فعليك يا عبد الله أن تحذر، فالكذب كله من الزور، سواء كان عند القاضي أو عند القريب أو عند العدو أو عند غير ذلك كله شر، قالت أم كلثوم رضي الله عنها بنت عقبة بن أبي معيط عن النبي ﷺ أنه قال: ليس الكذاب الذي يصلح بين الناس، فيقول خيرًا وينمي خيرًا متفق على صحته، قالت رضي الله عنها فيما رواه مسلم في الصحيح قالت: "ولم أره يرخص في شيء مما يقوله الناس إنه كذب إلا في ثلاث: الإصلاح بين الناس، والحرب، وحديث الرجل امرأته والمرأة زوجها"، هذه الثلاث مستثناة من الكذب.
والكذب شره عظيم وعاقبته وخيمة إلا في هذه الثلاث: الإصلاح بين الناس، جماعتان بينهما نزاع وشر أو قبيلتان أو أسرتان أو شخصان فيتوسط ويصلح بينهما بكلام طيب، وإن كان فيه بعض الكذب، لكنه لا يضر أحدًا، كذب لا يضر أحدًا ينفعهما ولا يضر غيرهما، فيأتي القبيلة ويقول: أنت يرجى فيك الخير، والقبيلة الثانية تقول: إنها تحب الإصلاح معكم، وأنها تثني عليكم، وتقول: إن قبيلتكم فيهم كذا، وفيهم كذا، يذكر ما فيهم من الخير، وأن إخوانكم يثنون عليكم، ويقولون فيكم كذا وكذا، وأننا نرغب في الصلح، ونرغب في زوال هذه الشحناء والشرور، فيأتي بكلام طيب من تلك القبيلة، وإن كانت ما قالته، لكنه كلام طيب يسبب لين قلوب هؤلاء، وأقرب لهم للصلح، ثم يذهب للآخرين فيقول عن أولئك: أنهم يرغبون الصلح، وأنهم يثنون عليكم، وأنهم قالوا فيكم كذا، وقالوا فيكم كذا، وشكروكم في كذا وكذا، حتى تلين القلوب، وحتى يتقارب الفريقان ويصطلحان.
وهكذا الحرب قد يحتاج الأمير أمير الجيش ونحوه إلى شيء من الكذب لمصلحة الحرب والجهاد في سبيل الله ، كما في الحديث الصحيح عن كعب بن مالك قال: "كان النبي ﷺ إذا أراد غزوة ورى بغيرها عليه الصلاة والسلام" إذا أراد غزوة ورى بغيرها؛ لئلا يبلغ العدو أمر الغزو، فيقول مثلا: إنه يريد الشمال، فيسأل عن مياه الشمال، وعن منازل الشمال، وهو يريد الغزو إلى جهة الجنوب؛ لئلا تنتشر الأخبار، فيكون العدو في الذي في الجنوب آمنا حتى يأتي المسلمون عليه وهو على غرة، فيدعونه إلى الإسلام، ويوجهونه للإسلام، فإن أبى وإلا قاتلوه؛ لأنهم إذا بلغ العدو خبرهم استعد لهم، إذا بلغ العدو الخبر استعد وجمع قوته، وربما كان ذلك أبعد له عن الإسلام؛ لأنه قد تجمع وأعد كل شيء، لكن إذا جاءوه على غرة كان أقرب إلى أن يجيب إلى الحق، وإلى أن يخضع للحق، ويستجيب لداعي الإسلام، فإن أبى وأصر على كفره وضلاله قاتلوه، إلا إذا أدى الجزية، إذا كان من أهلها.
فالمقصود أن الحرب لها شأن، قد يحتاج فيه الجيش وأميره للكذب الذي ليس فيه نقض للعهود، وليس فيه غدر، وإنما فيه حيلة على التمكن من العدو والسلامة من كيده وشره، ومن ذلك ما يفعله بعض الجيوش إذا اشتد عليهم الحصون وتمنع الكفرة في حصونهم وراء الجدران والقلاع قد يرون من المصلحة أن يعلنوا أنهم قافلون، وأنهم منهزمون عنهم وتاركوهم، حتى يخرجوا من هذا الحصن، حتى يبرزوا، فيعلنوا أنهم قافلون، ثم يظعنون كأنهم قافلون، وكأنهم منهزمون، فإذا رآهم العدو قد قفلوا خرج من الحصون يتبعهم ويظهر قوته وشجاعته، يتبعهم ليحاربهم أو ليقضي عليهم، فعند هذا ينصرفون عليه بعد ذلك فيتمكنون من قتاله وحربه في الأرض البارزة من وراء الحصون.
المقصود أن الحرب له شؤون، وليس هذا من الكذب، ولكنه من الحيلة التي يستعان بها على حرب العدو، ليس من الكذب الضار لأحد، ولكنه ينفع المجاهدين، ولهذا استثناه الشارع من الكذب المحرم.
كذلك ما يتعلق بالزوجين قد يقع بينهما مشاكل فرخص الرسول ﷺ عن الله في كذبه عليها، وكذبها عليه، في أمور بينهما لا تعلق بالناس ولا تضر بالناس، كأن يقول لها: سوف أفعل كذا، سوف أشتري لك كذا، سوف أفعل كذا، وسوف أعطيك كذا، وإن كان غير عازم أن يعطيها هذا الشيء، وهي تقول: سوف أفعل كذا، وسوف لا أعصي لك أمرًا وسوف وسوف، حتى ترضيه، وحتى تتمكن من زوال ما في نفسه، هذا شيء بينهما لا يضر، وإن كان كل واحد منهما ليس بعازم على ما قال، وقد أضمر أنه يكذب، لكنه يتوصل بهذا إلى الصلح بينه وبين زوجته، وتتوصل إلى الصلح بينها وبين زوجها بكذب لا يضر غيرهما ولا يضرهما، بل ينفعهما جميعًا، ويزيل الوحشة.