... ولكنه بلا شك كان مع الملائكة ولهذا عمه الخطاب، كان معهم وكان في السماء، فلما أمر الملائكة بالسجود دخل في الأمر، إما لكونه منهم من جهة أن طائفته وجماعته كانوا يسمون الجن وهم من طوائف الملائكة الذين خلقوا من نار وهم طائفة أخرى، وهذا قاله بعض السلف كما قال الله جل وعلا: إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ [الكهف:50]، وقالوا: إنها طائفة من الملائكة، يقال لها: الجن، وقال آخرون وهو المشهور وهو الذي رجحه جماعة ورجحه أبو العباس ابن تيمية وابن القيم وجماعة: إن طائفته هم الجن المعروفون، وأنه منهم وأنه أبوهم، وأنهم ينتسبون إليه، فكما أن آدم أبو البشر فالشيطان هو أبو الجن، وما تمرد من ذريته فهم الشياطين، وما لم يتمرد واهتدى وقبل الحق فهو من المؤمنين، وقوله: كَانَ مِنَ الْجِنِّ [الكهف:50]، يعني وهو أبوهم، كما يقال: آدم من الإنس وهو أبو الإنس، فآدم من الإنس وهو أبوهم، والشيطان إبليس هو من الجن وهو أبوهم هذا رجحه جماعة من أهل العلم وأيدوه، وقال الله جل وعلا في هذا المعنى: إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا [الكهف:50]، فأخبر أنه ومن ذريته عدو لنا، وأنهم بئس البدل في ولاية الله جل وعلا ومحبته واتباع طريقه وسبيله ، فلا يليق بأهل الإيمان أن يتخذوا الشيطان وذريته بديلًا، ولا أن يوالوهم، بل الواجب أن يعادوهم وينبذوهم ويحذروهم ويتعوذوا بالله من شرهم، وصح عن رسول الله عليه الصلاة والسلام أنه قال من حديث عائشة رضي الله عنها: خلقت الملائكة من النور، وخلق الجان من مارج من نار، وخلق آدم مما وصف لكم، هذا يوضح صحة القول الثاني، فإنه قال: خلقت الملائكة من النور، فدل على أنه ليس منهم؛ لأن الرسول جزم أن الملائكة خلقوا من النور، خلقت الملائكة من النور، وخلقت الجان من مارج من نار كما بينه الله في القرآن، فدل ذلك على أن عنصره غير عنصرهم، وأن طائفة الجن هم الجن المعروفون وهو أبوهم وهم ذريته، فالشياطين الذين تمردوا على الحق وهم ذريته وأتباعه في الباطل، ومن خرج عن ذلك وتمسك بالحق واتبع الحق فهو من المؤمنين، وهم طرائق وهم قدد وهم أنواع.
«وخلق آدم مما وصف لكم» يعني: من الطين رواه مسلم في الصحيح، فهذا يدل على أنه ليس من عنصر الملائكة، وأنه كما قال الله مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ [الرحمن:15]، وأن طائفته الجن من مارج من نار وهم أصحابه وهم ذريته وهو أبوهم، كما أن آدم هو أبو البشر، وبعد هذا طرد من السماء وصار إلى الأرض وذريته في الأرض وصار فيهم الصالح والطالح كما قال : وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ كُنَّا طَرَائِقَ قِدَدًا [الجن:11]، وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ [الجن:14]، بين أن منهم طوائف متعددة، وأن فيهم الصالح والطالح، وفيهم الشيطان وغيره، وهو كان رأس الشياطين لعنه الله، وأعاذنا وإياكم منه.
والمقصود من هذا أن له مداخل هذا الشيطان الذي بين الله لنا حاله، وأنه توعد وأنه أقسم أنه يزين لبني آدم، وأنه يغويهم أجمعين، إلا عباد الله المخلصين، هذا العدو المبين الذي قد أنذر وابتلينا به يجب أن نحذره، وأن نستعين بالله من شره، فقد صدق ظنه على الأكثر، ولم ينج منهم إلا القليل، فيجب على المؤمن أن يحذر حتى يكون من القليل الناجين، وحتى يبتعد عن متابعة الضالين والكافرين الذين أطاعوه واتبعوا ما جاء به وما دعاهم إليه.