أما بعد: فقد سمعنا جميعًا هذه المحاضرة القيمة، والكلمات المباركة في بيان كمال الشريعة، ومجيئها بكل ما فيه صلاح القلوب وصلاح الأعمال وصلاح المجتمعات وحفظ القلوب والجوارح والأوقات عن كل ما يفسدها، وعن كل ما يسبب غضب الله وعقابه، ولقد استفاض في هذا المقام وأجاد وأفاد وضرب من الأمثلة التي جاء بها الشرع في العبادات والمعاملات وفي سائر أنواع الآداب الاجتماعية ما يوضح الكثير من كمال هذه الشريعة، وأنها جاءت بكل خير ونهت عن كل شر، ونقل عن بعض خصوم الشريعة وبعض أعداء الإسلام من النقول ما فيه الشهادة لهذه الشريعة بالحق والخير، وأنها هي الطريق والسبيل لسعادة البشرية في العاجل والآجل، وأن دين الإسلام تسير معه الفضائل، وتحل معه الفضائل حيث سار وحيث حل، وأنه هو الطريق لإنقاذ البشرية مما وقعت فيه من أنواع الباطل والضلال والفساد والمحال لمن عقل عن الله ولمن تبصر في دين الله وعرف حال الشريعة وعرف حال الناس، فجزاه الله خيرًا وزادنا وإياكم وإياه علمًا وهدى وتوفيقًا، ونفعنا جميعًا بما علمنا وسمعنا، وزادنا وإياكم من العلم والعمل الصالح.
لقد شرع الله للعباد في هذا الدين العظيم العبادات البدنية والعبادات المالية والعبادات المشتملة على ذا وذا على المال والعبادة البدنية ما فيه صلاح القلوب، وما فيه عمارة النفوس بما ينفعها ويرفع شأنها ويصونها عما يضرها، ولقد شرع الله في المعاملات ما يحفظ للمجتمع أمنه واستقامته، وتناوله ما ينفعه بالطرق السليمة البعيدة عن كل ما يضره، وعن كل ما يغضب الله عليه جل وعلا، وشرع له من الآداب في سائر الأعمال ما فيه صلاحه، وما فيه صيانته عما حرم الله عليه، وشرع له من العقوبات والآداب وأنواع التعزيرات ما يمنعه مما حرم الله، وما يعينه على الثبات على الحق ويقيمه على الطريق السوي.
وهذه النفوس لها نزعات ولها شطحات إن لم تجد رادعًا وإن لم تجد قائدًا ضرها ما جبلت عليه من شطحات ونزعات إلى ما يضرها، والإنسان محل الخطأ ومحل التقصير ومحل الذنوب، والله جعل فيه شهوة وابتلاه بشيطان ونفس أمارة بالسوء وهوى، وربما ابتلي أيضًا بأصحاب السوء، فهو بحاجة شديدة إلى ما يقاوم به هؤلاء الذين يريدون الهلاك، وإنما يحفظ به نفسه من هذه الدواعي وهذه الشرور التي إن خلي بينه وبينها هلك، ولكنه إذا اعتصم بالله واستعان بالله وأخذ بتوجيه الله وما شرعه له من العبادات قولًا وعملًا أعانه الله بها على جهاد هؤلاء الخصوم، وعلى حفظ نفسه من كيدهم ودعواتهم المضللة، فمن استعان بالله أعانه الله، ومن استقام على أمر الله حفظه الله، ومن وقف عند حدود الله صانه الله وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ [الطلاق:2-3]، وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا [الطلاق:4]، إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ [الأنفال:29].
أما أعداء الله فكما قال الله فيهم: أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلً} [الفرقان:44]، وقال فيهم جل وعلا: وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ [محمد:12]، وقال فيهم : وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ [الأعراف:179].