02 من قوله: (وقال تعالى: (لتلبلون في أموالكم وأنفسكم)

وَقَالَ تَعَالَى: لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ [آل عمران:186].

فَأمر سُبْحَانَهُ بِالصَّبرِ على أَذَى الْمُشْركين وَأهل الْكِتاب، مَعَ التَّقْوَى، وَذَلِكَ تَنْبِيهٌ على الصَّبْر على أَذَى الْمُؤمنِينَ بَعضهم لبَعضٍ، مُتأوِّلين كَانُوا أَو غير مُتأوِّلين.

الشيخ: يعني من باب أولى إذا صبر على أولئك من دفع الفتن، فهذا الصَّبر على الأذى وما قد يقع من الخطأ من المؤمنين من باب أولى؛ حتى لا تقع فتنةٌ كبرى.

.........

وكما صنَّف صَاحبُ دَعْوَة الْبَلَاغ الْأَكْبَر والنَّاموس الْأَعْظَم.

فصلٌ مُهِمٌّ عَظِيم الْقَدر فِي هَذَا الْبَاب

الشيخ: قف على هذا.

الأسئلة:

س: ..............؟

ج: نعم، سم.

فصلٌ مُهِمٌّ عَظِيم الْقَدر فِي هَذَا الْبَاب

وَذَلِكَ أَنَّ طوائف كَبِيرَةً من أهل الْكَلَام من الْمُعْتَزلَة، وَهُوَ أصل هَذَا الْبَاب: كَأبي عليٍّ، وَأبي هَاشم، وَعبدالْجَبَّار، وأبي الْحُسَيْن، وَغَيرهم، وَمن اتَّبعهم من الأشعرية: كالقاضي أَبي بكر، وأبي المعالي، وأبي حَامِد والرازي وَمن إتبعهم من الْفُقَهَاء يعظمون أَمر الْكَلَام الَّذِي يسمونه أصُول الدّين حَتَّى يجْعَلُونَ مسَائِله.

وَالْمَقْصُود هُنَا ذكر أصلين، هما:

بَيَان فَسَاد قَوْلهم: "الْفِقْهُ من بَاب الظنون"، وَبَيَان أَنه أَحَقّ باسم الْعِلم من الْكَلَام الَّذِي يدَّعونَ أَنه علم، وَأَنَّ طرقَ الْفِقْه أحقُّ بِأَن تُسمَّى "أَدِلَّة" من طرق الْكَلَام.

وَالْأَصْلُ الثَّانِي: بَيَان أَنَّ غَالبَ مَا يَتَكَلَّمُونَ فِيهِ من الْأُصُول لَيْسَ بِعلمٍ وَلَا ظنٍّ صَحِيحٍ، بل ظنٌّ فَاسدٌ، وَجَهلٌ مُرَكَّبٌ.

وَيَتَرَتَّب على هذَيْن الْأَصْلَيْنِ منعُ التَّكْفِير باختلافهم فِي مسائلهم، وَأَنَّ التَّفكير فِي الْأُمُور العملية الْفِقْهِيَّة قد يكون أولى مِنْهُ فِي مسائلهم.

فَنَقُول: الْفِقْه هُوَ معرفَة أَحْكَام أَفْعَال الْعِباد، سَوَاء كَانَت تِلْكَ الْمعرفَةُ علمًا أَو ظنًّا أَو نَحْو ذَلِك.

وَمن الْمَعْلُوم لمن تدبر الشَّرِيعَة أَنَّ أَحْكَامَ عَامَّة أفعال الْعِباد مَعْلُومَة، لَا مظنونة.

الشيخ: ومن أجل هذا الذي ذكره المؤلفُ رحمه الله ضلُّوا عن الصَّواب، ووقعوا في الأخطاء العظيمة، وأبطلوا في نفي الصِّفات، وفي تأويلها، وفي العقيدة، وجعلوا النُّصوص من الكتاب والسنة ظواهر ظنية، وعدلوا عنها إلى آرائهم ونحاتة أفكارهم، فوقع منهم الضَّلال البعيد، والشَّر الكبير، ووقعوا في أنواع الكفر والضَّلال بسبب هذه القواعد التي أصَّلوها، فجعلوا نحاتةَ أفكارهم وما وضعوه هم أدلة قطعية، أخذوا بها، وجعلوا أدلةَ الكتاب والسُّنة ظنية، وما ينتج عنها ظني، فتساهلوا في أخذ أدلة الكتاب والسنة، ووضعوه عن ذلك، وقدموا ما بدا لهم، وما أصَّلوه لأنفسهم؛ حتى وصلوا بذلك إلى مخالفة النصوص العظيمة من الكتاب والسنة، وإلى تأويل الصِّفات، أو تأويل بعضها، وإلى شكٍّ في كثيرٍ من الأحكام بسبب هذه الأصول التي وضعوها لأنفسهم، وهي في الحقيقة أصول فاسدة، كما قال المؤلفُ رحمه الله، انبنى عليها جهلٌ مُرَكَّبٌ، حيث ظنوا أنهم يعلمون، وهم لا يعلمون، فهي أصول فاسدة، وقواعد باطلة، ترتب عليها جهلٌ مُرَكَّبٌ، وهو أنهم ظنّوا أنهم على علمٍ، وليسوا بعُلماء؛ ولهذا علماء الكلام كما قال الشَّافعي رحمه الله: "ينبغي أن يُطاف بهم في الأسواق، وأن يُضربوا بالجريد والنِّعال، ويُقال لهم: هذا جزاء مَن ترك الكتابَ والسنة، وخاض في علم الكلام". أو كما قال رحمه الله، والله المستعان.

والفقه هو العلم، لكن علم الأصول وعلم الدِّين هو الفقه الأكبر، هو الأعظم، ففقه الأحكام فقهٌ وعلمٌ يجب على المسلمين الأخذ به، وأدلته في الكتاب والسنة، ولو خبر الواحد، وهو دليلٌ عظيم مُعتمد، اعتمده ﷺ، فهو حُجَّة، سواء سُمي: أفاد العلم، أو أفاد الظن، فالظني هو الذي عليه الأدلة، وله الشواهد، علمٌ يُعمَل به، ويُؤخذ به؛ ولهذا قيل بشهادة الواحد حتى في الأموال .....، وفي شهادة العدلين، وفي قتل النفوس، وإزهاق الأرواح، وفي القصاص، وفي قطع يد السَّارق شاهدين عدلين فقط، وهو علمٌ، وإن سمَّاه بعضهم "ظنًّا" فهو علمٌ شرعيٌّ، رتَّب عليه الشارعُ أحكامًا.

وهكذا الرِّوايات عن النبي ﷺ في الأحاديث الصَّحيحة -وإن كانت غريبةً- علمٌ، تترتب عليه أحكام، وتجب به فرائض، ويحرم به أشياء.

فهؤلاء الذين أصَّلوا علم الكلام ورتَّبوا عليه مركبات وأحكامًا وقضايا أخطأوا فيها خطأً عظيمًا، وضلوا بها عن سواء السبيل، ومرج أمرهم بسبب هذا، ولا حول ولا قوة إلا بالله.

وَمن الْمَعْلُوم لمن تدبر الشَّرِيعَة أَنَّ أَحْكَام عَامَّة أفعال الْعِباد مَعْلُومَة، لَا مظنونة، وَأَنَّ الظَّنَّ فِيهَا إِنَّمَا هُوَ قَلِيل جدًّا فِي بعض الْحَوَادِث لبَعض الْمُجْتَهدين، فَأَما غَالب الْأَفْعَال مُفادها وأحداثها فغالب أحكامها مَعْلُومَة وَللَّه الْحَمد.

وأعني بِكَوْنِهَا معلومةً أَنَّ الْعِلم بهَا مُمكن، وَهُوَ حَاصِل لمن اجْتَهد وَاسْتَدلَّ بالأدلة الشَّرْعِيَّة عَلَيْهَا، لَا أعني أَنَّ الْعِلم بهَا حَاصِلٌ لكل أحدٍ، بل وَلَا لغالب المتفقهة المقلدين لأئمتهم، بل هَؤُلَاءِ غَالب مَا عِنْدهم ظنٌّ أَو تَقْلِيدٌ؛ إِذ الرجل قد يكون يرى مَذْهبَ بعض الْأَئِمَّة، وَصَارَ يَنْقل أَقْوَاله فِي تِلْكَ الْمسَائِل، وَرُبمَا قربهَا بِدَلِيلٍ ضَعِيفٍ من قِيَاسٍ أَو ظَاهرٍ، هَذَا إِن كَانَ فَاضلًا، وَإِلَّا كَفاهُ مُجَرّد نقل الْمَذْهَب عَن قَائِله إِن كَانَ حسنَ التَّصَوُّر، فهمًا، صَادِقًا، وَإِلَّا لم يكن عِنْده إِلَّا حفظ حُرُوفه إِن كَانَ حَافِظًا، وَإِلَّا كَانَ كَاذِبًا، أَو مُدَّعِيًا، أَو مُخْطِئًا.

وَلَا ريبَ أَنَّ الْحَاصِل عِنْد هَؤُلَاءِ لَيْسَ بِعلمٍ، كَمَا أَنَّ الْعَامَّة المقلدين للْعُلَمَاء فِيمَا يُفتونهم فَإِنَّ الْحَاصِل عِنْدهم لَيْسَ علمًا بذلك عَن دَلِيلٍ يُفيدهم الْقَطع، وَإِن كَانَ الْعَالمُ عِنْدَه دَلِيلٌ يُفِيد الْقَطع.

وَهَذَا الأَصْلُ الَّذِي ذكرتُه أصل عَظِيم، فَلَا يصدّ الْمُؤمنَ الْعَلِيمَ عَنهُ صَادٌّ، فَإِنَّهُ لِكَثْرَة التَّقْلِيد وَالْجَهل والظنون فِي المنتسبين إِلَى الْفِقْهِ وَالْفَتْوَى وَالْقَضَاء استطال عَلَيْهِم أُولَئِكَ المتكلِّمون حَتَّى أخرجُوا الْفِقْهَ الَّذِي نجد فِيهِ كل الْعُلُوم من أصل الْعِلم؛ لما رَأَوْهُ من تَقْلِيد أَصْحَابه وظنِّهم.

س: يا شيخ، المذهب الذي ينتسب إليه .....؟

الشيخ: ينتسب إلى الحنابلة، لكنه مجتهد، وإلا هو ينتسب للحنابلة، وافقهم في القواعد الأساسية الشرعية في علم الحديث ومصطلح الحديث؛ ولهذا ينتسب إليهم، وقد يوجد مجتهدون من العلماء: كالشَّافعية والمالكية وغيرهم، الانتساب لا يضرّ إذا كان العالمُ يُقدِّم الأدلةَ، ويُرجح الحقَّ بالدليل.

س: علم الكلام هل يجوز تعلّمه؟

ج: لا، يجب الحذرُ منه.

س: إذا أراد أن يردّ عليهم؟

ج: يردّ عليهم بالأدلة من الكتاب والسنة؛ لأنه قد يدخل فيه فيهلك ولا يخرج، نعم، أما مَن أُوتي علمًا واسعًا وأراد أن يبطل قواعدهم بقواعدهم فهذا إذا حصل له هذا فلا بأس، لكن كونه يتفرَّغ لذلك ويدع الكتابَ والسُّنة لا.

وَمِمَّا يُوضِّح هَذَا الأَصْلَ أَنه من المعلوم أَنَّ الظنون غَالِبًا إِنَّمَا تكون فِي مسَائِل الِاجْتِهَاد والنِّزاع، فَأَما مسَائِل الْإِيمَان وَالْإِجْمَاع فالعلم فِيهَا أَكثر قطعًا.

وَإِذا كَانَ كَذَلِك فَمن الْمَعْلُوم أَنَّ من أشهر مَا تنازع فِيهِ الصَّحَابَةُ وَمَن بعدهم مسَائِل الْفَرَائِض، كَمَا تنازعوا فِي الْجدِّ وفروعه، وَفِي الْكَلَالَة، وَفِي حجب الْأُم بأخوين، وَفِي العُمريتين: زوج وأبوان، وَزَوْجَة وأبوان، وَفِي الْجدِّ هَل يقوم مقَام الْأَب فِي ذَلِك؟ وَفِي الْأَخَوَات مَعَ الْبَنَات هَل هِيَ عصبَةٌ أم لَا؟ وَفِيمَا إِذا اسْتَكْمَل الْبَنَاتُ الثُّلثَيْنِ، وَهُنَاكَ ولد ابْنٍ، وَنَحْو ذَلِك من الْمسَائِل الَّتِي يُحفظ النِّزاعُ فِيهَا عَن عمر وَعُثْمَان وَعليٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَزيدٍ وَابْن عَبَّاسٍ وَغَيرهم من الصَّحَابَة.

لَكِن أَئِمَّة هَذَا الْبَاب خَمْسَة: عمر، وَعلي، وَابْن مَسْعُود، وَزيد، وَابْن عَبَّاس.

الشيخ: يعني هذا الباب فيما يتعلق بمسائل الفرائض واختلافهم فيها.

وَإِذا كَانُوا تنازعوا فِي الْفَرَائِض أَكثر من غَيرهَا فَمن الْمَعْلُوم أَنَّ عَامَّة أَحْكَام الْفَرَائِض مَعْلُومَة، بل منصوصة بِالْقُرْآنِ، فَإِنَّ الَّذِي يُفْتِي النَّاسَ فِي الْفَرَائِض قد يقسم ألف فَرِيضَةٍ منصوصة فِي الْقُرْآن، مجمعًا عَلَيْهَا، حَتَّى تنزل بِهِ وَاحِدَةٌ مُخْتَلفٌ فِيهَا، بل قد تمضي عَلَيْهِ أَحْوَال لَا تجب فِي مَسْأَلَة نزاعٍ.

وَأما الْمَسَائِل المنصوصة الْمُجمَع عَلَيْهَا فَالْجَوَاب فِيهَا دَائِمٌ بدوام الْمَوْتَى، فَكل مَن مَاتَ لَا بُدَّ لميراثه من حكمٍ؛ وَلِهَذَا لم يكن شيءٌ من مسَائِل النِّزاع على عهد النَّبِي ﷺ مَعَ وجود الْمَوْت والفرائض دَائِمًا، وَمَعَ أَنَّ كلَّ مَن كَانَ يَمُوت على عهد النَّبِي ﷺ فَإِنَّهُ مَا وُضع قطّ مَالُ ميتٍ فِي بَيت مَالٍ، وَلَا قسم بَين الْمُسلمين كَمَا كَانَ يُقسم بَينهم الفيء وَمَال الْمصَالح، وَلَكِن لما فُتحت الْبِلَاد وَكثر أهلُ الْإِسْلَام فِي إِمَارَة عمر صَار حِينَئِذٍ يحدث اجْتِمَاع الْجدِّ وَالإِخْوَة، فتكلَّموا فِي ذَلِك، وَكَذَلِكَ حدثت العُمريتان فتكلَّموا فِيهَا.

هَذَا مَعَ أَنَّ علم الْفَرَائِض من علم الْخَاصَّة، حَتَّى أَنَّ كثيرًا من الْفُقَهَاء لَا يعرفهُ، فَهُوَ عِنْد الْعُلمَاء بِهِ من علم الْفِقْه الْيَقِين الْمَقْطُوع بِهِ، وَلَيْسَ عِنْد أَكثر المنتسبين إِلَى الْعِلم -فضلًا عَن الْعَامَّة- بِهِ علمٌ ولا ظنٌّ، وَذَلِكَ كالقضايا التَّجريبية فِي الطِّبِّ، هِيَ عِنْدَ المجربين لَهَا وَالْعَالمِينَ بهَا من المجربين مَعْلُومَة، وَأَكْثر الخائضين فِي عُلُومٍ أُخر -فضلًا عَن الْعَامَّة- لَيْسَ عِنْدَهم علمٌ وَلَا ظنٌّ، بل بَاب الْحيض الَّذِي هُوَ من أشكل الْفِقْه فِي كتاب الطَّهَارَة، وَفِيه من الْفُرُوع والنِّزاع مَا هُوَ مَعْلُوم، وَمَعَ هَذَا أَكثر الْأَحْكَام الشَّرْعِيَّة الْمُتَعَلّقَة بِأَفْعَال النِّسَاء فِي الْحيض مَعْلُومَة.

وَمَن انتصب ليُفتي النَّاسَ يُفتيهم بِأَحْكَامٍ مَعْلُومَةٍ مُتَّفقٍ عَلَيْهَا مئَة مرّة؛ حَتَّى يفتيهم بِالظَّنِّ مرّةً وَاحِدَةً، وَإِنَّ أَكثر النَّاسِ لَا يعلمُونَ أَحْكَامَ الْحيض، وَمَا تنَازع الْفُقَهَاء فِيهِ من أَقَلِّه وَأَكْثَره، وَأكْثر سِنِين الْحيض وَأقله، ومسائل الْمُتَحَيِّرَة، فَهَذَا من أندر الْمَوْجُود، وَمَتى تُوجَد امْرَأَةٌ لَا تحيض إِلَّا يَوْمًا، وَإِنَّمَا فِي ذَلِك حكايات قَليلَة جدًّا، مَعَ الْعِلم بِأَنَّ عَامَّة بَنَات آدم يحضن، كَمَا قَالَ النبيُّ ﷺ: إِنَّ هَذَا شيءٌ كتبه الله على بَنَات آدم.

وَكَذَلِكَ مَتى تُوجد فِي الْعَالم امْرَأَةٌ تحيض خَمْسَة عشر يَوْمًا، أَو تِسْعَة عشر، أَو امْرَأَة مُسْتَحَاضَة دَائِمًا لَا يُعرف لَهَا عَادَة، وَلَا يتَمَيَّز الدَّمُ فِي ألوانه، بل الِاسْتِحَاضَة إِذا وَقعت فغالب النِّسْوَة يكون تميزها وعادتها وَاحِدَةً، وَالْحكم فِي ذَلِك ثَابتٌ بالنصوص المتواترة عَن النَّبِي ﷺ، وباتِّفاق الْفُقَهَاء.

وَنحن ذكرنَا فِي الْمَوْت الَّذِي هُوَ أَمرٌ لَازمٌ لكل أحدٍ، وَقلَّ مَن يَمُوت إِلَّا وَله شيء، وَفِي الْحيض الَّذِي هُوَ أَمرٌ مُعْتَادٌ للنِّسَاء، وَكَذَلِكَ سَائِر الْأَجْنَاس الْمُعْتَادَة، مثل: النِّكَاح وتوابعه، والبيوع وتوابعها، والعبادات، والجنايات.

فَإِن قَالَ قَائِلٌ: مسَائِل الِاجْتِهَاد وَالْخِلاف فِي الْفِقْه كَثِيرَةٌ جدًّا فِي هَذِه الْأَبْوَاب.

قيل لَهُ: مسَائِل الْقَطع وَالنَّص وَالْإِجْمَاع بِقدر تِلْكَ أضعافًا مُضاعفةً، وَإِنَّمَا كثرت لِكَثْرَة أَعمال الْعِباد، وَكَثْرَة أَنْوَاعهَا، فَإِنَّهَا أَكثر مَا يعلمهُ النَّاس مُفصلًا، وَمَتى كثر الشيءُ إِلَى هَذَا الْحَدِّ كَانَ كلُّ جُزْءٍ مِنْهُ كثيرًا، مَن ينظرها مَكْتُوبَةً فَلَا يترسم فِي نَفسه إِلَّا ذَلِك، كَمَا يُطالع تواريخ النَّاس والفِتن، وَهِي مُتَّصِلَة فِي الْخَبَر، فيرتسم فِي نَفسه أَنَّ الْعَالم مَا زَالَ ذَلِك فِيهِ مُتواصلًا، والمكتوب شيء، وَالْوَاقِع أَشْيَاء كَثِيرَة، فَكَذَلِك أَعمال الْعِباد وأحكامها، وَلَكِن أَكثر النَّاس لَا يعلمُونَ ذَلِك.

أما غير الخائض فِي الْفِقْه فِي فنونٍ أُخْرَى فَظَاهر، وَأما الخائض فِيهِ فغالبهم إِنَّمَا يعرف أحدهم مَذْهَب إِمَامه، وَقد يعلمهُ جملَة لَا يُمَيّز بَين الْمسَائِل القطعية المنصوصة وَالْمُجْمَع عَلَيْهَا، وَبَين مفاريده، أَو مَا شاع فِيهِ الِاجْتِهَاد، فنجده يُفْتِي بمسائل النُّصُوص وَالْإِجْمَاع من جنس فُتياه بمسائل الِاجْتِهَاد والنِّزاع، بِمَنْزِلَة حمَارٍ حمل سفرًا ينْقل نقلًا مُجَردًا، حَتَّى أَنه يُحْكى لأَحَدهم أَنَّ مَذْهَبَ فلَانٍ بِخِلَاف ذَلِك، فيسوغ ذَلِك، وَيكون الْخِلاف فِي ذَلِك من الممتنعات بَين الْمِلَل، فضلًا عَن أَن يخْتَلف فِيهِ الْمُسلمُونَ.

وَقد بَلغنِي من ذَلِك عَن أَقوامٍ مشهورين بالفُتيا وَالْقَضَاء حَتَّى حكوا لملك بلدهم أَنَّ من مَذْهَب الشَّافِعِي أَنَّ الْمُطلقَة ثَلَاثًا تُبَاح بِالْعَقْدِ الْخَالِي عَنِ الْوَطْء. وصبيان الشَّافِعِيَّة يعلمُونَ أَنَّ هَذَا مِمَّا لم يخْتَلف فِيهِ مذْهبُه، وَحَتَّى يحكوا عَن مَالكٍ أَنَّ الْمُتْعَة عِنْدَه جَائِزَةٌ، وَلَيْسَ فِي المتبوعين أَشدّ تَحْرِيمًا لَهَا مِنْهُ وَمن أَصْحَابه، حَتَّى أَنَّه إِذا وقِّت الطَّلَاقُ عِنْده يُنجز؛ لِئَلَّا يصير النِّكَاحُ مُؤقَّتًا كَنِكَاح الْمُتْعَة.

وأبلغ من ذَلِك: يحكون فِي بِلَادِهمْ عَن مَالكٍ حلّ اللِّواط، وَيذكر ذَلِك لمن هُوَ من أَعْيَان مذْهبِه فَيَقُول: الْقُرْآن دلَّ على تَحْرِيمه، وَلَا يُمكنهُم أَن يكذبوا النَّاقِل ويقولوا: هَذَا حرَام بِالْإِجْمَاع، مَعَ أَنَّ الْعَالم يعلم أَنَّ هَذَا حرَامٌ بِإِجْمَاع الْمُسلمين وَالْيَهُود وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوس وَالصَّابِئِينَ وَأكْثر الْمُشْركين، لم يستحلّه إِلَّا قوم لوطٍ وَبَعض الزَّنَادِقَة من بَقِيَّة الطَّوائف. فلجهل هَؤُلَاءِ وأمثالهم بالتَّمييز بَين مسَائِل الْعِلم وَالْقَطع، ومسائل الِاجْتِهَاد؛ الْتَبس الأمرُ عَلَيْهِم فَلم يُمكنهُم أَن يحكموا فِي أَكثر مَا يُفْتَى بِهِ أَنه قطعي، وَهُوَ قطعي مَعْلُومٌ من الدِّين للْعُلَمَاء بِالدِّينِ، لَكِن هَؤُلَاءِ لَيْسُوا فِي الْحَقِيقَة فُقَهَاء فِي الدّين، بل هم نقلة لكَلَام بعض الْعُلمَاء ومذهبه، وَالْفِقْه لَا يكون إِلَّا بفهم الْأَدِلَّة الشَّرْعِيَّة بأدلتها السَّمعية الثُّبوتية من الْكِتاب وَالسُّنة وَالْإِجْمَاع نصًّا واستنباطًا.

وَلَكِن أُولَئِكَ المتكلِّمون كَانَ علمُ الْفِقْه عِنْدَهم هُوَ مسَائِل الْحلّ وَالْحرَام، وشفعة الْجوَار، والجهر بالبسملة، وتثنية الْإِقَامَة وإفرادها، وَالْجَمع بَين الصَّلَاتَيْنِ، وَإِزَالَة النَّجَاسَة، والقود بِالْمِثْلِ، وَخيَار الْمَجْلس، والعِوَض بِالْعَقْدِ الْفَاسِد، وَالْإِجَارَة، وَنَحْو ذَلِك من الْمسَائِل الَّتِي شاع فِيهَا النِّزاع، لَا سِيمَا وَقد جرد بعد الْمِئَة الثَّالِثَة مسَائِل الْخلاف، جرَّدها أَبُو بكرٍ الصَّيرفي فِيمَا يغلب على ظَنِّي، وَاتَّبعهُ على ذَلِك النَّاسُ، حَتَّى صنَّفوا كتبًا كَثِيرَةً فِي مسَائِل الْخِلاف فَقَط.

وَاقْتَصر أَكثرُ هَؤُلَاءِ على مَا اخْتلف فِيهِ أَبُو حنيفَة وَالشَّافِعِيّ.

وَأُمَّهَات الْمسَائِل الَّتِي جرَّدوا القَوْلَ فِيهَا نَحْو أَرْبَعمِئَة مَسْأَلَةٍ الَّتِي تُوجَد فِي أُمَّهَات التَّعَالِيق وَكتب الْخِلاف الَّتِي صنَّفها الخراسانيون والعراقيون من الطوائف، وَإِن كَانَت مسَائِل الْخِلاف لمن استوعبها مِنْهُم -كَالْقَاضِي أبي يعلى- تَنْتَهِي إِلَى أُلُوفٍ مُؤلفة، إِمَّا أَرْبَعَة آلَاف، أَو أقلّ، أَو أَكثر، وَلمن اقْتَصر على كبار كِبَارهَا تكون نَحْو مئَة مَسْأَلَةٍ، كَمَا فعل أَبُو مُحَمَّدٍ إِسْمَاعِيل ..... فِي تَعْلِيقه.

وَأما ذَلِك الْمِقْدَار فَهُوَ الَّذِي يصفه أَبُو الْمَعَالِي وَأَبُو إِسْحَاق فِي خلافهما، والشريف أَبُو جَعْفَر، وأسعد الميهني، والسَّمعاني، وَنَحْوهم، ويصفه أبو الْخَطَّاب فِي انتصاره، وَابْن عقيل فِي نظرياته، وَكَذَلِكَ ابْن يسَاره والعالمي، وَنَحْوهم من أَصْحَاب أبي حنيفَة، وَإِن كَانَ فِي "عمد الْأَدِلَّة" تبع شَيْخه القاضي فِي اسْتِيعَاب ما في تَعْلِيق القَاضِي من هَذِه الْمسَائِل والنِّزاع فِيهَا، وَشهد أَنَّهَا مسَائِل اجْتِهَاد ظنية.

واشتهار أَصْحَابهَا بِعلم الْفِقْه هُوَ من الشُّبْهَة الَّتِي أوجبت للمُتكلمين، ولهؤلاء الْفُقَهَاء الْمُخْتَلِفين، ولكثير من الْمُفْتِينَ وَغَيرهم أَن يجْعَلُوا الْفِقْهَ من بَاب الظنون وَالِاجْتِهَاد؛ وَلِهَذَا كَانَ ظُهُورُ هَذَا القَوْل مَعَ ظُهُور مسَائِل الْخلاف هَذِه، وَذَلِكَ مَعَ ظُهُور بدعٍ كَثِيرَةٍ، وَتغَير أُمُور الْإِسْلَام، وَضعف الْخلَافَة، حَتَّى استولى عَلَيْهَا الديالم، وَظهر حِينَئِذٍ من مَذْهَب القرامطة والباطنية والرافضة والمعتزلة مَا عَمَّ أَكثر الأَرْض، وَأُخذ من الْمُسلمين كثيرٌ من ثغورهم الشَّامية وَغَيرهَا، وانتشرت حِينَئِذٍ بدع مُتكلمة الصِّفاتية وَغَيرهم، وَصَارَ هَذَا الْفِقْهُ من بَاب اتِّبَاع الظَّنِّ وَمَا تهوى الْأَنْفس، وَكَذَلِكَ مَال كثيرٌ من طلاب الْعِلم إِلَى مَا يَظُنُّونَهُ علمًا غير الْفِقْه: إِمَّا الْكَلَام، وَإِمَّا الفلسفة، فَإِنَّ النَّفس تطلب مَا هُوَ علم، وتنفر مِمَّا هُوَ شكٌّ وَظنٌّ، وَهَذَا مَحْمُودٌ مِنْهَا.

وَكَانَ من سَبَب هَذَا أَنهم تفقَّهوا لغير الدِّين، وَذَلِكَ مِمَّا ذمّوا عَلَيْهِ.

الشيخ: وهذا نقطة عظيمة، فالتَّفقه لغير الدِّين يجعل القلوبَ خاليةً من تقوى الله، وخاليةً من تعظيم حُرمات الله؛ فلهذا يقع النِّزاع والخلاف.

وهكذا ما تقدم من كون الفقيه ليس همّه إلا النَّقل، وليس عنده العناية بالأدلة وفهمها وجمع النصوص؛ ولهذا يكثر بينهم الخلاف والنِّزاع فيما ينقلون.

أما مَن تفقه للآخرة ولمعرفة الحقِّ، وعُني بالأدلة من الكتاب والسنة، فهذا قلَّ أن تشتبه عليه الأمور، وإنما تقع المسائل الخلافية في أشياء قليلة قد تمرّ عليه سنوات كثيرة ما مرَّ عليه واحدةٌ منها، وإنما تمرّ عليه مسائل واضحة معروفة بالأدلة الشَّرعية التي قد أجمع عليها المسلمون، وإنما يُؤتى الإنسانُ من جهة عدم عنايته بالأدلة، وعدم تفقهه بالكتاب والسنة، وإنما يكتفي بالنَّقل عن فلانٍ وفلانٍ، وتشتبه عليه الأمور، نعم.

وَكَانَ من سَبَب هَذَا أَنَّهم تفقَّهوا لغير الدِّين، وَذَلِكَ مِمَّا ذمّوا عَلَيْهِ، كَمَا جَاءَ ذَلِك فِي حَدِيثٍ رَوَاهُ أَبُو هُرَيْرَة وَعليّ رَضِي الله عَنْهُمَا، يَقُول فِيهِ النَّبِي ﷺ: إِذا اتُّخذ المَال دُوَلًا، وَالْأَمَانَة مَغْنَمًا، وَالزَّكَاة مَغْرَمًا، وتفقه لغير الدِّين، وأطاع الرجلُ امْرَأَتَه، وعقَّ أُمَّه، وَأدنى صديقَه، وأقصى أَبَاهُ، وَرُفِعَت الْأَصْوَات فِي الْمَسَاجِد، وَأُكْرم الرجلُ مَخَافَة شَرِّه، وساد الْقَبِيلَة فاسقُها، وَكَانَ زعيمُ الْقَوْم أرذلهم؛ فلينتظروا عِنْد ذَلِك ريحًا حَمْرَاء، وفِتَنًا تتَابع كنظامٍ بَالٍ قُطع سلكه فتتابع.

وَكَانَ هَذَا مَا هُوَ من أَشْرَاط السَّاعَة الْوُسْطَى: من ظُهُور الْجَهْل، وَرفع الْعِلم، وَكَثْرَة الزِّنَا.

فَإِنَّهُ قد ثَبت فِي الصَّحِيح عَن النَّبِي ﷺ أَنه قد يُرِيد بالسَّاعة انخرام الْقَرن، وَوُقُوع شرور وبلاء يُعذب بِهِ النَّاس، وَإِن كَانَت السَّاعَةُ الْعَامَّة هِيَ قيام النَّاس من قُبُورهم، لَكِن الأول جَاءَ فِي مثل قَوْله: إِن يستنفد هَذَا الْغُلَامُ عمره لم يُدْرِكهُ الْهَرم حَتَّى تقوم السَّاعَةُ يُرِيد بِهِ انخرام ذَلِك الْقَرن، كَمَا أنَّه قد أَرَادَ بِلَفْظ "الْقِيَامَة" موت الْإِنْسَان، كَمَا فِي قَول الْمُغيرَة بن شُعْبَة: أَيُّهَا النَّاس، إِنَّكُم تَقولُونَ: الْقِيَامَة، الْقِيَامَة، وَإنَّهُ مَن مَاتَ فقد قَامَت قِيَامَته.

وَتَرْجم البغوي على ذَلِك فِي كتاب "المصابيح": بَاب مَن مَاتَ فقد قَامَت قِيَامَتُه.

الشيخ: وهذه يُقال لها: القيامة الصُّغرى، فإنَّ القيامة قيامتان: كبرى وصغرى، فالصُّغرى: كل مَن مات فقد قامت قيامته، وخُتم على عمله، وانقطع عمله إلا مما أخبر به النبيُّ ﷺ.

أما القيامة الكبرى: فهي موت الناس جميعًا بالنفخ في الصُّور.

لَكِن من الزَّنَادِقَة الصَّابئة المتفلسفة -كالسَّهروردي الْحلَبِي الْمَقْتُول وَغَيره- مَن يظنّ ذَلِك هُوَ الْقِيَامَة الَّتِي وصفهَا اللهُ فِي الْقُرْآن، وَيجْعَل هَذَا اللَّفْظَ من كَلَام رَسُول الله ﷺ، وَلَيْسَ الْأَمرُ كَذَلِك.

وَإِذا كَانَ بِسَبَب تَقْلِيد كثيرٍ من الْفُقَهَاء لأئمَّتهم واتِّباعهم الظَّنّ اشْتبهَ مَا يُمكن علمه وَمَا هُوَ مَعْلُوم لفقهاء الدِّين وعلماء الشَّرِيعَة بِغَيْرِهِ، فَكَذَلِك نفس الْأَئِمَّة الْمُجْتَهدين لَا ريبَ أَنه قد يكون عِنْد أحدهم مَا هُوَ مظنون، بل مَجْهُول، وَهُوَ مَعْلُوم للْآخر: إِمَّا مُوَافقًا لَهُ، وَإِمَّا مُخَالفًا فِيهَا أَكثر الْمسَائِل الْفِقْهِيَّة الَّتِي لَا يعرف حكمهَا كثيرٌ من الْأَئِمَّة، أَو يتَكَلَّم فِيهَا بِنَوْعٍ من الظَّنِّ، مصيبًا، أَو مُخطئًا، وَتَكون مَعْلُومَةً لغيره بأدلةٍ قَطْعِيَّةٍ عِنْده وَعند مَن علم كعلمه: تَارَةً بِنَصٍّ اخْتُصَّ بِسَمَاعِهِ من الرَّسُول أَو من غَيره، وَحصل لَهُ بذلك الْعِلم لأسبابٍ كَثِيرَةٍ فِي النَّقْل، وَهَذَا كثيرٌ مَا يكون لعلماء الحَدِيث، فَإِنَّهُم يعلمُونَ من النُّصُوص، ويقطعون مِنْهَا بأَشْيَاء كَثِيرَةٍ جدًّا، وَغَيرهم قد يكذب بهَا، أَو يجْزم بكذبها، دع مَن يجهلها أَو يشكّ فِيهَا.

وَتارَةً بفهم النُّصُوص وَمَعْرِفَة دلالتها، فَمَا أَكثر مَن يجهل معنى النَّص، أَو يشكّ فِيهِ، أَو يفهم مِنْهُ نقيضه، أَو يذهل عَنهُ، أَو يعجز ذهنه عَن دركه، وَيكون الآخرُ قد فهم من ذَلِك النَّص وَعلم مِنْهُ مَا يقطع بِهِ.

وَتارَةً بِإِجْمَاع علمه من إجماعات الصَّحَابَة وَغَيرهَا، ثمَّ بعد ذَلِك تَارَةً بِقِيَاسٍ قطعيٍّ، فَإِنَّ الْقيَاسَ نَوْعَانِ: قطعي وظني، كَمَا فِي الْقيَاس الَّذِي هُوَ فِي معنى الأَصْل قطعًا، بِحَيْثُ لَا يكون بَينهمَا فرقٌ تأتي بِهِ الشَّرِيعَة، أَو يكون أولى بالحكم مِنْهُ قطعًا.

وَتارَةً بتحقيق المناط: وَهَذَا يعود إِلَى عود فهم معنى النَّص، بِأَن يعرف ثُبُوت المناط الَّذِي لَا شكَّ فِيهِ فِي الْمُعين وَغَيره، يشكّ فِي ذَلِك، كَمَا يقطع الرجلُ فِي الْقصاص وإبدال الْمُتْلفَات بِأَنَّ هَذَا أقرب إِلَى الْمثل وَالْعَدْل من كَذَا وَغَيره فِيهِ، أَو يعْتَقد خِلَافه، وأمثال ذَلِك.

فصلٌ

وَكَذَلِكَ لفظ "الْحَرَكَة" أثْبتَه طوائف من أهل السُّنة والْحَدِيث، وَهُوَ الَّذي ذكره حَرْب بن إسماعيل الْكِرْمَانِي فِي السّنة الَّتِي حَكَاهَا عَن الشُّيُوخ الَّذين أدركهم: كالحميدي، وَأحمد بن حَنْبَل، وَسَعِيد بن مَنْصُور، وَإِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم، وَكَذَلِكَ هُوَ الَّذِي ذكره عُثْمَانُ بن سعيد الدَّارمي فِي نقضه على بشر المريسي، وَذكر أَنَّ ذَلِك مَذْهَب أهل السّنة، وَهُوَ قَول كثيرٍ من أهل الْكَلَام والفلسفة من الشِّيعَة والكرامية والفلاسفة الْأَوَائِل والمتأخرين: كَأبي البركات صَاحب "الْمُعْتَبر" وَغَيرهم.

ونفاه طوائف، مِنْهُم: أَبُو الْحسن التَّمِيمِي، وَأَبُو سُلَيْمَان الْخطابِيّ، وكل مَن أثْبَت حُدُوث الْعَالم بحدوث الْأَعْرَاض: كأبي الْحسن الْأَشْعَرِيّ، والقاضي أبي بكر ابن الباقلاني، وأبي الْوَفَاء ابن عقيل، وَغَيرهم مِمَّن سلك فِي إِثْبَات حُدُوث الْعَالم هَذِه الطَّرِيقَة الَّتِي أَنْشَأَهَا قبلهم الْمُعْتَزلَة، وَهُوَ أَيْضًا قَول كثيرٍ من الفلاسفة الْأَوَائِل والمتأخرين: كابن سيناء وَغَيره.

وَالْمَنْصُوص عَن الإِمَام أَحْمد إِنْكَار نفي ذَلِك، وَلم يثبت عَنهُ إِثْبَات لفظ "الْحَرَكَة"، وَإِن أثبت أنواعًا قد يُدرجها الْمُثبت فِي جنس الْحَرَكَة، فَإِنَّهُ لما سمع شخصًا يَرْوي حَدِيث النُّزُول وَيَقُول: "ينزل بِغَيْر حَرَكَةٍ وَلَا انْتِقَالٍ وَلَا بِغَيْر حَالٍ" أنكر أَحْمدُ ذَلِك وَقَالَ: قل كَمَا قَالَ رَسُولُ الله ﷺ، فَهُوَ كَانَ أغير على ربِّه مِنْك.

وَقد نقل فِي رِسَالَةٍ عَنهُ إِثْبَات لفظ "الْحَرَكَة" مثلمَا فِي العقيدة الَّتِي كتبهَا حَرْبُ بن إسماعيل، وَلَيْسَت هَذِه العقيدة ثَابِتَةً عَن الإِمَام أَحْمد بألفاظها، فإني تَأَمَّلتُ لَهَا ثَلَاثَة أَسَانِيد مُظْلمَة بِرِجَال مَجَاهِيل، والألفاظ هِيَ أَلْفَاظ حَرْب بن إِسْمَاعِيل، لَا أَلْفَاظ الإِمَام أَحْمد، وَلم يذكرهَا المعنيون بِجمع كَلَام الإِمَام أَحْمد: كَأبي بكر الْخلال فِي كتاب "السّنة"، وَغَيره من الْعِرَاقِيّين الْعَالمين بِكِتَاب أَحْمد، وَلَا رَوَاهَا المعروفون بِنَقْل كَلَام الإِمَام، لَا سِيمَا مثل هَذِه الرسَالَة الْكَبِيرَة، وَإِن كَانَت راجت على كثيرٍ من الْمُتَأَخِّرين.

وَقد نقل حَنْبَلُ عَن أحْمَد فِي كتاب "المحنة" أَنه تَأَوَّل قَوْله: هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ [البقرة:210]، فَإِنَّ الْجَهْمِية الَّذين ناظروه احْتَجُّوا على خلق الْقُرْآن بقول النَّبِي ﷺ بِأَنَّ الْبَقَرَة وَآل عمرَان تأتيان يَوْم الْقِيَامَة كَأَنَّهُمَا غمامتان، أَو غيايتان، أَو فرقان من طيرٍ صوافٍّ، تُحاجان عَن صَاحبهمَا، وَمَا يجِيء إِلَّا مَخْلُوق.

فَقَالَ الإِمَامُ أَحْمد: فقد قَالَ الله تَعَالَى: هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ، فَهَل يجِيء الله؟! إِنَّمَا يجِيء أمره، كَذَلِك هُنَا إِنَّمَا يجِيء ثَوَابُ الْقُرْآن.

فَاخْتلف أَصْحَابنَا فِي هَذِه الرِّوَايَة على خمس طرقٍ، وَقَالَ قومٌ: غلط حَنْبَل فِي نقل هَذِه الرِّوَايَة. وحنبل لَهُ مفاريد ينْفَرد بهَا من الرِّوَايَات فِي الْفِقْه، والجماهير يروون خِلَافه.

وَقد اخْتلف الْأَصْحَابُ فِي مفاريد حَنْبَل الَّتِي خَالفه فِيهَا الْجُمْهُور: هَل تثبت رِوَايَته؟ على طَرِيقين:

فالخلال وَصَاحبه قد يُنكرانها، ويُثبتها غَيرهمَا: كَابْن حَامِد.

وَقَالَ قومٌ مِنْهُم: إِنَّمَا قَالَ ذَلِك إلزامًا للمُنازعين لَهُ، فَإِنَّهُم يتأوَّلون مجيء الرب بمجيء أمره. قَالَ: فَكَذَلِك قُولُوا: يجِيء كَلَامه، يجيء ثَوَابه. وَهَذَا قريب.

وَقَالَ قومٌ مِنْهُم: بل هَذِه الرِّوَايَة ثابتة فِي تَأْوِيل مَا جَاءَ من جنس الْحَرَكَة والإتيان وَالنُّزُول، فيتأول على هَذِه الرِّوَايَة بِالْقَصْدِ والعمد لذَلِك. وَهَذِه طَريقَة ابْن الزَّاغُونِيّ وَغَيره.

وَقَالَ قومٌ: بل يتَأَوَّل بمجيء ثَوَابه. وَهَؤُلَاء جعلُوا الرِّوَايَة فِي جنس الْحَرَكَة، دون بَقِيَّة الصِّفَات.

وَقَالَ قومٌ مِنْهُم ابْن عقيل وَابْن الجوزي: بل يتَعَدَّى الحكمُ من هَذِه الصِّفة إِلَى سَائِر الصِّفَات الَّتِي تُخَالف ظَاهرهَا؛ للدليل الْمُوجب لمُخَالفَة الظَّاهِر.

وَبِكُل حَالٍ فَالْمَشْهُور عِنْد أَصْحَاب الإِمَام أَحْمد أَنهم لَا يتأوَّلون الصِّفَات الَّتِي من جنس الْحَرَكَة: كالمجيء، والإتيان، وَالنُّزُول، والهبوط، والدُّنو، والتَّدلي، كَمَا لَا يتأوَّلون غَيرهَا مُتَابعَةً للسَّلف الصَّالح، وَكَلَام السَّلف فِي هَذَا الْبَاب يدل على إثبات الْمَعْنى الْمُتَنَازع فِيهِ.

قَالَ الأوزاعي لما سُئِلَ عَن حَدِيث النُّزُول: يفعل الله ما يشاء.

وَقَالَ حَمَّاد بن زيد: يدنو من خلقه كَيفَ شَاءَ. وَهُوَ الَّذِي حَكَاهُ الْأَشْعَرِيُّ عَن أهل السُّنة والْحَدِيث.

وَقَالَ الفُضيل بن عِيَاض: إِذا قَالَ لَك الجهمي: أَنا أكفر بِرَبٍّ يَزُول عَن مَكَانه. فَقل: أَنا أُؤْمِن بِرَبٍّ يفعل مَا يَشَاء.

وَقَالَ أَبُو عبدالله أحْمَد بن سعيدٍ الرباطي: حضرتُ مجْلِسَ الْأَمِير عبدالله بن طَاهِر، وَحضر إِسْحَاقُ بن رَاهَوَيْه، فَسُئِلَ عَن حَدِيث النُّزُول: صَحِيحٌ هُوَ؟ قَالَ: نعم. فَقَالَ لَهُ بعضُ قواد عبدالله: يَا أَبَا يَعْقُوب، أتزعم أَنَّ الله ينزل كل لَيْلَةٍ؟ قَالَ: نعم. قَالَ: كَيفَ ينزل؟ قَالَ لَهُ إِسْحَاقُ: أَثْبته حَتَّى أصف لَك النُّزُول. فَقَالَ لَهُ الرجلُ: أُثْبته. قَالَ لَهُ إِسْحَاق: قَالَ الله تَعَالَى: وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا [الفجر:22]. فَقَالَ الْأَمِير عبدالله بن طَاهِر: يَا أَبَا يَعْقُوب، هَذَا يَوْم الْقِيَامَة! فَقَالَ إِسْحَاق: أعزَّ اللهُ الْأَمِيرَ، وَمن يجِيء يَوْم الْقِيَامَة مَن يمنعهُ الْيَوْم؟!

وَقَالَ حَرْبُ بن إِسْمَاعِيل: سَمِعتُ إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم يَقُول: لَيْسَ فِي النُّزُول وصفٌ.

الشيخ: والمعنى في هذا أنه يثبت كما جاء، فيُقال: ينزل ربُّنا إلى السَّماء الدنيا حين يبقى ثلثُ الليل الآخر، ولا يُزاد على ذلك، كما يشاء بلا كيفٍ، ينزل كيف يشاء بلا كيفٍ، لا يعلم كيفية ذلك إلا هو ، فعلينا أن نقول كما قال النبيُّ ﷺ، ولا نزيد على ذلك، وهكذا استواؤه على العرش بلا كيفٍ، لا نُكيف صفاته، وهكذا يرحم مَن يشاء بلا كيفٍ، ويسمع بلا كيفٍ، ويُبصر بلا كيفٍ، فالكيف ليس إلينا، الله الذي يعلمه ، إنما علينا إثبات ما أثبته الله ورسوله من الصِّفات، وكما أنا نُثبت أنه سميع بصير، عليم حكيم قادر، يتكلم إذا شاء، ويرحم مَن شاء من عباده، ويضحك إذا شاء، ويرضى، إلى غير ذلك، هكذا استواؤه على عرشه، وهكذا نزوله، وهكذا مجيئه يوم القيامة كما يشاء بلا كيفٍ، بل على الصِّفة التي يفعلها وتليق به .

س: .................؟

ج: الصواب في هذا أنَّ هذا الوصفَ لجبرائيل، وجاء في بعض الرِّوايات ما يدل على أنه وصفٌ لله، لكن على الوجه اللائق بالله إن صحَّ، ولكن المحفوظ أنه من صفة جبرائيل يعني: قَابَ قَوْسَيْنِ [النجم:9] يعني: جبرائيل عليه السلام نزل بالوحي، عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى [النجم:5] هذا جبرائيل، ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى ۝ وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى ۝ ثُمَّ دَنَا يعني جبرائيل فَتَدَلَّى ۝ فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى ۝ فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ [النجم:6- 10] إلى عبدالله.

س: ما رأي شيخ الإسلام؟

ج: رأى بالرِّواية الأخرى، يعني على قول مَن قال بالرِّواية الأخرى.

س: ................؟

ج: لا، عن رواية حرب بن إسماعيل.

س: ................؟

ج: عدم الزيادة، تُروى النصوص كما جاءت من دون زيادةٍ؛ ولهذا أنكر الإمامُ أحمد على مَن قال: بغير حركةٍ. لا تنكر، ولا تثبت، مثل: الجسم، شيء ما وُجد نفيه ولا إثباته يُتوقف عنه، لا ينكر، ولا يثبت.

س: التَّدلي وارد وإلا ما هو بواردٍ؟

ج: هذا وصفٌ لجبرائيل.

قَالَ: وَقَالَ إِسْحَاقُ: لَا يجوز الْخَوْض فِي أَمر الله كَمَا يجوز الْخَوْض فِي أَمر المخلوقين؛ لقَوْل الله تَعَالَى: لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ [الأنبياء:23]، وَلَا يجوز أَن يتَوَهَّم على الله بصفاته وفعاله بفهم مَا يجوز التَّفكر وَالنَّظَر فِيهِ من أَمر المخلوقين، وَذَلِكَ أَنه يُمكن أَن يكون اللهُ مَوْصُوفًا بالنزول كل لَيْلَةٍ إِذا مضى ثلثُهَا إِلَى السَّمَاء الدُّنْيَا كَمَا شَاءَ، وَلَا يُسْأَل كَيفَ نُزُوله؛ لِأَنَّ الْخَالِق يصنع مَا شَاءَ كَمَا شَاءَ.

فصلٌ

وَقد اعْترف أَكثرُ أَئِمَّة أهل الْكَلَام والفلسفة من الْأَوَّلين والآخرين بِأَنَّ أَكثر الطرائق الَّتِي سلكوها فِي أُمُور الربوبية بالأقيسة الَّتِي ضربوها لَا تُفضي بهم إِلَى الْعِلم وَالْيَقِين، وَفِي الْأُمُور الإلهية مثل: تكلمهم بِالْجِنْسِ وَالْعَرض فِي دلائلهم ومسائلهم.

فَأَما الأول: فقد ذكرنَا فِي غير هَذَا الْمَوضع مقَالَةَ أساطين الفلسفة من الْأَوَائِل أَنَّهم قَالُوا: الْعِلم الإلهي لَا سَبِيلَ فِيهِ إِلَى الْيَقِين، وَإِنَّمَا يتَكَلَّم فِيهِ بِالْأولَى والأحرى والأخلق. وَلِهَذَا اتّفق كلُّ مَن خبر مقَالَة هَؤُلَاءِ المتفلسفة فِي الْعِلم الإلهي أَنَّ غالبه ظنون كَاذِبَة، وأقيسة فَاسِدَة.

الشيخ: لأنهم لا يعلمون ما جاءت به الرسل، هؤلاء الفلاسفة ما عندهم إلا الظنون والخرص، أما أتباع الرسل فهم يعلمون ذلك يقينًا بالنصوص، بالأدلة، فأتباع الرسل تلقوا عن الرسل، وأخذوا عن الرسل ما جاءوا به عن علمٍ ويقينٍ، وهكذا أتباع محمدٍ ﷺ أخذوا ما جاء به ﷺ عن علمٍ ويقينٍ من كتاب الله، ومن السنة الصَّحيحة، بالأسانيد الصَّحيحة، فكان ذلك .....

وَلِهَذَا اتّفق كلُّ مَن خبر مقَالَة هَؤُلَاءِ المتفلسفة فِي الْعِلم الإلهي أَنَّ غالبه ظنون كَاذِبَة، وأقيسة فَاسِدَة، وَأَنَّ الَّذِي فِيهِ من الْعِلم الْحقِّ قَلِيل.

وَأما اعْتِرَاف المتكلمة من الإسلاميين فكثيرٌ، قد جمع الْعُلمَاء فِيهِ شَيْئًا، وَذكروا رُجُوعَ أكابرهم عَمَّا كَانُوا يَقُولُونَهُ، وتوبتهم: إِمَّا عِنْد الْمَوْت، وَإِمَّا قبل الْمَوْت، وَهَذَا من أَسبَاب الرَّحْمَة إِن شَاءَ الله تَعَالَى فِي هَذِه الْأمة، فَإِن الله يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ [الشورى:25].

وَهَذَا أصحّ الْقَوْلَيْنِ فِي قبُول تَوْبَة الدَّاعي، لَكِن بَقَاء كَلَامهم وكتبهم وآثارهم محنة عَظِيمَة فِي الْأُمَّة، وفتنة عَظِيمَة لمن نظر فِيهَا، وَلَا حولَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّه.

وَقد قَالَ أبو حَامِد الْغَزالِيّ فِي الْكِتاب الَّذِي سَمَّاهُ "إحْيَاء عُلُوم الدِّين"، وَهُوَ من أجلِّ كتبه، قَالَ: فَإِن قلتَ: تعلم الجدل وَالْكَلَام مَذْمُومٌ كتعلم النُّجُوم، أَو هُوَ مُبَاح: كتعلم الطِّبّ، أَو مَنْدُوب إِلَيْهِ؟

فَاعْلَم أَنَّ للنَّاس فِي هَذَا غلوًّا وإسرافًا فِي أَطْرَافٍ:

فَمن قَائِلٍ: إِنَّه بِدْعَة وَحرَام، وَإِنَّ العَبْد أَن يلقى الله بِكُل ذَنْبٍ مَا خلا الشِّرك خيرٌ لَهُ من أَن يلقاه بالْكلَام.

وَمن قَائِلٍ: إِنَّه وَاجِبٌ وَفرضٌ: إِمَّا على الْكِفَايَة، وَإِمَّا على الْأَعْيَان، وَإنَّهُ أفضل الْأَعْمَال، وَأَعْلَى القُربات، فَإِنَّهُ تَحْقِيق لعلم التَّوْحِيد، ونضال عَن دين الله.

قَالَ: وَإِلَى التَّحْرِيم ذهب الشَّافِعِي، وَمَالك، وَأَبُو حنيفَة، وَأحمد بن حَنْبَل، وسُفْيَان الثَّوري، وَجَمِيع أَئِمَّة السَّلف. وسَاق ألفاظًا عَن هَؤُلَاءِ.

قَالَ: وَاتَّفقَ أهلُ الحَدِيث من السَّلف على هَذَا، وَلَا ينْحَصر مَا نُقِل عَنْهُم من التَّشديدات فِيهِ.

الشيخ: يعني في ذمِّ الكلام والتَّحذير منه، وما عليه الفلاسفة، وأنهم أجمعوا على هذا : مالك، والشافعي، وأحمد، وأبو حنيفة، وأئمة السلف، كلهم عابوا الكلام وذمُّوه، وأمروا باتِّباع الكتاب والسنة، والوقوف عندهما.

قَالَ: وَاتَّفقَ أهلُ الحَدِيث من السَّلف على هَذَا، وَلَا ينْحَصر مَا نُقل عَنْهُم من التَّشديدات فِيهِ.

وَقَالُوا: مَا سكت عَنهُ الصَّحَابَةُ مَعَ أَنَّهم أعرفُ بالحقائق، وأفصح بترتيب الْأَلْفَاظ من غَيرهم، إِلَّا لعلمهم بِمَا يتَوَلَّد مِنْهُ من الشَّرِّ.

فصلٌ

فِيمَا ذكره الشَّيْخُ أَبُو الْقَاسِم القُشيري فِي رسَالَته الْمَشْهُورَة من اعْتِقَاد مَشَايِخ الصُّوفِيَّة

فَإِنَّهُ ذكر من مُتفرِّقات كَلَامهم مَا يُسْتَدلُّ بِهِ على أنَّهم كَانُوا يُوافقون اعْتِقَاد كثيرٍ من الْمُتَكَلِّمين الأشعرية، وَذَلِكَ هُوَ اعْتِقَاد أبي الْقَاسِم الَّذِي تَلقاهُ عَن أبي بكر ابن فورك، وَأبي إِسْحَاق الإِسْفِرَايِينِيّ.

وَهَذَا الِاعْتِقَاد غالبه مُوَافقٌ لأصول السَّلف وَأهل السُّنة وَالْجَمَاعَة، لكنه مُقصر عَن ذَلِك، ومُتضمن ترك بعض مَا كَانُوا عَلَيْهِ، وَزِيَادَة تُخَالف مَا كَانُوا عَلَيْهِ.

وَالثَّابِت الصَّحِيح عَن أكَابِر الْمَشَايِخ يُوَافِق مَا كَانَ عَلَيْهِ السَّلف، وَهَذَا هُوَ الَّذِي كَانَ يجب أَن يُذكر، فَإِنَّ فِي الصَّحِيح الصَّرِيح الْمَحْفُوظ عَن أكابر الْمَشَايِخ مثل: الفُضيل بن عِيَاض، وَأبي سُلَيْمَان الدَّارَانِي، ويوسف بن أَسْبَاط، وَحُذَيْفَة المرعشي، ومعروف الْكَرْخِي، إِلَى الْجُنَيْد بن مُحَمَّد، وَسَهل بن عبدالله التّسترِي، وأمثال هَؤُلَاءِ مَا يُبين حَقِيقَة مقالات الْمَشَايِخ.

وَقد جمع كَلَام الْمَشَايِخ: إِمَّا بِلَفْظِهِ، أَو بِمَا فهمه هُوَ غيرُ وَاحِدٍ: فصنَّف أَبُو بكر مُحَمَّد بن إِسْحَاق الْكلاباذي كتاب "التَّعرف لمذاهب التصوف"، وَهُوَ أَجود مِمَّا ذكره أَبُو الْقَاسِم، وأصوب، وَأقرب إِلَى مَذْهَب سلف الْأمة وأئمّتها وأكابر مشايخها، وَكَذَلِكَ معمر بن زِيَاد الْأَصْفَهَانِي شيخ الصُّوفِيَّة، وأبو عبدالرَّحْمَن مُحَمَّد بن الْحسن السّلمِيّ جَامع كَلَام الصُّوفِيَّة، هما فِي ذَلِك أَعلَى دَرَجَةً، وَأبْعد عَن الْبِدْعَة والهوى من أَبي الْقَاسِم.

وَأَبُو عبدالرَّحْمَن وَإِن كَانَ أدنى الرَّجلَيْن، فقد كَانَ يُنكِر مَذْهَب الْكلابِيَّة ويُبدعهم، وَهُوَ الْمَذْهَب الَّذِي ينصره أَبُو الْقَاسِم، وَله فِي ذمِّ الْكَلَام مُصَنَّفٌ يُخَالف مَا ينصره أَبُو الْقَاسِم، وَأَبُو عبدالرَّحْمَن أجلّ مَن أَخذ عَنهُ أَبُو الْقَاسِم كَلَام الْمَشَايِخ، وَعَليهِ يعْتَمد فِي أَكثر مَا يحكيه، فَإِنَّ لَهُ مُصنفات مُتعَدِّدَة.

وَكَذَلِكَ عَامَّة الْمَشَايِخ الَّذين سمَّاهم أَبُو الْقَاسِم فِي رسَالَته لَا يعرف عَن شيخٍ مِنْهُم أَنه كَانَ ينصر طَريقَة الْكلابِيَّة والأشعرية الَّتِي نصرها أَبُو الْقَاسِم، بل الْمَحْفُوظ عَنْهُم خلافهم، وَمَن صرَّح مِنْهُم فَإِنَّمَا يُصَرح بِخِلَافِهَا، حَتَّى شُيُوخ عصره الَّذين سمَّاهم حَيْثُ قَالَ: فَأَما الْمَشَايِخ الَّذين عاصرناهم، وَالَّذين أدركناهم، وَإِن لم يتَّفق لنا لُقياهم، مثل: الْأُسْتَاذ الشَّهِيد، لِسَان وقته، وَوَاحِد عصره: أَبي علي الدقاق، وَالشَّيْخ -شيخ وقته- أَبي عبدالرَّحْمَن السّلمي، وأبي الْحسن علي بن جَهْضَم -مجاور الْحرم- وَالشَّيْخ أَبي الْعَبَّاس القصّاب بطبرستان، وَأحمد الأسود الدّينَوَرِي، وأبي الْقَاسِم الصّيرفي بنيسابور، وأبي سهل الخشاب الْكَبِير بهَا، وَمَنْصُور بن خلف المغربي، وأبي سعيدٍ الْمَالِينِي، وأبي طَاهِر الجحدري -قدَّس الله أرواحهم- وَغَيرهم.

فَإِنَّ هَؤُلَاءِ الْمَشَايِخ مثل: أَبي الْعَبَّاس القصّاب، لَهُ من التَّصانيف الْمَشْهُورَة فِي السُّنة وَمُخَالفَة طَريقَة الْكلابِيَّة الأشعرية مَا لَيْسَ هَذَا مَوْضِعه.

وَكَذَلِكَ سَائِر شُيُوخ الْمُسلمين من الْمُتَقَدِّمين والمتأخرين الَّذين لَهُم لِسَان صدقٍ فِي الْأمة، كَمَا ذكر الشَّيْخ يحيى بن يُوسُف الصرصري، ونظمه فِي قصائده عَن الشَّيْخ علي بن إِدْرِيس شَيْخه: أَنه سَأَلَ قطب العارفين: أَبَا مُحَمَّد عبدالْقَادِر بن عبدالله الجيلي فَقَالَ: يَا سَيِّدي، هَل كَانَ لله وليٌّ على غير اعْتِقَاد أَحْمد بن حَنْبَل؟ فَقَالَ: مَا كَانَ، وَلَا يكون.

وَكَذَلِكَ نقل الشَّيْخ شهَاب الدِّين أَبُو حَفْص عمر بن مُحَمَّد السّهروردي، وحدَّثنيه عَنهُ الشَّيْخ عزّ الدّين عبدالله بن أَحْمد بن عمر الفاروثي: أَنه سمع هَذِه الْحِكَايَة مِنْهُ، ووجدتُها مُعلَّقَةً بِخَط الشَّيْخ مُوفق الدِّين أبي مُحَمَّد ابن قُدامَة المقدسي.

قَالَ السّهروردي: كنتُ عزمتُ على أَن أَقْرَأ شَيْئًا من علم الْكَلَام، وَأَنا مُتَرَدّد: هَل أَقرَأ "الْإِرْشَاد" لإِمَام الْحَرَمَيْنِ، أَو "نِهَايَة الْإِقْدَام" للشّهرستاني، أَو كتاب شَيْخه؟ فَذَهَبتُ مَعَ خَالِي أبي النّجيب، وَكَانَ يُصلي بِجنب الشَّيْخ عبدالْقَادِر. قَالَ: فَالْتَفت الشَّيْخُ عبدالْقَادِر وَقَالَ لي: يَا عمر، مَا هُوَ من زَاد الْقَبْر، مَا هُوَ من زَاد الْقَبْر. فَرَجَعتُ عَن ذَلِك.

الشيخ: يعني علم الكلام ما هو من زاد القبر، علم كثير لا تعلمه، دعه، فإنه ليس من زاد القبر، وإنما زاد القبر تعلم الكتاب والسنة، والعمل بهما، هذا هو الزاد الذي تحصل به النَّجاة يوم وضع الإنسان في قبره.

فَرَجَعتُ عَن ذَلِك.

فَأَخْبر أَنَّ الشَّيْخ كاشفه بِمَا كَانَ فِي قلبه، وَنَهَاهُ عَن الْكَلَام الَّذِي كَانَ يُنْسب إِلَيْهِ القُشيري وَنَحْوه.

وَكَذَلِكَ حَدَّثنِي الشَّيْخُ أَبُو الْحسن ابن غَانِم أَنه سمع خَالَه الشَّيْخ إِبْرَاهِيم بن عبدالله الأرميني: أَنه كَانَ لَهُ مُعلم يُقرئه، وَأَنَّه أقرأه اعْتِقَاد الأشعرية الْمُتَأَخِّرين، قَالَ: فَكنتُ أُكرر عَلَيْهِ، فَسمع وَالَّذِي.

الشيخ: لعلها: والدي.

فسمع والدي وَالشَّيْخ عبدالله الأرميني، قَالَ: فَقَالَ: مَا هَذَا يَا إِبْرَاهِيم؟ فَقلتُ: هَذَا علَّمنيه الْأُسْتَاذ. فَقَالَ: يَا إِبْرَاهِيم، اترك هَذَا؛ فقد طفتُ الأَرْضَ، وَاجْتمعتُ بِكَذَا وَكَذَا ولي لله، فَلم أجد أحدًا مِنْهُم على هَذَا الِاعْتِقَاد، وَإِنَّمَا وجدتُه على اعْتِقَاد هَؤُلَاءِ. وَأَشَارَ إِلَى جِيرَانه أهل الحَدِيث وَالسُّنة من المقادسة الصَّالِحين إِذْ ذَاك.

وحَدَّثني أَيْضًا الشَّيْخ مُحَمَّد ابن أبي بكر ابن قوام: أَنه سمع جدَّه الشَّيْخ أَبَا بكر ابن قوام يَقُول: إِذا بلغك عَن أهل الْمَكَان الفلاني -سَمَّاهُ لي الشَّيْخُ مُحَمَّد- إِذا بلغك أَنَّ فيهم رجلًا مُؤمنًا أَو رجلًا صَالحًا فَصدِّق، وَإِذا بلغك أَنَّ فيهم وليًّا لله فَلَا تُصدق. فَقلتُ: وَلم يَا سَيِّدي؟ قَالَ: لأَنهم أشعرية.

وَهَذَا بَابٌ وَاسعٌ.

وَمَن نظر فِي عقائد الْمَشَايِخ الْمَشْهُورين مثل: الشَّيْخ عبدالْقَادِر، وَالشَّيْخ عدي بن مُسَافر، وَالشَّيْخ أبي الْبَيَان الدِّمَشْقِي، وَغَيرهم، وجد من ذَلِك كثيرًا، وَوجد أَنه مَن ذهب إِلَى مَذْهَب شيءٍ من أهل الْكَلَام -وَإِن كَانَ مُتأوِّلًا- فَفِيهِ نقصٌ وانحطاطٌ عَن دَرَجَة أَوْلِيَاء الله الكاملين، وَوجد أَنه مَن كَانَ نَاقِصًا فِي معرفَة اعْتِقَاد أهل السُّنة واتِّباعه ومحبَّته، وَبَعض مَا يُخَالف ذَلِك وذمّه، بِحَيْثُ يكون خَالِيًا عَن اعْتِقَاد كَمَال السُّنة، واعتقاد الْبِدْعَة؛ تَجدهُ نَاقِصًا عَن دَرَجَة أَوْلِيَاء الله الرَّاسخين فِي معرفَة اعْتِقَاد أهل السُّنة وَاتِّبَاع ذَلِك، وَقد جعل اللهُ لكل شيءٍ قدرًا.

وَمَا ذكره أَبُو الْقَاسِم فِي رسَالَته من اعْتِقَادهم وأخلاقهم وطريقتهم فِيهِ من الْخَيْر وَالْحقِّ وَالدِّين أَشْيَاء كَثِيرَة، وَلَكِن فِيهِ نقصٌ عَن طَريقَة أَكثر أَوْلِيَاء الله الكاملين، وهم نقاوة الْقُرُون الثَّلَاثَة، وَمَن سلك سبيلهم وَلم يذكر فِي كِتَابه أَئِمَّة الْمَشَايِخ من الْقُرُون الثَّلَاثَة، وَمَعَ مَا فِي كِتَابه من الْفَوَائِد فِي المقولات والمنقولات، فَفِيهِ أَحَادِيث وَأَحَادِيث ضَعِيفَة، بل بَاطِلَة، وَفِيه كَلِمَات مجملة، تحْتَمل الْحقَّ وَالْبَاطِلَ، رِوَايَةً ورأيًا، وَفِيه كَلِمَات بَاطِلَة فِي الرَّأْي وَالرِّوَايَة، وَقد جعل اللهُ لكل شيءٍ قدرًا.

وَقَالَ تَعَالَى: كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا [النساء:135].

الشيخ: وهذا كله مقصوده رحمه الله أنَّ أهل الكلام وإن وُجد في كلامهم شيءٌ من الحقِّ، وشيءٌ من الخير، لكن يكون فيه من الأغلاط والشُّرور ما يُسبب ضلال مَن تأمل ومَن اعتنق الوقوع في الحيرة، فيقع في كلماتهم كلمات مجملة، تحتمل الحقَّ والباطل، ويقع في كلماتهم أشياء مُنكرة، لا يجوز وصف الله بها، ويقع في كلامهم الأحاديث الموضوعة والضَّعيفة، لا يعرفونها؛ فلهذا وجب على طالب الحقِّ الحذر من كلام أهل الكلام، والدُّخول في كتبهم وقراءتها؛ لما فيها من الشَّر الكثير، اللهم إلا مَن أعطاه الله علمًا واسعًا، فأراد الردَّ عليهم، وبيان أباطيلهم، فلا بأس، وإلا فالدخول في كلامهم وقراءة كتبهم كله لا يأتي إلا بالشَّر، وإنما السَّلامة والنَّجاة في قراءة أهل السنة، أهل الحديث الشريف الذين عنوا بالقرآن والسنة، ورغبوا عن كلام أهل الكلام: من الجوهر والعرض، وما يتعلق بالحركة وضد الحركة مما يتكلمون فيه، ويُعرضون عن الكتاب والسُّنة، وهم يصفون اللهَ جلَّ وعلا بصفات عند أنفسهم أحدثوها واخترعوها، هذا هو الذي أوقعهم في الباطل.

فَكتبتُ من تَمْيِيز ذَلِك مَا يسَّره اللهُ، وَاجْتَهَدتُ فِي اتِّبَاع سَبِيل الْأُمة الْوسط الَّذين هم شُهَدَاء على النَّاس، دون سَبِيل مَن قد يرفعهُ فَوق قدره فِي اعْتِقَاده وتصوفه، على الطَّرِيقَة الَّتِي هِيَ أكمل وَأَصَحّ مِمَّا ذكره علمًا، وَحَالًا، وقولًا، وَعَملًا، واعتقادًا، واقتصادًا، أَو يحطّه دون قدره فيهمَا مِمَّن يُسرف فِي ذمِّ أهل الْكَلَام، أَو يذمّ طَريقَة التَّصوف مُطلقًا، وَالله أعلم.

وَالَّذِي ذكره أَبُو الْقَاسِم فِيهِ الْحَسن الْجَمِيل الَّذِي يجب اعْتِقَاده واعتماده، وَفِيه الْمُجْمَل الَّذِي يَأْخُذه المحقُّ والمبطلُ، وَهَذَانِ قريبان، وَفِيه منقولات ضَعِيفَة، ونقول عَمَّن لَا يُقْتَدى بهم فِي ذَلِك، فهذان مردودان. وَفِيه كَلَام حمله على معنًى، وَصَاحبه لم يَقْصد نفس مَا أَرَادَهُ هُوَ.

ثمَّ إِنَّه لم يذكر عَنْهُم إِلَّا كَلِمَات قَليلَة لَا تشفي فِي هَذَا الْبَاب، وعنهم فِي هَذَا الْبَاب من الصَّحِيح الصَّرِيح الْكَبِير مَا هُوَ شِفَاء للمُقتدي بهم، الطَّالِب لمعْرِفَة أصولهم، وَقد كتبتُ هُنَا نكتًا يُعرف بهَا الْحَال.

قَالَ القُشيري رَحمَه الله: اعلموا أَنَّ شُيُوخ هَذِه الطَّائِفَة بنوا قَوَاعِدَ أَمرهم على أصُولٍ صَحِيحَةٍ فِي التَّوْحِيد، صانوا بهَا عقائدهم عَن الْبِدَع، ودانوا بِمَا وجدوا عَلَيْهِ السَّلف وَأهل السُّنة من تَوْحِيدٍ لَيْسَ فِيهِ تَمْثِيلٌ وَلَا تَعْطِيلٌ.

قلتُ: هَذَا كَلَام صَحِيح؛ فَإِنَّ كَلَام أَئِمَّة الْمَشَايِخ الَّذين لَهُم فِي الْأُمة لِسَان صدقٍ كَانُوا على مَا كَانَ عَلَيْهِ السّلف وَأهل السُّنة من تَوْحِيدٍ لَيْسَ فِيهِ تَمْثِيلٌ، وَلَا تَعْطِيلٌ، وَهَذِه الْجُمْلَة يتَّفق على إِطْلَاقهَا عَامَّة الطوائف المنتسبين إِلَى السُّنة، وَإِن تنازعوا فِي مَوَاضِع: هَل هِيَ تَمْثِيلٌ أَو تَعْطِيلٌ؟

قَالَ أَبُو الْقَاسِم: عرفُوا مَا هُوَ حقّ الْقدَم، وتحقَّقوا بِمَا هُوَ نعت الْمَوْجُود عَن الْعَدَم، وَكَذَلِكَ قَالَ سيدُ هَذِه الطَّائِفَة الْجُنَيْد : التَّوْحِيد: إِفْرَاد الْقدَم من الْحَدث.

قلتُ: هَذَا الْكَلَام فِيهِ إِجْمَالٌ، والمحقّ يحملهُ محملًا حسنًا، وَغير المحقّ يُدْخِل فِيهِ أَشْيَاء.

والقُشيري مَقْصُوده: مَا يذكرهُ أهلُ الْكَلَام من تَنْزِيه الْقَدِيم عَن خَصَائِص المحدثات، وَهَذَا مُتَّفقٌ عَلَيْهِ بَين الْمُسلمين، لَكِن التَّنَازُع بَينهم فِي كثيرٍ من الصِّفَات: هَل هِيَ من خَصَائِص المحدثات الَّتِي يجب تَنْزِيه الْقَدِيم عَنْهَا، أَو هِيَ من لَوَازِم الْوُجُود الَّتِي يكون نَفيُهَا تعطيلًا؟

وَأما الْجُنَيْد فمقصوده: التَّوْحِيد الَّذِي يُشِير إِلَيْهِ الْمَشَايِخُ، وَهُوَ التَّوْحِيد فِي الْقَصْد والإرادة، وَمَا يَدْخل فِي ذَلِك من الْإِخْلَاص والتَّوكل والمحبَّة، وَهُوَ أن يُفرد الْحقّ سُبْحَانَهُ -وَهُوَ الْقَدِيم- بِهَذَا كُلِّه، فَلَا يشركهُ فِي ذَلِك مُحدَث، وتمييز الربّ من المربوب فِي اعتقادك وعبادتك، وَهَذَا حقّ صَحِيح، وَهُوَ دَاخلٌ فِي التَّوْحِيد الَّذِي بعث الله بِهِ رسله، وَأنزل بِهِ كتبه.

وَمِمَّا يَدْخل فِي كَلَام الْجُنَيْد تَمْيِيز الْقَدِيم عَن الْمُحدَث، وَإِثْبَات مُباينته لَهُ، بِحَيْثُ يُعلمهُ وَيشْهد أَنَّ الْخَالِقَ مُباين لِلْخلقِ، خلافًا لما دخل فِيهِ الاتحادية من المتصوفة وَغَيرهم من الَّذين يَقُولُونَ بالاتِّحاد مُعينًا أو مُطلقًا؛ وَلِهَذَا أنكر هَؤُلَاءِ على الْجُنَيْد قَوْله هَذَا، كَمَا أنكرهُ عَلَيْهِ ابْنُ العربي الطَّائِي، كَبِير الاتحادية.

الشيخ: والحاصل أنَّ فيما جاءت به الآيات القرآنية والأحاديث النبوية في بيان صفات الله وأسمائه الكفاية والغنية عن مُؤلفات أهل الكلام، وما قرره أهلُ الكلام من حقٍّ وباطلٍ، وفي كلام أهل السنة ما يكفي ويشفي من أئمة السَّلف؛ ولهذا كره أهلُ الحقِّ -كالمؤلف وغيره- مُراجعة كتب أهل الكلام وقراءتها؛ لأنَّ فيها من الشَّر والفساد والباطل ما يضرّ قارئها، أما الإقبال على كتاب الله الكريم وسُنة رسوله الأمين ففي ذلك الحكمة والسَّلامة والعافية مما وقع فيه أهلُ الباطل، والله المستعان.

قَالَ أَبُو الْقَاسِم: وأحكموا أصُول العقائد بواضح الدَّلَائِل، ولائح الشواهد، كَمَا قَالَ أَبُو مُحَمَّد الْجريرِي: مَن لم يقف على علم التَّوْحِيد بِشَاهِدٍ من شواهده زلَّت بِهِ قدمه الْغرُور إِلَى مهواة التّلف.

قَالَ: أَبُو الْقَاسِم يُرِيد بذلك أَنَّ مَن ركن إِلَى التَّقْلِيد، وَلم يتَأَمَّل دَلَائِل التَّوْحِيد سقط عَن متن النَّجَاة، وَوَقع فِي أَسْرِ الْهَلَاك.

قلتُ: الْمَشَايِخ لَا يُشيرون إِلَى الطَّرِيق الَّتِي سلكها المتكلِّمون من الِاسْتِدْلَال بالأجسام والأعراض وَمَا يَدْخل فِي ذَلِك، بل هم مُنكرون لذَلِك، كَمَا ذكره أَبُو عبدالرَّحْمَن السّلمِيّ، وَشَيخ الْإِسْلَام الأنصاري، وَغَيرهمَا عَنْهُم.

وَأَبُو الْقَاسِم يرى صِحَة هَذِه الطَّرِيق، وَهَذَا من الْمَوَاضِع الَّتِي خَالف فِيهَا مَشَايِخ الْقَوْم.

وَقد ذكر أَبُو الْقَاسِم فِي تَرْجَمَة الشَّيْخ أبي عَليِّ ابن الْكَاتِب: وَقد صحب أَبَا عليّ الروذباري وَغَيره، وَتَأَخَّر بعد الأربعين وثلاثمئة، قَالَ: الْمُعْتَزلَة نزَّهوا الله من حَيْثُ الْعَقل فأخطأوا، والصُّوفية نزَّهوه من حَيْثُ الْعِلم فَأَصَابُوا.

قلتُ: الْعِلم فِي لِسَان الصُّوفِيَّة ووصاياهم كثيرًا مَا يُرِيدُونَ بِهِ الشَّرِيعَة، كَقَوْل أبي يَعْقُوب النّهرجوري: أفضل الْأَحْوَال مَا قَارن الْعِلم. وكقول أبي يزِيد: عملتُ فِي المجاهدة ثَلَاثِينَ سنةً، فَمَا وجدتُ أَشدّ عليَّ من الْعِلم ومُتابعته، وَلَوْلَا اختلاف الْعُلمَاء لبقيتُ، وَاخْتِلَاف الْعُلمَاء رَحْمَة إِلَّا فِي تَجْرِيد التَّوْحِيد.

وَهَذَا كَقَوْل سهل بن عبدالله التُّسترِي: كل فعلٍ تَفْعَلهُ بِغَيْر اقْتِدَاءٍ طَاعَةً أَو مَعْصِيةً فَهُوَ عَيْش النَّفس، وكل فعلٍ تَفْعَلهُ بالاقتداء فَهُوَ عَذَابٌ على النَّفس.

وَقَالَ أَبُو سُلَيْمَان الدَّارَانِي: رُبمَا يَقع فِي قلبِي النُّكْتَة من نكت الْقَوْم أَيَّامًا، فَلَا أقبل مِنْهُ إِلَّا بِشَاهِدين عَدْلَيْنِ: الْكتاب وَالسُّنة.

وَقَالَ صَاحبُه أَحْمد ابن أبي الْحوَاري: مَن عمل بِلَا اتِّبَاعٍ سنة فَبَاطِل عمله.

وَقَالَ أَبُو حَفْصٍ النَّيْسَابُورِي: مَن لم يزن أَفعاله وأقواله كل وَقتٍ بِالْكِتاب وَالسُّنة، وَلم يتَّهم خواطره؛ فَلَا تعده فِي ديوَان الرِّجَال.

وَقَالَ الْجُنَيْد بن مُحَمَّد: الطُّرق كلهَا مسدودة على الْخَلق، إِلَّا مَن اقتفى أثر الرَّسُول ﷺ.

وَقَالَ أيضًا: مَن لم يحفظ الْقُرْآنَ وَيَكْتب الحَدِيثَ لَا يُقْتَدى بِهِ فِي هَذَا الْأَمر؛ لِأَنَّ علمنَا هَذَا مُقَيّدٌ بِالْكِتاب وَالسُّنة.

وَقَالَ أَبُو عُثْمَان: مَن أمر السُّنة على نَفسه قولًا وفعلًا نطق بالحكمة، وَمَن أَمرّ الْهوى على نَفسه قولًا وفعلًا نطق بالبدعة، قَالَ الله تَعَالَى: وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا [النور:54].

وَقَالَ أَبُو حَمْزَة الْبَغْدَادِيُّ: مَن علم الطَّرِيق إِلَى الله سهل عَلَيْهِ سلوكه، وَلَا دَلِيلَ على الطَّرِيق إِلَى الله إِلَّا مُتَابعَة الرَّسُول فِي أَحْوَاله وأقواله وأفعاله.

الشيخ: وهذا هو الحقّ الذي لا ريبَ فيه، هذا هو قول أهل السنة والجماعة، وهو ما درج عليه أصحابُ النبي ﷺ وأتباعهم بإحسانٍ، أما العلوم والأهواء والآراء والأذواق كلها مُقيدة بالكتاب والسنة؛ فما وافق الكتابَ والسنة قُبِلَ: من رأيٍ، ومن ذوقٍ وقولٍ، وغير ذلك، وما خالف ذلك رُدَّ على صاحبه.

وهؤلاء الذين قالوا هذه الكلمات من أئمة الصوفية أصابوا فيها، ولكن المتأخرين منهم غيَّروا وبدَّلوا وحكموا آراءهم وأذواقهم، وجعلوا لهم طرقًا جديدةً سلكوها، وسلكها أتباعُهم معهم، حكَّموها على الكتاب والسنة فضلوا وأضلوا.

أما مَن استقام على الطريق السَّوي؛ وهو أن يُقيد علمه وطريقته بالكتاب والسنة، ولا يقبل من ذلك إلا ما قال به الكتابُ، أو جاءت به السنة؛ فقد أصاب وأفلح، وسار على المنهج القويم، وأما مَن انحرف عن هذا الطريق وحكَّم هواه ورأيه ورأي شيخه، وقدَّمه على الكتاب والسنة، هذا هو الهالك، وليس على طريق القوم، بل هو مخالفٌ لهم.

وَمن لفظ "الْعِلم" فِي كَلَامهم قَول أبي عُثْمَان النَّيْسَابُورِي: الصُّحْبَة مَعَ الله بِحُسن الْأَدَب ودوام الهيبة والمراقبة، والصُّحبة مَعَ رَسُول الله ﷺ باتِّباع سنته وَلُزُوم ظَاهر الْعِلم، والصُّحبة مَعَ أَوْلِيَاء الله تَعَالَى بالاحترام والخدمة، والصُّحبة مَعَ الْأَهْل بِحُسن الْخُلق، والصُّحبة مَعَ الإخوان بدوام الْبِشْر مَا لم يكن إثمًا، والصحبة مَعَ الْجُهَّال بِالدُّعَاءِ لَهُم وَالرَّحْمَة عَلَيْهِم.

وَمِنْه قَول أبي الْحُسَيْن النّوري: مَن رَأَيْتَه يَدَّعِي مَعَ الله حَالَةً تُخرجه عَن حدِّ الْعِلم الشَّرعي فَلَا تقتربنَّ مِنْهُ.

وَقَالَ: أعزُّ الْأَشْيَاء فِي زَمَاننَا شَيْئَانِ: عَالم يَعْمل بِعِلْمِهِ، وعارفٌ يَنْطِق عَن حَقِيقَته.

الشيخ: أعزُّ الأشياء في زماننا شيئان، أحدهما: عالم يعمل بعلمه، يعني القليل والغالب أنه عالم، ولكن لا يعمل بعلمه، علمه شيء، وعمله شيء، ولا حول ولا قوة إلا بالله. والآخر لا ينطق الحقيقةَ التي يلزمه القول بها، ينطق بغير ذلك من الأذواق والآراء الفاسدة التي لا دليلَ عليها، أما مَن نصر الحقَّ نطق بالحقيقة، يعني: الدَّعوة إلى الكتاب والسنة، والتَّقيد بها، هذا هو الذي ينبغي اتِّباعه، ويُؤخذ بقوله إذا وافق هذا الأصل.

وَقَالَ أَبُو عبدالرَّحْمَن السّلمي: سَمِعتُ جدِّي أَبَا عَمْرو ابن نجيد يَقُول: كل حَالٍ لَا يكون عَن نتيجة علمٍ فَإِنَّ ضَرَره أَكثر على صَاحبه من نَفعه. وَسُئِلَ عَن التَّصوف فَقَالَ: الصَّبْرُ تَحت الْأَمر والنَّهي.

وَسبب تعبيرهم عَن الشَّرِيعَة بِالْعِلمِ: أَنَّ الْقَوْم أَصْحَاب إِرَادَةٍ وَقصدٍ وَعملٍ وَحَال، هَذَا خاصتهم، لَكِن قد يَعْمل أحدُهم تَارَةً بِغَيْر الْعِلم الشَّرعي، بل بِمَا يُدْرِكهُ ويجد إِرَادَته فِي قلبه، وَإِن لم يكن ذَلِك مَشْرُوعًا مَأْمُورًا بِهِ، وَهَذَا كثيرًا مَا يُبتلى بِهِ كثيرٌ مِنْهُم من تَقْدِيم عِلمهمْ بالذَّوق والوجد على مُوجِب الْعِلم الْمَشْرُوع.

الشيخ: وهذا هو الغالب على المتأخرين، القرون المتأخرة، نعم.

وَمن الْعَمَل بذوقٍ لَيْسَ مَعَه فِيهِ علمٌ مَشْرُوعٌ، وَلَا ريبَ أَنَّ هَذَا من اتِّبَاع الْهوى بِغَيْر هدًى من الله.

الشيخ: حتى قال بعضُهم: "حدَّثني قلبي عن ربي"، والمتبع يقول: عن رسول الله، وهذا يقول: "حدَّثني قلبي عن ربي"، ما يحتاج إلى الرسول، وهذا هو الهلاك، هذا هو الإلحاد والفساد، وهل قلبه معصوم وأذواقه وآراؤه وخواطره؟! يخطر في قلبه الشَّر والخير، ويخطر في قلبه الفساد وغير الفساد، فقلبه غير معصومٍ، وإنما المعصوم ما ثبت عن رسول الله ﷺ، أو جاء به الكتابُ، فمَن جعل طريقه هذا "حدَّثني قلبي عن ربي"، أو حدَّثني شيخي كذا وكذا، أو قال شيخي: كذا وكذا؛ فهذا قد سلك طريق الشيطان، ولم يسلك طريق الرحمن، نسأل الله العافية.

س: هل يُصلي خلفهم يا شيخ؟

ج: مَن كان بهذه المثابة لا يُصلَّى خلفه، ليس بمسلمٍ، مَن استغنى عن الرسول فليس بمسلمٍ، مَن قال: إنه يستغني عن الرسول بأذواقه وآرائه وما يقع في قلبه هو خارجٌ من الشَّريعة، لا تجوز الصَّلاة خلفه.

س: ................؟

ج: هذا مثلما قال المؤلف، لكن الأوَّلين لهم أغلاط أيضًا، وقعت لهم أغلاط.

.................

وَلَا ريب أَنَّ هَذَا من اتِّبَاع الْهوى بِغَيْر هدًى من الله، وَهُوَ مِمَّا ذمَّ اللهُ بِهِ النَّصَارَى الَّذين يُضارعهم فِي كثيرٍ من أُمُورهم المنحرفون من الصُّوفِيَّة والعُبَّاد؛ وَلِهَذَا جعله سهلٌ من حَظِّ النَّفس؛ وَلِهَذَا استضعف أَبُو يزِيد مُتَابعَةَ الْعِلم، فَإِنَّ مجاهدة هوى النَّفس يَفْعَلهَا غَالب النُّفُوس، مثل: عبادات الْمُشْركين، وَأهل الْكتاب من الرُّهبان، وَعُبَّاد الأنداد، وَنَحْوهم، وكل ذَلِك من هَذَا الْبَاب، وَلَهُم من الزُّهْد والمجاهدة فِي الْعِبَادَة مَا لَا يَفْعَله الْمُسلمُونَ، لكنه بَاطِل، لَيْسَ بمشروعٍ.

الشيخ: هذا بالمعجل، كما جاء عن الصوفية وأصحاب الصوامع من النَّصارى مما يكون معجلًا على غير هُدًى، نعوذ بالله.

وَلِهَذَا لَا ينتج لَهُ من النَّتائج إِلَّا مَا يَلِيق بِهِ.

وَالْمُسلم الصَّادِق إِذا عبد الله بِمَا شرع فتح اللهُ عَلَيْهِ أنوارَ الْهِدَايَة فِي مُدَّةٍ قريبَةٍ.

الشيخ: كما قال تعالى: وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ [محمد:17]، فمَن اهتدى زاده اللهُ هدًى وعلمًا إذا لزم الطريق، ولو كانت أعمالُه قليلةً، ولو كان ما يصوم النهار، ولا يقوم الليل، وإنما يصوم ما تيسر، ويُؤدي الفرائض، ويترك المحارم. لكن عبادات يصوم فيها النهار، ويقوم الليل، ويتزهد ويترك الدنيا، وهو مع هذا على غير علمٍ، على رأيه، وعلى هواه، ما ينفعه هذا، مثل أصحاب الصَّوامع الذين جلسوا في هذه العبادة وضيَّعوا كل شيءٍ على غير هدًى، نسأل الله العافية: إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ [الأعراف:30]، ولا حول ولا قوة إلا بالله.

س: في أحد المساجد وجدتُ أحدًا يقول: الله، الله، فقلتُ له: هذا ما ورد عن الرسول! لكن قال: إنَّ الله سبحانه لما كلَّم موسى قال: يا موسى، أنا الله؟

ج: "أنا الله" جملة تامَّة، أما كونه يقول: الله، الله. هو، هو. هذا باطلٌ، هذه بدعة ما لها أصل، التَّعبد بالله: الله، الله. أو هو، هو، هو. هذا ما لها أصل، هذه من خرافات الصُّوفية، وإنما يتعبد بلا إله إلا الله، سبحان الله. هذا كلام تامٌّ، كلام واضح: سبحان الله، الحمد لله، الله أكبر، لا إله إلا الله. أما هو، هو. الله، الله. ما هو بمشروعٍ، ما فعله الرسول ﷺ ولا أصحابه، لا بدَّ من كلامٍ تامٍّ واضحٍ.

س: يقولون أنها وردت في القرآن: اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ [البقرة:255]؟

ج: ما قال: هو، هو. قال: اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ، كلام تامٌّ، هذه مُغالطة، اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ كلام تامٌّ.

فالمهتدون من مَشَايِخ الْعُبَّاد والزُّهَّاد يُوصون باتِّباع الْعِلم الْمَشْرُوع، كَمَا أنَّ أهل الاسْتقَامَة من الْعِلم يُوصون بعلمهم الَّذِي يسلكه أهلُ الاسْتقَامَة من الْعُباد والزهاد، وَأمَّا المنحرفون من الطَّائِفَتَيْنِ فيُعرضون عَن الْمَشْرُوع: إِمَّا من الْعِلم، وَإِمَّا من الْعَمَل، وهما طَرِيق المغضوب عَلَيْهِم والضَّالين.

قَالَ سُفْيَان بن عُيَيْنَة: كَانُوا يَقُولُونَ: مَن فسد من الْعُلمَاء فَفِيهِ شبهٌ من الْيَهُود، وَمَن فسد من الْعُبَّاد فَفِيهِ شبهٌ من النَّصَارَى.

الشيخ: والشَّبه أنَّ الذي لا يعمل بعلمه يُشابه اليهود، فالذي يعلم أنَّ الله جلَّ وعلا أوجب عليه الصَّلاة في الجماعة، وأوجب عليه برَّ الوالدين، وأوجب عليه صلة الرحم، وأوجب عليه الشَّهادة بالحقِّ لا بالزور، ثم يترك ذلك فينحرف عن الصَّلاة، ويعقّ والديه، ويشهد بالزور وهو يعلم، هذا مُشابه لليهود؛ لأنَّ هذا هو العلم، فاليهود علموا وخالفوا، عرفوا أنَّ الرسول حقٌّ: محمد، ومع هذا لم يُجيبوا، بل كذَّبوه وجحدوا نبوته كذبًا وحسدًا وبغيًا، فمَن فسد من العُلماء بهذا الطريق شابه اليهود، وتارةً تكثر المشابهة على حسب كثرة المخالفات للسنة، وتارةً تقلّ المشابهة، وكلما كثرت مخالفتُهم للسنة، وعملهم بغير العلم؛ صارت مُشابهتهم لليهود أكثر، وكلما قلَّت هذه المخالفات صارت المشابهة أقلّ.

وأما مَن فسد من العُبَّاد فإنه مُشابه للنصارى؛ لأنَّ النصارى عندهم تعبّد كثير، ولزوم للصَّوامع، لكن على غير علمٍ، ما عندهم علمٌ، يتعبّد وهو يقول: عيسى ابن الله! ويعبد عيسى، ويعبد مريم، فماذا تنفعه هذه العبادة مع الكفر؟!

والذي يتعبد ويترك الكتابَ والسنةَ، ولا يتعلم، ولا يتبصر، ولا يتفقه في الدِّين، ويتعمد ويترك العلم؛ يقع في مشاكل، وفي أباطيل، وفي بدعٍ وأهواء، كما وقعت الصُّوفية لما تعبَّدوا على غير علمٍ صاروا مُبتدعين، وصاروا ضالين بما أحدثوا من الطرق الباطلة التي ليس لها أصلٌ في الشريعة.

فالواجب على أهل الإسلام أن يتعبدوا بمقتضى الكتاب والسنة، وأن يتقيَّدوا بهما، وأن لا يحيدوا عن ذلك، ثم يعملون، يعني: يتقيَّدون بالكتاب والسنة ثم يعملون، فإن لم يتقيَّدوا شابهوا النَّصارى، وإن تقيَّدوا وعلموا لكن لم يعملوا شابهوا اليهود، ولا حولَ ولا قوةَ إلا بالله.

وَلِهَذَا قصد أَبُو الْقَاسِم فِي "الرسَالَة" الرَّد على هَؤُلَاءِ، وَلما ذكر الْمَشَايِخ الَّذين ذكرهم قَالَ: هَذَا ذكر جمَاعَةٍ من شُيُوخ هَذِه الطَّائِفَة، كَانَ الْغَرَضُ من ذكرهم فِي هَذَا الْمَوضع التَّنْبِيه على أَنَّهم كَانُوا مُجْمِعِينَ على تَعْظِيم الشَّرِيعَة، مُتَّصفين بسلوك طَرِيق الرياضة، مُتَّفقين على مُتَابعَة السُّنة، غير مُخلين بشيءٍ من آدَاب الدِّيانَة، مُتَّفقين على أنَّ مَن خلا عَن الْمُعَامَلَات والمجاهدات، وَلم يَبْنِ أمره على أساس الْوَرع وَالتَّقوى؛ كَانَ مُفتريًا على الله سُبْحَانَهُ فِيمَا يَدَّعِيهِ، مفتونًا، هلك فِي نَفسه، وَأَهْلك مَن اغْترَّ بِهِ مِمَّن ركن إِلَى أباطيله.

وَإِذا عرف معنى لفظ "الْعِلم" فِي اصطلاحهم فَقَوْل أبي عَليّ ابن الْكَاتِب: "الصُّوفِيَّة نزَّهوه من حَيْثُ الْعِلم" أَي: من جِهَة الشَّرْع، وَهُوَ الْكِتاب وَالسُّنة، فنزَّهوه عَمَّا نزَّه عَنهُ نَفسَه فَأَصَابُوا، وَأمَّا الْمُعْتَزلَة فنزَّهوه بِقِيَاس عقلهم وأهوائهم، أَرَادوا أن ينفوا عَنهُ كلَّ صفةٍ مَوْجُودَةٍ؛ لظنِّهم أَنَّ ذَلِك تَشْبِيهٌ، وَلم يهتدوا إِلَى أَنَّ الْخَالِقَ يُوصَف بِمَا يَلِيق بِهِ، والمخلوق يُوصَف بِمَا يَلِيق بِهِ، وَأَنَّ الِاسْمَ وَإِن كَانَ مُتَّفقًا فالإضافة إِلَى الله تُخصصه وتُقيده بِمَا ينفي عَنهُ مماثلة الْخلق.