وكان في التوراة آصار وأغلال وزيادة وشدة على بني إسرائيل بسبب ظلمهم وعدوانهم واعتدائهم على الرسل، وفعلهم ما لا ينبغي، فشدد الله عليهم سبحانه في مسائل كثيرة كما قال : فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا [النساء:160]، وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ [النساء:161]، فبسبب أعمال قبيحة فعلها شدد عليهم في الشرائع، وصارت عليهم آصار؛ فبعث الله نبينا محمد ﷺ فوضع تلك الآصار والأغلال، وجاء بشريعة سمحة خفيفة ليست من جنس شرائع الماضين، ولا من جنس شريعة بني إسرائيل التي فيها الآصار والأغلال، ومن الآصار والأغلال التي صارت في بني إسرائيل أنهم شرع الله لهم عند التوبة أن يقتلوا أنفسهم قتلًا جعل من توبتهم أن يقتلوا أنفسهم، وهذا فيه من الآصار والشدة العظيمة ما لا يخفى!.
المقصود أن الله جل وعلا شرع لنا على يد محمد ﷺ شريعة كاملة منظمة لجميع ما يحتاجه العباد في معاشهم ومعادهم وجميع شؤونهم في الحكم، وفي العلاقة بين الله وبين عباده، وفي العلاقة بين العبد وأهله وزوجته وأولاده، في العلاقة بين الرجل ومجتمعه في بلده وبين جيرانه، وكذلك شريعة تتضمن العلاقات التي بين المسلمين وبين الكفار في السلم في الحرب إلى غير ذلك، فهي شريعة كاملة من ضمن الإسلام الذي جاء به نبينا محمد ﷺ، فدين الله الذي هو الإسلام الذي بعث به محمد ﷺ هو أكمل الأديان وأتمها، وهو الإسلام، لكنه خاتمة الشرائع، وأكمل الأديان الإسلامية التي جاءت بها الرسل من جهة شريعته الكاملة، من جهة ما جاء بشريعة كاملة من مزيد الأحكام التي تنفع الأمة، ومن التخفيف في بعض المسائل التي فيها الشدة على أولئك الماضي، فخفف الله عنا ويسر لنا أشياء كثيرة كانت شديدة على من قبلنا، فاشتمل دين الله الذي جاء به محمد ﷺ على شرائع قويمة تنفع المجتمع في معاشه ومعاده، وعلى إزالة آصار وأغلال كانت في شرائع من قبلنا شديدة عليهم فيها كلفة عليهم ومشقة عظيمة وضعها الله عنا، ويسر لنا السلامة منها، وصارت شريعتنا بحمد الله شريعة فيها الخير، وفيه السماح ولهذا قال سبحانه: وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ [الحج:78]، يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ [البقرة:185].
ومن ذلك أنه سبحانه أباح الميتة عند الضرورة، وعند العجز عن طعام يسد حاجته، فيأكل من الميتة ومن سائر الحرام فيسد به حاجته عند الحاجة، وعند العجز عن الحلال، إذا خاف الموت خاف الهلاك أكل من الميتة ما يسد رمقه أو من الحرام الآخر الذي يجده من كلب أو خنزير أو حمار أو غير ذلك يأكل من ذلك ما يحفظ به حياته حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ [المائدة:3]، ثم قال: فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [المائدة:3].
المقصود أن الله جل وعلا جعل في هذه الشريعة من السماح والتيسير ما هو لائق بالذي جاء بها، وهو نبينا محمد عليه الصلاة والسلام، ولأنها شريعة لجميع البشر، الشرائع الماضية لأقوام، كل نبي لقومه شريعة، أما شريعة محمد عليه الصلاة والسلام فقد جاءت شريعة عامة لجميع البشر لليهود والنصارى وسائر المشركين والعرب والعجم في سائر أقطار الدنيا، فمن حكمة الله أن جعلها تتمشى مع هذه الأمم، جعل فيها من السماح والتيسير والمرونة ما يكون صالحًا لجميع البشر في هذه الأرض من أدناها إلى أقصاها حتى يضمن مصالحهم، وحتى تشمل ما يحتاجون إليه في معاشهم ومعادهم، وحتى يمكنهم القيام بها والسير عليها، حتى يلقوا ربهم عز وجل، فهو يسر لهم ويسر عليهم فجعل الصلوات خمسًا، وجعل الزكاة خفيفة ميسرة، وجعل الصوم خفيفًا شهرًا في السنة، وجعل الحج مرة في العمر، وجعل المريض الذي لا يستطيع أن يصلي قائمًا يصلي قاعدًا، وإذا عجز عن القعود صلى على جنبه، وإذا عجز عن الجنب صلى مستلقيًا، وإذا عجز عن الماء صلى بالتيمم، ومن لم يستطع الماء ولا التيمم صلى بغير ماء ولا تيمم نوى الصلاة وصلى، من بدأ القبلة الكعبة صلى إليها، ومن عجز صلى إلى أي جهة حسب طاقته، ويجزأه ذلك إلى غير هذا من التسهيل والمسامحة والتيسير على هذه الأمة، فالله جل وعلا رحم عباده رحمة واسعة على يد محمد ﷺ، فجعل هذا الدين عامًا وشاملًا لجميع العباد من جن وإنس في سائر الأرض، أما الأديان السابقة الإسلام السابق الذي هو الإسلام من حيث العموم وهو الاستسلام لله والانقياد لطاعة الله اختيارًا الذي بعث الله به الرسل، فهذا يشمل الرسل جميعًا، من حيث العقيدة، من حيث الأساس، من حيث الإيمان بالله واليوم الآخر والجنة والنار، ومن جهة الأخلاق الفاضلة ونحو ذلك، هذا عام لجميع الرسل، وجميع ما جاؤوا به عليهم الصلاة والصلاة والسلام، لكن لكل قوم جاءهم رسول شرائع خاصة تليق بهم وتناسبهم ولا تناسب غيرهم.
فلما بعث الله نبيه محمد ﷺ إلى الناس عامة لا للعرب وحدهم، بل للعرب والعجم والجن والإنس، وإلى أهل زمانه، وإلى من يأتي بعده إلى يوم القيامة، اقتضت حكمته سبحانه أن يكون هذا الإسلام وهذه الشريعة التي جاء بها محمد عليه الصلاة والسلام وهي دين الإسلام أن تكون سمحة ميسرة مناسبة لجميع الثقلين: الجن والإنس حتى يتمكنوا من أدائها، والسير عليها، والاستقامة عليها، والموالاة عليها، والمعاداة عليها، والأخذ بها في السفر والحضر والشدة والرخاء، وجميع الأحوال إلى يوم القيامة، وهذا من رحمته وإحسانه جل وعلا، ولهذا قال : قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا [الأعراف:158]، وقال قبلها: فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [الأعراف:157]، المفلحون هم الذين اتبعوا محمدًا ﷺ، وأخذوا بالنور الذي جاء به واستقاموا عليه إلى يوم القيامة، ومن حاد عن ذلك فله الظلمة وله النار يوم القيامة؛ لأنه حاد عن طريق الهدى، وحاد عن طريق السلامة فباء بالخيبة والندامة، نسأل الله العافية.
وإذا عرف المؤمن هذا عرف أن الواجب عليه أن يحمد الله سبحانه وتعالى، وأن يشكره بما من به عليه من هذا الدين المبارك الذي ليس فيه حرج ولا مشقة ولا آصار ولا أغلال، وأن عليه أن يستقيم عليه وأن يدعو إليه، وأن يتواصى مع إخوانه بذلك، وأن يصبر على ما قد يناله من الأذى حتى يلقى ربه فيكون في ذلك التعاون على الخير والتواصي بالحق، وحتى يجتمع الجميع على هذا الدين، والله ينصرهم بذلك ويؤيدهم ويحميهم من كيد الأعداء إذا استقاموا على هذا الدين، ولم يتنازعوا، بل اتفقوا وتعاونوا كما قال : وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى [المائدة:2]، وقال: وَالْعَصْرِ إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ [العصر:1-3]، فالمسلمون إذا استقاموا على دينهم وتعاونوا على البر والتقوى وصدقوا في ذلك وتواصوا بالحق والصبر عليه ولم يتنازعوا بل استقاموا وتعاونوا وجاهدوا في سبيل الله جاهدوا أعداءهم طلبًا ودفاعًا جاهدوا أعداءهم دفاعًا إذا تعدوا عليهم دفاعًا عن دينهم وجاهدوا الأعداء إذا أصروا على الكفر والضلال وعلى عدم الجزية إذا كانوا من أهلها إذا أصروا على ذلك جاهدوهم لا لقصد أموالهم ولا لقصد نسائهم وذرياتهم لا، ولكن جاهدوهم لإنقاذهم من الباطل لإخراجهم من الظلمات إلى النور لإنقاذهم من النار إلى الجنة والسعادة، فالمسلمون في جهادهم إنما يجاهدون لإخراج الناس من الظلمات إلى النور، لإخراج الناس من ظلم الأديان من ظلم الجبابرة والظلمة إلى عدل الإسلام، وإلى نور الإسلام، وإلى سعة الإسلام، وإلى ما فيه من الخير والهدى والصلاح، فليس الإسلام ظالمًا للناس إذا جاهدهم، وليس المسلمون ظالمين للناس إذا جاهدوهم، وإنما هم محسنون يجاهدونهم لينقذوهم مما هم فيه من الباطل، لينقذوهم من طريق النار وسبيل النار، ليهدوهم إلى سبيل الاستقامة، ليهدوهم إلى دين به نجاتهم، به سعادتهم في الدنيا قبل الآخرة، فيه صلاح أمرهم، فيه تعاونهم على الخير، فيه تواصيهم بالحق، فيه سلامتهم من أسباب الشقاء، ثم به بعد ذلك الجنة والنجاة من النار.
فإذا جاهدهم المسلمون ودعوهم إلى الإسلام وبينوا لهم الإسلام وجاهدوهم عليه حتى دخلوا فيه فقد أحسن المسلمون ما ظلموهم، بل أحسنوا فيهم؛ لأنهم دعوهم إلى الخير وبذلوا وسعهم وتعرضوا للموت لإنقاذ أولئك من النار، لإنقاذهم من الظلمة، لإنقاذهم من ظلم الأديان، لإنقاذهم من الشرك، حتى يدخلوهم في الإسلام، وحتى يدخلوهم في أسباب النجاة، وفي سبيل السلامة والسعادة، وفي طريق النجاة يوم القيامة، وبهذا يعلم العاقل أن الإسلام في الحقيقة جاء بأسباب نجاة البشر، بأسباب الهداية للبشر كلهم، بأسباب صلاحهم، بأسباب استقامتهم، بأسباب خروجهم من الظلم والكفر والشر والظلمات إلى النور والهدى والسعادة والعافية.
وفق الله الجميع.