55- باب ما جاء في كثرة الحلف

 
وقول الله تعالى: وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ [المائدة: 89].
عن أبي هريرة قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: الحلف منفقة للسلعة، ممحقة للكسب أخرجاه.
وعن سلمان أن رسول الله ﷺ قال: ثلاثة لا يكلمهم الله، ولا يزكيهم، ولهم عذاب أليم: أشيمط زان، وعائل مستكبر، ورجل جعل الله بضاعته: لا يشتري إلا بيمينه، ولا يبيع إلا بيمينه رواه الطبراني بسند صحيح.
وفي الصحيح عن عمران بن حصين قال: قال رسول الله ﷺ خير أمتي قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم - قال عمران فلا أدري أذكر بعد قرنه مرتين أو ثلاثا - ثم إن بعدكم قوما يشهدون ولا يستشهدون، ويخونون ولا يؤتمنون، وينذرون ولا يوفون، ويظهر فيهم السمن.
وفيه: عن ابن مسعود أن النبي ﷺ قال: خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم. ثم يجيء قوم تسبق شهادة أحدهم يمينه، ويمينه شهادته.
وقال إبراهيم: "كانوا يضربوننا على الشهادة والعهد ونحن صغار".

الشيخ:
الحمد لله، وصلى الله وسلم على رسول الله، وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداه.
أما بعد:
فهذا الباب عقده المؤلف، وهو الإمام أبو عبدالله محمد بن عبدالوهاب بن سليمان بن علي التميمي الحنبلي رحمه الله، المجدد لما اندرس من معالم الإسلام في هذه الجزيرة في النصف الثاني من القرن الثاني عشر رحمه الله.
يقول رحمه الله: "باب ما جاء في كثرة الحلف" يعني من الوعيد الشديد والتحذير؛ لأن كثرة الحلف من أسباب اليمين الغموس،  ومن أسباب الكذب، ومن أسباب الجرأة على الله، إذا كان الإنسان كثير الحلف اجترأ على حقوق الله وحقوق عباده، وخفت عليه اليمين، وسهل عليه الكذب، فالواجب الحذر، ولهذا يقول الله جل وعلا: وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ [المائدة: 89] فالله أمر بحفظ اليمين، فالواجب على كل مسلم أن يحفظ يمينه، وأن لا يحلف إلا عن بصيرة وعن حاجة لهذه اليمين.

ويقول النبي ﷺ: الحلف منفقة للسلعة ممحقة للكسب يعني أن الإنسان إذا أكثر الحلف، قد يصدق وتدرج سلعته ينفقها يمشيها والله إنها كذا والله أنها جيدة، والله أن هذه ناقة طيبة، والله أن هذه السيارة طيبة، والله أن هذا البيت جيد، والله أني أنفقت فيه، والله أني خسرت فيه، يمدح فيه، فيغر بعض الناس بأيمانه وقد يكون كثير منها كذب، فكثرة الحلف تنفق السلع وتمحق الكسب، تنزع بركة الكسب، فالواجب الحذر من ذلك وألا يحلف الإنسان إلا على بصيرة وعن صدق.

الحديث الثاني يقول ﷺ: ثلاثة لا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم: أشيمط زان أشيمط يعني شيخ كبير السن، ومع شيبته يزني هذا يدل على خبث طويته وأن الشر متأصل فيه نعوذ بالله.
وعائل مستكبر عائل يعني فقير ومستكبر مع فقره يستكبر، فكيف لو كان غنيًا؟ كيف تكون حاله؟ الغني قد يحمله المال والغنى على التكبر، وإن كان منكر وعظيم وكبيرة من الغني والفقير، لكن إذا كان الزنا من الشيخ من كبير السن، وكان التكبر من الفقير صار أشد وأعظم في الإثم نعوذ بالله.
والرجل الثالث: رجل جعل الله بضاعته، لا يبيع إلا بيمينه ولا يشتري إلا بيمينه، والله أنها بكذا، والله أني شريتها بكذا، والله أنها طيبة، والله أنها كذا، عنده الأيمان زاهدة حتى يمشي السلعة هذا لا يجوز: رجل جعل الله بضاعته يعني ديدنه في بيعه وشرائه كل شيء بحلف، لا يبيع إلا بيمينه ولا يشتري إلا بيمينه؛ فهذا فيه التحذير من كثرة الأيمان على غير بصيرة، فلا يحلف إلا على بصيرة وعلى صدق.

وفي الحديث الثالث: حديث عمران بن حصين بن عبيد الخزاعي رضي الله عنه صحابي وأبوه صحابي، يقول عن النبي ﷺ أنه قال: خير أمتي قرني، وهم الصحابة، خير أمة محمد ﷺ الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم هم خير قرن النبي ﷺ: ثم الذين يلونهم التابعون ثم الذين يلونهم أتباع التابعين، ثم يجيء قوم يشهدون ولا يستشهدون، ويخونون ولا يؤتمنون، وينذرون ولا يوفون يعني بعد القرون الثلاثة يكثر في الناس من يشهد بالكذب، ومن يخون ولا يؤتمن، وينذر ولا يوفي بسبب ضعف الإيمان.
والمقصود من هذا التحذير من هذه الخصال وأنه كلما طال الأمد وبعد عهد النبوة كثرت المعاصي والشرور والجهل فينبغي للمؤمن أن يحذر أعمال الجاهلين وأن لا يشهد إلا عن بصيرة، وأن لا يحلف إلا عن بصيرة، وأن لا يخون الأمانة.
قال: ويظهر فيهم السمن يعني تعظم أجسامهم بسبب كثرة الأكل ونسيان الآخرة، يعني تعظم أجسامهم بسبب قلة إيمانهم وقلة خوفهم من الله وقلة مبالاتهم ، قد يسمن الإنسان بغير شيء، لكن بعض الناس بسبب قلة مبالاته وإقباله على الدنيا ومتاعها وشهواتها لا يبالي بأمر الله، ويظهر فيهم السمن تعظم أجسامهم وبطونهم بسبب كثرة الأكل مع قلة الخوف من الله، وقلة المبالاة بأمر الله نسأل الله العافية.
أما السمن إذا كان عن غير إعراض فإنه لا يضر الإنسان، لكن إذا كان عن غفلة وإعراض فهذا هو المصيبة، نسأل الله العافية.

وفي حديث ابن مسعود: خير الناس قرني خير الناس جميعًا قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ثم يجيء قوم تسبق شهادة أحدهم يمينه ويمينه شهادة يعني ما يبالي، يقول: أشهد وإلا يقول: والله ما عنده مبالاة سواء يشهد وإلا يحلف، وهذا وقع في الناس بعد القرون المفضلة، ضعف الإيمان وكثر في الناس الكذابون، ولهذا وضع الأئمة الكتب في بيان الثقات الرواة والضعفاء والمجاهيل، حتى تسلم الأمة من شر الجهلة والكذابين، والمقصود من هذا الباب كله التحذير من الأيمان الفاجرة، ومن كثرة الأيمان، التي تجرك إلى الكذب وتجرك إلى الحلف على غير بصيرة.
فالواجب عليك أن تتثبت في الأيمان وألا تحلف إلا عن بصيرة وعن صدق .
وفق الله الجميع.

الأسئلة:

س: هل القرن مائة سنة؟
الجواب: في اصطلاح الناس مائة سنة، وإلا القرن الجيل، الجيل المتلاحق يعني والغالب أنه يتلاحق في مائة سنة.