ثم كتب ذلك وهو العالم بكل شيء من غير حاجة للكتابة، ولكن كتب ذلك لحكمة بالغة، وجعل هناك لوحًا محفوظًا أحصى فيه كل شيء وكتب كل شيء كما قال : أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ [الحج:70]، وقوله سبحانه: مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ [الحديد:22]، ويقول النبي ﷺ: إن الله قدر مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، وعرشه على الماء، ثم فصل هذا العلم وهذه الكتابة بعد ذلك، فيكتب للجنين ما يقع عليه، وما هو كائن حين كونه في بطن أمه، هل يعيش طويلًا أو قصيًرا، وهل يبلغ الحلم أو ما يبلغ الحلم، وهل يسقط حيًا أو ميتًا، وهو سعيد أو شقي، وهل يعيش في بلد كذا أو في بلد كذا أو في بلد كذا، وهل هو غني أو فقير، إلى غير ذلك، تكتب عليه هذه الأمور وهو في بطن أمه بأمر الله ، وهذا تفصيل من أمر عام، قدر مفصل من قدر سابق.
وهكذا في ليلة القدر القدر السنوي ليلة القدر تكتب فيها الحوادث من القدر السابق وما يقع في السنة فيها يفرق كل أمر حكيم، وهكذا ما يشاؤه ويقدره اليوم وهو القدر اليومي كل يوم هو في شأن ، فمع علمه ومع كتابته للأشياء كلها هو له الحكمة البالغة والحجة الدامغة في كل شيء، وليس للعبد الاعتراض على مولاه في ذلك، العبد ضعيف إذا عرف بحسن التصرف والبصيرة في أموره لا يعتبر عليه فيما قد يخفى من ذلك؛ لأن له فيها أسرارًا ومقاصد قد يخفيها على الناس، فكيف برب العالمين وأحكم الحاكمين ، فله الحكمة البالغة في خلق الحيوانات المتنوعة من سباع أو من مأكولات ومن محرمات ومن صغير ومن كبير ومن غير ذلك خلق أنواعًا لا يحصيها إلا هو وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ [هود:6]، من يحصي هذه الدواب صغيرها وكبيرها ومنافعها ومضارها وما يترتب على وجودها وعدمها إلا هو .