وجدير بالعاقل أن ينظر في هذه العبادة، وأن يحاسب نفسه حتى يعرفها جيدًا، وحتى يؤديها كاملة، وسمعتم من الشيخين بيان هذه العبادة، وأنها الذل والخضوع لله عن محبة له سبحانه، عن رغبة فيما عنده، عن رجاء، عن خوف، لا مجرد ترك الشيء أو فعله، بل لا بد أن يكون ذلك عن محبة له سبحانه صادقة، وعن إخلاص له سبحانه، وعن رغبة فيما عنده، وعن خشية الله، وخوف منه سبحانه وتعالى، ولا بد مع ذلك من أن تكون هذه العبادة موافقة لما جاء به نبيه عليه الصلاة والسلام في حق أمة محمد، وفي حق الأنبياء الماضين، لا بد أن تكون كذلك في حق نوح، لا بد أن تكون العبادة لله وحده موافقة لما جاء به نوح عليه الصلاة والسلام، في حق أمة هود كذلك، لا بد أن تكون العبادة لله وحده وموافقة لما شرع الله على يد هود عليه الصلاة والسلام، وهكذا في حق من بعده كصالح وشعيب وإبراهيم وإسماعيل وإسحاق وغيرهم، لا بد أن تكون العبادة في وقتهم وفي أممهم خالصة لله، موافقة للشريعة التي جاء بها هذا الرسول الذي بعث إليهم، وفي حق أمة محمد عليه الصلاة والسلام لا بد أن تكون العبادة لله وحده، ولا بد أن تكون موافقة لشريعته التي بعث بها عليه الصلاة والسلام، قال تعالى: أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ [الشورى:21]، ينكر عليهم سبحانه ذلك أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ [الشورى:21]، المعنى ليس لهم ذلك وإنما عليهم أن يتبعوا شرع الله الذي جاء به نبيه المصطفى عليه الصلاة والسلام، وهكذا قوله : ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ [الجاثية:18-19].
ويقول جل وعلا: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ [آل عمران:31]، هذه يقال لها: آية المحنة، لما ادعى ناس حب الله امتحنوا، يعني إن كنتم صادقين في حب الله فاتبعوني، فاتبعوا الرسول عليه الصلاة والسلام، قُلْ إِنْ كُنْتُمْ [آل عمران:31]، يعني قل: يا أيها الرسول للناس: إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ [آل عمران:31] يعني صادقين في هذه الدعوة فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ [آل عمران:31]، فمن كان يحب الله فليتبع الرسول ﷺ، فإن هذا هو البرهان، هذا هو الدليل على صدق المحبة، كثير من المشركين يحبون الله، وإن كانوا يحبون أندادهم مع الله كما قال جل وعلا: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ [البقرة:165]، لكن ما تنفع هذه المحبة لما صارت مشتركة بين الله وبين الرسول بطلت، لا بد أن يكون حب الله خاصًا به، وهو الحب الذي يتضمن الذل والخضوع له بطاعة أوامره وترك نواهيه، والإيمان بأنه مستحق لهذه العبادة، وهذه المحبة الصادقة الخالصة الخاصة التي تقتضي الإيمان به، وتقتضي خوفه ورجاءه، وتقتضي تخصيصه بالعبادة، تقتضي الإيمان بأنه المستحق لها وحده، قال جل وعلا: وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ [المائدة:5]، وقال جل وعلا: وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ [الزمر:65]، وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [الأنعام:88]، في آيات.
فعلى المكلف أن يعقل هذا، وليس للإنسان أن يعبد بمجرد هواه، لا بد من الأمرين الذين سمعتم من الشيخين: الأمر الأول الإخلاص لله، وأن يكون الباعث على العبادة طلب مرضاة الله، والإخلاص له ، وأن تصلي لله، تصوم لله، تتصدق لله، تأمر بالمعروف، تنهى عن المنكر لله لا لقصد كذا وكذا، تصوم لله، تحج لله، الباعث هو قصد وجه الله، والمراد طلب مرضاته.
والأمر الثاني: الموافقة للشريعة، هذا إن كنت مسلمًا أما غير المسلم لا بد أن يسلم أولًا، الكافر ليس له عبادة حتى يسلم، وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [الأنعام:88] فلا بد أولًا من الدخول في الإسلام، والإيمان بالله ورسوله وتوحيده والإخلاص له والانقياد لشرعه، والكفر بما يعبد الناس من دونه، والإيمان بكل ما أخبر به نبيه عليه الصلاة والسلام، فإذا دخلت في الإسلام وكنت من المسلمين فلا بد في كل أعمالك من الشرطين، لا بد في كل أعمالك التي تتقرب بها إلى ربك والتي أنت مأمور بها من صلاة وصوم وصدقات وبر وغير ذلك لا بد أن يكون لله، فعلته لله لا للرياء، ولا لطلب حمد الناس وثنائهم، ولا لأجرة تأخذها، إنما فعلته لله. والأمر الثاني: أن يكون موافقًا للشريعة، قال تعالى: وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا [هود:7]، قال جل وعلا: إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا [الكهف:7]، وقال تعالى: الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا [الملك:2]، هكذا في هذه الآيات يبين أنه خلق السماوات والأرض، وأنه جعل ما على الأرض زينة لها، من أنهار، وبحار، وأشجار، وجبال، وغير هذا من المخلوقات من بني آدم، ومن الجن، والحيوانات، كل ما على الأرض زينة لهذه الأرض، ثم قال: لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا [الكهف:7]، يعني ليختبر هؤلاء المكلفين، ليمحتنهم هل يعبدونه وحده ويصدقون في ذلك ويجتهدون في إكمال الأعمال وإتمامها وتحسينها؟ أم يقصرون في ذلك؟
ولهذا سمعتم ما نقل عن فضيل بن عياض وهو من أتباع التابعين يقول رحمه الله: إن العمل لا يقبل إلا إذا كان خالصًا صوابًا، وبين قوله: لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا[الملك:2]، قال: أخلصه وأصوبه، قيل: يا أبا علي ما أخلصه وأصوبه؟ قال: الخالص أن يكون لله، والصواب أن يكون على السنة.
ثم إنه جل وعلا لم يقل: أكثرهم عملًا، ولم يقل: ليبلوهم أيهم يكون حسن العمل، بل قال: أحسن، بصيغة التفضيل ليدل على أنه أمر عظيم، يدل على أن المطلوب المنافسة في الخير، والمسابقة، حتى يكون العمل أحسن، أحسن عملًا وأكمل عملًا، ما قال: أكثر عملًا، فالاعتبار بحسن العمل وكمال إخلاصه وكمال موافقته للشريعة وإن كان قليلًا، فصلوات قليلة وصوم قليل مع الفريضة وصدقات قليلة مع الفريضة وهكذا بقية العبادات متقنة كاملة على الوجه الأكمل في الإخلاص والصدق أفضل من شيء كثير مع ضعف الإخلاص وضعف الصدق، فالله يبتلينا لينظر -وهو العالم بكل شيء- أينا أحسن عملًا، هو يعلم من هو أحسن عملًا، ومن ليس كذلك، ولكن المعنى ليبلونا حتى يظهر ذلك، حتى يوجد ذلك بيننا، لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا[الملك:2]، في هذه الدار دار الامتحان دار الاختبار دار العمل أينا أكمل صلاة في خشوعه وصدقه وإقباله على الله ورغبته فيما عنده وإعراضه عن الشواغل الأخرى؟ أينما أكمل في إخلاصه في صدقاته وزكواته وفي صومه وفي حجه وفي بره للوالدين وفي أمره بالمعروف وفي نهيه عن المنكر وفي غير ذلك؟ أينا أكمل إخلاصًا وأكمل صدقًا في جميع أنواع العبادات التي يؤديها.
وقد يقف الرجلان في الصف الواحد ومتجاورين أيضًا وبين صلاتيهما أعظم مما بين المشرق والمغرب، كما قال بعض السلف، بسبب إقبال هذا وغفلة هذا، وفي الحديث المعروف الذي رواه أبو داود وغيره: إنه ليس للعبد من صلاته إلا ما عقل منها، فإنه قد يقوم الإنسان في صلاته فلا يكتب له إلا نصفها، إلا ثلثها، إلا ربعها، إلا خمسها، حتى قال: إلا عشرها، كل ذلك بسبب إقباله عليها وعدم ذلك، فالإقبال على العمل والصدق في إكماله والعناية بإخلاصه لله من الشوائب له شأن عظيم، فالواجب على كل مؤمن وعلى كل مؤمنة العناية بهذا الأمر، وأن يكون في أعماله كلها يتحرى الإخلاص لله وإكماله والعناية به، ويتحرى الموافقة للشريعة.
سمعتم الحديث يقول ﷺ: إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى، وسمعتم الحديث الآخر: من عمل عملًا ليس عليه أمرنا فهو رد، وقوله جل وعلا: مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا [الإسراء:18-19]، إرادة الآخرة إرادة وجه الله جل وعلا والتقرب إليه ليفوز بالجنة والسعادة، ثم قال: وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا [الإسراء:19]، ما هو إرادة وبس إرادة وعمل، ثم قال: وَهُوَ مُؤْمِنٌ [الإسراء:19]، لا بد أن يكون هذا السعي وهذه الإرادة صادرين عن إيمان بالله ورسوله عن صدق عن إخلاص، فلو أراد وسعى عن غير إيمان لن ينفعه ذلك، وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا [الإسراء:19]، مشكورًا عند الله، يثابون عليه أكثر، فعلينا جميعًا في جميع أعمالنا وأقوالنا أن نعنى بهذا الأمر بالإخلاص لله والصدق فيه وكمال المحبة مع كمال الموافقة لما شرع الله.