01 من بداية الكتاب

بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم

الْحَمد لله ربِّ الْعَالمين، وَأشْهَد أَن لَا إِلَه إِلَّا الله وَحده لَا شريك لَهُ، وَأشْهد أَنَّ مُحَمَّدًا عَبده وَرَسُوله صلى الله عَلَيْهِ وعَلى آله وَصَحبه وَسلم تَسْلِيمًا.

قَاعِدَة فِي وجوب الاسْتقَامَة والاعتدال ومُتابعة الْكِتاب وَالسُّنة فِي بَاب أَسمَاء الله وَصِفَاته وتوحيده بالْقَوْل والاعتقاد، وَبَيَان اشْتِمَال الْكتاب وَالسُّنة على جَمِيع الْهُدى، وَأَنَّ التَّفَرُّق والضَّلال إِنَّمَا حصل بترك بعضه، والتَّنبيه على جَمِيع الْبِدع الْمُقَابلَة فِي ذَلِك بِالزِّيَادَةِ فِي النَّفْي وَالْإِثْبَات، ومبدأ حدوثها، وَمَا وَقع فِي ذَلِك من الأسماء المجملة وَالِاخْتِلَاف والافتراق الَّذِي أوجب تَكْفِير بعض هَؤُلَاءِ الْمُخْتَلِفين بَعضهم لبَعضٍ، وَذَلِكَ بِسَبَب ترك بعض الْحقِّ، وَأخذ بعض الْبَاطِل، وكتمان الْحقِّ، وَلبس الْحقِّ بِالْبَاطِلِ.

فصل الرأي الْمُحدث فِي الْأُصُول، وَهُوَ الْكَلَام الْمُحدث، وَفِي الْفُرُوع وَهُوَ الرأي الْمُحدث فِي الْفِقْه والتَّعبد الْمُحدث، كالتصوف الْمُحدث، والسياسة المحدثة.

يظنّ طوائفُ من النَّاس أَنَّ الدِّين مُحْتَاج إِلَى ذَلِك، لَا سِيمَا كل طَائِفَةٍ فِي طريقها، وَلَيْسَ الْأَمرُ كَذَلِك؛ فَإِنَّ الله تَعَالَى يَقُول: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا [المائدة:3]، إِلَى غير ذَلِك من النُّصُوص الَّتِي دلَّت على أَنَّ الرَّسُول عرَّف الْأُمَّة جَمِيعَ مَا يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ من دينهم.

وَقَالَ تَعَالَى: وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ [التوبة:115].

وَقَالَ ﷺ: تركتُكم على الْبَيْضَاء، لَيْلهَا كنهارها، لَا يزِيغ بعدِي إِلَّا هَالكٌ، وَقَالَ ﷺ: إِنَّه مَن يَعِشْ مِنْكُم بعدي فسيرى اخْتِلَافًا كثيرًا، فَعَلَيْكُم بِسُنَّتي وَسُنَّة الْخُلَفَاء الرَّاشِدين المهديين من بعدِي، تمسَّكوا بهَا، وعضُّوا عَلَيْهَا بالنَّواجِذ.

فلولا أَنَّ سُنته وَسُنة الْخُلَفَاء الرَّاشِدين تسع الْمُؤمنَ وَتَكْفِيه عِنْدَ الِاخْتِلَاف الْكَثير لم يجز الْأَمرُ بذلك، وَكَانَ يَقُول فِي خُطْبَته: شَرُّ الْأُمُور مُحدثاتها، وكل بِدعَةٍ ضَلَالَة.

وَكَانَ ابْنُ مَسْعُودٍ يخْطُب بِنَحْوِ ذَلِك كل خَمِيسٍ، وَيَقُول: "إِنَّكُم ستُحدثون وَيحدث لكم".

الشيخ: يُبين المؤلفُ في هذا البحث رحمه الله أنَّ المقصود من هذه الرسالة أنَّ الاستقامة في الفروع والأصول منهج الكتاب والسنة، وأنَّ الواجب على الناس أن يستقيموا على منهج كتاب الله وسنة رسوله ﷺ في العقائد: في أسماء الله وصفاته، في توحيده والإخلاص له، في امتثال الأوامر وترك النَّواهي، وأن لا يخرجوا عن هذا إلى شيءٍ آخر؛ فإنَّ خروجهم هو الذي سبب اختلافهم، وسبب نزاعهم، وسبب تكفير بعضهم لبعضٍ، فالواجب عليهم أن يتقيَّدوا بالكتاب والسنة، وأن لا يخرجوا عن ذلك.

وقد أرشدهم ﷺ إلى هذا بقوله: عليكم بسُنتي، فإنه مَن يعشْ منكم فسيرى اختلافًا كثيرًا، فعليكم بسُنتي وسُنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، تمسَّكوا بها، وعضُّوا عليها بالنَّواجذ، فدلَّ على أنَّ هذه السنة تكفيهم، وأنه لا يجوز لهم الخروج عنها، وأنها واسعة كافية شافية، ليس هناك حاجة للخروج عنها، بل متى دخل فيها الناس وتمسَّك بها الناسُ كفتهم، وحصل بها الاتفاق والاجتماع والتَّعاون والتَّواصي بالخير والسلامة من النزاع والتَّكفير والتَّفرق.

وَقد قَررنَا فِي الْقَوَاعِد -فِي قَاعِدَة السُّنة والبدعة- أَنَّ الْبِدْعَة هِيَ الدِّين الَّذِي لم يَأْمُر اللهُ بِهِ وَرَسُوله، فَمَن دَان دينًا لم يَأْمُر الله وَرَسُوله بِهِ فَهُوَ مُبْتَدعٌ بذلك، وَهَذَا معنى قَوْله تَعَالَى: أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ [الشورى:21].

وَلَا ريب أَنَّ هَذَا يُشكل على كثيرٍ من النَّاس؛ لعدم علمِهمْ بالنصوص ودلالتها على الْمَقَاصِد؛ وَلعدم علمهمْ بِمَا أحدث من الرأي وَالْعَمَل، وَكَيف يردّ ذَلِك إِلَى السُّنة، كَمَا قَالَ عمر بن الْخطاب: "ردّوا الجهالات إِلَى السُّنة".

وَقد تكلم النَّاسُ على أَصْنَاف ذَلِك، كَمَا بَين طوائف اسْتِغْنَاء الدِّين عَن الْكَلَام الْمُحدث، وَأَنَّ الله قد بَيَّن فِي كِتَابه بالأمثال المضروبة من الدَّلَائِل مَا هُوَ أعظم مَنْفَعَةً مِمَّا يُحدثه هَؤُلَاءِ، وَأَنَّ مَا يذكرُونَهُ من الْأَدِلَّة فَهِيَ مُندرجة فِيمَا ذكره الله تَعَالَى، حَتَّى إنَّ الأشعري نَفسه وَأَمْثَالَه قد بيَّنوا طَريقَة السَّلف فِي أصُول الدِّين واستغنائها عَن الطَّرِيقَة الكلامية: كطريقة الْأَعْرَاض وَنَحْوهَا، وَأَنَّ الْقُرْآن نبَّه على الْأَدِلَّة، لَيْسَ دلَالَته كَمَا يَظُنّهُ بعض أهل الْكَلَام من جِهَة الْخَبَر فَقَط.

وَأَيْنَ هَذَا من أهل الْكَلَام الَّذين يَقُولُونَ: إِنَّ الْكتابَ وَالسُّنة لَا يدلان على أصُول الدِّين بِحَالٍ، وَأَنَّ أصُول الدِّين تُستفاد بِقِيَاس الْعقلِ الْمَعْلُوم من غَيرهمَا. وَكَذَلِكَ الْأُمُور العملية الَّتِي يتَكَلَّم فِيهَا الْفُقَهَاء، فَإِنَّ من النَّاس مَن يَقُول: إِنَّ الْقيَاسَ يحْتَاج إِلَيْهِ فِي مُعظم الشَّرِيعَة؛ لقلَّة النُّصُوص الدَّالَّة على الْأَحْكَام الشَّرْعِيَّة. كَمَا يَقُول ذَلِك أَبُو المعالي وَأَمْثَاله من الْفُقَهَاء، مَعَ انتسابهم إِلَى مَذْهَب الشَّافِعِي وَنَحْوه من فُقَهَاء الحَدِيث، فَكيف بِمَن كَانَ من أهل رأي الْكُوفَة وَنَحْوهم؟! فَإِنَّهُ عِنْدهم لَا يثبت من الْفِقْه بالنصوص إِلَّا أقلّ من ذَلِك، وَإِنَّمَا الْعُمْدَة على الرأي وَالْقِيَاس، حَتَّى إنَّ الخراسانيين من أَصْحَاب الشَّافعي بِسَبَب مُخالطتهم لَهُم غلب عَلَيْهِم اسْتِعْمَالُ الرأي وَقلّة الْمعرفَة بالنصوص.

وبإزاء هَؤُلَاءِ أهلُ الظَّاهِر: كابن حزمٍ وَنَحْوِه مِمَّن يدَّعي أَنَّ النُّصُوص تستوعب جَمِيع الْحَوَادِث بالأسماء اللُّغَوِيَّة الَّتِي لَا تحْتَاج إِلَى استنباطٍ واستخراجٍ أَكثر من جمع النُّصُوص، حَتَّى تنفي دلَالَة فحوى الْخِطاب، وتُثبته فِي معنى الأَصْل وَنَحْو ذَلِك من الْمَوَاضِع الَّتِي يدل فِيهَا اللَّفْظُ الْخَاصُّ على الْمَعْنى الْعَام.

والتَّوسط فِي ذَلِك طَريقَة فُقَهَاء الحَدِيث، وهي إِثْبَات النُّصُوص والْآثَار الصَّحابية على جُمْهُور الْحَوَادِث، وَمَا خرج عَن ذَلِك كَانَ فِي معنى الأَصْل، فيستعملون قِيَاسَ الْعِلَّة وَالْقِيَاس فِي معنى الأَصْلِ، وفحوى الْخطاب إِذْ ذَلِك من جملَة دلالات اللَّفْظ، وَأَيْضًا فالرأي كثيرًا مَا يكون فِي تَحْقِيق المناط الَّذِي لَا خلافَ بَين النَّاس فِي اسْتِعْمَال الرأي وَالْقِيَاس فِيهِ، فَإِنَّ الله أَمر بِالْعَدْلِ فِي الحكم، وَالْعَدْل قد يُعرف بالرأي، وَقد يُعرف بِالنَّصِّ.

وَلِهَذَا قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: إِذا اجْتَهد الْحَاكِمُ فَأصَاب فَلهُ أَجْرَانِ، وَإِذا اجْتَهد فَأَخْطَأَ فَلهُ أجرٌ، إِذِ الْحَاكِم مَقْصُوده الحكم بِالْعَدْلِ بِحَسب الْإِمْكَان، فَحَيْثُ تعذَّر الْعَدْلُ الحقيقي للتَّعذر أَو التَّعسر فِي علمه أَو عمله كَانَ الْوَاجِبُ مَا كَانَ بِهِ أشبه وأمثل، وَهُوَ الْعَدْل الْمَقْدُور.

وَهَذَا بَابٌ وَاسعٌ فِي الحكم فِي الدِّمَاءِ وَالْأَمْوَال وَغير ذَلِك من أَنْوَاع الْقَضَاء، وفيهَا يجْتَهد الْقُضَاة.

ونعلم أَنَّ عليًّا كَانَ أقضى من غَيره بِمَا أُفهم من ذَلِك، مَعَ أَنَّ سَماع النُّصُوص مُشْتَركٌ بَينه وَبَين غَيره.

وَإِنَّمَا ظنَّ كثيرٌ من النَّاس الْحَاجةَ إِلَى الرأي الْمُحدث لأَنَّهم يَجدونَ مسَائِل كَثِيرَةً، وفروعًا عَظِيمَةً لَا يُمكنهُم إدخالها تَحت النُّصُوص، كَمَا يُوجد فِي فروع من ولد الْفُرُوع من فُقَهَاء الْكُوفَة وَمَن أَخذ عَنْهُم.

وَجَوَاب هَذَا من وُجُوهٍ:

أَحدهَا: أنَّ كثيرًا من تِلْكَ الْفُرُوعِ المولدة الْمُقدرَة لَا يَقع أصلًا، وَمَا كَانَ كَذَلِك لم يجب أَن تدل عَلَيْهِ النُّصُوص، وَمَن تدبر مَا فَرَّعه المولدون من الْفُرُوع فِي بَاب الْوَصَايَا وَالطَّلَاق والأيمان وَغير ذَلِك علم صِحَّة هَذَا.

الْوَجْه الثَّانِي: أَن تكون تِلْكَ الْفُرُوع والمسائل مَبْنِيَّةً على أصُولٍ فَاسِدَةٍ، فَمَن عرف السُّنة بَين حكم ذَلِك الأَصْل، فَسَقَطت تِلْكَ الْفُرُوع المولدة كلهَا.

وَهَذَا كَمَا فَرعه صَاحبُ "الْجَامِع الْكَبِير"، فَإِنَّ غَالب فروعه كَمَا بلغنَا عَنِ الإِمَام أبي مُحَمَّد الْمَقْدِسِي أَنه كَانَ يَقُول: مثله مثل مَن بنى دَارًا حَسَنَةً على أساسٍ مَغْصُوبٍ، فَلَمَّا جَاءَ صَاحبُ الأساس ونازعه فِي الأساس وقلعه انْهَدَمَتْ تِلْكَ الدَّارُ.

وَذَلِكَ كالفروع الْعَظِيمَة الْمَذْكُورَة فِي كتاب الْأَيْمَان، وبناها على مَا كَانَ المفرع يَعْتَقِدهُ من مَذْهَب أهل النَّحْو الْكُوفِيّين، فَإِنَّ أصل بَاب الْأَيْمَان الرُّجُوع إِلَى نِيَّة الْحَالِف وقصده، ثمَّ إِلَى الْقَرَائِن الحالية الدَّالَّة على قَصده: كسبب الْيَمين، وَمَا هيَّجها، ثمَّ إِلَى الْعُرف الَّذِي من عَادَته التَّكَلُّم بِهِ، سَوَاء كَانَ مُوَافقًا للغة الْعَرَبيَّة، أَو مُخَالفًا لَهَا، فَإِنَّ الْأَيْمَان وَغَيرهَا من كَلَام النَّاس بَعضهم لبَعضٍ فِي الْمُعَامَلَات والمراسلات والمصنَّفات وَغَيرهَا، تجمعها كلهَا دلَالَة اللَّفْظ على قصد الْمُتَكَلّم وَمُرَاده، وَذَلِكَ متنوع بتنوع اللُّغَات والعادات، وتختلف الدّلَالَة بالقرائن الحالية والمقالية.

ثمَّ إِنَّمَا يسْتَدلّ على مَقْصُود الرجل إِذا لم يعرف، فَإِذا أمكن الْعِلم بمقصوده يَقِينًا لم يكن بِنَا حَاجَة إِلَى الشَّكِّ، لَكِن من الْأُمُور مَا لَا تقبل من قَائِله إِرَادَة تُخَالف الظَّاهِر، كَمَا إِذا تعلق بِهِ حُقُوق الْعباد، كَمَا فِي الأقارير وَنَحْوهَا، وَهَذَا مُقَرر فِي مَوْضِعه، وَلَيْسَ الْغَرَضُ هُنَا إِلَّا التَّمْثِيل.

الشيخ: ومما يُبين هذا ويدل على صحَّة ما قاله الشيخ مع ما تقدم: الآيةُ الكريمة في سورة النحل: وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ [النحل:89]، فهو تبيان لكل شيءٍ مما يشتمل عليه من المعاني والدلائل والبراهين الدالة على المقاصد والأحكام فيما يتكلم به الناس، ويعمل به الناس مما يحتاجون إليه من أحكام الشرع، ففي الكتاب العظيم والسنة المطهرة الثابتة ما يُرشد إلى حكم ما يُبين: هل ذاك حرام أو حلال، أو واجب أو مندوب أو مكروه؟ لمن تأمل النصوص، ويسَّر الله له الوقوف عليها.

ولم يُؤتَ الناسُ إلا من جهة عدم الإحاطة، وعدم اتِّباع النصوص، وقلة العلم، أو من جهة التَّسرع وعدم التَّثبت في الأمور، ولا يُقام مقام حقّه من النظر من النصوص والأدلة حتى يستخرج حكم المسألة، فيظن أنَّ النصوص ما جاءت بهذا، وأنه بحاجة إلى رأي فلانٍ، أو رأي فلانٍ: إما بعجلته، وإما لعدم عنايته بجمع النصوص والنَّظر فيها واستكمال ما ينبغي له من العناية، وعدم الاجتهاد بما حصل له بادئ ذي بدءٍ، بل يتَّهم نفسه وينظر ويتأمّل، يقول: لعله فاتني كذا، لعله ورد في هذا شيء فيعتني بالنصوص ويقبل عليها، ويرجع إلى المظانِّ التي فيها النصوص واستنباط الأحكام، ومَن لم يستعجل وخاف الله وراقبه وتأمَّل فالغالب أنه يُهدى إلى الصواب، ويجد ما يدل على طلبه ومقصده، ولا يحتاج مع ذلك إلى قياسات فاسدة، ولا إلى حكم على الكتاب والسنة بأنه لم يرد في هذا شيء.

وَإِذا كَانَ هَذَا أصلَ الْأَيْمَان فَيُقَال لذَلِك المفرع: إِذا كَانَ هَذَا أصلَ قَصده الَّذِي هُوَ فِي أَكثر الْمَوَاضِع يُخَالف مُقْتَضى مَا ذكرته من الْجَواب، وَينظر إِلَى الْقَرَائِن الحالية وَمَعَهَا لَا تستقيم عَامَّة الْأَجْوِبَة.

وَإِذا عدم ذَلِك وَله عُرف وَعَادَة يتَكَلَّم بهَا، وغالب عادات النَّاس لَا يَنْبَنِي على المقاييس الَّتِي وَضَعتهَا أَنْت، فَإِذا جَوَاب الحالفين بِمثل مَا أَجَبْتهم بِهِ لَيْسَ هُوَ من الشَّرِيعَة فِي غَالب الْمَوَاضِع، وَلَا يحْتَاج بَابُ الْأَيْمَان إِلَى تَفْرِيعٍ؛ إِذْ هَذِه الْأُصُول الثَّلَاثَة تضبطه ضبطًا حسنًا.

الشيخ: وفي هذه الأصول الثلاثة: إما النظر لليمين، فإن لم يكن له نيَّة نظرت إلى أسباب اليمين وما هيَّجها وما دعا إليها، ثم إذا خفي ذلك نظرت إلى عرفه وما أتى به في بلاده وقبيلته؛ لأنَّ كلماته تُفسر بالعُرف، يكون له نيَّة تُخالف ذلك، وأسباب تُخالف ذلك رجعت إلى الأصل الثابت، فعُرفه وما اعتاده في عقيدته وجماعته، فقد تكون الكلمةُ لها معنى في الحجاز غير معناها في نجد، ومعناها في الشام غير معناها في مصر، ويكون معناها في أوروبا وأفريقيا غير معناها عند الناس الآخرين، فلا بدَّ من كون المفتي والقاضي يعتني بهذه الألفاظ، يسأل عن لفظ أهلها ومقاصدهم إن دخل فاعل النية، وإن دخل فاعل الأسباب.

وَلَا يحْتَاج بَابُ الْأَيْمَان إِلَى تَفْرِيعٍ؛ إِذْ هَذِه الْأُصُول الثَّلَاثَة تضبطه ضبطًا حسنًا، لَكِن لَا بُدَّ أَن يكون الْمُفْتي مِمَّن يُحسن أَن يضع الْحَوَادِث على الْقَوَاعِد ويُنزلها عَلَيْهَا.

وَكَذَلِكَ مَا فرَّعوه فِي بَاب الحكم والسياسة وَغَيرهَا، عَامَّة ذَلِك مبْنيٌّ على أصُولٍ فَاسِدَةٍ مُخَالِفَةٍ للشَّريعة، وَهَذَا وَالله أعلم من معنى قَول ابْن مَسْعُودٍ: "إِنَّكُم ستحدثون وَيحدث لكم"؛ وَلِهَذَا تَكْثر هَذِه الْفُرُوع وتنتشر حَتَّى لَا تضبطها قَاعِدَة؛ لِأَنَّهَا لَيست مُوَافقَةً للشَّريعة، فَأَما الشَّرِيعَة فَإِنَّهَا كَمَا قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: بُعثتُ بجوامع الْكَلم، والكلمة الجامعة هِيَ الْقَضِيَّة الْكُلية وَالْقَاعِدَة الْعَامَّة الَّتِي بُعِث بهَا نَبينَا ﷺ، فَمَن فهم كَلمه الْجَوَامِع علم اشتمالها لعامَّة الْفُرُوع وانضباطها بهَا، وَالله أعلم.

الْوَجْه الثَّالِث: أَنَّ النُّصُوص دَالَّة على عَامَّة الْفُرُوع الْوَاقِعَة، كَمَا يعرفهُ مَن يتحَرَّى ذَلِك، ويقصد الْإِفْتَاء بِمُوجب الْكِتاب وَالسُّنة ودلالتها، وَهَذَا يعرفهُ مَن يتَأَمَّل، كمَن يُفْتي فِي الْيَوْم بِمِئَة فُتيا أَو مِئَتَيْنِ أَو ثَلَاثمِئَة وَأكْثر، أَو أقلّ، وَأَنا قد جربتُ ذَلِك، وَمَن تدبر ذَلِك رأى أهل النُّصُوص دَائِمًا أقدر على الْإِفْتَاء، وأنفع للْمُسلمين فِي ذَلِك من أهل الرأي الْمُحدث.

الشيخ: ومعنى ذلك أنَّ أهل الرأي غالبًا يكون عندهم التَّردد والشَّك، عندهم عدم الطُّمأنينة؛ ولهذا يضعف ما في ..... وتقلّ إصابتهم، ويترددون، ويحارون، ويتنافرون، أما أهل النصوص من الكتاب والسنة ومَن له عناية بالنصوص والأخطاء فيها حرصًا على الاستنباط منها، فإنه في الغالب يستقيم؛ لأنهم أتوا الأمرَ من طريقه، وأتوا الأمر من بابه، وحرصوا على اتباع الرسول ﷺ والأخذ من كلامه وكلام ربِّه، فهم في الغالب والأكثر مُوفَّقون في فتواهم ولو كثرت، ولو أفتى واحدُهم في اليوم مئة فتوى أو مئتين أو أكثر، فإنهم في الغالب يُوفَّقون ويجدون في النصوص ما يشفي ويكفي بدلًا من الرأي المجرد.

فَإِنَّ الذي رَأَيْنَاهُ دَائِمًا أَنَّ أهل رأي الْكُوفَة من أقلّ النَّاس علمًا بالفتيا، وَأَقلّهمْ مَنْفَعَةً للْمُسلمين، مَعَ كَثْرَة عَددهمْ، وَمَا لَهُم من سُلْطَانٍ وَكَثْرَةٍ بِمَا يتناولونه من الْأَمْوَال الوقفية والسُّلطانية وَغير ذَلِك، ثمَّ إِنَّهُم فِي الْفَتْوَى من أقلِّ النَّاس مَنْفَعَةً، قلَّ أَن يُجيبوا فِيهَا، وَإِن أجابوا فَقلَّ أَن يُجيبوا بِجَوَابٍ شافٍ، وَأما كَونهم يُجيبون بِحجَّةٍ فهم من أبعد النَّاس عَن ذَلِك.

وَسبب هَذَا أنَّ الْأَعْمَال الْوَاقِعَةَ يحْتَاج الْمُسلِمُونَ فِيهَا إِلَى معرفَةٍ بالنصوص، ثمَّ إِنَّ لَهُم أصولًا كَثِيرَةً تُخَالف النُّصُوص، وَالَّذِي عِنْدهم من الْفُرُوع الَّتِي لَا تُوجد عِنْد غَيرهم، فَهِيَ مَعَ مَا فِيهَا من الْمُخَالفَة للنصوص الَّتِي لم يُخَالِفهَا أحدٌ من الْفُقَهَاء أَكثر مِنْهُم، عامّتها إِمَّا فروع مُقدرَة غير وَاقعَةٍ، وَإِمَّا فروع مُتقررة على أصُولٍ فَاسِدَةٍ، فَإِذا أَرَادوا أَن يُجيبوا بمُقتضاها رَأَوْا مَا فِي ذَلِك من الْفَساد وإنكار قُلُوب الْمُؤمنِينَ عليهم فأمسكوا.

لَكِن أعظم المهم فِي هَذَا الْبَاب وَغَيره تَمْيِيز السُّنة من الْبِدْعَة؛ إِذ السُّنة مَا أَمر بِهِ الشَّارِعُ، والبدعة مَا لم يشرعه من الدِّين، فَإِنَّ هَذَا الْبَابَ كثر فِيهِ اضْطِرَاب النَّاس فِي الْأُصُول وَالْفُرُوع، حَيْثُ يَزْعم كل فريقٍ أَنَّ طَرِيقه هُوَ السّنة، وَطَرِيقَ مُخالفه هُوَ الْبِدْعَة، ثمَّ إِنَّه يحكم على مُخالفه بِحكم المبتدع، فَيقوم من ذَلِك من الشَّرِّ مَا لَا يُحْصِيه إِلَّا الله.

وَأول مَن ضلَّ فِي ذَلِك هم الْخَوَارِج المارقون، حَيْثُ حكمُوا لنفوسهم بِأَنَّهُم المتمسِّكون بِكِتَاب الله وسُنته، وَأَنَّ عليًّا وَمُعَاوِيَة والعسكرين هم أهل الْمَعْصِيَة والبدعة، فاستحلُّوا مَا اسْتَحَلُّوهُ من الْمُسلمين.

الشيخ: هذه من ثمراتهم؛ لأنهم ضللوا عليًّا ومعاوية ومَن معهما من الصحابة، بل قاتلوهم، فقتلوا عليًّا، وأرادوا قتل معاوية، وأرادوا قتل عمرو بن العاص فلم يُفلحوا في الاثنين، وتمَّ أمرُ الله في عليٍّ، وقتلوا جمًّا غفيرًا من الناس، ولم يزالوا يقتلون أهلَ الإيمان، كلٌّ بتأويلٍ فاسدٍ، وبدعةٍ ضالَّةٍ، وهي أنَّ مَن عصى فقد كفر وحلَّ دمه، فهذا معصيته عظمى؛ ولهذا قال فيهم النبيُّ ﷺ: إنَّهم شرُّ قتلى تحت أديم السماء، وأنهم يمرقون من الإسلام ثم لا يعودون إليه، وإنَّ أحدكم يحقر صلاته مع صلاتهم، وصيامه مع صيامهم، وقراءته مع قراءتهم، يعني: يتكلَّفون ويتنطَّعون في الظاهر، وحرموا الأصول، وحرموا التوفيق لما يُوافق الأصول، نسأل الله العافية.

وَلَيْسَ الْمَقْصُود هُنَا ذكر الْبدع الظَّاهِرَة الَّتِي تظهر للعامَّة أَنَّهَا بِدعَة: كبدعة الْخَوَارِج وَالرَّوَافِض.

الشيخ: وهكذا بدع الشيعة أحلوا بها دماء المسلمين، وكفَّروا المسلمين وضللوهم وعادوهم، وابتدعوا دينًا ما شرعه الله، وهكذا بدعة من المعتزلة والجهمية وغيرهم، فمَن تأمَّل البدعَ رآها أساس الشَّر -نعوذ بالله- في كل مكانٍ، نسأل الله العافية.

وَلَيْسَ الْمَقْصُودُ هُنَا ذكر الْبِدع الظَّاهِرَة الَّتِي تظهر للعامَّة أَنَّهَا بِدعَة: كبدعة الْخَوَارِج وَالرَّوَافِض وَنَحْو ذَلِك، لَكِن الْمَقْصُود التَّنْبِيه على مَا وَقع من ذَلِك فِي أخصِّ الطَّوائف بِالسنةِ، وأعظمهم انتحالًا لَهَا: كالمنتسبين إِلَى الحَدِيث، مثل: مَالك، وَالشَّافِعِيّ، وَأحمد، فَإِنَّهُ لَا ريبَ أَنَّ هَؤُلَاءِ أعظم اتِّبَاعًا للسّنة، وذمًّا للبدعة من غَيرهم، وَالْأَئِمَّة -كمالك وَأحمد وَابْنِ الْمُبَارك وَحَمَّاد بن زيد وَالْأَوْزَاعِيّ وَغَيرهم- يذكرُونَ من ذمِّ المبتدعة وهُجرانهم وعقوبتهم مَا شَاءَ الله تَعَالَى.

وَهَذِه الْأَقْوَال سَمعهَا طوائف مِمَّن اتَّبعهم وقلَّدهم، ثمَّ إِنَّهُم يخلطون فِي مَوَاضِع كَثِيرَةٍ السّنةَ والبدعة، حَتَّى قد يبدلون الْأَمرَ فيجعلون الْبِدْعَةَ الَّتِي ذمَّها أُولَئِكَ هِيَ السُّنة، وَالسُّنة الَّتِي حمدها أولئك هِيَ الْبِدْعَة، ويحكمون بِمُوجب ذَلِك حَتَّى يقعوا فِي الْبِدع والمعاداة لطريق أئمتهم السّنيَّة، وَفِي الْحبِّ والموالاة لطريق المبتدعة الَّتِي أَمر أئمتهم بعقوبتهم، ويلزمهم تَكْفِير أئمتهم، ولعنهم، والبراءة مِنْهُم، وَقد يلعنون المبتدعة، وَتَكون اللَّعْنَةُ وَاقعَةً عَلَيْهِم أنفسهم ضدّ مَا يَقع على الْمُؤمن، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: أَلا ترَوْنَ كَيفَ يصرف اللهُ عني سبَّ قُرَيْشٍ؟ يسبُّون مُذمَّمًا، وأنا مُحَمَّد.

الشيخ: وهكذا قوله ﷺ: مَن قال لأخيه: يا كافر، أو قال: يا عدو الله، وليس كذلك، إلا حار عليه، فإذا قالوا عن أهل السنة أنهم مُبتدعة، وأنهم، وأنهم، وذمُّوهم، ولعنوهم، فإنَّ لعنَهم وسبَّهم يرجع إليهم؛ لأنهم هم أهل البدعة، والله المستعان.

وَهَؤُلَاء بِالْعَكْسِ: يسبُّون المبتدعة يعنون غَيرهم، وَيَكُونُونَ هم المبتدعة: كَالَّذي يلعن الظَّالِمين، وَيكون هُوَ الظَّالِم، أوْ أحد الظَّالِمين، وَهَذَا كُله من بَاب قَوْله تَعَالَى: أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا [فاطر:8].

وَاعْتبر ذَلِك بِأُمُور:

أَحدهَا: أَنَّ كَلَام مَالكٍ فِي ذمّ المبتدعة وهجرهم وعقوبتهم كثيرٌ، وَمن أعظمهم عِنْده الْجَهْمِية الَّذين يَقُولُونَ: إِنَّ الله لَيْسَ فَوق الْعَرْش، وَإِنَّ الله لم يتَكَلَّم بِالْقُرْآنِ كُله، وَإنَّهُ لَا يُرى كَمَا وَردت بِهِ السّنة. وينفون نَحْو ذَلِك من الصِّفَات.

ثمَّ إِنَّه كثير فِي الْمُتَأَخِّرين من أَصْحَابه مَن يُنكر هَذِه الْأُمُور، كَمَا ينكرها فروع الْجَهْمِية، وَيجْعَل ذَلِك هُوَ السّنة، وَيجْعَل القَوْل الَّذِي يُخَالِفهَا -وَهُوَ قَول مَالك وَسَائِر أَئِمَّة السّنة- هُوَ الْبِدْعَة، ثمَّ إِنَّه مَعَ ذَلِك يعْتَقد فِي أهل الْبِدْعَة مَا قَالَه مَالك، فبدَّل هَؤُلَاءِ الدّين، فصاروا يطعنون فِي أهل السّنة.

الثَّانِي: أَن الشَّافِعِي من أعظم النَّاس ذمًّا لأهل الْكَلَام وَلأَهل التَّغْيِير، ونهيًا عَن ذَلِك، وَجعلًا لَهُ من الْبِدْعَة الْخَارِجَة عَن السّنة، ثمَّ إِنَّ كثيرًا من أَصْحَابه عكسوا الْأَمر حَتَّى جعلُوا الْكَلَامَ الَّذِي ذمَّه الشَّافِعِي هُوَ السّنة وأصول الدّين الَّذِي يجب اعْتِقَاده ومُوالاة أَهله، وَجعلُوا مُوجب الْكتاب وَالسّنة الَّذِي مدحه الشَّافِعِي هُوَ الْبِدْعَة الَّتِي يُعَاقَب أَهلهَا.

الثَّالِث: أَن الإِمَام أَحْمد فِي أمره باتباع السّنة، ومعرفته بهَا، ولزومه لَهَا، وَنَهْيه عَن الْبدع وذمِّه لَهَا ولأهلها، وعقوبته لأَهْلهَا بِالْحَال الَّتِي لَا تخفى، ثمَّ إِنَّ كثيرًا مِمَّا نَصَّ هُوَ على أَنه من الْبِدع الَّتِي يذمّ أَهلهَا صَار بعضُ أَتْبَاعه يعْتَقد أَنَّ ذَلِك من السّنة، وأن الَّذِي يذمّ مَن خَالف ذَلِك مثل: كَلَامه فِي مَسْأَلَة الْقُرْآن فِي مَوَاضِع مِنْهَا تبديعه لمن قَالَ: "لفظي بِالْقُرْآنِ غير مَخْلُوقٍ"، وتجهيله لمن قَالَ: "مَخْلُوق"، ثمَّ إِنَّ من أَصْحَابه مَن جعل مَا بدَّعه الإِمَامُ أَحْمد هُوَ السّنة، فتراهم يحكمون على مَا هُوَ من صِفَات العَبْد -كألفاظهم وأصواتهم وَغير ذَلِك- بِأَنَّهُ غير مَخْلُوقٍ، بل يَقُولُونَ: هُوَ قديم. ثمَّ إِنَّهُم يُبدعون مَن لَا يَقُول بذلك، ويحكمون فِي هَؤُلَاءِ بِمَا قَالَه أَحْمد فِي المبتدعة، وَهُوَ فيهم.

وَكَذَلِكَ مَا أثْبته أَحْمد من الصِّفَات الَّتِي جَاءَت بهَا الْآثَارُ، وَاتَّفقَ عَلَيْهَا السّلفُ: كالصفات الفعلية من الاسْتوَاء وَالنُّزُول والمجيء والتكلم إِذا شَاءَ، وَغير ذَلِك، فيُنكرون ذَلِك بزعم أَنَّ الحودث لَا تحلّ بِهِ، ويجعلون ذَلِك بِدعَةً، ويحكمون على أَصْحَابه بِمَا حكم بِهِ أَحْمدُ فِي أهل الْبِدع، وهم من أهل الْبِدْعَة الَّذين ذمَّهم أَحْمد، لَا أُولَئِكَ، ونظائر هَذَا كَثِيرَة.

الشيخ: والمقصود من هذا أنَّ المتأخرين من أتباع هذه المذاهب الثلاثة: مالك والشافعي وأحمد، وقعوا فيما وقع فيه أهلُ البدع؛ صاروا يذمُّون السنةَ، ويُحسنون البدعة، فانعكس عليهم الأمر، وصارت أقوالهم ضدّ ما قاله أئمَّتهم: إما عن جهلٍ، وإما عن تأويلٍ في كلام أئمَّتهم حتى يُوافق ما أرادوا، وهذا كثير في الكتب المتأخرة، والعصمة والصلاح والسَّداد والسلامة في التَّمسك بألفاظ الرسول ﷺ وما جاء في القرآن الكريم، وما درج عليه سلفُ الأمة، هذا هو طريق النَّجاة والسلامة، وأن تُعرض أقوال المتأخرين وغيرهم على تلك النصوص: فما وافقها فهو السليم، وهو الحق، وهو الموافق للسنة، وما خالفها رُدَّ على قائله، وإن انتسب إلى أهل السنة، وإن زعم أنه منهم، فإنَّ زعم الدّعوى لا تُغني شيئًا حتى يكون العملُ مُوافقًا للحقِّ.

س: قال رسول الله ﷺ: إلا حار عليه؟

ج: رجع، حار: رجع، رجع على صاحبه، نسأل الله العافية.

..............

بل قد يُحْكى عَن وَاحِدٍ من أئمتهم إِجْمَاع الْمُسلمين على أَنَّ الْحَوَادِثَ لَا تحلّ بِذَاتِهِ؛ لينفي بذلك مَا نَصَّ أَحْمد وَسَائِر الْأَئِمَّة عَلَيْهِ من أَنه يتَكَلَّم إِذا شَاءَ، وَمن هَذِه الْأَفْعَال التَّعلق بمشيئته.

وَمَعْلُوم أَنَّ نقلَ الْإِجْمَاع على خلاف نصوصه ونصوص الْأَئِمَّة من أبلغ مَا يكون، وَهَذَا كنقل غير وَاحِدٍ من المصنفين فِي الْعِلم إِجْمَاع الْمُسلمين على خلاف نُصُوص الرَّسُول، وَهَذِه الْمَوَاضِع من ذَلِك أَيْضًا، فَإِنَّ نُصُوص أَحْمد وَالْأَئِمَّة مُطَابقَة لنصوص الرَّسُول ﷺ.

فصل

قَوْله تَعَالَى: الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ [غافر:35] بعد قَوْله تَعَالَى: وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزَابِ [غافر:30]، إِلَى قَوْله: وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جَاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولًا الْآيَة [غافر:34]، يُخوفهم بِمثل عقوبات الله فِي الدُّنْيَا للأمم الْكَافِرَة قبلهم، وخوفهم بِمَا يكون يَوْم الْقِيَامَة.

وَهَذَا فِيهِ بَيَان إخْبَاره بِيَوْم الْقِيَامَة، وَهُوَ مِمَّن آمن بمُوسَى، كَمَا قد قَرَّرْنَاهُ فِي غير هَذَا الْمَوضع: أَنَّ جَمِيع الرُّسُل أَخْبرت بِيَوْم الْقِيَامَة خلاف مَا تَزْعم طوائف من الفلاسفة وَأهل الْكَلَام: أَنَّ الْمعَاد الجسماني لم يُخبر بِهِ إِلَّا مُحَمَّد وَعِيسَى، وَنَحْو ذَلِك.

ثمَّ قَالَ الْمُؤمنُ: وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جَاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتَابٌ؛ لِأَنَّ الرَّيبَ عدم الْعِلم، وَهَذِه حَال أهل الضَّلال.

وَقَالَ هُنَاكَ: كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ؛ لِأَنَّهُ أخبر بجدالهم فِي آيَات الله بِغَيْر سُلْطَانٍ أَتَاهُم، وَهَذِه حَال الْمُتَكَلِّمين بِغَيْر علمٍ لطلب الْعُلُوِّ وَالْفساد.

كَمَا قَالَ فِي الْآيَة الْأُخْرَى: إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ [غافر:56].

الشيخ: وهذا يُبين لنا أنَّ الغالب على أهل الجدل في الحقِّ لدفعه وردِّه وصدِّه إنما يحملهم الكبر والتَّعالي والتَّعاضد أن يخضعوا للحقِّ؛ فلذلك صارت عقوبتُهم شديدةً، نسأل الله العافية؛ لأنه يحملهم على الجدال والدفع في وجه الحقِّ ما في قلوبهم من الكبر والشَّر والتَّعاون في أنفسهم، كيف يخضعون لقبول الحقِّ ومتابعة أهله؟! نسأل الله العافية: إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ [غافر:56].

وَلِهَذَا قَالَ فِي هَؤُلَاءِ المجادلين: كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا [غافر:35] أي: كبر مقتهم، أَو كبر هَذَا المقت، أَو كبر هَذَا الْجِدَال، أَو هَذَا الْفِعْل، مقتًا أي: ممقوتًا، كَمَا قَالَ تَعَالَى: كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ [الكهف:5]، وكما قَالَ تَعَالَى: بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا [الكهف:50].

فَإِنَّ الْمَخْصُوص بالمدح والذَّم فِي هَذَا الْبَاب كثيرًا مَا يكون مُضمرًا إِذا تقدم مَا يعود الضَّمِيرُ إِلَيْهِ، والمدح يُرَاد بِهِ الرجل، كَمَا تَقول: نعم رجلًا زيد، وَنعم رجلًا، وَزيد نعم رجلًا.

والمقت يُرَاد بِهِ نفس المقت، وَيُرَاد بِهِ الممقوت، كَمَا فِي الْخلق ونظائره، وَمثله قَوْله: لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ ۝ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ [الصف:2- 3] أَي: كبر ممقوتًا، أَي: كبر مقته مقتًا.

والمقت: البغض الشَّديد، وَهُوَ من جنس الْغَضَب الْمُنَاسب لحَال هَؤُلَاءِ، كَمَا قَالَ فِي الْيَهُود: بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ [النساء:155].

وَقد وصفهم بِنَحْوٍ مِمَّا وصف عدوهم فِرْعَوْن، فَقَوله: وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا [الإسراء:4]، فوصفهم بِالْفَسَادِ فِي الأَرْض والعلو، كَمَا أَنَّ فِرْعَوْن عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ [القصص:4]، وَختم السُّورَة بقوله: تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ [القصص:83].

وَهَذَا مِمَّا يُبين أَنَّ قَوْله: الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ [غافر:35] مُبْتَدأ، لَيْسَ بَدَلًا من قَوْله: مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتَابٌ [غافر:34]، فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ وصف هَؤُلَاءِ بِغَيْر مَا وصف هَؤُلَاءِ، وَيُؤَيِّد هَذَا أنه ابْتِدَاء، قد قَالَ فِي الْأُخْرَى: الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ، وَقَالَ قبل هَذِه الْآيَة: مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا [غافر:4].

وَقد يُقَال: يُمكن اجْتِمَاع الوصفين: الريب والجدل بِغَيْر علمٍ، كَمَا هُوَ الْوَاقِع فِي طوائف كَثِيرَةٍ، كَمَا يجْتَمع الْغَضَبُ والضَّلالُ.

وَقد يُقَال: الْآيَة تحْتَمل الْوَقْفَ، وتحتمل الِابْتِدَاء، وَقد يكون هَذَا قراءتين، فتسوغ كلٌّ مِنْهُمَا، وَيكون لَهُ وصفٌ صَحِيحٌ كَمَا فِي نَظَائِره.

وَفِي الحَدِيث الَّذِي رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ عَن الْحَارِث، عَن عَليٍّ، عَن النَّبِي ﷺ. وَرَوَاهُ أَبُو نعيم الْأَصْفَهَانِي وَغَيرُه من طرقٍ عديدةٍ عَن عَليٍّ، عَن النَّبِي ﷺ فِي الْقُرْآن، الحَدِيث الْمَعْرُوف، قَالَ: قلتُ: يَا رَسُول الله، سَتَكُون فتنٌ، فَمَا الْمَخْرج مِنْهَا؟ قَالَ: كتاب الله، فِيهِ نبأ مَا قبلكُمْ، وَخبر مَا بعدكم، وَحكم مَا بَيْنكُم، هُوَ الْفَصْل، لَيْسَ بِالْهَزْلِ، مَن تَركه من جَبَّارٍ قصمه الله، وَمَن ابْتَغى الْهُدى فِي غَيره أضلَّهُ الله، وَهُوَ حَبل الله المتين، وَهُوَ الذِّكْر الْحَكِيم، وَهُوَ الصِّرَاط الْمُسْتَقيم، وَهُوَ الَّذِي لَا تزِيغ بِهِ الْأَهْوَاء، وَلَا تخْتَلف بِهِ الآراء، وَلَا تَلْتَبِس بِهِ الألسن، وَلَا يخلق عَن كَثْرَة الرَّدِّ، وَلَا تنقضي عجائبه، وَلَا يَشْبع مِنْهُ الْعُلمَاء، مَن قَالَ بِهِ صدق، وَمن حكم بِهِ عدل، وَمَن عمل بِهِ أجر، وَمَن دَعَا إِلَيْهِ هُدي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ.

فَقَوله: مَن تَركه من جَبَّارٍ قصمه الله، وَمَن ابْتَغى الْهُدى فِي غَيره أضلَّهُ الله يُنَاسِب قَوْله تَعَالَى: كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتَابٌ [غافر:34]، وَكَذَلِكَ قَوْله: كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ [غافر:35]، فَذكر ضلال الأول، وَذكر تجبر الثَّانِي؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ الأول مُرتاب ففاته الْعِلْم.

الشيخ: وظاهر كلام المؤلف أنه يُؤيد رفع الحديث عن عليٍّ، عن النبي ﷺ، فإنه ذكر عزوه للترمذي، وذكر رواية أبي نعيم من طرقٍ وسكت، والمتن فيه خلاف ..... فإنَّ ظاهر المتن ..... يثبت بالمرفوع عن النبي ﷺ، فإنه كلامٌ عظيمٌ، وجمل عظيمة، ومن جوامع الكلم.

والحافظ ابن كثير رحمه الله في التفسير قال: الأشبه أنه موقوف من كلام عليٍّ، وفي رفعه نظر.

ولكن ما ذكر المؤلف يُؤيد الرفع، ويُقوي ذلك من الجمل التي اشتمل عليها الحديث، جملًا عظيمةً، مثلها لا يصدر إلا من النبي ﷺ، فلو فُرض أنه من جهة عليٍّ موقوفًا فهذه الكلمات العظيمة لا تكون من الموقوف، بل لها حكم الرفع.

.............

حَيْثُ ابْتغى الْهُدى فِي غَيره، وَالثَّانِي جَبَّارٌ عمل بِخِلَاف مَا فِيهِ فقصمه الله، وَهَذَانِ الوصفان يجمعان الْعِلم وَالْعَمَل.

وَفِي ذَلِك بَيَان أنَّ كلَّ علم دينٍ لَا يُطْلب من الْقُرْآن فَهُوَ ضلالٌ، كفاسد كَلَام الفلاسفة والمتكلمة والمتصوفة والمتفقهة، وكل عَاقلٍ يَتْرك كتابَ الله مُرِيدًا للعلو فِي الأرض وَالْفسادِ؛ فإنَّ الله يقصمه، فالضَّال لم يحصل لَهُ الْمَطْلُوب، بل يُعذَّب بِالْعَمَلِ الَّذِي لَا فَائِدَةَ فِيهِ، والجبَّار حصَّل لَذَّةً فقصمه الله عَلَيْهَا، فَهَذَا عُذِّب بِإِزَاءِ لذَّاته الَّتِي طلبَهَا بِالْبَاطِلِ، وَذَلِكَ يُعذَّب بسعيه الْبَاطِل الَّذِي لم يُفده.

الشيخ: مَن تركه من جبَّارٍ قصمه الله، إذا ترك الحقَّ تكبرًا وتجبرًا قُصم، وسلَّط اللهُ عليه، كما جرى لفرعون وأشباهه، أما مَن ابتغى الهدى من غيره فإنَّ الله يُضله؛ لأنه أراد الحقَّ من غير طريقه، من غير سبيله، من غير معدله، فيكون ضالًّا، نسأل الله العافية.

ولهذا لما ابتغى أئمةُ الكلام ودُعاة الكلام الهُدى من غير القرآن، وتأوَّلوه على غير تأويله، وزعموا أنها ظنية لا تُفيد اليقين، وأرادوا الهدى من ظنونهم وأفكارهم، وزبالة أذهانهم ضلُّوا، نسأل الله العافية، وصار أهلُ السنة أولى الناس بالحقِّ، وأعلمهم بالحقِّ، وأهداهم سبيلًا، وصار أولئك المتكلمون أضلَّ الناس وأبعدهم عن الهدى؛ لاعتمادهم على عقولهم الباطلة والفاسدة، ولإعراضهم عن العلم المتيقن الذي جاءت به الرسل، نسأل الله العافية.

س: .............؟

ج: هذا شيء آخر، المقصود أنَّ هذا في حقِّ المتعمدين، أما المجتهد في طلب الحقِّ فقد يغلط، فهذا شيء آخر.

س: ..............؟

ج: يُسلط اللهُ عليه ما يقطع دابره: من قتلٍ، أو بعذابٍ، مثلما جرى لفرعون: أغرقه الله وجنده في البحر، وكما جرى لقارون: خسف الله به وبداره الأرض، ومثلما جرى لعاد: أرسل الله عليهم الريحَ العقيم، وما جرى لقوم نوحٍ لما تجبَّروا: أهلكهم الله بالغرق، وهكذا.

وَالْمَقْصُود هُنَا أَنه سُبْحَانَهُ فِي هَاتين الْآيَتَيْنِ بَيَّن مَن يُجَادِل فِي آيَات الله بِغَيْر سُلْطَانٍ أَتَاهُم، وَقد بَيَّن فِي غير مَوضِعٍ أنَّ السُّلْطَان هُوَ الْحُجَّة، وَهُوَ الْكِتاب الْمُنزل، كَمَا قَالَ تَعَالَى: أَمْ أَنْزَلْنَا عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِمَا كَانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ [الروم:35]، وَقيل: إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ [النجم:23] فِي غير مَوضِعٍ.

وَقَالَ تَعَالَى: أَلَا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ ۝ وَلَدَ اللَّهُ إِلَى قَوْله: أَمْ لَكُمْ سُلْطَانٌ مُبِينٌ ۝ فَأْتُوا بِكِتَابِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ [الصافات:151- 157].

وَقَالَ: أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُمْ بِسُلْطَانٍ [الطور:38].

وَقَالَ: أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ ۝ مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ ۝ أَمْ لَكُمْ كِتَابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ [القلم:35- 37].

وَإِذا كَانَ كَذَلِك فَفِي هَذَا بَيَان أَنه لَا يجوز لأحدٍ أَن يُعَارض كتابَ الله بِغَيْر كتابٍ، فَمَن عَارض كتابَ الله وجادل فِيهِ بِمَا يُسَمِّيه معقولات وبراهين وأقيسة، أَو مَا يُسَمِّيه مُكاشفات ومواجيد وأذواق، من غير أَن يَأْتِي على مَا يَقُوله بِكِتَابٍ مُنزلٍ.

الشيخ: الأول للمُتكلمين يُسمونه: براهين عقلية، وأما هذا الثاني والأخير فهو للصوفية يعاملون القرآن بأذواقهم وكشوفاتهم التي يزعمون: حدَّثني قلبي عن ربي. هذه ضلالات وباطل ضلُّوا بها عن سواء السَّبيل، نعوذ بالله.

فلا طريق للناس إلى الحقِّ والعلم الذي يُرضي الله ويُسبب السَّعادة، ليس لهم طريقٌ في هذا إلا الكتاب أو السنة، إلا الوحي فقط، الوحي المنزل، وهو الكتاب، وإما الوحي المنزل على محمدٍ، وهو الحديث الشَّريف الذي قاله ﷺ أو فعله أو أقرَّه.

فالحاصل أنه لا طريقَ للناس إلى كرامة الله، وإلى رضاه وجنته، وإلى الخلاص من أسباب الضَّلالة والهلاك إلا اتِّباع الوحي المنزل من كتابٍ أو سنَّةٍ، وما سوى ذلك فهو هلاك.

فقد جادل فِي آيَات الله بِغَيْر سُلْطَانٍ، هَذِه حَال الْكفَّار الَّذين قَالَ فيهم: مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا [غافر:4]، فَهَذِهِ حَال مَن يُجَادِل فِي آيَات الله مُطلقًا.

وَمن الْمَعْلُوم أَنَّ الَّذِي يُجَادِل فِي جَمِيع آيَات الله لَا يُجَادِل بسُلْطَانٍ؛ فَإِنَّ السُّلْطَان من آيَات الله، وَإِنَّمَا الَّذِي يُجَادِل فِي آيَات الله بسُلْطَانٍ يكون قد جادل فِي بعض آيَات الله بِبَعْض آيَات الله.

وَهَذِه الْحَال يُحمد مِنْهَا أن تكون إِحْدَى الْآيَتَيْنِ ناسخةً لَهَا، أوْ مُفسرةً لَهَا بِمَا يُخَالِف ظَاهرهَا، وَإِن كَانَ السَّلَفُ يُسمون الْجَمِيع: نسخًا؛ وَلِهَذَا لم يكن السَّلف من الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ يتركون دلَالَة آيَةٍ من كتاب الله إِلَّا بِمَا يُسمونه: نسخًا، وَلم يكن فِي عَهدهم كتب فِي ذَلِك إِلَّا كتب النَّاسِخ والمنسوخ؛ لِأَنَّ ذَلِك غَايَته أَن نُجادل فِي آيَات الله بسُلْطَانٍ كجدالنا مَعَ أهل التَّوْرَاة وَالْإِنْجِيل -وهما من آيَات الله- بِالْقُرْآنِ الَّذِي أنزلهُ الله مُصدِّقًا لما بَين يَدَيْهِ من الْكِتاب، ومُهيمنًا عَلَيْهِ.

فَأَمَّا مُعَارضَة الْقُرْآن بمعقولٍ أَو قِيَاسٍ فَهَذَا لم يكن يستحلّه أحدٌ من السَّلف، وَإِنَّمَا ابتدع ذَلِك لما ظَهرت الْجَهْمِية والمعتزلة وَنَحْوهم مِمَّن بنوا أصُولَ دينهم على مَا سمّوهُ: معقولًا، وردُّوا الْقُرْآنَ إِلَيْهِ، وَقَالُوا: إذا تعَارض الْعقلُ وَالشَّرْعُ إِمَّا أَن يُفَوَّض أَو يُتَأَوَّل. فَهَؤُلَاءِ من أعظم المجادلين فِي آيَات الله بِغَيْر سُلْطَانٍ أَتَاهُم.

وَأما تَسْمِيَة الْمُتَأَخِّرين تَخْصِيصًا وتقييدًا وَنَحْو ذَلِك مِمَّا فِيهِ صرف الظَّوَاهِر فَهُوَ دَاخلٌ فِي مُسَمَّى: النَّسخ عِنْد الْمُتَقَدِّمين، وعَلى هَذَا الِاصْطِلَاح فَيدْخل النَّسخ فِي الْإِخْبَار.

الشيخ: يعني التَّخصيص والتَّقييد.

كَمَا يَدْخل فِي الْأَوَامِر، وَإِنَّمَا النَّسخ الْخَاصُّ الَّذِي هُوَ رفع الحكم: فَلَا بُدَ فِي الْخَبَر عَن أَمرٍ مُسْتَقرٍّ، وَأما مَا يَدْخل فِي الْخَبَر عَن إنْشَاء أَمرٍ فَيكون لدُخُوله فِي الْإِنْشَاء إنْشَاء الْأَمر وَالنَّهْي، وإنشاء الْوَعيد عِنْد مَن يُجوز النّسخ فِيهِ: كآخر الْبَقَرَة على مَا رُوي عَن جُمْهُور السَّلف.

وَهُوَ مَبْنِيٌّ على أَنَّ الْوَعيد هَل هُوَ خبر مَحْضٌ، أَو هُوَ مَعَ ذَلِك إنْشَاء؟ كالعقود الَّتِي تقبل الْفَسْخَ؛ لكَونه إِخْبَارًا عَن إِرَادَة المتوعد وعزمه، وكالخبر عَن الْأَمر وَالنَّهْي المتضمن خَبره عَن طلبه المتضمن إِرَادَته الشَّرْعِيَّة.

وَهَذَا مِمَّا يُبين مَا قَرَّرْنَاهُ فِي غير هَذَا الْمَوضع: أَنَّ الله سُبْحَانَهُ بَيَّن بكتابه سَبِيلَ الْهُدى، وَأَنه لَا يصلح أَن يُخَاطب بِمَا ظَاهر مَعْنَاهُ بَاطِل أَو فَاسد، بل وَلَا يُضلل المخاطبين بِأَن يُحيلهم على الْأَدِلَّة الَّتِي يستسيغونها برأيهم، بل يجب أَن يكون الْكتابُ بَيَانًا وَهدًى وشفاءً لما فِي الصُّدُور، وَأَنَّ مَدْلُوله وَمَفْهُومه حقّ، وَهَذَا أصلٌ عَظِيمٌ جدًّا.

الشيخ: وهذا البحث الذي ذكره المؤلفُ يُوجب لطالب العلم أن تكون همَّته عالية، وأن لا يتشاغل عن الكتاب والسنة بأشياء تضرّه ولا تنفعه، وأن تكون عنايته بالكتاب والسنة أكبر عناية، وأهم عناية؛ لحفظ الكتاب والسنة، وتدبُّرهما، وتعقلهما، والاستفادة منهما، والاستغناء بهما عمَّا سواهما، إلا ما أعان على فهمهما من كتب المصطلح، وكتب الأصول، وكتب اللغة العربية، وما يدخل في هذا.

فصلٌ

فِيمَا اخْتَلف فِيهِ الْمُؤْمِنُونَ من الْأَقْوَال والأفعال فِي الْأُصُول وَالْفُرُوع

فَإِنَّ هَذَا من أعظم أصُول الْإِسْلَام الَّذِي هُوَ معرفَة الْجَمَاعَة، وَحكم الْفُرْقَة والتَّقاتل والتَّكفير والتَّلاعن والتَّباغض وَغير ذَلِك.

فَنَقُول: هَذَا الْبَاب أَصله الْمُحرم فِيهِ من الْبَغي، فَإِنَّ الْإِنْسَان ظلوم جهول، قَالَ تَعَالَى: كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ [البقرة:213] فِي غير مَوضِعٍ.

وَقد ثَبت فِي "الصَّحِيحَيْنِ" عَن النَّبِي ﷺ أَنه قَالَ: لتسلكن سنَن مَن قبلكُمْ حَذْو القُذة بالقُذة، حَتَّى لَو دخلُوا جُحر ضَبٍّ لدخلتُموه، قَالُوا: يَا رَسُول الله، الْيَهُود وَالنَّصَارَى؟ قَالَ: فَمَن؟.

وَقد قَالَ تَعَالَى: وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ [آل عمران:105]، وَقَالَ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ [الأنعام:159].

الشيخ: وهذا أصلٌ عظيمٌ، هذا الذي ذكره الشيخُ هذا أصل عظيم من أصول أهل السنة والجماعة، ومن الأصول التي بيَّنها اللهُ في كتابه أكمل بيانٍ، وفي مواضع كثيرةٍ، وبيَّنها رسولُه عليه الصلاة والسلام أيضًا أكمل بيانٍ، فينبغي الاجتماع على الحقِّ، والتَّعاون في تثبيته، والأخذ به، وتنفيذه، والتَّعاون ضدّ الباطل، والواجب على المسلمين جميعًا أينما كانوا أن يعتصموا بحبل الله جميعًا، وأن لا يتفرَّقوا، كما قال سبحانه: وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا [آل عمران:103]، حبله: دِينه الذي بعث به نبيَّه محمدًا عليه الصلاة والسلام، وعلى المسلمين جميعًا أن يعتصموا بحبل الله، وأن يتحابوا في الحقِّ، ويتعاونوا على إنفاذ الحقِّ، وعلى مُحاربة ما خالفه بالقول والفعل والطرق ..... بالوسائل الشرعية التي تُعين على الاجتماع، وعلى تقارب القلوب، وتُعين على ترك الاختلاف والافتراق وتباعد القلوب.

والتَّباغض والتَّدابر من المسلمين سببٌ لشرٍّ عظيمٍ، وسببٌ لظهور الباطل، وخذلان الحقِّ؛ ولهذا كرر الله جلَّ وعلا الأمر بالاجتماع، والتَّحذير من الافتراق في مواضع كثيرةٍ، ويُحمل على هذا في الغالب البغي من بعضهم على بعضٍ، أما مَن قصد الحقَّ وأراده فإنه يُوفق ويُهدى ويُعان، ولكن إنما يشتد الخلافُ ويعظم إذا حصل البغي والعدوان من بعضهم على بعضٍ، ولم يكن يهدف المختلفين الحقّ وطلبه؛ ولهذا يحصل بينهم التَّنازع والبغضاء والتَّحاسد والتَّقاطع، حتى يسود الباطل، وحتى يخفى الحقُّ.

فالواجب على كل طالب علمٍ وكل مسلمٍ أن يكون حريصًا على إظهار الحقِّ، محبًّا لمن أظهره، ولمن دعا إلى إظهاره، مُنضمًّا إليه، مُتعاونًا معه لإظهار الحقِّ، وإخماد الباطل والقضاء عليه: إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ [الأنعام:159]، وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ [آل عمران:105].

والنبي ﷺ يقول: إنَّ الله يرضى لكم ثلاثًا: أن تعبدوه ولا تُشركوا به شيئًا، وأن تعتصموا بحبل الله جميعًا ولا تفرَّقوا، ويقول: لا تحاسدوا، ولا تنجاشوا، ولا تباغضوا، ولا تدابروا، وكونوا عبادَ الله إخوانًا، إلى غير هذا من الأحاديث التي جاءت عنه عليه الصلاة والسلام.

ولا يحقرنَّ أحدٌ نفسَه فيقول: أنا لا أدخل في هذا، أو أنَّ خلافي أو نزاعي لا يضرّ الناس، بل يقدر أنه مسؤول، وليعلم أنه مسؤول، وأنَّ الواجب عليه الحرص على إظهار الحقِّ، وعلى نصر أهله، وكونه معهم، والتَّعاون معهم في أي قريةٍ، وفي أي مكانٍ، وفي أي قبيلةٍ.

وَمن هَذَا الْبَاب مَا هُوَ من بَاب التَّأْوِيل وَالِاجْتِهَاد الَّذِي يكون الْإِنْسَانُ مُستفرغًا فِيهِ وَسعَه علمًا وَعَملًا.

ثمَّ الْإِنْسَان قد يبلغ ذَلِك وَلَا يعرف الْحقَّ فِي الْمسَائِل الخبرية الاعتقادية، وَفِي الْمسَائِل العملية الاقتصادية، وَالله سُبْحَانَهُ قد تجَاوز لهَذِهِ الْأمَّة عَن الْخَطَأ وَالنِّسْيَان بقوله تَعَالَى: رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا [البقرة:286].

وَقد ثَبت فِي "صَحِيح مُسلم" من حَدِيث ابْن عَبَّاسٍ، وَمن حَدِيث أَبي هُرَيْرَة، عَن النَّبِي ﷺ: أَنَّ الله اسْتَجَابَ لَهُم هَذَا الدُّعَاء، وَقَالَ: قد فعلتُ، وَأَنَّهُمْ لم يقرأوا بِحرفٍ مِنْهَا إِلَّا أَعْطوهُ، وَهَذَا مَعَ قَوْله تَعَالَى: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ [البقرة:82].

الشيخ: وفي هذا المعنى يقول: وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ [الأحزاب:5]، ولكن الواجب على طالب العلم وعلى المسلم أن يطلب الحقَّ ويعتني به، ويأخذ بأسبابه ووسائله، فإذا أخطأ أو نسي فلا حرج، المهم أن يعلم اللهُ من قلبه قصد الحقِّ وطلبه، واستفاض الوسع في تحصيله والأخذ بوسائله، هذا هو المعذور الذي يجتهد ويتحرى ويطلب الحقَّ، ويأخذ بأسبابه وطرقه، ولكن لا يُوفق له، ولا يُصيبه، فهذا إن أصابه فله أجران، وإن أخطأ فله أجر، بخلاف مَن يتساهل ولا يُبالي، فهذا شبه المتعمّد.

وَقَوله دَلِيل على أنَّ الله لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ [البقرة:286]، وَغير ذَلِك دَلِيل على أَنَّ الله تَعَالَى لَا يُكَلف نفسًا إِلَّا وسعهَا.

والوسع هُوَ: مَا تسعه النَّفس، فَلَا تضيق عَنهُ، وَلَا تعجز عَنهُ، فالوسع فعل بِمَعْنى مفعول، كالجهد.

وَهَذَا أَيْضًا كَقَوْلِه تَعَالَى: وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ [الحج:78]، وَقَوله: يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ [البقرة:185]، وَقَوله: مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ [المائدة:6]، والحرج: الضّيق، فَهُوَ نفى أَن يكون عَلَيْهِم ضيقٌ، أَي: مَا يضيق عَنْهُم، كَمَا أخبر أَنه لَا يُكَلِّف النَّفس إِلَّا مَا تسعه، فَلَا بُد أَن يكون الْإِيجَابُ وَالتَّحْرِيم مِمَّا تسعه النَّفسُ، حَتَّى يقدر الْإِنْسَانُ على فعله، وَلَا بُدَّ أَن يكون الْمُبَاحُ مِمَّا يسع الْإِنْسَان، وَلَا يضيق عَنهُ؛ حَتَّى يكون للإنسان مَا يسع الْإِنْسَان وَيحمل الْإِنْسَان، وَلَا يضيق عَنهُ من الْمُبَاح.

وليتدبر الْفَرق بَين مَا يَسعهُ الْإِنْسَان، وَهُوَ الوسع الَّذِي قيل فِيهِ: لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا [البقرة:286]، وَبَين مَا يسع الْإِنْسَان فَلَا يكون حرجًا عَلَيْهِ، وَهُوَ مِمَّا لَا بُدَّ للْإنْسَان مِنْهُ من الْمُبَاحَات، وَهَذَا يكون فِي صفة فعل الْمَأْمُور بِهِ، كَمَا فِي الْوضُوء وَالصَّلَاة، فَلَا بُدَّ أن يكون المجزئ لَهُ من ذَلِك مَا يسع الْإِنْسَان، وَالْوَاجِب عَلَيْهِ مَا يَسعهُ الْإِنْسَان، وَيكون فِي بَاب الْحَلَال وَالْحرَام، فَلَا يحرم عَلَيْهِ مَا لَا يسع هُوَ تَركه، بِحَيْثُ يَبْقى الْمُبَاحُ لَهُ ضيقًا مِنْهُ لَا يَسعهُ.

وَإِذا كَانَ كَذَلِك فَيَنْبَغِي أَن يُعلم أَنَّ للقلوب قدرَةً فِي بَاب الْعِلم والاعتقاد العلمي، وَفِي بَاب الْإِرَادَة وَالْقَصْد، وَفِي الْحَرَكَة الْبَدَنِيَّة أَيْضًا.

فالخطأ وَالنِّسْيَان هُوَ من بَاب الْعِلم يكون: إِمَّا مَعَ تعذر الْعِلم عَلَيْهِ، أَو تعسره عَلَيْهِ، وَالله قد قَالَ: وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ [الحج:78]، وَقَالَ: يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ [البقرة:185].

وَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ فِي الحَدِيث الْمُتَّفق عَلَيْهِ لِمُعَاذٍ وأبي مُوسَى لما أرسلهما إِلَى الْيَمَن: يسِّرا وَلَا تُعسِّرا، وبشِّرا وَلَا تُنفِّرا، وطاوعا وَلَا تختلفا.

وَإِذا كَانَ كَذَلِك فَمَا عجز الْإِنْسَانُ عَن عمله واعتقاده حَتَّى يعْتَقد وَيَقُول ضِدّه خطأً أَو نِسْيَانًا، فَذَلِك مَغْفُورٌ لَهُ، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: إِذا اجْتَهد الْحَاكِمُ فَأصَاب فَلهُ أَجْرَانِ، وَإِذا اجْتَهد فَأَخْطَأَ فَلهُ أجر، وَهَذَا يكون فِيمَا هُوَ من بَاب الْقيَاس وَالنَّظَر بعقله ورأيه، وَيكون فِيمَا هُوَ من بَاب النَّقْل وَالْخَبَر الَّذِي يَنَالهُ بسمعه وفهمه وعقله، وَيكون فِيمَا هُوَ من بَاب الإحساس وَالْبَصَر الَّذِي يجده ويناله بِنَفسِهِ.

فَهَذِهِ المدارك الثَّلَاثَة قد يحصل للشَّخْص بهَا علمٌ يقطع بِهِ، وَيكون ضَرُورِيًّا فِي حَقِّه، مثلمَا يجده فِي نَفسه من الْعُلُوم الضَّرورية، وَمثلمَا سَمعه من النَّبِي ﷺ، أَو من المخبرين لَهُ الصَّادِقين خَبرًا يُفِيدهُ الْعِلم: كالخبر الْمُتَوَاتر الَّذِي يُفِيدهُ الْعِلم تَارَةً بِكَثْرَة عدد المخبرين، وَتارَةً بصفاتهم، وَتارَةً بهما، وَغير ذَلِك مِمَّا يُفِيد الْعِلم.

وَقد يكون مِمَّا علمه بآثاره الدَّالَّة عَلَيْهِ، أَو بِحكم نظره المساوي لَهُ من كل وَجهٍ، أو الَّذِي يدل على الآخر بطرِيق الأولى والتَّنبيه وَنَحْو ذَلِك، وَمَعَ هَذَا فَتكون هَذِه الْعُلُوم عِنْد غَيره مُتيقنةً مَعَ اجْتِهَاده؛ لدقة الْعُلُوم أَو خفائها، أَو لوُجُود مَا يعْتَقد المعتقد أَنه يُعَارض، وَلَا يكون مُعَارضًا فِي الْحَقِيقَة، فيشتبه بالمعارض؛ لاشتباه الْمُعَارض، لاشتباه الْمعَانِي، أو لاشتراك الْأَلْفَاظ.

فَهَذَا من أعظم أَسبَاب اخْتِلَاف بني آدم من الْمُؤمنِينَ وَغَيرهم؛ وَلِهَذَا نجد فِي الْمُخْتَلِفين كل طَائِفَة تدَّعي الْعِلم الضَّرُورِيَّ، فَمَا يَقُوله إِمَّا من جِهَة الْقيَاس وَالنَّظَر، وَإِمَّا من جِهَة السماع وَالْخَبَر، وَإِمَّا من جِهَة الإحساس وَالْبَصَر، وَلَا تكون وَاحِدَة من الطَّائِفَتَيْنِ كَاذِبَةً، بل صَادِقَة، لَكِن يكون قد أدخل مَعَ الْحقِّ مَا لَيْسَ مِنْهُ فِي النَّفْي وَالْإِثْبَات؛ لاشتباه الْمَعَانِي، واشتراك الْأَلْفَاظ، فَيكون حِينَئِذٍ مَا يَنْفِيه هَذَا يُثْبتهُ الآخر، وَلَو زَالَ الِاشْتِبَاه والاشتراك زَالَ الْخلافُ التَّضادي، وَكَانَ اخْتِلَافُ النَّاس فِي مسَائِل الْجَبْر وَالْقَدر، ومسائل نفي الْجِسْم وإثباته، وَنفي مُوجب الْأَخْبَار وَإِثْبَات ذَلِك هُوَ من هَذَا الْبَاب.

وَهَذَا كُله مَوْجُودٌ فِي كتب أهل الْكَلَام وَأهل الحَدِيث وَالْفِقْه، وَغير ذَلِك.

وَقَول الْقَائِل: "إِنَّ الضَّروريات يجب اشْتِرَاك الْعُقَلَاء فِيهَا" خطأ، بل الضَّروريات كالنَّظريات: تَارَةً يشتركون فِيهَا، وَتارَةً يخْتَص بهَا مَن جعل لَهُ قُوَّة على إِدْرَاكهَا.

س: إذا اعتقد خطأً في أصول العقائد؟

ج: يختلف هذا: إن كان في أدلةٍ ظاهرةٍ فخطأ، فهذا قصور في عمله، ما اعتنى، أما الذي قد يخفى من دقائق الأمور، أو في محلٍّ بعيدٍ عن الإسلام والمسلمين، مثل: الذي أوصى بإحراق نفسه، وما أشبهه، فهذا قد يُعذر؛ لقوله جلَّ وعلا: وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا [الإسراء:15]، أما إنسانٌ بين العلماء وبين المسلمين، وعنده الأدلة، وليس هناك مانعٌ، وهو يقول: إنه أخطأ فيها كذا، وغلط فيها كذا. فهذا في الغالب يكون من جهة قصورٍ في العمل، وعدم بذله لطلب الحقِّ، فلا يكون خطأه مغفورًا؛ لأنه قصر في طلب الحقِّ، وهو مأمورٌ بطلب الحقِّ والاجتهاد في تحصيله، هذا مقام خطير.

وَكَذَلِكَ قَول الْقَائِلين: "إِنَّ الطَّائِفَة الَّتِي تبلغ عددَ التَّوَاتُر لَا يتَّفقون على جحد الضَّروريات" لَيْسَ بصوابٍ، بل يتَّفقون على ذَلِك إِذا تواطأوا عَلَيْهَا، وَخبر التَّوَاتُر مَتى كَانَ عَن تواطؤٍ لم يُفد الْعِلم، وَإِنَّمَا يُفِيد الْعِلم لانْتِفَاء التَّواطؤ فِيهِ، وَإِذا كَانَ كَذَلِك فقد يكون المختلفون قد اجْتَهد أحدُهم فَأصَاب، وَيكون الآخرُ اجْتهد فَأَخْطَأَ، فَيكون للْأَوَّلِ أَجْرَانِ، وَللثَّانِي أجر، مَعَ أَنَّ خطأه مغْفُورٌ لَهُ، وَقد يكون كِلَاهُمَا اجْتهد فَأَخْطَأَ فَيُغْفر لَهما جَمِيعًا، مَعَ وجود الْأَجر.

وَيكون الصَّوَابُ فِي قَوْلنَا: ثَالِثًا: أما تَفْصِيل مَا أَطْلقُوهُ، مثل: أَن ينفي هَذَا نفيًا عَامًّا، وَيُثبت الآخر مَا نَفَاهُ الأول، فيفصل الْمُفصل، وَيُثبت الْبَعْض دون الْبَعْض، وَكَذَلِكَ فِي الْمَعْنى المشتبه، وَاللَّفْظ الْمُشْتَرك يفصل بَين الْمَعْنى، وَمَا يُشبههُ إِذا كَانَ مُخَالفًا لَهُ، وَبَين معنى لفظ، وَمعنى لفظ.

ثمَّ إِنَّه من مسَائِل الْخِلاف مَا يتَضَمَّن أَنَّ اعْتِقَاد أَحدهمَا يُوجِب عَلَيْهِ بُغض الآخر ولعنه، أَو تفسيقه، أَو تكفيره، أَو قِتَاله، فَإِذا فعل ذَلِك مُجْتَهدًا مُخطئًا كَانَ خَطؤُهُ مغفورًا لَهُ، وَكَانَ ذَلِك فِي حقِّ الآخر محنةً فِي حَقِّه، وفتنةً وبلاءً ابتلاه بِهِ.

وَهَذِه حَال الْبُغَاة المتأوِّلين مَعَ أهل الْعِدْل، سَوَاء كَانَ ذَلِك بَين أهل الْيَد والقتال من الْأُمَرَاء وَنَحْوهم، أَو بَين أهل اللِّسَان وَالْعَمَل من الْعُلمَاء والعُبَّاد وَنَحْوهم، وَبَين مَن يجمع الْأَمْرَيْنِ.

وَلَكِن الِاجْتِهَاد السَّائغ لَا يبلغ مبلغ الْفِتْنَة والفُرقة إِلَّا مَعَ البغي، لَا لمُجَرّد الِاجْتِهَاد، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ [آل عمران:19]، وَقَالَ: إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ [الأنعام:159]، وَقَالَ: وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ [آل عمران:105].

فَلَا يكون فتْنَةً وَفُرْقَةً مَعَ وجود الِاجْتِهَاد السَّائغ، بل مَعَ نوع بغيٍ؛ وَلِهَذَا نهى النَّبِيُّ ﷺ عَن الْقِتَال فِي الْفِتْنَة، وَكَانَ ذَلِك من أصُول السُّنة، وَهَذَا مَذْهَب أهل السّنة والْحَدِيث وأئمة أهل الْمَدِينَة من فُقهائهم وَغَيرهم.

وَمن الْفُقَهَاء مَن ذهب إِلَى أَنَّ ذَلِك يكون مَعَ وجود الْعِلم التَّام من أَحدهمَا، والبغي من الآخر، فَيجب الْقِتَال مَعَ الْعَادِل حِينَئِذٍ، وعَلى هَذَا الْفِتْنَة الْكُبْرَى بَين أهل الشَّام وَالْعِراق: هَل كَانَ الأصوبُ حَال القاعدين أَو حَال المقاتلين من أهل الْعِرَاق؟ والنصوص دلَّت على الأول.

الشيخ: محل نظرٍ، لكن قد يسلم بالنسبة إلى بعض الأشخاص الذين التبس عليهم الأمر، فيكون كما قال رحمه الله الصواب مع القاعد الذي التبس عليه الأمرُ، مثلما قعد محمدُ بن مسلمة، وسعد بن أبي وقاص، وجماعة، ولكن مَن عرف الحقَّ وظهر له المصيبُ وخطأ المخطئ فلا يكون معذورًا؛ ولهذا الذين ظهر لهم الصوابُ، وصاروا مع عليٍّ وقاتلوا لهم أجران، فهم أصابوا وصاروا مع الطائفة التي هي أولى بالحقِّ، وهي التي بُغي عليها، والطائفة الأخرى من أهل الشَّام صاروا هم البُغاة، وصار لهم أجرٌ واحدٌ لخطئهم، هذا هو الصواب.

لكن مَن اشتبه عليه الأمرُ، ولم يتَّضح له وجه الصواب، وقعد من هذه الحيثية، فيكون مُصيبًا من هذه الحيثية؛ لاشتباه الأمور عليه، فمَن اشتبهت عليه الأمورُ وجب عليه أن لا يدخل في شيءٍ مُشتبه، ولا سيما في سفك الدِّماء، وفيه عرض لأشياء كثيرةٍ: من ضربٍ، أو من أخذ مالٍ، أو من غير هذا.

المقصود أنه إذا اشتبه الأمرُ فهذا هو وجه الصواب في حقِّ مَن قعد، كالأشياء الأخرى التي لا يُعرف فيها صواب القاتل من المقتول، فإنَّ خيرهما مَن كفَّ عنها، كأحد ابني آدم.

وَقَالُوا: كَانَ تركُ قتال أهل الْعِرَاق أصوب، وَإِن كَانُوا أقرب إِلَى الْحقِّ وَأولى بِهِ من الشَّام إِذْ ذَاك، كَمَا بسطنا الْكَلَام فِي هَذَا فِي غير هَذَا الْمَوضع، وتكلمنا على الْآيَات والأحاديث فِي ذَلِك.

وَمن أصُول هَذَا الْمَوضع أَنَّ مُجَرّد وجود البغي من إِمَامٍ أَو طَائِفَةٍ لَا يُوجب قِتَالهمْ، بل لَا يُبيحه، بل من الْأُصُول الَّتِي دلَّت عَلَيْهَا النُّصُوص أَنَّ الإِمَامَ الجائر الظَّالِم يُؤمَر النَّاسُ بِالصبرِ على جوره وظلمه وبغيه، وَلَا يُقاتلونه، كَمَا أَمر النَّبِيُّ ﷺ بذلك فِي غير حَدِيثٍ، فَلم يَأْذَن فِي دفع الْبَغي مُطلقًا بِالْقِتَالِ، بل إِذا كَانَت فِيهِ فتْنَة نهى عَن دفع الْبَغي بِهِ، وَأمر بِالصبرِ.

وَأما قَوْله سُبْحَانَهُ: فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي [الحجرات:9] فَهُوَ سُبْحَانَهُ قد بَيَّن مُرَاده، وَلَكِن من النَّاس مَن يضع الْآيَةَ على غير موضعهَا، فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ قَالَ: وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ.