الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداه، أما بعد:
فقد سمعنا جميعًا هذه الندوة المباركة التي تولاها صاحب الفضيلة: الشيخ محمد بن عبدالرحمن الراوي، والشيخ عبدالرحمن بن حماد آل عمر، في موضوع تحكيم الشريعة، وما يترتب على ذلك من الخير العظيم، والأمن والصلاح والاستقامة، وما يترتب على عدم ذلك من الفوضى والاختلاف واختلال الأمن وطمع القوي في الضعيف، وانتشار الرذائل واختفاء الفضائل إلى غير ذلك من المفاسد والشرور، وقد أجادا وأفادا وأوضحا ما ينبغي إيضاحه في هذا المقام، فجزاهما الله خيرًا، وبارك فيهما، وزادنا وإياكم وإياهما علمًا وهدى وتوفيقًا، وضاعف للجميع المثوبة، ونفعنا جميعًا بما سمعنا وعلمنا.
ولا شك أن موضوع تحكيم الشريعة موضوع عظيم، ولا شك أن الله أوجب على الأمة ذلك، فإن الله سبحانه خلق الخلق ليعبد وحده لا شريك له قال تعالى: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات:56]، وخلق ما خلق من هذه الدنيا من سماء وأرض وموت وحياة وغير ذلك ليبلو الناس أيهم أحسن عملًا، كما قال تعالى: الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا [الملك:2]، وقال سبحانه: وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا [هود:7]، وقال سبحانه: إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا [الكهف:7].
فالعباد خلقوا ليعبدوا الله وليعظموا أمره ونهيه، وخلق لهم ما في الأرض وخلق كل شيء لابتلائهم أيهم أحسن عملًا هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا [البقرة:29]، اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا [الطلاق:12]، فالعباد مبتلون بهذه المخلوقات، مأمورون بأن يعبدوا الله وحده، ويطيعوه، مأمورون بأن يتعاونوا على البر والتقوى، مأمورون بأن يبتعدوا عما حرم الله عليهم، فهم مبتلون بالتكاليف وما خلق لهم من المخلوقات لينظروا ويتأملوا ويسارعوا إلى الخير ويبتعدوا عن الشر حتى يفوزوا بالسعادة في الدنيا والآخرة، وحتى يحمدوا العاقبة، وحتى ينتشر بينهم الخير، ويختفي بينهم الشر ...... لهم الشيطان وابتلوا بالشيطان والشهوات ليجتهد المؤمن في محاربة هواه وشيطانه وفي طاعة ربه ومولاه سبحانه وتعالى، فهناك شيطان يأمر بالفحشاء والمنكر، وهناك شهوات جامحة تريد هواها، وهناك نفوس أمارة بالسوء، وهناك نواب الشيطان ودعاة الباطل ودعاة النار، فأنت مبتلى بهذه الأمور، فمن كان أحسن عملًا فهو عند الله أرفع منزلة، وهو عند الله المرضي المقرب، وله العاقبة الحميدة أكثر من غيره، فعلى حسب عمل العبد ونشاطه في طاعة الله واجتهاده في العمل الصالح والإحسان في أداء حق ربه تكون منزلته عند الله ، هل جزاء الإحسان إلا الإحسان.
وتحكيم الشريعة هو الطريق الوحيد لأداء حق الله ، ولإحسان العمل، ولنفع الناس، والأخذ على يد الظالم والسفيه، وإيقاف كل منهما عند حده، كما قال : ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ [الجاثية:18-19]، وقال سبحانه: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا [المائدة:3].
فالعباد مأمورون بأن يأتمروا بأمر الله، ويحكموا شرع الله، وينقادوا لأمره، وموعودن بالنصر والتأييد والسعادة في الدنيا والآخرة، وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا [النور:55]، ويقول سبحانه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ [محمد:7]، ويقول : وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (40) الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ [الحج:40-41]، ويقول : وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ [الروم:47]، فهم موعودون بالنصر والتأييد إذا استقاموا ونصروا دين الله، وحافظوا عليه، وتعاونوا على البر والتقوى، وآثروا رضاه جل وعلا على أهواء النفوس وعلى حظوظها، ومأمورون بأن يعدوا العدة لأعداء الله؛ لأن الأسباب مأمور بها، والنصر بيد الله جل وعلا كما قال سبحانه: وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ [الأنفال:60] الآية، ويقول : إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [الأنفال:9-10]، وفي الآية الأخرى: وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ [آل عمران:126]، فالنصر من عنده جل وعلا لأوليائه وأهل طاعته على أعدائه وخصوم الإسلام، ولكنه يبتلي هؤلاء بهؤلاء، وهؤلاء بهؤلاء، ليبلوهم أيهم أحسن عملًا، ليبلوهم هل ينصرون دين الله؟ هل يصبرون؟ هل يتقون الله؟ هل يقدمون رضاه؟ هل ينفقون في سبيله؟ هل يضحون بالنفس والمال وكل شيء في طاعته واتباع أمره؟ أم ليس كذلك؟ فمن نجح في الامتحان فأطاع ربه واستقام على أمره واستعمل نعمه في طاعته وجاهد في سبيله فله السعادة الأبدية، وله الخير العظيم، والعاقبة الحميدة، ومن رسب في هذا الامتحان وتابع الهوى والشيطان صار إلى النار، نعوذ بالله من ذلك.