ثم بعد بر الوالدين ذكر ذا القربى وَبِذِي الْقُرْبَى [النساء:36]، يعني: أحسنوا إليهم، أحسنوا إلى الوالدين، وبذي القربى فهم أقاربك من أولادك وإخوتك واعمامك وبني عمك وأخوالك وخالاتك، أنت مأمور بصلتهم والإحسان إليهم، ومن صلتهم الإنفاق عليهم إذا احتاجوا، ومواساتهم حسب طاقتك من الزكاة وغيرها، وأولادك تقوم به من جهة مالك وتنفق عليهم من مالك بما يكفيهم من غير الزكاة، وأما غيرهم من الإخوة والأعمام والأخوال والخالات ونحو ذلك إذا افتقروا فلا مانع من الإحسان إليهم من الزكاة وغيرها، فأنت مأمور بصلتهم والإحسان إليهم وسد حاجتهم حسب الطاقة، فاتقوا الله ما استطعتم، ثم قال بعده: وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ [النساء:36] فاليتامى لهم حق والمساكين لهم حق، وإذا أطلق المساكين دخل فيهم الفقراء، وإذا أطلق الفقراء دخل فيهم المساكين، وهم طائفة واحدة عند انفراد أحدهم، وهم طائفتان عند الاقتران. واليتامى: من ليس له أب وهو صغير دون الحلم، يقال له: يتيم، فإذا كان له أب أو كان قد بلغ الحلم فلا يسمى يتيمًا، والمعنى الأمر بالإحسان إليه؛ لأنه مظنة الفقر والحاجة، فإذا كان يتيمًا قد أغناه الله بما أعطاه من الإرث فلا يحتاج إلى المواساة من المال، ولكنه يحتاج إلى التأديب والتوجيه الشرعي والتعليم، والفقراء والمساكين هم في الغالب أصحاب الحاجة، والفقير كما سمعتم من لا شيء له معدم أو عنده شيء يسير يقال له: فقير، ومن كان عنده شيء لكنه لا يبلغ كفايته يسمى مسكينًا كما قال جل وعلا: أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ[الكهف:79] سماهم مساكين وهم أصحاب سفينة يلتمسون الحاجة ويطلبون الرزق، سماهم مساكين ولهم سفينة يتجرون فيها لكنها لا تكفيهم، فلهذا سموا مساكين، المقصود أن المساكين والفقراء لهم حظ في الزكاة والإحسان.
ثم أوصى بالجيران وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ [النساء:36] فأمر بالإحسان إليهم وكف الأذى عنهم، والجار له حق عظيم في الإحسان إليه وكف الأذى عنه، وإذا كان فقيرًا وجب الإحسان إليه من جهة فقره ومن جهة جواره، فله حق الجوار وحق الفقر والحاجة، إذا كان قريبًا صار له حق آخر من جهة القرابة والجوار والفقر، وإذا كان مسلمًا صارت له حقوق هي: الإسلام، والجوار، والقرابة، والفقر، فينبغي لأهل الإسلام أن يعنوا بهذه الأمور، وأن يجودوا حتى يجود الله عليهم، وقد صح عن رسول الله عليه الصلاة والسلام أنه قال: «ما من يوم يصبح فيه الناس إلا وينزل فيه ملكان أحدهما يقول: اللهم أعط منفقًا خلفًا، والثاني يقول: اللهم أعط ممسكًا تلفًا»، فيكفي في حق المنفق أن الله جل وعلا يخلف عليه، والملك يدعو له كل صباح بأن الله يخلف عليه، كما قال : وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ [سبأ:39]، والملك يدعو له كل صباح أن الله يعطيه خلفًا، ويكفي في الشر للبخيل أن الملك كل صباح يدعو عليه بالتلف بسبب جرمه وبخله وشحه وعدم إحسانه.
فالمحسنون لهم عند الله فضل عظيم وأجر كبير، ولهم محبة في قلوب الناس من الفقراء وغيرهم، والبخلاء لهم وعيد شديد عند الله وعليهم خطر من عذابه وغضبه، ومع ذلك سبة عند الناس وكراهة من الناس وبغض من الناس، ولا حول ولا قوة إلا بالله.