أما بعد نزول آية الحجاب فالمسلمات ممتثلات لأمر الله ، وأزواجهن كذلك، وأولياؤهن كذلك، وليس أصرح من قوله : وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ [الأحزاب:53]، وهذا في سورة الأحزاب، وهي نزلت بعد وقعة الأحزاب، والأحزاب كانت في السنة الخامسة من الهجرة، فالله بين جل وعلا أن الحجاب أطهر لقلوب الجميع للرجال والنساء جميعًا، فإذا كان أطهر فلماذا يطلب بعض الناس إزالة الحجاب الذي هو من أسباب إزالة الطهارة إذا زال؟ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ [الأحزاب:53]، وإذا كان هذا في حق نساء النبي ﷺ وهن أطهر النساء وأفضل النساء في عصر هو عصر خير القرون فما ظنك بمن جاء بعدهن؟ فمن جاء بعدهن فهو في أشد الحاجة إلى ذلك، وفي أشد الضرورة إلى ذلك؛ لأن ذلك يعين على البعد عن الفساد، ولأن التقوى كلما قلت صارت الحاجة إلى الحجاب أكثر، وما بعد عصر الصحابة أقل تقوى من عصر الصحابة، وهكذا لا يأتي عام إلا والذي بعده شر منه حتى تلقوا ربكم في الجملة.
ثم قوله جل وعلا: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ [الأحزاب:59] والجلباب ما تضعه المرأة فوق رأسها وفوق ثيابها زيادة في التستر، وتستر به وجهها ويديها علاوة على ما عليها من الملابس، ولم يقل: إلا وجهها وكفيها في هذا المقام، ولا في قوله: وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ [الأحزاب:53]، لم يقل إلا وجهها وكفيها، بل أطلق الأمر بذلك، فدل ذلك على أنه لجميع أجزاء المرأة، ولأنها عورة، ولأن وجهها وكفيها عنوان جمالها أو دمامتها، فالمرأة تعرف جمالها وضده من وجهها وأطرافها، فدل ذلك على أن الستر لهذا من أهم المهمات، حتى لا تكون سبب الفتنة، وحتى لا يطمع فيها أصحاب الهوى والانحراف.
وهكذا قوله جل وعلا: وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ [النور:31] إلى آخر الآية، فلو كان هذا الحجاب لا يستر وجهها وكفيها فما هو المستثنى حينئذ لمحارمها؟ لولا أن هذا هو المقصود لم يأت قوله جل وعلا: وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ [النور:31]، ليس المقصود ألا يبدين الرأس أو الصدر أو نحوه إلا للبعولة، المقصود الزينة التي يستدل بها على جمالها وظهورها من أسباب الفتنة إنما تظهر لمحارمها لا لغير محارمها، وأما قوله جل وعلا: إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا [النور:31] فقد فسره ابن مسعود بأنه ما يظهر من الملابس التي لا يمكن سترها، يعني الملابس لا بد منها، أو ما ظهر منها بغير قصد كنظر الفجأة، كما جاء في الحديث الصحيح لما سئل النبي ﷺ عن نظر الفجأة قال: اصرف بصرك، الشيء الذي لا يتعمد إظهاره، فالله جل وعلا في هذه الآيات أطلق الحجاب والنهي عن إبداء الزينة والأمر بالجلباب، ولم يستثن شيئًا.
ثم قال في القواعد: وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا يَرْجُونَ نِكَاحًا فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ [النور:60] فالقواعد هن العجائز اللاتي لا يرجون نكاحًا لكبر سنهن، ثم شرط في ذلك أن يكن غير متبرجات بزينة، فلو تبرجت ولو كانت عجوزًا وجب عليها الستر والحجاب؛ لأن كل ساقطة لها لاقطة، قد يفتن بها بعض الناس، ثم قال: وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ [النور:60]، وهن عجائز استعفافهن بالحجاب خير لهن، فإذا كان العجائز التي لم يتبرجن بالزينة استعفافهن بالحجاب خير لهن وأبعد عن الفتنة، فكيف بحال غير العجائز.