الله جعل تحريم الخمر على أطوار كما سمعتم، الطور الأول: أقرهم عليها ولم يمنعهم منها في مكة المكرمة، وهكذا في المدينة في أول الأمر أقرهم على شرب الخمر، وكانت الخمر عند العرب لها شأن كبير، وكانوا ينشدون فيها الأشعار، وتقع لهم فيها العجائب والغرائب والبلايا، ومن حكمة الله أنه أخر تحريمها لأن كثيرًا من الناس لو حرمت في أول الأمر فربما امتنع من دخوله الإسلام من أجلها، فمن رحمة الله أن أخر تحريمها حتى دخل الناس في دين الله، وحتى كثر المسلمون، وحتى عرفوا الإسلام واطمأنوا إليه.
ثم تطور تحريمها بعد ذلك حتى يدعها الناس عن قناعة وعن بصيرة، بين لهم أولا في قوله جل وعلا: يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا [البقرة:219]، فوقع في القلوب شيء من تحريمها، وأن إثمها أكبر، وأن ما كان بهذه المثابة فينبغي تركه، ثم إن الناس لم يتركوها لهذا وأرادوا أن ينزل فيها ما هو أوضح وأبين، وما ذاك إلا لشدة تعلقهم بها وابتلائهم بها، حتى كان عمر يقول: "اللهم بين لنا في الخمر بيانًا شافيًا"......، ولكن هذه الآية مهدت للتحريم وأوجدت في القلوب ...... التحريم القاطع؛ لأنهم علموا أن إثمها أكبر ......، وقد ذكر جمع من أهل العلم أن من منافعها ما يحصلون من التجارة فيها والأموال في بيعها، وما يحصل في القمار من الأموال الذي يحصل عليه بعض الناس مع ما فيه من الشر العظيم، فقد يصبح هذا تاجرًا غنيًا، وفي مرة أخرى يصبح فقيرًا معدمًا، تارة يغلب، وتارة يغلب، تارة غني، وتارة فقير، وهكذا أهل الخمر قد شاهدوا منها ما شاهدوا من النزاع الكثير والمخاصمات الكثيرة بينهم ورمي بعضهم بعضًا وقتل بعضهم بعضًا وسحل بعضهم بعضًا عند زوال العقول، فتهيأت النفوس لشيء من ذلك.
ثم حرم عليهم تناولها عند الصلاة فقال جل وعلا: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ [النساء:43] وعلمتم بعض ما ورد في ذلك، وما حصل بسبب الخمر، حتى أنزل الله هذه الآية، وأنه قرأ بعض الصحابة قوله جل وعلا: قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ [الكافرون:1]، فلم يستطع أن يقول: لا أعبد ما تعبدون، بل قال: أعبد ما تعبدون، لعدم حضور العقل، ومعلوم أن الإنسان لو قال: أعبد ما تعبدون عامدًا قاصدًا كفر بذلك؛ لأنهم يعبدون الأصنام والأشجار والأحجار، لكنه لعدم حضور عقله قال: أعبد ما تعبدون، فمن رحمة الله حرمها عليهم عند قرب الصلاة حتى يأتوها وهم سالمون منها، فكان هذا أيضًا تمهيدا لتحريمها التحريم البات، حتى تطمئن القلوب إلى تركها بالكلية، وبيان شرها وفسادها.
ثم أنزل الله فيه التحريم البات القاطع بعدما تهيأت العقول والقلوب لقبول حكم الله جل وعلا، وبعدما عرف الناس دين الله، وبعدما باشرت قلوبهم حقيقة الإيمان وذاقوا طعمه، فعند ذلك بادروا بتركها والإعراض عنها، وإتلاف ما عندهم منها لما أنزل الله قوله سبحانه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [المائدة:90]، فعلق الفلاح باجتناب هذا الشيء الذي هو الخمر والميسر والأنصاب الأزلام، قرنها مع الأنصاب التي بها يشركون والأزلام التي بها يقسمون، وأخبر أنها جميعًا رجس، الخمر والميسر والأنصاب والأزلام كلها رجس، كلها خبيث، كله منكر، كله باطل، ومن عمل الشيطان، ثم قال: فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [المائدة:90]، فعلق الفلاح باجتناب هذه الأمور، ثم بين شيئًا من فسادها وشرها ومن الحكم في تحريمها فقال سبحانه: إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ [المائدة:91]، فانتهى المسلمون من ذلك، كان عمر يقول: انتهينا انتهينا، وتابعه المسلمون، وتابعه الصحابة، وتركوها، وانتهوا منها، وأمروا بإراقة ما عندهم من ذلك، وكان الغالب أن عندهم الخمر من التمر والبسر، وكانت العنب قليلة، وهكذا الأنواع الأخرى، فأسالوها كلها وسلموا من شرها، وعادوها وحاربوها.
وأجمع المسلمون على تحريمها، أجمع الصحابة ومن بعدهم على تحريمها، وأنها من المنكرات والكبائر، انعقد إجماع أهل العلم قاطبة من الصحابة ومن بعدهم على تحريمها، وأنها من المحرمات الخبيثة، ومن الكبائر المنكرة، وأن من استحلها صار كافرًا، من استحلها وزعم أنها حلال فهو كافر بالله حلال الدم والمال عند أهل الإسلام، وقال فيها النبي ما قال عليه الصلاة والسلام وهو يحذر منها بعد ذلك عليه الصلاة والسلام، وإذا سئل عن شيء من ذلك قال: كل شراب أسكر فهو حرام كل مسكر خمر وكل مسكر حرام ما أسكر كثيره فقليله حرام بين لهم ﷺ حدها وضابطها، وأن كل ما أسكر يعني ما غير العقل فهو حرام؛ لأن السكران لا يعلم ما يقول.
وقد سمعتم ما سمعتم في ندوة المشايخ السكران مجنون، وبعض العقلاء من الجاهلية أبوها لأنها جنون، ولهذا أبوا أن يشربوها؛ لأنها تجعلهم مجانين، فلهذا تركوها من أجل ما عرفوا بعقولهم أنها تجلب لهم الجنون وذهاب العقول.
فالمقصود أن الله جل وعلا حرمها على عباده لما فيها من الشر عليهم، والفساد الكبير، والعواقب الوخيمة، ولكن أكثر الخلق لا يعقل يتعاطى ما يضره ويترك ما ينفعه كما قال الله : أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا [الفرقان: 44]...... بل أضل من الأنعام، والأنعام تعرفونها هي الإبل والبقر والغنم، بعض الناس أضل منها، هي قد تهتدي إلى مراعيها وإلى مصالحها وتجيب صاحبها، وأما من ذهب عقله فهو أشر منها يضر ولا ينفع، نسأل الله العافية ......، السكران لا يؤمن في البيت، بل يحتاط منه، وقد يربط ويضبط حتى لا يضر الناس، والبهيمة في بيتك بقرة أو غنم أو إبل لا تضر شيئا، تجعل في حوش لها وتنفع ولا تضر، أما المجانين فكلهم ضرر -نعوذ بالله-، كلهم بلاء، وصاحب الخمر السكران مثلهم وأشر -نعوذ بالله-، فلهذا حرم الله هذا الشراب، وهذه الخمرة من أي جنس كانت من شعير من تمر من عنب من عسل من ذرة من أي شيء كانت كل ما حصل فيه هذا الوصف وأنه خمر فهو حرام من أي جنس كان، ومن أي طعام كان، ومن أي مادة كان؛ لأن الفساد حاصل بذلك، والشر حاصل بذلك.