وقد أوضح الشيخان لكم أيها المستمعون الشيء الكثير من هذه الأحكام فيما يتعلق بالزوجات والأولاد والآباء والأمهات وبقية الأقارب وذكرا لكم أيضا ما يتعلق بالكسب فالله جل وعلا شرع لنا الكسب وأمر بالكسب وكره البطالة والتعطل من العمل وكره المسألة أيضا إلا من عاجز مضطر يقول سبحانه: هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ [الملك:15]، فجعل الأرض ذلولًا مهيأة ممهدة مسهلة مذللة لكم تمشي عليها على أقدامك وعلى مركوباتك من دواب وغيرها تطلب الرزق، فهي مذللة تمشي في مناكبها لطلب الرزق، تسافر على قدميك على سيارتك على دابتك، تطلب الرزق احتشاش احتطاب صيد تجارة إلى غير ذلك، وبين أن بعض العباد يضرب في الأرض يبتغون من فضل الله، وآخرون مرضى، وآخرون يقاتلون، كل ذلك يبين لعباده أن عليهم أن يتصرفوا ويعملوا، فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاَةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ [الجمعة:10] لطلب الرزق، والنبي عليه الصلاة والسلام قال لما سئل أي الكسب أطيب؟ قال: عمل الرجل بيده، وكل بيع مبرور، فعمل الرجل بيده من أطيب الكسب، يكون نجارًا خرازًا حدادًا زراعًا إلى غير ذلك، وقال عليه الصلاة والسلام فيما رواه البخاري في الصحيح: ما أكل أحد طعامًا أفضل من أن يأكل من عمل يده، وكان نبي الله داود يأكل من عمل يده عليه الصلاة والسلام، وهكذا الأنبياء يأكلون من عمل أيديهم، كان نوح نجارًا، وكان زكريا نجارًا، يعملان ويكدحان، وكان داود أيضًا حدادًا يصنع الدروع ويأكل من ثمنها، هكذا بقية الصنائع: خياط، كاتب، إلى غير هذا مما يحتاجه الناس ويترتب عليه الرزق، وهكذا التجارة، وهكذا الزراعة، وهكذا أنواع المكاسب المباحة، حتى يستغني الإنسان عن الحاجة إلى الناس، أما السؤال فهو شر إلا عند الضرورة، وما قاله الله سبحانه وتعالى في السائل: وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ [الذاريات:19] هذا السائل المحتاج، أما السائل الذي قد أغناه الله ليس له أن يسأل، بل هو ظالم لنفسه في سؤاله، إلا إذا عجز لمرض أو .......، أو عدم وجود مكاسب، فحينئذ يساعده إخوانه ويواسونه حتى يجد مكسبًا، أما السؤال فأصله لا خير فيه ذل ومهانة، ولهذا قال النبي عليه الصلاة والسلام: لا يزال الرجل يسأل الناس حتى يأتي يوم القيامة وليس في وجهه مزعة لحم، متفق عليه، وإذا سأل الناس تكثرًا وهو عنده ما يغنيه فقد أتى جريمة، نعوذ بالله، قال عليه الصلاة والسلام: من سأل الناس تكثرًا فإنما يسأل جمرًا فليستقل أو ليستكثر رواه مسلم في الصحيح، هذا يسأل وعنده ما يغنيه، عنده كسب، عنده وظيفة، عنده عمل فيشحذ الناس يشحذهم في الحقيقة نارًا يعذب بها يوم القيامة، نسأل الله العافية، وقال عليه الصلاة والسلام: لأن يأخذ أحدكم حبله فيأتي بحزمة من حطب على ظهره فيبيعها فيكف بها وجه خير له من سؤال الناس اعطوه أو منعوه، وقال: ليس المسكين بهذا الطواف الذي ترده اللقمة واللقمتان والتمرة والتمرتان، وإنما المسكين الذي لا يجد غنى يغنيه ولا يفطن له فيتصدق عليه، ولا يقوم فيسأل الناس هذا المسكين العاجز المتعفف، أما الذي يجد الرزق فهذا ليس بمسكين، والطواف إذا كان مضطرًا فهو مسكين لكن ذاك متعفف أشد مسكنة وأفضل بأن يعطى من هذا الطواف، الطواف يجد حيلة، وبعض الناس ليس لهم حيلة.
فالمقصود أن المؤمن مهما أمكن ليحذر السؤال ويستغني عن السؤال إلا في ثلاث مسائل بينها النبي ﷺ قال: يا قبيصة! إن المسألة لا تحل إلا لأحد ثلاثة: رجل تحمل حمالة دين يصلح بين الناس دين لحاجته ومسكنته وقلة أسبابه فحلت له المسألة حتى يصيبها ثم يمسك، ورجل أصابته جائحة اجتاحت ماله سيل وإلا غيرها غرق فحلت له المسألة حتى يصيب قوامًا من عيش سدادًا من عيش، يعني: شيئًا يسد حاجته، «ورجل أصابته فاقة» كان عنده سعة فأصابه فقر وحاجة لأسباب اقتضت ذلك فقام ثلاثة من ذوي الحجى من قومه يشهدون له أنه أصابتهم فاقة فحلت له المسألة حتى يصيب قوامًا من عيش حتى يصيب يعني قدرًا يسد حاجته من العيش، قال: وما سواهن يا قبيصة سحت يأكله صاحبه سحتًا، فالمسألة من غير هذه الثلاث المسائل سحت ومحرم، فينبغي للمؤمن أن يتوقى ذلك وأن يحذر السؤال، وقد بايع النبي ﷺ بعض أصحابه بايعهم ﷺ ألا يسألوا الناس شيئًا، بايعهم بيعة عاهدهم عهدًا أنهم لا يسألون الناس شيئًا حتى كان بعضهم يسقط سوطه وهو على دابته فينزل ويأخذ سوطه من الأرض ما يطلب أحدًا يناوله إياه.
فينبغي للمؤمن أن يحرص على الكسب وطلب الرزق بالوسائل المباحة التي أباحها الله وأحلها وليحذر السؤال إلا من ضرورة كما بينه النبي عليه الصلاة والسلام.