ولا شك أن السفر إلى بلاد المشركين للدعوة إلى الله وإرشاد الناس ....... هذا مستثنى، إذا كان المسافر عالمًا فاضلًا متزنًا عاقلًا مكلفًا قد عرف دينه وتوفر فيه دينه ولا يخشى فتنة عليه بل إنما أراد أن يعلم ويرشد فهذا لا حرج فيه؛ لأن الكفار في حاجة إلى الدعوة في حاجة إلى تبصيرهم بالدين، بحاجة إلى إخراجهم من الظلمات إلى النور، وكان أصحاب النبي ﷺ يطوفون البلاد لفتحها بالعلم النافع يوجهونهم ويدعونهم إلى الله ويرشدونهم، فإن دخلوا في الإسلام فالحمد لله، وهذا هو المقصود، فإن أبوا ولم يقنعوا بالإسلام بذلوا لهم الجزية إذا كانوا من أهلها، وهي مال يضرب عليهم كل سنة، يستعين به المسلمون فيما يتعلق بأمر الله وجهاد أعدائه، فيكون ذلًا لأعداء الله، ويكون سببًا لدخولهم مستقبلًا في الإسلام، فإن أبوا الدخول في الإسلام وأبوا الجزية قاتلهم المسلمون حتى يغنموا بلادهم وذراريهم ونساءهم، أو يدخلون الإسلام ويرجعوا إلى الإسلام فيمن بقي منهم، فالسفر لهذا المعنى من العلماء والأخيار والبصراء في دينهم والمتمكنون بالعلم لا شك أن له آثارًا عظيمة، وأنه مفيد جدًا لمن أصلح الله نيته وصبر وصابر ومارس الأسلوب الحسن، وصار معه من يتيسر ممن يعاونه ويساعده فيما يتعلق بالدعوة ينفعه نفعًا عظيمًا، أما السفر للتجارة وللأمراض وللعلاج ولكذا ولكذا فهذا محل نظر يحتاج إلى قيود وعناية.
وهذه المحاضرة لها شأن عظيم وسوف نعيد النظر فيها مع المحاضر وتطبع إن شاء الله وتوزع ليستفيد منها المسلمون؛ لأنها محاضرة قيمة، وينبغي الاستفادة منها، وسنعيد النظر فيها إن شاء الله فيما يتعلق بالاستثناءات حتى تكون الاستثناءات في غاية من الإتقان والإحكام مع المحاضر نفسه -وفقه الله-.
وهناك أمر آخر وهو قد يسمى حيلة أيضًا وهو الفرار من بلاد كفرية إلى بلاد أقل شرًا منها وأقل خطرًا منها على المسلمين، كما وقع للمسلمين في مكة لما اشتد الأذى عليهم من الكفار انتقلوا مهاجرين إلى بلاد الحبشة إلى ملكها المعروف أصحمة النجاشي؛ لأنه كان يعتني بالمهاجرين ولا يظلم عنده أحد، فسافر إليه جمع من المسلمين وانتقلوا إلى الحبشة، وتسمى الهجرة الأولى، فهذه كانت بسبب شدة الظلم من الكفار في مكة والأذى والصد عن سبيل الله، فلهذا أذن لهم أن ينتقلوا وأن يهاجروا إلى بلاد أقل أذى، فمثل هذا النوع أيضًا جائز؛ لأنه في الحقيقة فرار من الإيذاء، وفرار من أسباب الارتكاس، وفرار من أسباب الفتنة إلى محل آخر أقل فتنة وأقل أذى وأقل ضررًا، إذا لم يوجد ما هو خير منه، إذا لم يوجد بلاد إسلامية ينتقل إليها، كما كان في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ما هناك بلاد إسلامية غير ذلك، ما هناك إلا مكة فقط أولًا ثم المدينة بعد ذلك كان فيها نشر الإسلام والدعوة إلى الإسلام فلهذا أوذي المسلمون في مكة لقلتهم وكثرة أعدائهم فاضطروا إلى الهجرة الحبشية للضرورة وعدم وجود بلاد إسلامية ينتقلون إليها ذاك الوقت، فهذا السفر إلى بلاد أقل شرًا من بلاده التي هو فيها وليس هناك بلاد يستطيع السفر إليها أحسن مما سافر إليه من بلاد أقل ضررًا وأقل شرًا، وهكذا السفر إلى بلاد المشركين للدعوة والتوجيه والإرشاد مع القدرة ومع العلم والفضل ومع إظهار الدين ومع البصيرة والأمن من الفتنة فهذا كله جائز كما نبه عليه المحاضر........