3- من حديث (أن النبي ﷺ عرض على قوم اليمين فأسرعوا فأمر أن يسهم بينهم أيهم يحلف..)

1427- وعَنْ أَبي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ رضي الله تعالى عنه: أَنَّ رَجُلَيْنِ اخْتَصَمَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فِي دَابَّةٍ، ولَيْسَ لِوَاحِدٍ مِنْهُ بَيِّنَةٌ، فَقَضَى بِهَا رَسُولُ اللَّهِ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ. رَوَاهُ أَحْمَدُ، وأَبُو دَاوُدَ، والنَّسَائِيُّ، وهَذَا لَفْظُهُ، وقَالَ: إِسْنَادُهُ جَيِّدٌ.

1428- وعَنْ جَابِرٍ : أَنَّ رسول الله ﷺ قَالَ: مَنْ حَلَفَ عَلَى مِنْبَرِي هَذَا بِيَمِينٍ آثِمَةٍ، تَبَوَّأَ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ. رَوَاهُ أَحْمَدُ، وأَبُو دَاوُدَ، والنَّسَائِيُّ، وصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ.

1429- وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله تعالى عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: ثَلَاثَةٌ لَا يُكَلِّمُهُم اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، ولَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ، ولَا يُزَكِّيهِمْ، ولَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ: رَجُلٌ عَلَى فَضْلِ مَاءٍ بِالْفَلَاةِ يَمْنَعُهُ مِنِ ابْنِ السَّبِيلِ، ورَجُلٌ بَايَعَ رَجُلًا بِسِلْعَةٍ بَعْدَ الْعَصْرِ، فَحَلَفَ لَهُ بِاللَّهِ: لَأَخَذَهَا بِكَذَا وكَذَا، فَصَدَّقَهُ، وهُوَ عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ، ورَجُلٌ بَايَعَ إِمَامًا لَا يُبَايِعُهُ إِلَّا لِلدُّنْيَا، فَإِنْ أَعْطَاهُ مِنْهَا وفَى، وإِنْ لَمْ يُعْطِهِ مِنْهَا لَمْ يَفِ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

 

الشيخ:  الحمد لله، وصلى الله وسلم على رسول الله، وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداه.

أما بعد: فحديث أبي موسى فيه الدلالة على أنَّ الخصمين أو أكثر إذا اختصموا في عينٍ وليس بينهم بينة تقسم بينهم، إذا لم يدعها مَن هي في يده، إذا كانت في أيديهما، أو في يد أشخاصٍ لا يدَّعيها، فإنها تقسم بينهما، فإذا كان لا بينةَ لهما فإنها تُقسم بينهما، فإن تشاحّوا فإنه يحلف مَن يُقرع بينهم الحلف، ويستحق كما تقدَّم في حديث أبي هريرة: أن النبي ﷺ عرض على قومٍ اليمين، فأسرعوا، فأمر أن يُسهم بينهم أيّهم يحلف، فإذا تشاحّوا كل واحدٍ يقول: أنا هي عين مالي، وأستحقُّها، فإنهم يُقرع بينهم، فيحلف مَن يزعم أنها ماله ولا بينةَ له، أما إذا لم تكن بينهم بينة، ولم يتشاحوا، تُقسم بينهم كما قسم النبيُّ ﷺ بينهم الدَّابة عليه الصلاة والسلام.

وهذا هو الجمع بين الحديثين: حديث أبي موسى، وحديث أبي هريرة المتقدم، فإنَّ الخصوم قد يتشاحون، وكل واحد يقول: هي عين مالي، ما أسمح بها لغيري، وأنا مُستعدٌّ لليمين على ذلك، ولا بينة، فإنه يُقرع بينهم، أيّهم حلف فلا بأس إذا اتَّفقوا على هذا، فأما إذا لم يتَّفقوا على هذا فإنها تُقسم بينهم العين اثنين، أنصاف ثلاثة أثلاث، أربعة أرباع؛ لحديث أبي موسى، هذا هو أحسن ما قيل في هذا.

والحديث الثاني حديث جابر: يدل على أن الحلف عند منبر صاحبه على خطرٍ إذا كذب، ولهذا قال جماعةٌ من أهل العلم: إنها تغلظ اليمين في المدينة عند منبر النبي ﷺ؛ لأنَّ الحلف عنده على خطرٍ إذا كذب، وهذا من باب تغليظ اليمين.

فالواجب على المؤمن الصدق أينما حلف، وأن يتحرى الصدق، ويحذر الكذب، كما تقدَّم قوله ﷺ: مَن حلف على يمينٍ وهو فيها فاجر لقي الله وهو عليه غضبان، فالواجب على المؤمن الحذر، سواء حلف في مسجد النبي، أو عند المنبر، أو في أي مكانٍ، فالواجب عليه أن يتَّقي الله، وأن يصدق ويتحرى قول الحق.

والحديث الثالث حديث أبي هريرة: يقول ﷺ: ثلاثة لا يُكلمهم الله، ولا ينظر إليهم يوم القيامة، ولا يُزكيهم، ولهم عذاب أليم، هذا وعيدٌ شديدٌ.

الأول: رجلٌ على فضل ماء بالفلاة يمنعه من ابن السبيل، هذه كبيرةٌ من كبائر الذنوب، كونه على فضل ماءٍ في البَرِّ، ويمنعه من ابن السبيل: ألا يشرب، أو لا يُورد غنمه، وعنده فضل، فهذا وعيدٌ شديدٌ؛ لأنَّ الماء مُشترك كما تقدَّم: الناس شركاء في ثلاثة: في الماء، والكلأ، والنار، فالواجب عليه تمكين مَن حوله من الشرب، وألا يمنعهم.

والثاني: رجلٌ باع لرجلٍ سلعةً بعد العصر، فحلف له بالله، ختم نهاره بهذا، حلف له بالله، وكذا، وكذا أنه عليَّ بكذا وكذا، عليَّ بألف ريـال، فصدَّقه وهو كاذب، وعيد شديد، بألف ريـال، بمئة ريـال، بأقل، بأكثر، هذا يُفيد أن اليمين الغموس تعظم وقت العصر عند ختم النهار -نسأل الله العافية- يكون إثمها أعظم إذا كانت في آخر النهار -نسأل الله العافية- كونه يختم نهاره باليمين الفاجرة.

والثالث: رجلٌ بايع إمامًا، لا يُبايعه إلا للدنيا، فإن أعطاه منها وفى بالبيعة، وإن لم يُعطه ولم يُرضه لم يفِ، فهذا مُتَّبعٌ لهواه -نسأل الله العافية- والذي يُخالف ولي الأمر ويعصي ولي الأمر على خطرٍ عظيم، فالواجب على المؤمن أن يتَّقي الله، وأن يفي بالبيعة، ويتَّقي الله في السمع والطاعة؛ لأنَّ الله قال: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ واسْمَعُوا وأَطِيعُوا [التغابن:16]، والنبي ﷺ قال: على المرء السمع والطاعة فيما أحبَّ وكره، ما لم يُؤمر بمعصية الله، فالواجب على المؤمن أن يتَّقي الله .....، وأن يحذر شقَّ العصا لأجل اتِّباع الهوى -نسأل الله للجميع العافية والسلامة.

 

الأسئلة:

س: صحَّة حديث جابر الحلف على منبري؟

ج: صحيح، وهو من أسباب وجوه التَّغليظ.

س: هل يستدلّ به على التَّغليظ مطلقًا؟

ج: عند المنبر يعني.

س: هل من التَّغليظ؛ فتح المصحف أثناء الحلف؟

ج: ما عليه دليل.

س: ولو وضع لها هل له أن ...؟

ج: ما عليه دليل، ولا يلزم التَّحليف عليه.

س: الدابة على النّصف، يعني بعد ذبحها؟

ج: تُباع ويُقسم الثمن بينهما، وإن ذبحاها وأكلاها بينهما فلا بأس، إذا كانت تُؤكل.

س: قوله: ثلاثةٌ لا يُكلِّمهم الله، قال بعضُهم أنَّ معناه: لا يُكلِّمهم الله كلام رضا، هل هذا صحيح؟

ج: هذا من باب الوعيد؛ لأنَّ الله يُكلم عباده جلَّ وعلا يوم القيامة: ما منكم من أحدٍ إلا سيُكلِّمه ربُّه ليس بينه وبينه ترجمان، فينظر عن يمينه...، وهذا وجيه، أن المقصود كلام رضا؛ ومعناه أنه قد غضب عليهم جلَّ وعلا.

س: التَّغليظ فقط على منبر رسول الله ﷺ، أم في مكة، أو في الأزمنة الشريفة؟

ج: في مكة أعظم وأكبر، وفي رمضان أعظم وأكبر.

س: لم تصم رمضان السابق إلى الآن لمرض السكر والضغط، وما أشبه ذلك؟

ج: تصوم، تصوم.

س: تقول: أنا ما أستطيع، فما الواجب؟

ج: تصوم، تصوم، باقي مدة.

س: تقول: ما أستطيع مُستقبلًا؟

ج: ولو بعد رمضان يبقى في ذمَّتها حتى تستطيع، الله يقول: وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ [البقرة:185]، ولو بعد رمضان.

س: ولا في إطعام، ولا شيء؟

ج: إذا كان مرضًا لا يُرْجَى برؤه تُطعم عن كل يومٍ مسكينًا، وأما إن كان يُرجى برؤه تصوم ولو بعد رمضان.

س: هل من تغليظ الحلف في المسجد، أو في يوم الجمعة؟

ج: ما ورد، ما أعرف في هذا شيئًا.

س: ما عليه دليل؟

ج: ما أعلم فيه شيئًا.

س: امرأة جاءها طفل، وطفلها صغير عنده خمسة شهور، ثم حملت، فهل لزوجها أن يأمرها أن تنزل الحمل في الأربعين الأولى؛ لأجل أن يُتم الولد الأول الرضاعة؟

ج: إذا رأيا المصلحة في ذلك فلا بأس في الأربعين الأولى، إذا رأيا المصلحة في ذلك.

س: وإذا كان في الأربعين الثانية؟

ج: لا، الأربعون الأولى خلصت.

 

1430- وعَنْ جَابِرٍ رضي الله تعالى عنه: أَنَّ رَجُلَيْنِ اخْتَصَمَا فِي نَاقَةٍ، فَقَالَ كُلُّ واحدٍ مِنْهُمَا: نُتِجَتْ عِنْدِي، وأَقَامَا بَيِّنَةً، فَقَضَى بِهَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ لِمَنْ هِيَ فِي يَدِهِ.

1431- وعَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تعالى عَنْهُمَا: أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ رَدَّ الْيَمِينَ عَلَى طَالِبِ الْحَقِّ. رَوَاهُمَا الدَّارَقُطْنِيُّ، وفِي إِسْنَادِهِمَا ضَعْفٌ.

1432- وعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: دَخَلَ عَلَيَّ النبيُّ ﷺ ذَاتَ يَوْمٍ مَسْرُورًا، تَبْرُقُ أَسَارِيرُ وَجْهِهِ، فَقَالَ: أَلَمْ تَرَيْ إِلَى مُجَزِّزٍ الْمُدْلِجِيِّ؟ نَظَرَ آنِفًا إِلَى زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ وأُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ، فَقَالَ: هَذِهِ الأَقْدَامُ بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

الشيخ: الحمد لله، وصلى الله وسلم على رسول الله، وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداه.

أما بعد: فهذه الأحاديث الثلاثة كلها تتعلق بالدعاوى والبينات:

الحديث الأول: الدلالة على أنَّ اليمين والقضاء يكون في جانب الأقوى، من كانت جهته أقوى، وليس هناك بينة، فهو الذي يحلف، ويأخذ العين المدّعاة، أو يسقط عنه المطلوب؛ لأنَّ هذين اختصما، وكل واحدٍ له بينة، فأسقط بيّنتهما وقضى بها لمن في يده، وإن كان في سنده ضعف، لكنه موافق لحديث: لو يُعطى الناسُ بدعواهم ..، ولكن اليمين على المدَّعى عليه، فهذان الشخصان كأنَّهما لا بينةَ لهما، فيقضى بالعين لمن هي في يده مع يمينه، كما لو كان لا بينةَ لهما، سواء بسواء.

وكذلك إذا كان عنده شاهد يكون جانبه أقوى، فيحلف مع شاهده، فإذا اختصما في شيءٍ، وأحدهما معه شاهد، فإنَّ صاحب الشاهد يحلف، والقاعدة الشرعية: أنَّ مَن غلب على الظن أنه صاحب الحق يحلف، ولهذا في القسامة يحلفون لأجل اللوث، ويستحقون دم القاتل بسبب اللوث، فهكذا مَن كان عنده شاهد واحد يحلف مع شاهده، أو كان في يده العين يحلف، ولا حقَّ للآخر المدَّعي؛ لقوله ﷺ: لو يُعطى الناسُ بدعواهم لادَّعى ناسٌ دماء رجال وأموالهم، ولكن اليمين على المدَّعى عليه، فإذا كان مع المدَّعي بينة كافية قُضي له، وإن كانت ناقصةً جُبرت باليمين، كالشاهد الواحد، واللوث يُجبر بالأيمان، وإن كان في السند ضعفٌ، لكنه موافقٌ للأدلة والقواعد الشرعية.

أما حديث مجزز في حديث عائشة فهو يدل على العمل بالقافة، وأنَّ القافة حقٌّ، ولهذا سُرَّ به النبي ﷺ لما قال مجزز: "إنَّ هذه الأقدام بعضُها من بعضٍ"، سُرَّ النبي ﷺ بذلك، فدلَّ ذلك على أنَّ القافة مُعتبرة إذا دعت الحاجةُ إليها.

وكان أسامة أسود، وزيد ليس بأسود، وكان الناس يشكُّون في نسبه، فلما قال مجزز: "إنَّ هذه الأقدام بعضُها من بعضٍ" سُرَّ به النبيُّ ﷺ؛ لأنَّ أسامة ثابت أنه ولد زيد بالبينة الشرعية، لكن كون مجزز شهد بأنَّ هذه الأقدام بعضها من بعضٍ، فهذا يُؤيد ما هو معروف، وإلا فالعمدة على الأصل: الولد للفراش، وللعاهر الحجر، لكن كون مجزز -وهو بصير بالشَّبَه- شهد أنَّ هذه الأقدام بعضها من بعضٍ، هذا مما يسرّ صاحبَ الحقِّ، ويسر زيدًا وأسامة، ولهذا سُرَّ النبيُّ ﷺ بذلك؛ لأن هذا يُؤيد الحق.

وفَّق الله الجميع.

 

الأسئلة:

س: قول مجزر ما يكون بينة؟

ج: هو بينة، سُرَّ به النبيُّ ﷺ، عند الحاجة إليها.