ، وزمنه زمن ابن الْكَاتِب سنة ثَلَاثِينَ وثلاثمئة، قَالَ: وَكَانَ من كبار الْمَشَايِخ. وَقَالَ: قَالَ أبو عُثْمَان المغربي: مَا رَأَيْتُ من الْمَشَايِخ أنور من أبي يَعْقُوب النّهرجوري، وَلَا أَكثر هَيْبَةً من أبي الْحسن ابن الصَّايغ.
قَالَ القُشيري: سُئِلَ ابْنُ الصَّايغ عَن الِاسْتِدْلَال بِالشَّاهِدِ على الْغَائِب، فَقَالَ: كَيفَ يُسْتَدلّ بِصِفَات مَن لَهُ مثل وَنَظِير على صِفَات مَن لَا مثلَ لَهُ وَلَا نَظِير.
وَالِاسْتِدْلَال بِالشَّاهِدِ على الْغَائِب فِي إِثْبَات الصِّفَات هِيَ طَريقَة شُيُوخ أبي الْقَاسِم من الْمُتَكَلِّمين الَّذين يجمعُونَ بَين الشَّاهِد وَالْغَائِب فِي الْحَدِّ وَالدَّلِيل وَالشَّرط وَالْعِلم؛ لإِثْبَات الْحَيَاة وَالْعِلم وَسَائِر الصِّفَات، فقد ردَّ الشَّيْخُ أَبُو الْحسن هَذِه الطَّرِيقَة.
وَمِمَّا يُبين هَذَا أَنَّ أعظم الْمَشَايِخ الَّذين أَخذ عَنْهُم أَبُو الْقَاسِم جمعًا لكَلَام مَشَايِخ الصُّوفِيَّة، وتأليفًا لَهُ، وَرِوَايَةً لَهُ، هُوَ الشَّيْخ أَبُو عبدالرَّحْمَن السّلمي، فَإِنَّ القُشيري لم يُدْرك شَيخًا أجمع لكَلَام الْقَوْم، وأحرص على ذَلِك، وأرغب فِيهِ مِنْهُ؛ وَلِهَذَا صنَّف فِي ذَلِك مَا لم يُصنفه نُظراؤه، كَمَا أَنَّ الَّذين أدركوا عصر أبي الْقَاسِم من مَشَايِخ الْقَوْم لم يكن فيهم أقوم بِهَذَا الْبَاب من شيخ الْإِسْلَام أَبي إِسْمَاعِيل عبدالله بن مُحَمَّد الْأنْصَارِيّ الهروي، لَا سِيمَا فِي الْمعرفَة بأخبار الْقَوْم وَكَلَامهم وطريقهم، فَإِنَّهُ فِي ذَلِك وَنَحْوه من أعلم النَّاس، وَكَانَ إِمَامًا فِي الحَدِيث وَالتَّفْسِير وَغير ذَلِك، وَمَعَ هَذَا فالشيخ أَبُو عبدالرَّحْمَن وَشَيخ الْإِسْلَام كِلَاهُمَا لَهُ مُصَنف مَشْهُور فِي ذمِّ طَريقَة الْكَلَام الَّتِي يَدْخل فِيهَا كثيرٌ مِمَّا ذكره أَبُو الْقَاسِم من الدَّلَائِل والمسائل، حَتَّى ذكر شيخُ الْإِسْلَام فِي كِتَابه قَالَ: سَمِعتُ أَحْمد ابن أبي نصر يَقُول: رَأينَا مُحَمَّد بن الْحُسَيْن السّلمِيّ يلعن الْكِلابِيَّة.
وَمُحَمّد بن الْحُسَيْن السّلمِيّ هُوَ الشَّيْخ أَبُو عبدالرَّحْمَن، أعرف مَشَايِخ أبي الْقَاسِم الْقُشيرِي بطريقة الصُّوفِيَّة وَكَلَامهم، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْقَوْم من أبعد النَّاس عَن اللَّعْن وَنَحْوه؛ لحظوظ أنفسهم، وَلَوْلَا أَنَّ أبا عبدالرَّحْمَن كَانَ الَّذِي عِنْده أَنَّ الْكلابِيَّة مُباينون لمَذْهَب الصُّوفِيَّة المباينة الْعَظِيمَة الَّتِي تُوجب مثل هَذَا لما لعنهم أَبُو عبدالرَّحْمَن هَذَا.
والكلابية هم مَشَايِخ الأشعرية، فَإِنَّ أَبَا الْحسن الْأَشْعَرِيّ إِنَّمَا اقْتدى بطريقة أبي مُحَمَّد ابن كلاب، وَابْن كلاب كَانَ أقرب إِلَى السَّلف زَمنًا وَطَرِيقَةً، وَقد جمع أَبُو بكر ابن فورك شيخ الْقُشيرِي كَلَام ابْن كلاب والأشعري، وَبَيَّن اتِّفَاقهمَا فِي الْأُصُول، وَلَكِن لم يكن كَلَام أبي عبدالرَّحْمَن السّلمِيّ قد انْتَشَر بعد، فَإِنَّهُ انْتَشَر فِي أثْنَاء الْمِئَة الرَّابِعَة لما ظَهرت كتب القَاضِي أبي بكر ابن الباقلاني وَنَحْوه.
وَقد ذكر ذَلِك الْحَافِظُ أَبُو الْقَاسِم ابن عَسَاكِر الْمُنْتَصر لأبي الْحسن الْأَشْعَرِيّ فِي كِتَابه الَّذِي سَمَّاهُ: "تَبْيِين كذب المفتري فِيمَا يُنْسَب إِلَى الشَّيْخ أبي الْحسن الْأَشْعَرِيّ" مُوَافقًا للشَّيْخ أبي علي الْأَهْوَازِي المُصَنّف فِي "مثالب الْأَشْعَرِيّ"، مَعَ كَون ابْن عَسَاكِر ردَّ على الأهوازي ذمَّه وثلبه لَهُ، لَكِن وَافقه فِي ذَلِك، فَذكر أَبُو عَليٍّ الْأَهْوَازِي أَنه مُذْ قوي مذْهبه أقلّ من ثَلَاثِينَ سنة، والأهوازي توفّي سنة خمسٍ وَأَرْبَعين وَأَرْبَعمِئَة.
قَالَ ابْنُ عَسَاكِر: وَقَوله: إِنَّ مذ قوي ذلك أقلّ من ثَلَاثِينَ سنة، فلعمري إِنَّه إِنَّمَا اشتهرت هَذِه النِّسْبَة من الْأَزْمِنَة فِي عصر القَاضِي أبي بكر ابن الباقلاني ذِي التَّصانيف المستحسنة المنتشرة فِي بَغْدَاد وَغَيرهَا من الْبلدَانِ والأمكنة.
وَالْمَقْصُود هُنَا أَنَّ الْمَشَايِخ المعروفين الَّذين جمع الشَّيْخُ أَبُو عبدالرَّحْمَن أَسْمَاءَهُم فِي كتاب "طَبَقَات الصُّوفِيَّة"، وَجمع أخبارهم وأقوالهم، دع مَن قبلهم من أَئِمَّة الزُّهاد من الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ الَّذين جمع أبو عبدالرَّحْمَن وَغَيره كَلَامهم فِي كتبٍ مَعْرُوفَةٍ، وهم الَّذين يتَضَمَّن أخبارهم كتاب "الزُّهْد" للْإِمَام أَحْمد وَغَيره؛ لم يَكُونُوا مَذْهَب الْكلابِيَّة الأشعرية، إِذْ لَو كَانَت كَذَلِك لما كَانَ أَبُو عبدالرَّحْمَن يلعن الْكلابِيَّة.
وَقَالَ شيخُ الْإِسْلَام الْأنْصَارِيّ: سَمِعتُ أَحْمد بن حَمْزَة وَأَبا عَليٍّ الْحداد يَقُولَانِ: وجدنَا أَبَا الْعَبَّاس أَحْمد بن مُحَمَّد النّهاوندي على الإنكار على أهل الْكَلَام وتفكير الأشعرية. وذكرا عظم شَأْنه فِي الْإِنْكَار على أبي الفوارس القرمسيني، وهجر ابْنِه إِيَّاه لحرفٍ وَاحِدٍ.
قَالَ شيخُ الْإِسْلَام: سَمِعتُ أَحْمد بن حَمْزَة يَقُول: لما اشْتَدَّ الهجرانُ بَين النّهاوندي وَأبي الفوارس سَأَلُوا أبا عبدالله الدينَوَرِي فَقَالَ: لقِيتُ ألف شيخٍ على مَا عَلَيْهِ النّهاوندي.
وَقد ذكر الشَّيْخ أَبُو عبدالرَّحْمَن السّلمي فِي كِتَابه فِي "ذمّ الْكَلَام" مَا ذكر أَيْضًا شيخُ الْإِسْلَام أَبُو إسماعيل الْأنْصَارِيّ فَقَالَ: أَخْبرنِي ابْنُ أَحْمد: حَدَّثنَا مُحَمَّد بن الْحُسَيْن فَقَالَ: رَأَيْتُ بِخَطِّ أبي عَمْرو ابن مطر يَقُول: سُئِلَ ابْن خُزَيْمَة عَن الْكَلَام فِي الْأَسْمَاء وَالصِّفَات فَقَالَ: بِدعَة ابتدعوها. وَلم يكن أَئِمَّةُ الْمُسلمين وأرباب الْمذَاهب وأئمة الدِّين مثل: مَالك، وسُفْيَان، وَالْأَوْزَاعِيّ، وَالشَّافِعِيّ، وَأحمد، وَإِسْحَاق، وَيحيى بن يحيى، وَابْن الْمُبَارك، وَمُحَمّد بن يحيى، وَأبي حنيفَة، وَمُحَمّد بن الْحسن، وَأبي يُوسُف؛ يَتَكَلَّمُونَ فِي ذَلِك، وَيَنْهَوْنَ عَن الْخَوْض فِيهِ، ويدلون أَصْحَابهم على الْكِتاب وَالسُّنة، فإياك والخوضَ فِيهِ، وَالنَّظَر فِي كُتبهمْ بِحَالٍ.
الشيخ: والمقصود من هذا كلّ ما يتعلق بأهل الكلام الذين خاضوا في الصِّفات بعقولهم، وذكروا الجوهر والعرض، وتركوا الأدلة من الآيات والأحاديث، وقاسوا الخالقَ على المخلوق، وجعلوا المخلوقَ هو الأصل والأساس، وهو الشاهد، وقاسوا عليه الغائب بزعمهم، فوقعوا في شرٍّ كثيرٍ، وفسادٍ عظيمٍ، حتى نفوا الصِّفات، وعطَّلوا الله من صفاته ، وزعموا أنَّ كلَّ صفةٍ يُسمَّى بها المخلوق يُنَزَّه الله عنها.
هذا كله من الجهل والضَّلال العظيم، وإنما الواجب تنزيهه عن المشابهة والمماثلة، لا عن جنس الصِّفة؛ ولهذا كان السلفُ يُحذرون من هؤلاء المتكلمين النُّفاة الذين حكَّموا عقولهم حتى عطَّلوا الكتابَ والسنة، ونفوا عن الله صفاته، وجعلوه كالعدم، وهذا كله من الجهل والضَّلال والتقليد الأعمى.
فهذا الذي أنكره مالك، وأحمد، والأوزاعي، وابن راهويه، والأئمة الكبار في العلم؛ لأنَّ في الخوض في ذلك تعطيل الكتاب والسنة، والتباسًا على الناس، واضطرابًا في العقول؛ ولهذا حذَّروا من الكلام، وحذَّروا من كلامهم، وحذَّروا من اعتماد ما يقولون، ودلّوا الناس على الأخذ بكتاب الله وسنة رسوله عليه الصلاة والسلام، ففي ذلك الكفاية والمقنع والهداية: قال الله، وقال رسوله، فيُثبت ما أثبت الله ورسوله من الصِّفات والأسماء والأفعال، وينفي المؤمنُ ما نفى الله ورسوله من الصِّفات والأسماء والأعمال؛ حتى يكون بهذا قد تقيد بالكتاب والسنة، ودرج على طريق سلف الأمة، ويكفيه في النَّفي قوله تعالى: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ [الشورى:11]، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ [الإخلاص:4]، فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ [النحل:74]، هذا كله كافٍ في أنَّ صفاته لا تُشابه صفات المخلوقين .
س: نُقل عن بعضهم تكفير الأشعرية؟
ج: ما أدري، ما سمعنا بهذا، يمكن.
وَقَالَ مُحَمَّد بن الْحُسَيْن -وَهُوَ أَبُو عبدالرَّحْمَن السّلمي- سَمِعتُ أَحْمد بن سعيد المعداني بمرو: سَمِعتُ أَبَا بكر ابن بسطَام: سَأَلتُ أَبَا بكر ابن سيار عَن الْخَوْض فِي الْكَلَام، فنهاني عَنهُ أَشدّ النَّهْي، وَقَالَ: عَلَيْك بِالْكِتاب وَالسُّنة وَمَا كَانَ عَلَيْهِ الصَّدْرُ الأول من الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ وتابعي التَّابِعين، فَإِنِّي رَأَيْتُ الْمُسلمين فِي أقطار الأَرْض ينهون عَن ذَلِك ويُنكرونه، ويأمرون بِالْكِتاب وَالسُّنة.
قَالَ شيخُ الْإِسْلَام أَبُو إسماعيل الْأنْصَارِيّ: أخبرنَا أَحْمد بن مُحَمَّد بن الْعَبَّاس بن إِسْمَاعِيل المقرئ: أخْبَرنَا مُحَمَّد بن عبدالله بن البيع -وَهُوَ الْحَافِظ الْحَاكِم- سَمِعتُ أَبَا سعيدٍ عبدالرَّحْمَن بن مُحَمَّد المقرئ: سَمِعتُ أَبَا بكر مُحَمَّد بن إسحاق بن خُزَيْمَة يَقُول: مَن نظر فِي كتبي المصنّفة فِي الْعِلم ظهر لَهُ وَبَان بِأَنَّ الْكلابِيَّة -لعنهم الله- كذبة فِيمَا يحكون عنِّي مِمَّا هُوَ خلاف أصلي وديانتي، قد عرف أهلُ الشرق والغرب أنه لم يُصنّف أحدٌ فِي التَّوْحِيد وَفِي أصُول الْعِلم مثل تصنيفي، فالحاكي عني خلاف مَا فِي كتبي المصنّفة الَّتِي حُملت إِلَى الْآفَاق شرقًا وغربًا كذبة، فسقة.
وَقَالَ شيخُ الْإِسْلَام: وَأَخْبرنِي أَحْمدُ بن حَمْزَة: حَدَّثنَا مُحَمَّد بن الْحُسَيْن -وَهُوَ أَبُو عبدالرَّحْمَن السّلمي- يَقُول: بَلغنِي أَنَّ بعض أَصْحَاب أبي عَليٍّ الجوزجاني سَأَلَهُ: كَيفَ الطَّرِيق إِلَى الله؟ قَالَ: أصحّ الطّرق وأعمرها وأبعدها من الشُّبَه: اتِّبَاع الْكِتاب وَالسُّنة قولًا وفعلًا وعقدًا وَنِيَّةً؛ لِأَنَّ الله يَقُول: وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا [النور:54]. فَسَأَلَهُ: كَيفَ طَرِيق اتِّبَاع السُّنة؟ قَالَ: بمُجانبة الْبِدَع، وَاتِّبَاع مَا اجْتَمع عَلَيْهِ الصَّدْر الأول من عُلَمَاء الْإِسْلَام وَأَهله، والتَّباعد عَن مجَالِس الْكَلَام وأهله، وَلُزُوم طَريقَة الِاقْتِدَاء والاتِّباع بذلك أَمر النَّبِي ﷺ بقوله تَعَالَى: ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا [النحل:123].
الشيخ: ومثل هذا المعنى قوله تعالى: ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ [الجاثية:18]، فهي شريعة واضحة مُوصلة إلى النَّجاة والسَّعادة؛ ولما في الكتاب العظيم والسُّنة المطهرة، لا تتبع الأهواء في الأحكام، ولا في الأسماء والصِّفات.
الشيخ: صدق رحمه الله، صدق رحمه الله.
قَالَ أَبُو الْقَاسِم: وَنحن نَذْكر فِي هَذَا الْفَصْل جملًا من مُتفرقات كَلَامهم فِيمَا يتَعَلَّق بمسائل الْأُصُول، ثمَّ نُحرر على التَّرْتِيب بَعْدهَا مَا يَشْتَمل على مَا يحْتَاج إِلَيْهِ فِي الِاعْتِقَاد على وَجه الإيجاز: سَمِعتُ الشَّيْخ أَبَا عبدالرَّحْمَن السّلمي يَقُول: سَمِعتُ عبدالله بن مُوسَى السّلامي يَقُول: سَمِعتُ الشّبلي يَقُول: جلّ الْوَاحِد الْمَعْرُوف قبل الْحُدُود، وَقبل الْحُرُوف. قَالَ: وَهَذَا صَرِيحٌ من الشّبلي أَنَّ الْقَدِيم لَا حدَّ لذاته، وَلَا حُرُوف لكَلَامه.
قلتُ: هَذَا الْكَلَام فِيهِ اسْتِدْرَاكٌ من وُجُوهٍ:
أَحدهَا: أَنَّ الَّذِي قَالَ: إِنَّه تَعَالَى مَعْرُوفٌ قبل الْحُدُود وَقبل الْحُرُوف، لم يُرد أَنَّ الْخلق عرفوه قبل ذَلِك، فَإِنَّهُ قبل الْخلق لم يكن خلق يعرفونه، وَإِنَّمَا أَرَادَ أَنه عرف أَنه كَانَ قبل الْحُدُود وَقبل الْحُرُوف، فالظرف وَهُوَ "قبل" مُتَعَلق بالضَّمير فِي "مَعْرُوف"، لَا بِنَفس الْمعرفَة، اللَّهُمَّ إِلَّا أَن يُرِيد أَنه يعرف نَفسه قبل الْحُدُود وَقبل الْحُرُوف، فَيكون هُوَ الْعَارِف، وَهُوَ الْمَعْرُوف. وَهَذَا معنى صَحِيح يحْتَملهُ الْكَلَام، وَالْمَقْصُود أَنه كَانَ قبل ذَلِك.
وَمَعْلُوم أنَّ اللَّام للتَّعريف، فَإِذا كَانَ قبل الْحُدُود وَقبل الْحُرُوف فَإِنَّمَا أراد الْحُدُود الْمَعْرُوفَة لنا، والحروف الْمَعْرُوفَة لنا، وَهِي مَا كَانَ هُوَ قبلهَا، وَتلك مَا للمخلوق من الْحُدُود والحروف.
وَلَا ريبَ أَنَّ الله كَانَ قبل حُدُود الْمَخْلُوقَات، وَقبل أصوات الْعِباد ومدادهم، فَأَما أَن يكون هَذَا يَقْتَضِي أَن الله لم يتَكَلَّم بِحرفٍ، أَو لَيْسَ لَهُ حَقِيقَةٌ فِي ذَاته يتَمَيَّز بهَا عَن مخلوقاته، فَلَيْسَ هَذَا الْكَلَامُ صَرِيحًا فِيهِ، إِذْ لَو أَرَادَ ذَلِك لقَالَ: المنزَّه عَن الْحُدُود والحروف، وَلم يقل: قبل الْحُدُود والحروف، فَإِنَّ مَا كَانَ الربُّ قبله فَهُوَ صفة الْمَخْلُوق، وَأما مَا يُنزَّه الربُّ عَنهُ فَهُوَ مُمْتَنعٌ، لَيْسَ هُوَ صفةً لَهُ، وَلَا هُوَ أَيْضًا بِعَيْنِه صفةً للمخلوق، وَإِن كَانَ الْمَخْلُوق قد يُوصف بنظيره.
الْوَجْه الثَّانِي: أَنَّ الْكَلَام الْمُجْمَل من كَلَامهم يُحمل على مَا يُناسب سَائِر كَلَامهم، وَهَؤُلَاء أَكثر مَا يُبتلون بالاتحادية والحلولية الَّذين يجْعَلُونَ الربَّ حَالًّا فِي الْمَخْلُوقَات، محدودًا بحدودها، مُتكلِّمًا بحروفها؛ حَتَّى يجعلونه هُوَ الْمُتَكَلّم على ألسنتهم.
كَمَا ذكر ذَلِك أَبُو الْقَاسِم فِي أول الرسالة لما ذكر مَا أحدثه فاسدو الصُّوفِيَّة، حَيْثُ قَالَ: زَالَ الْوَرع وطوى بساطه، وَاشْتَدَّ الطَّمع وقوي رباطه، وارتحل عَن الْقُلُوب حُرْمَة الشَّرِيعَة، وعدوا قلَّة المبالاة بِالدِّينِ أوثق ذَرِيعَةٍ، ورفضوا التَّمْيِيز بَين الْحَلَال وَالْحرَام، ودانوا بترك الاحترام، وَطرح الاحتشام، واستخفُّوا بأَدَاء الْعِبَادَات، واستهانوا بِالصَّوْمِ وَالصَّلَاة، وركضوا إِلَى ميدان الغفلات، وركنوا إِلَى اتِّبَاع الشَّهَوَات، وَقلَّة المبالاة بتعاطي الْمَحْظُورَات، والارتفاق بِمَا يأخذونه من السّوقة والنِّسوان وَأَصْحَاب السُّلْطَان، ثمَّ لم يَرْضوا بِمَا تعاطوه من سوء هَذِه الْأَفْعَال حَتَّى أشاروا إِلَى أَعلَى الْحَقَائِق وَالْأَحْوَال، فادَّعوا أَنهم تحرروا عَن رقِّ الأغلال، وتحققوا بحقائق الْوِصَال، وَأَنَّهُمْ قائمون بِالْحَقِّ، تجري عَلَيْهِم أَحْكَامه، وهم محو، لَيْسَ لله عَلَيْهِم فِيمَا يُؤثرونه أَو يذرونه عتبٌ وَلَا لومٌ، وَأَنَّهُمْ كوشفوا بأسرار الأحدية، واختطفوا عَنْهُم بِالْكُلِّيَّةِ، وزالت عَنْهُم أَحْكَامه البشرية، وبقوا بعد فنائهم عَنْهُم بأنوار الصّمدية، وَالْقَائِل عَنْهُم غَيرهم إِذا نطقوا، والنَّائب عَنْهُم سواهُم فِيمَا تصرَّفوا، بل صُرِّفُوا.
وَهَؤُلَاء كَثِيرُونَ فِي المنتسبين إِلَى الصُّوفِيَّة، وعَلى مثل ذَلِك قُتل الحلَّاج، فالشِّبلي وَأَمْثَاله يُرِيدُونَ أَن يُميزوا بَين الْمَخْلُوق والخالق؛ لنفي مَذْهَب الِاتِّحَاد والحلول، كَمَا نُقل عَن الْجُنَيْد إِفْرَاد الْقَدَم عَن الْحَدث، وكما قَالَ أَبُو طَالب الْمَكِّيّ صَاحب "قوت الْقُلُوب": لَيْسَ فِي مخلوقاته شيءٌ من ذَاته، وَلَا فِي ذَاته شيءٌ من مخلوقاته. فَذكر أَنه مَعْرُوف قبل الْحُدُود والحروف، وَهِي مَا عرف من حُدُود المخلوقين وحروفهم، وَإِذا كَانَ مَعْرُوفًا قبل ذَلِك لم يكن محدودًا بحدودهم، وَلَا مُتكلِّمًا بكلامهم.
الْوَجْهُ الثَّالِث: أَنَّ أصُول اعْتِقَاد أَئِمَّة الطَّرِيق إِلَى الله لَا يُؤْخَذ مِمَّا يُحْكى عَن مثل الشّبلي، وَلَو كَانَت الْحِكَايَة صَادِقَةً؛ لما عُرف من حَال الشّبلي، وأنه كَانَ يغلب عَلَيْهِ الوجد حَتَّى يَزُول عقله، وتُحلق لحيته، ويذهبوا بِهِ إِلَى المارستان، وَيَسْقط عَنهُ التَّمْيِيز بَين الْحقِّ وَالْبَاطِل.
وَمَن كَانَ بِهَذِهِ الْحَالةِ لم يجز أَن يُجْعَل كَلَامُه وَحده أصلًا يُفرَّق بِهِ بَين أَئِمَّة الْهُدى والضَّلال، وَالسُّنة والبدعة، وَالْحقّ وَالْبَاطِل، لَكِن يُقبل من كَلَامه مَا وَافق فِيهِ أَئِمَّةَ الْمَشَايِخ، وَهُوَ مَا دلَّ عَلَيْهِ الْكتابُ وَالسُّنةُ.
وأقبح من ذَلِك: أَن يعْتَمد فِي اعْتِقَاد أَوْلِيَاء الله فِي أصُول الدِّين على كَلَامٍ لم يُنْقل مثله إِلَّا عَن الحلَّاج، وَقد قُتل على الزَّندقة، وَأحسن مَا يَقُوله النَّاصِر لَهُ: إِنَّه كَانَ رجلًا صَالحًا، صَحِيح السلوك، لَكِن غلب عَلَيْهِ الوجدُ وَالْحَالُ حَتَّى عثر فِي الْمقَال، وَلم يدرِ مَا قَالَ.
وَكَلَام السَّكْرَان يُطوى وَلَا يُرْوى، فالمقتول شَهِيد، وَالْقَاتِل مُجَاهِد فِي سَبِيل الله، دع مَا يَقُوله مَن ينْسبهُ إِلَى المخاريق وخلط الْحقِّ بِالْبَاطِلِ.
وَلَيْسَ أحدٌ من مَشَايِخ الطَّرِيق -لَا أَوَّلهمْ، وَلَا آخِرهم- يُصوِّب الحلاج فِي جَمِيع مقاله، بل اتّفقت الْأمةُ على أنه: إِمَّا مُخطئٌ، وَإِمَّا عَاصٍ، وَإِمَّا فَاسق، وَإِمَّا كَافِر.
وَمَن قَالَ: إِنَّه مُصِيبٌ فِي جَمِيع هَذِه الْأَقْوَال المأثورة عَنهُ. فَهُوَ ضالٌّ، بل كَافِرٌ بإجماع الْمُسلمين، وَإِذا كَانَ كَذَلِك كَيفَ يجوز أَن يُجْعَل عُمْدَةً لأهل طَرِيق الله كَلَامٌ لم يُؤثر إِلَّا عَنهُ، وَلَا يُذكر فِي اعْتِقَاد مَشَايِخ طَرِيق الله كَلَام أبسط مِنْهُ وَأَكْثر؟!
وَهُوَ مَا قَالَ فِيهِ: أخبرنَا أَبُو عبدالرَّحْمَن السّلمي قَالَ: سَمِعتُ مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن غَالب قَالَ: سَمِعتُ أَبَا نصر أَحْمد بن سعيد الأسفنجاني يَقُول: قَالَ الْحُسَيْن بن مَنْصُور: ألزم الكلّ الْحَدث؛ لِأَنَّ الْقدَم لَهُ، فَالَّذِي بالجسم ظُهُوره، فالعرض يَلْزمه، وَالَّذِي بالأداة اجتماعه، فقوَّاها تمسكه، وَالَّذِي يُؤلفه وَقتٌ يُفرقه وَقتٌ، وَالَّذِي يُقيمه غَيره فالضَّرورة تمسّه، وَلِذِي الْوَهم يظفر بِهِ، فالتَّصوير يرتقي إِلَيْهِ، وَمَن آواه مَحلٌّ أدركه أَيْنٌ، وَمَن كَانَ لَهُ جنسٌ طَالبه بكيف.
إِنَّه سُبْحَانَهُ لَا يُظلّه فَوق، وَلَا يُقلهُ تَحت، وَلَا يُقَابله حدّ، وَلَا يُزاحمه عِنْد، وَلَا يَأْخُذهُ خلف، وَلَا يحدّه أَمَام، وَلم يظهره قبل، وَلم يفنه بعد، وَلم يجمعه كلّ، وَلم يُوجده كَانَ، ولم يفقده لَيْسَ، وَصفه لَا صفةَ لَهُ، وَفعله لَا عِلَّةَ لَهُ، وَكَونه لَا أمدَ لَهُ، تنزَّه عَن أَحوال خلقه، لَيْسَ لَهُ من خلقه مزاج، وَلَا فِي فعله علاج، باينهم بقدمه، كَمَا باينوه بحدوثهم.
إِن قلت: مَتى؟ فقد سبق الْوَقْت ذَاته، وَإِن قلت: "هُوَ"، فالهاء وَالْوَاو خَلفه، وَإِن قلت: أَيْن؟ فقد تقدم الْمَكَانَ وجودُه.
فالحروف آيَاته، ووجوده إثْبَاته، ومعرفته توحيده، وتوحيده تَمْيِيزه من خلقه.
مَا تُصور فِي الأوهام فَهُوَ بِخِلَافِهِ، كَيفَ يحلّ بِهِ مَا مِنْهُ بَدَأَ، أَو يعود إِلَيْهِ مَا هُوَ أنشأ؟! لَا تُماثله الْعُيُون، وَلَا تُقابله الظنون، قربه كرامته، وَبُعده إهانته، علوه من غير توقل، ومجيئه من غير تنقل.
الشيخ: هذا كلام الصُّوفية.
هُوَ الأول وَالْآخر، وَالظَّاهِر وَالْبَاطِن، والقريب الْبعيد: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ [الشورى:11].
قلتُ: هَذَا الْكَلَام وَالله أعلم هَل هُوَ صَحِيح عَن الحلَّاج أم لَا؟ فَإِنَّ فِي الْإِسْنَاد مَن لَا أعرف حَاله، وَقد رَأَيْتُ أَشْيَاء كَثِيرَةً منسوبةً إِلَى الحلَّاج من مُصنفات وكلمات ورسائل، وَهِي كذبٌ عَلَيْهِ لَا شكَّ فِي ذَلِك، وَإِن كَانَ فِي كثيرٍ من كَلَامه الثَّابِت عَنهُ فَسَادٌ واضطرابٌ، لَكِن حملوه أَكثر مِمَّا حمله، وَصَارَ كلُّ مَن يُرِيد أَن يَأْتِي بِنَوْعٍ من الشَّطح والطَّامات يعزوه إِلَى الحلَّاج؛ لكَون مَحَله أقبل لذَلِك من غَيره، وَلكَون قوم مِمَّن يعظم المجهولات الهائلة يعظم مثل ذَلِك.
فَإِن كَانَ هَذَا الْكَلَامُ صَحِيحًا فَمَعْنَاه الصَّحِيح هُوَ نفي مَذْهَب الِاتِّحَاد والحلول الَّذِي وَقع فِيهِ طَائِفَةٌ من المتصوفة، وَنُسب ذَلِك إِلَى الحلَّاج، فَيكون هَذَا الْكَلَامُ من الحلاج ردًّا على أهل الِاتِّحَاد والحلول، وَهَذَا حسنٌ مَقْبُولٌ، وَأما تَفْسِيره بِمَا يُوَافق رأي أبي الْقَاسِم فِي الصِّفَات فَلَا يُنَاسب هَذَا الْكَلَام.
وَقد يُقَال: إِنَّ هَذَا الْكَلَام فِيهِ من الشّطح مَا فِيهِ، وَمَا زَالَ أهل الْمعرفَة يعيبون الشّطح الَّذِي دخلَ فِيهِ طَائِفَةٌ من الصُّوفِيَّة حَتَّى ذكر ذَلِك أَبُو حَامِد فِي "إحيائه" وَغَيره، وَهُوَ قِسْمَانِ:
شطحٌ هُوَ ظلم وعدوان، وَإِن كَانَ من ظلم الْكفَّار.
وشطحٌ هُوَ جهل وهذيان، وَالْإِنْسَان ظلوم جهول.
قَالَ أَبُو حَامِد: وَأما الشّطح فمعنيٌّ بِهِ صنفين من الْكَلَام.
الشيخ: صنفان.
س: ما يكون مفعول "معني"؟
ج: نائب فاعل، و"معني" اسم مفعول، لكن على قول مَن قال: إنَّ المجرور يُقدم على المفعول الأول، يكون "صنفين" مفعول ثانٍ، له وجهٌ ضعيف، ما يُخالف.
فمعنيٌّ بِهِ صنفان من الْكَلَام أحدثه بعض المتصوفة:
أَحدهمَا: الدَّعَاوَى الطَّوِيلَة العريضة فِي الْعِشْق مَعَ الله، والوصال المغني عَن الأعمال الظَّاهِرَة؛ حَتَّى يَنْتَهِي قومٌ إِلَى دَعْوَى الِاتِّحَاد، وارتفاع الْحِجاب، والمشاهدة بِالرُّؤْيَةِ، والمشافهة بِالْخِطَابِ، فَيَقُولُونَ: قيل لنا: كَذَا، وَقُلْنَا: كَذَا، ويتشبَّهون فِيهِ بالحسين بن مَنْصُور الحلاج الَّذِي صُلب لأجل إِطْلَاقه كَلِمَات من هَذَا الْجِنْس.
قَالَ: والصنف الثَّانِي من الشّطح: كَلِمَات غير مفهومة، لَهَا ظواهر رائعة، وفيهَا عِبَارَات هائلة، وَلَيْسَ وَرَاءهَا طائل، وَهِي إِمَّا أَن تكون غير مفهومةٍ عِنْد قَائِلهَا، بل يصدرها عَن خبطٍ فِي عقله، وتشوش فِي خياله؛ لقلَّة إحاطته بِمَعْنى كَلَامٍ قرع سَمعه، وَهَذَا هُوَ الْأَكْثَر. وَإِمَّا أَن تكون مفهومةً لَهُ، وَلكنه لَا يقدر على تفهيمها وإيرادها بِعِبَارَةٍ تدل على ضَمِيره.
قَالَ: وَلَا فَائِدَةَ لهَذَا الْجِنْس من الْكَلَام إِلَّا أَنه يُشوش الْقُلُوبَ، ويُدهش الْعُقُول، ويُحير الأذهان.
قلتُ: وَهَذَا الْكَلَام المحكي عَن الحلاج فِيهِ مَا هُوَ بَاطِل، وَفِيه مَا هُوَ مُجمل مُحْتَمل، وَفِيه مَا لَا يتَحَصَّل لَهُ معنى صَحِيح، بل هُوَ مُضْطَرب، وَفِيه مَا لَيْسَ فِي مَعْنَاهُ فَائِدَة، وَفِيه مَا هُوَ حقّ، لَكِن اتِّبَاع ذَلِك الْحقّ من غير طَرِيق الحلَّاج أحسن وَأَشدّ وأنفع.
فَقَوله: (ألزم الْكلّ الْحَدث)؛ لِأَنَّ الْقدَم لَهُ يتَضَمَّن حَقًّا، وَهُوَ أَنَّه سُبْحَانَهُ الْقَدِيم، وَمَا سواهُ مُحدَث، وَلَكِن لَيْسَ تَعْلِيله مُسْتَقِيمًا، وَلَا الْعِبارَة سديدةً؛ فَإِنَّ قَوْله: (ألزم الْكلّ الْحَدث) ظَاهره أَنه جعل الْحُدُوثَ لَازِمًا لَهُم، كَمَا تجْعَل الصِّفَات لَازِمَةً لموصوفها، مثل: الأكوان والألوان، وَغير ذَلِك.
وَلَيْسَ كَذَلِك، بل الْحُدُوث لَهُم هُوَ من لَوَازِم حقيقتهم، فَلَا يُمكن الْمَخْلُوق أَن يكون غير مُحدثٍ حَتَّى يُلْزم بذلك، بل هَذَا مثل قَول الْقَائِل: ألزم الْمَخْلُوق أَن يكون مخلوقًا، وألزم الْمَصْنُوع أَن يكون مصنوعًا.
وَأما تَعْلِيل ذَلِك بقوله: (لِأَنَّ الْقدَم لَهُ) فَلَيْسَ كَونُ الْقدَم لَهُ هُوَ الْمُوجِب لحدوثهم؛ إِذْ كَونه مَوْصُوفًا بِصفةٍ لَا يمْنَع أَن يُوصَف الْمَخْلُوق بِمَا يَلِيق بِهِ من تِلْكَ الصِّفة، كَمَا أَنَّ الْعِلمَ لَهُ، والحياةَ، وَالْكَلَامَ، والسَّمع، وَالْبَصَرَ، وللمخلوق أَيْضًا علم، وحياة، وَكَلَام، وَسمع، وبصر، فقد قَالَ الله تَعَالَى: وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ [المنافقون:8].
فتعليل إِلْزَام الْحُدُوث لَهُم بِأَنَّ الْقدَم لَهُ كَلَامٌ سَاقِطٌ، بل الْمَخْلُوق مُحدَث لنَفس ذَاته، وَعين حَقِيقَته، مثل كَونه مربوبًا، ومصنوعًا، وَفَقِيرًا، ومحتاجًا، فَإِنَّ هَذِه الصِّفَات النَّاقِصَة المتضمنة احتياجاته إِلَى الله وربوبية الله ثبتَتْ لَهُ لنَفس حَقِيقَته.
وإلزامه إِيَّاه الْحَدَث يَقْتَضِي نفي الْقدَم عَنهُ، وَنفي أَنه على كل شيءٍ قدير، وَأَنَّه بِكُل شيءٍ عليم، وَأَنَّه مُستغنٍ بِنَفسِهِ عَمَّا سواهُ، فانتفاء هَذِه الصِّفَات عَنهُ هُوَ لَيْسَ لأمرٍ وجوديٍّ، وَلَا لأجل أَنَّ الله متَّصفٌ بهَا، بل هَذِه الصِّفَات يمْتَنع ثُبُوتهَا لَهُ، وَلَكِن قد تُفسر بِتَأْوِيلٍ حسنٍ، كَمَا سَنذكرُهُ فِيمَا بعد إِن شَاءَ الله تَعَالَى.
وَقَوله: (فَالَّذِي بالجسم ظُهُوره فالعرض يلْزمه) هَذَا الْكَلَام يتَضَمَّن ثُبُوت الْجِسْم، وشيء ظهر بالجسم، وَعرض يلْزمه، وَعند الَّذين نصر أَبُو الْقَاسِم طريقَتهم وَسَائِر أهل الْكَلَام لَيْسَ فِي الْمَخْلُوق إِلَّا جسمٌ أَو عرضٌ؛ إذ الجوهر الْفَرد جُزْءٌ من الْجِسْم، فَهَذَا الْكَلَام لَا يُوَافقهُ، ثمَّ إِنَّه فِي نَفسه قد يُقَال: هُوَ من جنس الشّطح، لَا حَقِيقَةَ له.
فَمَا الَّذِي بالجسم ظُهُوره؟ أهوَ الْجِسْم أم غَيره؟ إِن كَانَ هُوَ الْجِسْم لم يَصحّ أَن يُقَال: الَّذِي ظُهُوره هُوَ الْجِسْم، وَإِن كَانَ غَيره وَسلم ذَلِك لَهُ، فَمَا الْمُوجب لتخصيص ذَلِك بالْكلَام فِيهِ دون الْجِسْم؟ وَالْعرض يلْزم الْجِسْم أبين من لُزُومه مَا لَيْسَ بجسمٍ.
ثمَّ إِذا قيل: (إِنَّ الْعرض يَلْزمه) هُوَ طَريقَة بعض أهل الْكَلَام الْمُحدث فِي الِاسْتِدْلَال على حُدُوث الْأَجْسَام بِلُزُوم الْأَعْرَاض لَهَا، وَفِي هَذِه الطَّرِيقَة من الِاضْطِرَاب مَا قد ذَكرْنَاهُ فِي مَوْضِعه، وَلَيْسَت هَذِه طَريقَة الْمَشَايِخ والعارفين.
وَمن أحسن مَا يُحمل عَلَيْهِ هَذَا الْكَلَام: أَنَّ قَائِله إِن أَرَادَ بِهِ إبطَال مَذْهَب الْحُلُول والاتِّحاد، وَظُهُور اللاهوت فِي الناسوت، وَأَنَّ الرب سُبْحَانَهُ لَيْسَ حَالًّا فِي شيءٍ من الْمَخْلُوقَات، وَلَا يَظْهر فِي شيءٍ من الْأَجْسَام المصنوعات، كَمَا يَقُوله مَن يَقُول: إِنَّه ظهر فِي الْمَسِيح، وَفِي عَليٍّ، وَفِي الحلَّاج، وَنَحْو ذَلِك، كَمَا يَقُوله أهلُ التَّعْيِين مِنْهُم، وكما يَقُوله مَن يَقُول بذلك فِي جَمِيع المصنوعات على مَذْهَب ابْنِ الْعَرَبِيّ.
الشيخ: ابن عربي، مشهور فيه التَّنكير، الطَّائي المعروف.
ابن عربي، وَابْن سبعين، وَنَحْوهم.
فَقَوله: (ألزم الْكلّ الْحَدث) أَي: جعله لَازِمًا لَهُم، لَا يُفارقهم، فَلَا يصير الْمُحدَث قَدِيمًا.
وَقَوله: (الَّذِي بالجسم ظُهُوره) يَعْنِي: أَي شيءٍ ظهر بِهَذِهِ الْأَجْسَام مِمَّا يظنّ أَنه الْحقّ، وَأَنه ظَاهر فِي الْأَجْسَام، فالعرض يلْزم ذَلِك الظَّاهِر فِي الْجِسْم، كَمَا يلْزم ذَلِك الْجِسْم، وَحِينَئِذٍ فَيكون الظَّاهِرُ فِي الْجِسْم بِمَنْزِلَة نفس الْجِسْم، لَيْسَ بِأَن يَجْعَل أَحدهمَا رَبًّا خَالِقًا، وَالْآخر مخلوقًا بِأولى من الْعَكْس.
وَكَذَلِكَ قَوْله: (الَّذِي بالأداة اجتماعه، فقواها تمسّكه) هَذَا ردٌّ على مَن يَقُول بقدم الرّوح، أَو بحلول الْخَالِق فِي الْمَخْلُوق؛ فَإِنَّ أدوات الْإِنْسَان -وَهِي جوارحه وأعضاؤه- بهَا يكون اجْتِمَاع ذَلِك، وقوى الأدوات تمسك ذَلِك، فَيكون مُفتقرًا إِلَيْهَا، مُحْتَاجًا، والمحتاج إِلَى غَيره لَا يكون حَقًّا غَنِيًّا بِنَفسِهِ، فَلَا يكون هُوَ الله، وَلَيْسَ فِي هَذَا تعرض لصفات الْحقِّ فِي نَفسه نفيًا وإثباتًا بِقبُول مَذْهَبٍ وردّ مَذْهَبٍ، إِذْ لم يقل أحدٌ من الْخلق: أنَّ الْحقَّ يجْتَمع بالأدوات، حَتَّى أنَّ مَن وَصفه بالجوارح والأعضاء من ضُلَّال المجسمة لَا يَقُولُونَ: إِنَّ اجتماعه بهَا.
وَإِن أُرِيد باجتماعه بهَا أَنه لَا بُدَّ لَهُ مِنْهَا، فَقَوله: (فقواها تمسكه) هُوَ مثل قَوْله: إِنَّه لَا بُدَّ لَهُ مِنْهَا، لَا يكون أَحدهمَا إبطالًا للْآخر، بل لُزُوم ذَلِك عِنْدهم كلزوم صِفَاته لَهُ، وَلَيْسَ فِي ذَلِك فقرٌ مِنْهُ إِلَى غَيره، كَمَا أَنه قَائِمٌ بِنَفسِهِ، غنيٌّ بِنَفسِهِ، وَلَا يُقَال: إِنَّه مُفتقر إِلَى غَيره، إِذْ مَا هُوَ من لَوَازِم ذَاته، هُوَ دَاخلٌ فِي اسْمه، فَلَا يكون مُفتقرًا إِلَى غَيره.
وَكَذَلِكَ قَوْله: (الَّذِي يُؤلِّفه وَقتٌ يُفرِّقه وَقتٌ) هَذَا منطبقٌ على إِفْسَاد مَذْهَب الاتِّحادية؛ فَإِنَّ الْآدَمِيَّ تأليفه وتركيبه فِي بعض الْأَوْقَات، كَمَا يكون تفريقه فِي بعض الأوقات، فَلَا يكون التَّأْلِيفُ وَلَا التَّفْرِيقُ لَازِمًا لَهُ، بل هُوَ مُحْتَاجٌ فيهمَا إِلَى غَيره، وَكَذَلِكَ مَا يُقَال: إِنَّه يتَّحد فِيهِ -أَو يتَّحد بِهِ- من اللَّاهوت هُوَ مفارقٌ لَهُ فِي وَقتٍ آخر.
وَأما قَوْله: (الَّذِي يُقيمه غَيره فالضَّرورة تمسّه).
الشيخ: كلامٌ لو ما قاله المؤلفُ كان خيرًا للناس، أراد بهذا بيان أباطيلهم، بيان ما فيه من الباطل، وهكذا شأن الصُّوفية؛ لأنهم في الغالب يأتون بكلمات مُشتبهات، مُلتبسات، يحصل بها الضَّلال لقومٍ، ويُفسرها آخرون على مُرادهم، وآخرون يُفسرونها بالأقيسة الباطلة، والموفق العالم هو الذي يُفسرها بالحقِّ، ويُبين الحقَّ.
وطريق السلامة وطريق النَّجاة هو أن يُعرف اللهُ بما ذُكر في كتابه العظيم، وسنّة رسوله عليه الصلاة والسلام، فهو الذي يُعرف به الله، فما عُرف به سبحانه: ذكر نفسه في كتابه من كلامه العظيم، ومن كلام رسوله عليه الصلاة والسلام، فهو جلَّ وعلا يُعرف بأسمائه وصفاته التي جاءت في كتابه العظيم، وفي كلام رسوله عليه الصلاة والسلام.
أما الصُّوفية وأشباههم من الذين حرَّفوا الكلام عن مواضعه، وخاضوا في كلام الفلاسفة، وضمّوا إليه أشياء من آرائهم، ومن كيسهم، فهذا يضرّ ولا ينفع، ويلبس الأمر ولا يُوضحه، فنسأل الله العافيةَ والسَّلامةَ.
...........
وقوله: (قُربه كرامته، وبُعده إهانته) فمردودٌ:
أما أَوَّلًا: فَإِنَّهُ وَصفه بالبُعد، وَالله لَا يُوصَف بالبُعد، وَإِن وُصف بِالْقُربِ، هَذَا إِن أَرَادَ قُربه من عباده، وَبُعده مِنْهُم، وَإِن أَرَادَ تقريبه لَهُم وتبعيده لَهُم فاللَّفظ لَا يدل على ذَلِك؛ فَإِنَّ الْقُربَ والبُعدَ غير التَّقْرِيب والتَّبعيد.
وَأما ثَانِيًا: فَلِأَنَّ قُربه من عباده وتقريبه لَهُم عِنْد سلف الْأمة وأئمّتها وَعَامَّة الْمَشَايِخ الأجلاء لَيْسَ مُجَرّد الإنعام والكرامة، بل يقرب من خلقه كَيفَ شَاءَ، وَيقرب إِلَيْهِ مِنْهُم مَن يَشَاء، كَمَا قد بَينا ذَلِك فِي مَوْضِعه.
وَقد ثَبت أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: أقربُ مَا يكون العَبْدُ من ربِّه فِي جَوف اللَّيْل الآخر.
وَثَبت فِي "الصَّحِيح" أَنه قَالَ: أقرب مَا يكون العَبْدُ من ربِّه وَهُوَ ساجد، وَقَالَ تَعَالَى: وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ [العلق:19].
وَأما قَوْله: (علوه من غير توقل، ومجيئه من غير تنقل) فَكَلَامٌ مُجملٌ، هُوَ إِلَى الْبِدْعَة أقرب، فَإِنَّهُ قد يَظْهر مِنْهُ أَنَّه لَيْسَ هُوَ فَوق خلقه، وَيُفهم مِنْهُ نفي مَا دلَّ عَلَيْهِ الْكتابُ وَالسُّنةُ من وَصفه بالاستواء، والمجيء، والإتيان، وغير ذلك، وَهَذِه الْمَسْأَلَة وَالَّتِي قبلهَا كبيرتان، ذكرناهما فِي غير هَذَا الْمَوضع، مثل: جَوَاب الاعتراضات المصرية، وَغير ذَلِك.
وَقَوله: (هُوَ الأول وَالْآخر، وَالظَّاهِر وَالْبَاطِن، والقريب والبعيد) لَيْسَ فِي أَسمَاء الله: الْبعيد، وَلَا وَصفه بذلك أحدٌ من سلف الْأمة وأئمّتها، بل هُوَ موصوفٌ بِالْقُربِ دون الْبُعْد.
وَفِي الحَدِيث الْمَشْهُور فِي التَّفْسِير أَنَّ الْمُسلمين قَالُوا: يَا رَسُول الله، أَقَرِيبٌ رَبنَا فنُناجيه، أم بعيدٌ فنُناديه؟ فَأنْزل الله: وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ [البقرة:186]، وَهَذَا يَقْتَضِي وَصفَه بِالْقُربِ دون الْبُعد.
وَفِي "الصَّحِيحَيْنِ" عَن أبي مُوسَى، عَن النَّبِي ﷺ أَنه قَالَ لأَصْحَابه لما جعلُوا يرفعون أَصْوَاتهم بِالتَّكْبِيرِ: أَيُّهَا النَّاس، اربعوا على أَنفسكُم، فَإِنَّكُم لَا تدعون أَصمَّ وَلَا غَائِبًا، إِنَّمَا تدعون سميعًا قَرِيبًا، إِنَّ الَّذِي تَدعُونَهُ أقرب إِلَى أحدكُم من عنق رَاحِلَته.
وَإِنَّمَا الْوَاجِب أَن يُوصَف بالعلو والظُّهور، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ ﷺ فِي الحَدِيث الصَّحِيح: أَنْت الظَّاهِر فَلَيْسَ فَوْقَك شيء، وَأَنت الْبَاطِن فَلَيْسَ دُونك شيء.
وَقَالَ تَعَالَى: وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ [البقرة:255]، فَلَو قَالَ: "هُوَ الْعَلي الْقَرِيب" كَانَ حسنًا صَوَابًا، وَكَذَلِكَ لَو قَالَ: "قريبٌ فِي علوه، عَلِيٌّ فِي دنوّه".
فَأَمَّا وَصفه بِأَنَّه "الْقَرِيب الْبعيد" فَلَا أصلَ لَهُ، بل هُوَ وصفٌ باسمٍ حسنٍ وبضدّه، كَمَا لَو قيل: العلي السَّافل، أو الْجواد الْبَخِيل، أو الرَّحِيم القاسي، وَنَحْو ذَلِك، وَالله تَعَالَى لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسنى، وَإِنَّمَا يُؤْتَى مثل هَؤُلَاءِ من الْقِيَاس الْفَاسِد؛ لما سَمِعُوهُ يُخبر عَن نَفسه بِأَنَّه الأول، الآخر، الظَّاهِر، الْبَاطِن، قاسوا على ذَلِك الْقَرِيب والبعيد، وَهَذَا خطأٌ؛ لِأَنَّ تِلْكَ الْأَسْمَاء كلهَا حَسَنَةٌ، دَالَّةٌ على كَمَال إحاطته مَكَانًا وزمانًا، وَأمَّا هَذَا فَهُوَ جمعٌ بَين الاسم الْحسن وضدِّه.
الْوَجْه الرَّابِع: أنَّه قدَّم كَلَام الشّبلي فِي الِاعْتِقَاد قبل كَلَام جَمِيع الْمَشَايِخ الَّذين هم أجلّ مِنْهُ وَأعظم، مَعَ أَنَّ هَذِه الْمَسْأَلَة لَا تسْتَحقّ التَّقْدِيم، وَإِنَّمَا مرتبتها فِيمَا بعد، كَمَا ذكرهَا هُنَاكَ، وَكَانَ الْوَاجِب أن يُؤَخِّر ذَلِك إِلَى مَوْضِعه، فَإِنَّهُ ذكر بعد ذَلِك أول الْوَاجِبَات، وَهَذَا هُوَ الَّذِي يسْتَحقّ التَّقْدِيم، وَمثل هَذَا يَقْتَضِي كَون المُصَنّف فِيهِ نوعٌ من الْهوى، وَمن أعظم الْوَاجِبَات على أهل هَذَا الطَّرِيق: خلوهم من الْهوى، فَإِنَّ مبناه على قَوْله: وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى [النازعات:40].
الشيخ: والمعنى أنَّ الواجب على المؤمن في مُؤلفاته، وفي كلامه، وفي ردوده، وفي كل شيءٍ: تحري العدالة، وتحري الإنصاف والبُعد عن الهوى؛ لأنَّ الآية عامَّة: وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى [النازعات:40- 41].
ومن ذلك النّقول: كونه ينقل كلامَ مَن هو أدنى، ويُقدمه على كلام مَن هو أعلى من أهل العلم، فيه شيءٌ من النَّظر، قد يكون هذا سببه الهوى؛ لأنه يُحبّ هذا، ويكره هذا، أو لأنه يُقدم هذا، ويُؤخر هذا.
فالواجب تحري مَن هو أولى بالتَّقديم، ومَن هو أولى بالملاحظة؛ لعلمه، وفضله، وتقدم زمانه، أو نحو ذلك، المقصود أنه يُلاحظ في نقله الإنصاف وتحري الحقّ، لا كونه يُحب هذا، أو يكره هذا، ونحو ذلك.
ثمَّ قَالَ أَبُو الْقَاسِم رَحمَه الله: سَمِعتُ أَبَا حَاتِم يَقُول: سَمِعتُ أبا نصر السَّراج رَحمَه الله يَقُول: سُئِلَ رُوَيْم عَن أول فرضٍ افترضه الله على خلقه مَا هُوَ؟ قَالَ: الْمعرفَة؛ يَقُول الله : وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات:56]، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: ليعرفون.
قلتُ: هَذَا الْكَلَام صَحِيح؛ فَإِنَّ أول مَا أوجبه اللهُ على لِسَان رَسُوله هُوَ الإقرار بِالشَّهَادَتَيْنِ، كَمَا قَالَ النَّبِي ﷺ لِمعَاذ بن جبلٍ لما بَعثه إِلَى الْيَمن: إِنَّك تقدم على قومٍ أهل كتابٍ، فَلْيَكُن أول مَا تدعوهم إِلَيْهِ شَهَادَة أَن لا إِلَه إِلَّا الله، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُول الله أَخْرجَاهُ فِي "الصَّحِيحَيْنِ".
وَكَذَلِكَ قَالَ الْمَشَايِخ المعتمدون -مثل الشَّيْخ عبدالْقَادِر، وَغَيره- وَالْإِقْرَار بِالشَّهَادَتَيْنِ يتَضَمَّن الْمَعرفَة.
لَكِن ذهب طَائِفَةٌ من أهل الْكَلَام وَمِمَّنِ اتَّبعهم من الْفُقَهَاء والصُّوفية إِلَى أَنه يجب على العَبْد الْمعرفَة أَوَّلًا قبل وجوب الشَّهَادَتَيْنِ.
وَمِنْهُم مَن قَالَ: يجب على العَبْد النَّظر قبل الْمعرفَة.
وَمِنْهُم مَن قَالَ: يجب الْقَصْدُ إِلَى النَّظر.
وَمن غالبيتهم مَن أوجب الشَّك.
وَقد بسطنا القَوْلَ فِي هَذِه الْمَسْأَلَة فِي غير هَذَا الْمَوضع.
فَهَذَا القَوْلُ يُوَافق هَؤُلَاءِ، لَكِن فِي صِحَّة الْحِكَايَة بِهَذَا اللَّفْظِ عَن رُوَيْم نظر؛ فَإِنَّ رويمًا من أهل الْعِلم والمعرفة، وَمَا ذكره من الْحجَّة لَا يدل على هَذَا الْجَواب، فَلَيْسَ فِي قَوْله: إِلَّا لِيَعْبُدُونِ مَا يدل على أَنَّ الْمعرفَة أول الْوَاجِبَات، سَوَاء فُسّر "يَعْبدُونَ" بيعرفون، أَو فُسّر بِغَيْر ذَلِك، فَإِنَّ خلقَهمْ لشيءٍ لَا يدل على أَنه أول وَاجِبٍ إِن لم يُبين ذَلِك بشيءٍ آخر.
وَأمَّا التَّفْسِير الْمَذْكُور عَن ابْن عَبَّاسٍ: فَالَّذِينَ ذَكرُوهُ عَنهُ جعلُوا هَذِه الْمعرفَة هِيَ الْمعرفَة الفطرية الَّتِي يقرّ بهَا الْمُؤمنُ وَالْكَافِرُ، ومقصودهم بذلك أَنَّ جَمِيعَ الْإِنْس وَالْجِنِّ قد وُجد مِنْهُم مَا خُلقوا لَهُ من الْعِبَادَة الَّتِي هِيَ مُجَرّد الْإِقْرَار الفطري، وَجعلُوا ذَلِك فِرَارًا من احتجاج الْقَدَرِيَّة بِهَذِهِ الْآيَة.
وَلَا ريبَ أَنَّ هَذَا ضَعِيفٌ، لَيْسَ المُرَاد أَنَّ الله خلقهمْ لمُجَرّد الْإِقْرَار الفطري، وَقد تكلَّمنا على الْآيَة فِي غير هَذَا الْمَوضع.
وَلَعَلَّ السَّائِلَ سَأَلَهُ عَن أعظم وَاجِبٍ، فَقَالَ: الْمعرفَة؛ لقَوْله: إِلَّا لِيَعْبُدُونِ أَي: يَعْرفُونَ، واعتقد رُوَيْم أَنَّ هَذِه الْمعرفَة هِيَ الْمعرفَة الَّتِي يُشِير إِلَيْهَا مَشَايِخُ الطَّرِيق، وَهِي معرفَة الْخَواصِّ، فَيكون جَوَابُه عَن أعظم وَاجِبٍ، لَا عَن أوَّل وَاجِبٍ، فَهَذَا كَمَا ترى.
الشيخ: هذا الكلام فيه بحثٌ للمؤلف، وهو غريب، فإنَّ الكلام هذا تارةً يُؤيد المعرفة، وأنها أول واجبٍ، وتارةً يعترضها.
والصواب: أنَّ أول واجبٍ وأعظم واجبٍ هو أن يُعبد الله وحده بالإقرار بالشَّهادتين، أما إطلاق المعرفة، أو النَّظر إلى المعرفة، أو القصد إلى المعرفة، مثلما أشار في بعض كلماته: أنَّ هذا غلطٌ من أهل الكلام، وإنما الصَّواب أنَّ أول واجبٍ، وأعظم واجب، وأهم واجب: هو توحيد الله الذي خُلق من أجله الثَّقلان.
أما المعرفة فاليهود والنصارى وكفَّار العرب يعرفون أنَّ الله خالقهم ورازقهم، ما يكفي، لا بدَّ من توحيد الله، والإخلاص له؛ ولهذا ذكر المؤلفُ حديثَ معاذٍ لما بعثه إلى اليمن قال: فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله، وأنَّ محمدًا رسول الله، وفي اللَّفظ الآخر: فادعهم إلى أن يشهدوا أن لا إله إلا الله، وفي اللَّفظ الآخر: إلى أن يُوحِّدوا الله، وفي اللَّفظ الآخر: فليكن أول ما تدعوهم إليه عبادة الله.
هذا هو المقصود: أن يكون العبدُ عابدًا لله، مُوحِّدًا له سبحانه، علاوةً على كونه يُؤمن بأنَّه خالقه، ورازقه، فالخلق والرِّزق أمرٌ مُشترك بين الكفَّار والمسلمين، يعرفون أنَّ الله خالقهم ورازقهم، لكن يمتاز المسلمون أهل التوحيد بإيمانهم بأنه معبودهم الحقّ، مع أنه خالقهم هو معبودهم الحقّ، وهو إلههم، ويشهدون أنه لا إله إلا الله، ومع هذا أنَّ محمدًا رسول الله؛ لأنها لا بدَّ منها مع ذلك في حقِّ أمة محمدٍ عليه الصلاة والسلام.
فالحاصل أنَّ أحسن ما يُقال في هذا، وهو الصواب، وهو الحقّ: أنَّ أول واجبٍ، وأعظم واجبٍ، وأهم واجبٍ على العبد هو: أن يعبد الله وحده، أن يعلم أنه المعبود بالحقِّ، فإذا فُسّرت المعرفةُ بهذا: بأنَّ الله هو المعبود الحقّ، وهو الإله الحقّ، وأنه لا يكفي أن يكون مُعترفًا بأنه خالقه ورازقه، فإنَّ هذه المعرفة قد عرفها أبو جهل، وعرفها عتبة بن ربيعة، وعرفها أبو طالب، وعرفها أبو لهب، ولم تُغْنِ شيئًا عنهم، حتى يعبدوا الله وحده، حتى يعلموا أنه المستحقّ للعبادة، وأن آلهتهم باطلة، وأنه لا يجوز أن يُعبد معه أحدٌ: لا ملك مُقرب، ولا نبي مرسل.
فحديث معاذٍ هو أصرح شيءٍ في هذا، وأبين شيءٍ في هذا، مع ما جاء في حديث جبريل لما سأل النبيَّ ﷺ عن الإسلام قال: تعبد الله ولا تُشرك به شيئًا في حديث أبي هريرة، وفي حديث عمر: أن تشهد أن لا إله إلا الله، وأنَّ محمدًا رسول الله، وفي حديث معاذٍ: فليكن أول ما تدعوهم إليه أن يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأنَّ محمدًا رسول الله.
هذا كله يُبين لنا أنَّ هذا هو أول واجبٍ، وهو أعظم واجبٍ، وهو أهمّ واجبٍ: أن يعبد الله وحده، ويخصّه بالعبادة، ويشهد أن لا إله إلا الله، وأنَّ محمدًا رسول الله.
وإن أُريد بالمعرفة هذا المعنى صحَّت المعرفة، وأما إطلاق المعرفة بمجرد المعرفة فلا يصحّ؛ لأنَّ اليهود والنَّصارى والوثنيين وأشباههم ممن يُؤمنون بالخالق قد عرفوا هذا، ولكن لم يكفِ في حقِّهم، ولم يكونوا مُوحدين، بل قاتلهم النبيُّ ﷺ، واستحلَّ دماءهم وأموالهم حتى يعبدوا الله وحده، حتى يعتقدوا بطلان آلهتهم ويُنكروها.
ثمَّ ذكر أَبُو الْقَاسِم بِغَيْر إِسْنَادٍ عَن الْجُنَيْد أَنه قَالَ: إِنَّ أول مَا يحْتَاج إِلَيْهِ العَبْدُ من عقد الْحِكْمَة: معرفَة الْمَصْنُوع صانعه، والمحدث كَيفَ كَانَ إحداثه؟ فَيعرف صفةَ الْخَالِق من الْمَخْلُوق، وَالْقَدِيم من الْمُحدث، ويذلّ لدعوته، ويتعرف بِوُجُوب طَاعَته، فَإِن لم يعرف مَا لله لم يَعْتَرف بِالْمُلكِ لمن استوجبه.
وَهَذَا كَلَامٌ حسنٌ يُنَاسِب كَلَامَ الْجُنَيْد، وَقد ضمن هَذَا الْكَلَام التَّمْيِيز بَين الْمَخْلُوق والخالق؛ لِئَلَّا يَقع السَّالك فِي الِاتِّحَاد والحلول كَمَا وَقع فِيهِ طوائف.
وَذكر أصلين: التَّصْدِيق والانقياد؛ لِأَنَّ الإيمانَ قَولٌ وَعملٌ، فَذكر معرفَة الصَّانِع، وَذكر الذُّلَّ لدعوته، وَالِاعْتِرَاف بِوُجُوب طَاعَته.
وَهَذَا من أصُول أهل السُّنة وأئمة الْمَشَايِخ، خُصُوصًا مَشَايِخ الصُّوفِيَّة؛ فَإِنَّ أصل طريقهم الْإِرَادَة الَّتِي هِيَ أساس الْعَمَل، فهم فِي الإرادات والعبادات والأعمال والأخلاق أعظم رسوخًا مِنْهُم فِي المقالات والعلوم، وهم بذلك أعظم اهتمامًا، وَأكْثر عنايةً، بل مَن لم يَدْخل فِي ذَلِك لم يكن من أهل الطَّرِيق بِحَالٍ، وَهَذَا حقٌّ؛ فَإِنَّ الدِّين وَالْإِيمَانَ قَولٌ وَعملٌ، وأوله قَول الْقَلب وَعَمله، فَمَن لم يَنْقد بِقَلْبِه، وَلم يذلّ لله؛ لم يكن مُؤمنًا، وَلَا دَاخِلًا فِي طَرِيق الله؛ وَلِهَذَا لم يتنازع الْمَشَايِخُ أَنَّ الْإِيمَانَ يزِيد وَينْقص، وَأَنَّ النَّاس يتفاضلون فِيهِ، وَأَنَّ أَعمال الْقُلُوب من الْإِيمَان، كَمَا يتنازع غَيرهم.
وَذكر أَبُو الْقَاسِم بعد هَذَا كلَامًا عَن الْمَشَايِخ فِي جملٍ مُستحسنةٍ، قَالَ: أَخْبَرنِي مُحَمَّد بن الْحُسَيْن: سَمِعتُ مُحَمَّد بن عبدالله يَقُول: سَمِعتُ أَبَا الطّيب المراغي يَقُول ...