ووجب على أهل الإسلام أن يحرموها، وأن يحذروها، وسمعتم في كلام الشيخين ما يكفي ويشفي في بيان أضرارها وأخطارها، كان بعض الجاهلية ما يشربها، بعض الأحياء في الجاهلية فلا يشربونها يقولون: كيف نشربها نحن عقلاء ونشرب ما يجعلنا مجانين، كيف هذا؟ ومن جملتهم قيس بن عاصم المعروف كان يأبى أن يشربها وهو من كبار بني تميم، والذي قال فيه الشاعر:
وما كان قيس هلكه هلك واحد | ولكنه بنيان قوم تهدما |
....... المقصود أنه من أكابر بني تميم كان يقول: كيف أشربها وأنا عاقل تجعلني مجنونًا، وهو جاهل على الشرك، المقصود أن الخمر شرها عظيم، ولكن يزينها الشيطان للناس حتى يعبث بعقولهم، ويعبث بأعمالهم، ويعبث بأخلاقهم، وكلكم إلا من شاء الله يعلم ما يترتب عليها من الشرور، وقد نشرت الصحف وكتب الكتاب وكتب العلماء ما يترتب على الخمر ما لا يحصيه إلا الله عز وجل من الفساد، فربما قتل نفسه، وربما قتل أمه وأباه، وربما قتل زوجته وقتل أولاده أو ألقى نفسه في مهالك؛ لأنه لا عقل له، فشرورها وأخطارها وبلاؤها عظيم، ثم قد يدمنها وتنتهي به إلى الجنون مرة واحدة يصير مجنونًا، ولو لم يشربها فسد عقله، فشرها عظيم وبلاؤها كبير، والله حرمها في آية المائدة من وجوه كثيرة كما سمعتم في الندوة حرمها من وجوه سبعة:
أولًا: قال : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ [المائدة:90] والأنصاب هي أصنامهم التي يعبدونها من دون الله ويذبحون عندهم، وأزلامهم التي يقسمون بها كلها الله أبطلها وحرمها، فبين أن الخمر والميسر رجس من عمل الشيطان كالأنصاب والأزلام، فقوله: رِجْسٌ هذا يبين تحريمها وأنها خبيثة وأنها محرمة، رِجْسٌ محرم.
ثم قال: مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ هذا موجب ثاني لتحريمها وأنها من عمل الشيطان، وما كان من عمل الشيطان وجب تركه، ثم قال بعده: فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [المائدة:90]، وقوله: فَاجْتَنِبُوهُ [المائدة:90] أعظم من حرمت عليكم، وأعظم من حرمتها عليكم قال: فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [المائدة:90]، يعني: ابتعدوا عنها ابتعدوا عن هذه الأمور واحذروها، اجعلوها في جانب بعيد مثلما قال في الشرك يقول سبحانه وتعالى: فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ [الحج:30]، الرجس من الأوثان هو الشرك عبر ...... فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ [الحج:30] هذه من أعظم السياق الدالة على لزوم الابتعاد عما نهي عنه، فالمعنى ابتعدوا عنها غاية الابتعاد، واتركوها واحذروها، ثم قال: لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [المائدة:90] فدل على أن الفلاح مرتب على تركها، وأن من تعاطها لن يفلح، نعوذ بالله.
ثم قال بعدها أمر رابع: إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ [المائدة:91]، فدل على أنها توقع البغضاء والشحناء بين الناس، وهذا واقع، فإن متعاطيها لفساد عقله وإذا تفطن بعد ذلك لما ترتب على شربه لها ومع زملائه ومع أصحابه حصل في قلبه من الشحناء والبغضاء لهم ما الله به عليم، لما ترتب على تزيينهم له شرب الخمر من الفساد الكبير، ويقع بينهم من المضاربة والمقاتلة في شربها ما يجعلهم أعداء بعد ذلك، فهم عند شربها وسكرهم لا يعقلون، فربما تقاتلوا وتضاربوا، وسمعتم ما جرى لسعد لما شربوا الخمر وتناشدوا الأشعار وجرى في شعره ما يقتضي هجو بعض الحاضرين ضربه بعضهم ....... أنفه؛ لأنه لا يعقل، وربما قتل بعضهم بعضًا، وربما لاط بعضهم ببعض، فهم لا يعقلون، بل المجنون خير منهم، المجنون العادي خير منهم، هؤلاء مجانين يضربون ويقتلون.
ثم أتى بأمر خامس يوجب تحريمها وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ [المائدة:91] أيضًا هي من أسباب الصد عن ذكر الله، وعن طاعة الله، وربما بقي الأيام والليالي لا يعقل ولا يصلي.
ثم أتى بأمر سادس فقال: فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ [المائدة:91] تهديد لهم وتوبيخ وتحذير، المعنى: انتهوا واحذروا هذا الأمر الخطير، ولهذا قال عمر رضي الله عنه لما سمع الآية: "انتهينا يا رب انتهينا" وانتهى المسلمون بعد ذلك وحذروها وأراقوا ما عندهم من الخمور، واستقاموا بحمد الله على دين ربهم، وأجمعوا على تحريمها، وأجمع المسلمون بعدهم على تحريمها، ووجب على أهل الإسلام أن يحذروها غاية الحذر.
ثم قال بعدها: وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ [المائدة:92]، فأمرهم بطاعة الله ورسوله في ترك الخمر والميسر والحذر من تعاطيها وأسبابها، فالواجب على المسلمين وعلى الدول الإسلامية أن تتقي الله في ذلك، وأن تجتهد في إزالة أسبابها، وإقامة الحد على أهلها، وكل ما يردعهم عليها أن تقيم الحدود، وعليها أن تعمل كل شيء يردعهم من منع توريدها ومنع صناعتها، وعقاب من يتعاطى ذلك ويروجها بالقتل أو بالضرب والسجن، ونحو ذلك من الروادع إذا لم ينته مروجوها وصناعها ومستوردوها لإضرار الناس، إذا لم ينتهوا بالتعزير والجلد والسجن جاز أن يقتلوا تعزيرًا للسلامة من شرهم، ومن مكائدهم، ولحماية المجتمع من أضرارهم.