... سافر أدارها، فإن خرج الذي عليه افعل سافر ونحو ذلك، وإن خرج لا تفعل لم يسافر ولم يتزوج ولم يفعل ما هم به، وإن خرج القفل أعاد إدارتها، وهكذا، فالله أبطلها ، وجعل مكانها الاستخارة الشرعية، فمن هم بأمر لم يتضح له وجهه استخار ربه واستعمل الاستخارة الشرعية بعد صلاة ركعتين كما هو معروف، فالمقصود أن العقول يجب أن تحفظ ويجب أن تصان من المسكرات، فالله عز وجل أمر بحفظها، ونهى عن إضاعتها، وعلق الفلاح باجتناب المسكرات وأنواع الميسر، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [المائدة:90]، ومعنى رجس، يعني: حرام أو خبيث أو نجس لفساده وما فيه من الشر العظيم.
ثم بين شيئًا من الحكم والأسرار في تحريم الخمر والميسر، فقال: إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ [المائدة:91] فبين سبحانه أن تعاطي الخمور والقمار مما يدعو إليه الشيطان ومما يريده الشيطان عدو الله لما يعلم من الشرور المترتبة على ذلك، قال تعالى: إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ [فاطر:6] هذا شأن الخبيث يدعو الناس إلى كل فعل وإلى كل قول يباعدهم من الله ويقربهم من النار، ومن ذلك الخمر والميسر، قال فيه جل وعلا: إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ[المائدة:91]، يعني بدعوته إلى الخمر والميسر وتحسينهما لكم وتزيينهما والترغيب فيهما إنما يريد بذلك أن يوقع بينكم الشحناء والعداوة لما يترتب على البغضاء والشحناء من الشر العظيم، فهو عدو مبين يسعى في كل ما يضر العباد ويثبطهم عن كل ما ينفعهم، وهو يريد أن يوقع بين الناس العداوة والبغضاء في الخمر والميسر، يعني في تعاطي الخمر والميسر في شرب المسكر وفي لعب القمار؛ لأن الإنسان إذا سلب ماله بالقمار ضاقت عليه دنياه واشتد عليه الأمر، وربما تضارب مع غالبه وصارت بينه وبينه من العداوة والشحناء ما لا يحصيه إلا الله ، وهكذا الخمر يتضاربون إذا سكروا يتضاربون، ثم بعد ذلك تكون بينهم العداوة والشحناء إذا صحوا ورأوا آثار شرهم وفسادهم صارت الحزازات والعداوات الكثيرة، وربما ضرب بعضهم بعضًا بالسيف أو بغير ذلك، وربما قتل بعضهم بعضًا حتى تكون آثار المضاربة فيهم بعد وعيهم وزوال السكر عنهم، ثم مع ذلك يصدهم بالخمر والميسر عن ذكر الله وعن الصلاة، فإنه في الخمر يذهب عقله فلا ينتبه لصلاة ولا لغيرها مما ينفعه، وبالمقامرة يسكرون سكرًا آخر سكر اللعب بالقمار، وتمضي عليهم الصلوات وهم في سكر اللعب كل واحد يرجو أن يغلب، كل واحد يرجو أن يأخذ مال أخيه بغير حق، فهي مغالبة شديدة خبيثة تذهب العقول وتسبب الشحناء والعداوة والبغضاء وتصد عن ذكر الله وعن الصلاة، ومن أجل هذا حرمها المولى وهو أرحم الراحمين العالم بأحوال عباده والعالم بمصالحهم .