الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وأصحابه، ومن اهتدى بهداه.
أما بعد:
فقد سمعنا جميعا هذه الندوة المباركة التي تولاها صاحب الفضيلة: الشيخ صالح الفوزان، والشيخ عبدالرحمن بن حماد العمر، فيما يتعلق بالاحتفال بالموالد، وقد أجادا وأفادا وأوضحا ما ينبغي إيضاحه في هذا المقام، فجزاهما الله خيرًا، وضاعف مثوباتهما، وزادنا وإياكم وإياهما علمًا وهدى وتوفيقًان ونفعنا جميعًا بما سمعنا وعلمنا، وأصلح أحوال المسلمين جميعًا، ورزقنا وإياهم الفقه في الدين، وإيثار الحق على ما سواه، والصدق في طاعة الله وعبادته، والحذر مما ابتدعه المبتدعون، وحسنه المبطلون على غير هدى.
هذه البدعة التي تولى صاحب الفضيلة الكلمة فيها هذه الليلة لها دهر طويل قد شغل بها الناس حتى ظن الكثير من الناس أو الأكثر من الناس أنها سنة وأنها هدى، وأن من أنكرها فقد أنكر السنة، وأنكر الهدى، وهذا مصداق ما قاله السلف الصالح، ما قاله ابن مسعود من الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم من أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام في القرن الأول عبد الله بن مسعود أحد علماء الصحابة يقول : "كيف أنتم إذا لبستكم فتنة يربو فيها الصغير، ويهرم فيها الكبير، وتتخذ سنة إذا غيرت" قيل غيرت السنة هذه هو الواقع قيل: متى هذا يا أبا عبد الرحمن؟ قال: "إذا كثر قراؤكم، وقل فقهاؤكم، والتمست الدنيا بعمل الآخرة، وتفقه لغير الدين"، وقال بعضهم: "يأتي على الناس زمان يتخذ فيه الناس السنة بدعة، والبدعة سنة، والمعروف منكرًا، والمنكر معروفًا"، وهذا قد وقع من أزمان متطاولة نسأل الله السلامة، وأصله كله الجهل كثرة الجهل وقلة العلم والتقليد الأعمى لأعداء الله من الكفار التقليد لهم، وكذلك ما ينشأ في الناس من أعداء للدين يروجون البدع ويدعون إليها بأساليب كثيرة حتى يلبسوا على الناس دينهم كما التبس على اليهود والنصارى أمر دينهم، فأدخلوا فيه من البدع والشرور ما لا يحصيه إلا الله .
وقد ذكر الشيخ علي محفوظ صاحب الإبداع في مضار الابتداع ذكر نقلًا عن غيره أن أول من أحدث بدعة المولد هم الفاطميون الذين ملكوا مصر وبلاد المغرب في المائة الرابعة والخامسة أحدثوا أعيادًا وهم شيعة، ظاهرهم الرفض والتشيع وباطنهم الكفر كما قال أبو العباس بن تيمية رحمة الله عليه، قال فيهم: إن ظاهرهم الرفض، وإن باطنهم كفر محض، أحدثوا أعيادًا ودعوا الناس إليها، عيدًا للنبي ﷺ، وعيدًا لعلي ، وعيدًا للحسن والحسين، وعيدًا لحاكمهم حاكم مصر، ثم تبعهم بعض من ينسب إلى السنة في ذلك، ثم تبعهم في ذلك عن جهل وحسن قصد ملك إربل في آخر المائة السادسة أو أول المائة السابعة، وكثر هذا في الناس بعد ذلك، وأسبابه الجهل والتقليد الأعمى.
وذكر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في كتابه اقتضاء الصراط المستقيم في مخالفة أصحاب الجحيم أن كون بعض الناس يكون له حسن قصد لا يبرر إحداثه البدع، ولا يجيز له إحداث البدع، فلو فرضنا أنه جهل وله نية صالحة قد يؤجر على نيته بسبب الجهل لكن هذا لا يبرر ما أحدثه من البدع، بل البدعة ولو حسن قصد فاعلها فهي بدعة يجب إنكارها والنهي عنها.
ومثل لذلك بما أحدثه بعض الناس من الاحتفال بالعيد وبأعياد أخرى فعلها النصارى وفعلها بعض المسلمين في رجب وفي غيره، بين رحمه الله أنها بدعة ولو حسن قصد فاعلها، كهذا الذي نبحث فيه الآن، وهو الاحتفال بالمولد، نبه عليه وبين أنه بدعة ولو حسن قصد بعض من فعله.
وسبق أن نبه كثير من أهل العلم على ذلك وأوضحوا هذه البدعة وبينوها، وسبق لشيخنا العلامة الشيخ محمد بن إبراهيم رحمه الله أن كتب رسالة في هذا رد بها على بعض الناس، وأوضح ما في هذه الاحتفالات من الشرور والفساد، وأنها من البدع المنكرة التي أحدثها الناس، وأن الواجب إنكارها، فرحمة الله عليه وجزاه الله خيرًا وأكرم مثواه.
وقد كتبت في هذا أيضًا أنا مرات كثيرة في سنوات كثيرة مقالات بينت فيها هذه البدعة، وبينت فيها أضرارها ومفاسدها، وفي هذه الأيام القريبة كتبت مقالًا جوابًا لسؤال ذكرته جريدة المدينة وبينت في ذلك أنه بدعة وأنه تشبه باليهود والنصارى، فثارت ثائرة كثير من الناس وكتبوا كثيرًا في هذا واستنكروا أن يقال: إن الاحتفال بالمولد بدعة؛ لأنهم نشؤوا على هذا، وأدركوا عليه آباءهم وأسلافهم، فعظم عليهم أن يقال: إنه بدعة، وهكذا حال الناس إذا اعتادوا بدعة أو معصية عظم عليهم إنكارها وشق عليهم النهي عنها؛ لأنهم نشؤوا عليها، ونشأ عليها آباؤهم، كما قال الله عن الكفار لما أنكر عليهم النبي ﷺ دعاء الأموات والاستغاثة بالقبور وبالأشجار والأحجار والأصنام أنكروا هذا وعابوه واستعظموه، وقالوا: إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ [الزخرف:23]، صعب عليهم أن يخالفوا آباءهم في الباطل، وهكذا أبو طالب نفسه عم النبي ﷺ أبى أن يسلم واستمر على دين قومه، ويحتج على هذا بقوله:
ولولا أن نجيء بسبة تجر | على أشياخنا في المحافل |
لكنا اتبعانه على كل حالة من | الدهر قول الجد غير التهازل |
فذكر أنه ما منعه من الدخول في الدين وطاعة الرسول ﷺ إلا أنه ما يحب أن يجر على أسلافه سبه، ويقال: إن أسلافه كانوا ضالين، وأحب أن يكون معهم في الضلالة ولا يجر عليهم مقالة الضلالة، هكذا يفعل الشيطان بمن تولاه هكذا يفعل الشيطان، والبدع للشيطان فيها أهواء كثيرة ومقاصد، ولهذا يحسنها للناس ويزينها وينشط عليها، ولاسيما إذا كان فيها مآكل إذا كان فيها سماطات وأطعمة وأكل وأشياء صار الشوق إليها أكثر وصار التشبث بها أعظم، هكذا يفعل الشيطان بالناس.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في كتابه الاقتضاء: ولهذا تجد هؤلاء الذين اعتادوا البدع تجدهم كسالى، عندهم من الضعف والكسل والفتور لفعل السنن ما هو شيء كثير ينشطون في البدعة ويضعفون عند السنن عند المسابقة إلى الجمع وإلى حلقات العلم وإلى الاجتماعات الشرعية يكسلون ويضعفون فإذا جاءت البدعة نشطوا فيها وتجمعوا.