والعاقبة للمتقين، والصلاة والسلام على عبده ورسوله، وخيرته من خلقه، وأمينه على وحيه، نبينا وإمامنا وسيدنا محمد بن عبد الله، وعلى آله وأصحابه، ومن سلك سبيله، واهتدى بهداه إلى يوم الدين، أما بعد:
أيها الإخوة في الله: لقد سمعنا جميعًا هذه الكلمات المباركة والنصيحة العظيمة من صاحب الفضيلة الشيخ عبدالرحمن بن عبدالله بن الريان فيما يتعلق بالقلوب وصلاحها ووسائل الصلاح، وفيما يتعلق بفساد القلوب وانحرافها، وما يترتب على ذلك من أنواع الفساد والعقوبات والآفات الكثيرة، وهي بحق نصيحة وافية، جزاه الله خيرًا، وضاعف مثوبته، ونفعنا جميعًا بما سمعنا وعلمنا، ورزقنا جميعًا الاستقامة على الحق والهدى، والعافية من أسباب الهلاك والردى.
أيها الإخوة في الله: كل واحد له أدنى بصيرة يعقل ما ....... الناس، كلمة الشيخ ونصيحته ....... يحس به كل واحد في نفسه، ويرى آثاره في نفسه وحوله وفي مجتمعه، والمرض الذي يشاهد لا يحتاج إلى إقامة الدليل، فإذا أقيم الدليل ونوعت البراهين وبينت الآثار والآفات صارت الحجة أكبر، وصار الواجب على العاقل أشد في الانتباه والحذر واليقظة والعلاج، والقلب متى صلح استقام العبد وصلحت أقواله وأعماله ....... على القلب وثمرات لصلاحه، ومتى انحرف عن الهدى وتابع الهوى تبعته كذلك أقواله وأعماله، ولهذا سمعتم قول المصطفى عليه الصلاة والسلام يقول: ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب، في اللفظ الآخر يقول ﷺ: إن الله لا ينظر إلى صوركم، ولا إلى أموالكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم، وفي اللفظ الثاني: ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم.
فالقلوب هي محل النظر ومحل الاعتبار، وهي أساس الصلاح والفساد، فمتى صلح قلبك في طاعة الله وخشيته والإخلاص له وتوحيده وتعظيم أمره ونهيه والموالاة في ذلك والمعاداة في ذلك صلحت أحوالك وأعمالك وانبعثت همتك إلى كل خير وتباعدت بذلك عن كل شر، ومتى فسد القلب بالشهوات المحرمة والنفاق والكفر والضلال فلا تسأل عما يقع من الشرور والفساد والمعاصي، كما أنها أسباب لفساد القلب ومرضه، كذلك من أسباب موته والطبع عليه، وهي بريد الكفر، كما أن الأمراض البدنية بريد الموت فالأمراض القلبية بريد هلاك القلب وبريد الطبع عليه وموته، ومتى مات وطبع عليه وختم عليه فلا تسأل عما يقع من الشرور والفساد وعدم الانتباه لأي شيء، يقول : فَلَمَّا زَاغُوا أي انحرفوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ [الصف:5]، ويقول : وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ [الأنعام:110] هذه من ثمرات الزيغ والاستمرار في المعاصي والشرور، فالواجب على المؤمن أن ينتبه لهذا الأمر، وأن يحاسب نفسه، وأن يجاهدها لعله ينجو، فالله يقول سبحانه: وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ [العنكبوت:69].
ومن أعظم الجهاد جهاد النفس، جهاد الكفار جهاد عظيم وجهاد المنافقين جهاد عظيم وجهاد الكفار جهاد عظيم، وأعظم الجهاد الأكبر جهاد الشيطان، ولكن جهادنا أصل لذلك ........ كيف تجاهد عدوك؟ جهاد النفس أصل عظيم لصلاح قلبك ولجهاد أعدائك جهادًا صادقًا مفيدًا نافعًا، والآية تعم ذلك كله، وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا [العنكبوت:69] جاهدوا أنفسهم، وجاهدوا عدوهم الشيطان، وجاهدوا العصاة بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وجاهدوا الكفار والمنافقين بما شرع الله من الجهاد، لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا [العنكبوت:69]، وعدهم الله بالهداية لسبيله القويم، فمن جاهد نفسه لله بترك المعاصي والإقبال على الطاعات والوقوف عند الحدود هداه الله صراطه المستقيم وثبته وأعانه، وبذلك يكون من المحسنين، والله مع المحسنين سبحانه وتعالى.
ومن ضيع وتابع الهوى سلط عليه العدو وهو الشيطان فساقه إلى كل باطل، وشجعه على كل أسباب الهلاك، وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ [الزخرف:36] يعني يغفل ويعرض، نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ [الزخرف:36]، وفي الآية الأخرى: وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَابًا صَعَدًا [الجن:17]، فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ [الأعراف:165]، ويقول سبحانه: وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ [الحشر:19]، نسوا الله بإعراضهم وغفلتهم وارتكابهم المحارم وعدم قيام بحقه، فأنساهم الله أنفسهم، أنساهم الله عز وجل أسباب نجاتها وأسباب سعادتها وأسباب مصالحها حتى صارت أعمالهم وتصرفاتهم كلها ضد مصالحهم كلها في سبب هلاكهم وضياعهم وضلالهم، فالجزاء من جنس العمل.
حق عليك يا عبد الله أن تجاهد هذه النفس، وقد سمعتم الله يقول: وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ [الحشر:18] هذا أمر بمحاسبها وجهادها ومناقشتها ....... في أيامك ولياليك حتى تلقى ربك، قف معها أشد من وقوف الجارد مع موظفيهم في حساب أموالهم ونفقة أموالهم وتصرفاتهم، هذه النفس هي مطيتك، فإن صلحت وصلت إلى شاطئ السلام، وإن هلكت وفسدت صرت إلى شاطئ الهلاك وطريق الجحيم، ولا حول ولا قوة إلا بالله، ثم لا يقتصر هذا عليك بل يمتد إلى غيرك، فإن فسق الفاسق وظلم الظالم إذا ظهر انتشر وعم الفساد، فيكون هذا ضارًا لك، وضارًا لغيرك، وشرًا لك وشرا على غيرك، فالناس إذا ظهر بينهم الشر وانتشر بينهم الباطل ولم يغير عمت العقوبات، وانتشرت أسباب الهلاك، في الصحيحين عن زينب رضي الله عنها أم المؤمنين أن الرسول دخل عليها ذات يوم عليه الصلاة والسلام قد تغير وجهه وهو يقول: ويل للعرب من شر قد اقترب، فتح اليوم من ردم يأجوج ويأجوج مثل هذا وحلق بين أصبعيه السبابة والوسط، فقالت: يا رسول الله! أنهلك وفينا الصالحون؟ تسأله تقول: أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: نعم إذا كثر الخبث.
إذا كثر الخبث هلك الناس يعم الصالح والطالح، إذا كثر الخبث ولم ينكر وسكت هذا وهذا عمت العقوبات، وهكذا في الحديث الآخر يقول عليه الصلاة والسلام: إن الناس إذا رأوا المنكر فلم يغيروه أوشك أن يعمهم الله بعقابه، وفي اللفظ الآخر: لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر أو ليوشكن الله أن يبعث عليكم عقابًا من عنده ثم تدعونه فلا يستجاب لكم، وفي اللفظ الآخر: أيها الناس في الأحاديث الأخرى أنه صعد المنبر عليه الصلاة والسلام وقال: أيها الناس إن الله يقول: مروا بالمعروف وانهوا عن المنكر قبل أن تدعوني فلا أستجيب لكم، وقبل أن تسألوني فلا أعطيكم، وقبل أن تستنصروني فلا أنصركم، فمن العقوبات أنهم لا ينصرون على عدوهم، ويسلط عليهم عدوهم، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
فعليك يا أخي كما سمعت في المحاضرة النصيحة، عليك أن تحاسب نفسك، عليك أن تجاهدها ليل نهار لعلها ترجع، لعلها تقف عند حدها، لعلها تستقيم على أداء الفرائض وترك المحارم، والوقوف عند حدود الله عز وجل، فما أعظم سعادتك، وما أعظم ما حصلت عليه من الخير إذا استقامت هذه النفس على طريق الصواب، وابتعدت عن طريق الهلاك، ثم أنت بهذا تحسن إلى الناس، وتكف شرك عنهم، ولا تشارك في إظهار المنكرات والشرور.
ومما يسبب صلاحها ونجاتها الإكثار من ذكر الله، وقراءة القرآن، عليكم يا إخوتي الإكثار من قراءة القرآن، الإكثار من ذكر الله، ومن الاستغفار، ومن لزوم التوبة، كل هذه من أسباب صلاح القلوب وصلاح النفوس الإقبال على كتاب الله تدبر كتاب الله والحرص على العمل بما فيه، فإن المقصود من القراءة والتدبر المقصود العمل، فعليك بكتاب ربك الذي أنزله الله شفاء لكل شيء، وهدى ورحمة وعظة وذكرى، أقبل عليه صادقًا وتدبر واستمع بما يقرأ عليك إن كنت لا تقرأ استمع وانتفع واستفد، فإذا سمعت الله يأمر فامتثل، وإذا سمعت الله ينهى فانته، والله بكتابه العظيم يكرر يَا أَيُّهَا النَّاسُ [البقرة:21]، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا [البقرة:153]، إن كنت مؤمنًا فأنت مدعو بالآيتين، أنت من الناس وأنت من الذين آمنوا، وإن كنت من الناس فقط ولست مؤمنًا فأنت مدعو أيضًا أنت من الناس من الثقلين، والله يقول: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ [البقرة:21]، يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ [النساء:1]، فأنت مدعو وأنت مأمور يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا[الأحزاب:70]، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102]، يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة:21]، ويقول: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا [النساء:1]، يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ [الحج:1]، يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ [الحجرات:13]، في آيات كثيرات ينادي فيها الناس وينادي فيها المؤمنين لينتبهوا ليتذكروا ليتعظوا ليأخذوا بالأوامر لينتهوا عن النواهي، يقول ابن مسعود رضي الله عنه: "إذا سمعتم الله يقول: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا فارعها سمعك"، يعني انتبه، "فإنه خير تؤمر به، أو شر تنهى عنه"، وهكذا إذا سمعت الله يقول: يَا أَيُّهَا النَّاسُ انتبه فأنت إما مأمور بخير، وإما منهي عن شر، وإما مأمور بما فيه صلاح، وإما منبه على شيء ينفعك، وهذه القلوب تصدأ كما يصدأ الحديد والنحاس، وجلاؤها بذكر الله، غذاؤها بتقوى الله، غذاؤها بقراءة القرآن، غذاؤها بالتوبة والاستغفار لا بالغفلة والإعراض، وأنت في زمن اليوم كثر فيه أسباب الهلاك، وانتشرت فيه أسباب الباطل، واختلط فيه الناس كافرهم بمسلمهم وعاصيهم بتقيهم، امتزج الناس واختلطوا، جاء في حديث ابن عمر عن النبي ﷺ أنه قال: يا عبد الله! كيف تكون إذا كنت في قوم مرجت عهودهم وأماناتهم، واختلطوا وصاروا هكذا ثم شبك بين أصابعه. كيف تكون الحال؟ كيف الخلاص؟ لا بد من إنكار المنكر، ولا بد من البعد عن أهل الباطل، وعدم صحبتهم، فالمؤمن يحاسب نفسه ويصاحب الأخيار الذين يفيدونه ويذكرونه ويعظونه ويساعدونه على نفسه الأمارة بالسوء، وعلى شيطانه، ولا يصحب الأشرار الذين يقودونه إلى النار، ويثبطونه عن الحق، ويشجعونه على الباطل، فما أكثرهم اليوم، ولا يستمع إلى الآلات التي تضره من آلات الغناء والملاهي، ومشاهدة ما حرم الله، يحذر هذه الآلات التي بلي بها الناس لعله ينجو لعله يسلم، ومتى صدق العبد مع ربه هداه الله ووفقه، يقول سبحانه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ [التوبة:119]، ويقول سبحانه: قَالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ [المائدة:119].
والصادق على طريق النجاة ينفعه صدقه في الدنيا والآخرة، الصادق يلتمس أسباب النجاة ويأخذ بها، ويستقيم ويلتزم ويلزم التوبة، ويحذر ما عرف أنه ضار، والصادق يلتزم بالأوامر ويستقيم عليها، ويحذر تركها، والإعراض عنها، والصادق يقف عند الحدود، الصادق لا يصحب إلا من ينفعه، ويحذر من يضره، هكذا الصادقون يجاهدون هذه النفوس، ويلزمونها بالحق، ويكفونها عن الباطل، يرجون ثواب الله، ويخشون عقابه، ويسألون الله العون.
أنت بالله يا أخي أنت مسكين ضعيف إلا بالله، فسل ربك العون، سل ربك التوفيق والهداية، استعن به على كل خير، واستعن به على ترك كل شر، إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة: 5]، «إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله».
أسأل الله بأسمائه الحسنى وصفاته أن يوفقنا وإياكم لمراضيه، وأن يصلح قلوبنا وأعمالنا جميعًا، وأن يعيذنا وإياكم من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا.