بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداه، أما بعد:
فقد سمعنا جميعًا هذه الندوة المباركة التي تولاها صاحبا الفضيلة: الشيخ محمد بن ......، والشيخ عبد الرحمن بن حماد آل عمر في بيان لزوم جماعة المسلمين، وخطر التفرق والاختلاف، وقد أجادا وأفادا وأوضحا ما ينبغي في هذا المقام، فجزاهما الله خيرًا وضاعف مثوبتهما، وزادنا وإياكم وإياهما علمًا وهدى وتوفيقا.
ولا ريب أن هذا الموضوع موضوع جدير بالعناية، وهو موضوع خطير غلط فيه كثير من الناس، فشقوا العصا، وفرقوا الجماعة، ووقعوا في معصية عظيمة وعواقب وخيمة وأضروا بالعالم ضررًا كثيرًا، والله في كتابه العظيم وعلى لسان رسوله الكريم عليه الصلاة والسلام أمر جل وعلا بلزوم الجماعة وترك الفرقة.
وسمعتم من الأدلة ما سمعتم ومن أهم ذلك قوله جل وعلا: وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا [آل عمران:103]، وقوله سبحانه: إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ [الأنعام:159]، وقوله سبحانه: يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ [آل عمران:106]، قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: "تبيض وجوه أهل السنة والائتلاف، وتسود وجوه أهل البدعة والاختلاف"، والواجب على أهل الإسلام أينما كانوا أن يجتمعوا على الحق، وأن يلزموه، وأن يتواصوا به، وأن يتعاونوا على تحقيق الجماعة على طاعة الله ورسوله، وأن يحذروا أسباب الفرقة والاختلاف من الشحناء والعداوة والتهمة من بعضهم لبعض، وعدم التفكر فيما قد يشكل بينهم، وعدم إعطاء المقام ما توجبه الشريعة من عناية وبحث وحمل لما قد يشكل على خير المحامل.
وقد وقع هذا في الزمن الأول في عهد الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم خرج قوم على علي والصحابة وحملوا النصوص على غير محملها، وتأولها على غير تأويلها، حتى حملوا السلاح على أصحاب النبي ﷺ، وعلى المسلمين جميعًا، وزعموا أنهم مصيبون، وأن غيرهم مخطئون، وهم الخوارج قبحهم الله، تأولوا النصوص على غير تأويلها، فقاتلوا أهل الإسلام، وتركوا عباد الأوثان، وكفروا عليًا ، وكفروا من معه كمعاوية .......، هؤلاء وهؤلاء، قالوا إنهم خرجوا على حكم الكتاب فهم كفار بذلك، وهذا من جهلهم وضلالهم، من جهل الخوارج وضلالهم وبدعتهم، حتى قال فيهم النبي ﷺ في الحديث الصحيح: تمرق مارقة على حين فرقة من المسلمين تقتلهم أولى الطائفتين للحق، فقتلهم علي ومن معه، وقال فيهم: إنه يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم وقراءته مع قراءتهم وصيامه مع صيامهم يمرقون من الإسلام ثم لا يعودون إليه، وقال: يقرءون القرآن لا يجاوز حناجرهم يعني: أصيبوا بالجهل والغلو حتى خرجوا من الإسلام، ومرقوا منه بسبب غلوهم وجهلهم وضلالهم، وفرقوا المسلمين وقاتلوهم جهلًا وضلالًا.
وقال عليه الصلاة والسلام: من حمل علينا السلاح فليس منا، وأمر بلزوم الجماعة، والسمع والطاعة لولاة الأمور في المعروف، وهذا معنى قوله جل وعلا: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا [النساء:59]، وقال : وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ [الشورى:10].
فلو أن الخوارج وأشباههم ردوا ما تنازعوا فيه إلى الله والرسول لما وقعوا فيما وقعوا فيه من التكفير والتضليل والفرقة والاختلاف، ولكنهم حكموا آراءهم الفاسدة، وعقولهم الكاسدة، وزعموا أنهم على علم وهم على ضلالة، فوقعوا فيما وقعوا فيه من الفساد، وقتل النفوس بغير حق، وهكذا من بعدهم ممن خرج على ولاة الأمور وعلى أهل العدل بهذه الشبهة، بشبهة أنهم خالفوا الكتاب خالفوا السنة، والذين خرجوا هم أهل الخلاف وهم أهل المخالفة.
فالأمر على ما قال الشيخان في هذه الندوة، الأمر على وجوب التثبت، وعدم العجلة في الأمور، وما أشكل على طالب العلم إذا كان يطلب الخير ويريد الحق الواجب عليه أن يعرض ذلك على القرآن العظيم والسنة المطهرة، ويستعين بأهل العلم على فهم الحق، ولا يقدم فهمه على غيره، ويرى أنه مصيب، وأن غيره مخطئ، ويستمر في رأيه الفاسد وضلاله، هذا هو طريق الشقاء، وطريق أهل البدعة، تحكيم آرائهم، واتهام أهل العدل والخير والهدى.
ويجب على المسلمين أينما كانوا حكامًا ومحكومين وعلماء وعبادًا وعامة وغير ذلك الواجب عليهم جميعًا أن يسيروا على مقتضى كتاب الله وسنة رسوله عليه الصلاة والسلام، عليهم بتوحيد الله، وإفراد العبادة له جل وعلا، وامتثال أوامره، وترك نواهيه، والوقوف عند حدوده، والاستضاءة بما يبينه أهل العلم، فإن أهل العلم هم أولو الأمر، هم العلماء والأمراء، الحكام هم أولوا الأمر، فوجب الرجوع إليهم، أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ [النساء:59]، فهم الفقهاء العلماء بالله وبشرعه، وحكام الشرع الذين نصبهم الله بالحكم بين الناس ولتنفيذ أوامر الله وتنفيذ ......، والحكم بين الناس بالحق، وردع الظالم، ونصر المظلوم، وتعمير البلاد، والقضاء على أسباب الفساد، هؤلاء هم أولو الأمر، إذا صلحوا صلح الناس، وإذا انحرفوا وفسدوا فسد الناس، قال جل وعلا: وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ [النساء:83]، إذا ردت المشتبهات وردت الأمور إلى الله ورسوله وإلى أولي الأمر استنبطه أهل العلم، ووضحوا معناه، وأرشدوا الحائر إلى الحق والهدى، وكشفوا الشبهة، وبينوا الطريق السوي حتى يسير المسلمون على هدى وعلى نور من الله .
وأما الاستمرار على الآراء المنحرفة والأفكار الفاسدة وعدم الرجوع إلى الأدلة وجمعها وعدم الرجوع إلى أهل العلم المعروفين بالهدى والاستقامة هذا هو طريق الخوارج، وهو طريق أهل الضلالة، وطريق أهل البدع من الجهمية والمعتزلة والرافضة وغيرهم، يحكمون آراءهم في المسلمين، وأفهامهم الفاسدة في المسلمين، وينتبذون عنهم، وينحرفون عن طريقهم، ولذلك ضلوا وأضلوا.
ومما يجب التنبيه عليه أن الأصول يجب الجمع بينها، والتوفيق بينها، فإنها من عند الله، كلها من عند الله من الله ، وهي لا تختلف ولا تتضارب ولا تتناقض فيها الخاص وفيها العام وفيها المطلق وفيها المقيد وفيها المجمل وفيها المبين، فلا بد أن يضم بعضها إلى بعض، ويفسر بعضها ببعض، فالجاهل وضعيف العلم لا يستطيع ذلك، فعليه أن يرد الأمر إلى أهل العلم، وإلى أهل البصيرة، وأن يراجع كلامهم واستنباطهم وما بينوا وقرروه في النصوص التي قد يظن بعض الظانين أن بينها اختلافًا وأن بينها تضاربًا أو تناقضًا، فإن هناك المنسوخ، وهناك الناسخ، وهناك أدلة نسخت بأدلة، وهناك عام خصص وهناك مطلق قيد وهناك مجمل مبين، وقد عين أهل العلم ذلك في كتبهم في تفسير القرآن الكريم، وفي شروح الحديث الشريف، وفي أصول الفقه، وفي مصطلح الحديث، وفيما بينه أهل العلم من كتب الفقه والأحكام.
فعلى طالب العلم وعلى من تنازع مع إخوانه في شيء أن يرجع إلى هذه الأصول، وإلى هذه المباحث التي بينها أهل العلم حتى يستضيء بنور العلم، وحتى يكون على بينة، وعلى هدى، وحتى يسير إلى الله جل وعلا كما سار الصحابة ، وكما سار أتباعهم بإحسان، فالصحابة كانوا إذا تنازعوا في شيء اجتمعوا ورجعوا إلى الأدلة وإلى الكتاب العظيم والسنة المطهرة، ثم حلوا الإشكال وأزالوا الشبهة، واجتمعوا على الحق والهدى، ورجع من غلط إلى الصواب والحق؛ لأن الهدف هو الحق والصواب، ليس للمؤمن هدف سوى اتباع الحق، سوى الامتثال لما شرعه الله، وجاء به كتابه أو سنة نبيه عليه الصلاة والسلام، ومن كان هدفه الحق ورائده الحق وغرضه أن يصيب شرع الله فإنه يرجع إلى أهل العلم، وإلى أهل البصيرة، ويراجع كلامهم، ويستنبط من كتاب الله ومن سنة رسوله ﷺ ما هو الحق والصواب، ولا يتبع الباطل، ولا يقلد رأيه ....... فكم من رأي أخطأ؟ وكم من عقل انحرف على غير هدى بسبب استقلاله وضعفه وعدم رجوعه إلى أهل العلم.