الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، ﷺ وعلى آله وأصحابه، أما بعد:
فقد نشرت بعض الصحف المحلية منذ أمد قريب خبرًا مفاده أن فضيلة المفتي العام في الأردن قد أفتى بإباحة تحديد النسل، وأن الحكومة إذا قررته لزم العمل به، واشتهر هذا الخبر بين الناس، وصار حديث المجالس لاستغرابه واستنكار المسلمين له، ومن أجل ذلك كثر السؤال عن حكم هذه المسألة، وهل هذه الفتوى صواب أم خطأ، فرأيت أن من الواجب على أمثالي بيان ما يدل عليه شرع الله عز وجل في هذه المسألة فأقول:
اعلم أيها القارئ وفقني الله وإياك لإصابة الحق أني اطلعت على الفتوى المذكورة، وتأملت ما اعتمد عليه فضيلة المفتي العام في الأردن في إصداره هذه الفتوى المشتملة على القول بإباحة تحديد النسل، وأن الحكومة إذا قررته كان العمل به لازمًا، فألفيته قد ركز فتواه على قوله عز وجل: وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ [النور:33] وعلى قول النبيﷺ: يا معشرر الشباب، من استطاع منكم الباءة فليتزوج، فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء وعلى الأحاديث الدالة على إباحة العزل، هذه أدلة المفتي التي اعتمد عليها في هذه الفتوى العظيمة.
وهناك أمر آخر مهد به الفتوى وهو قوله بالحرف الواحد في أول الفتوى: (لقد عظمت مخاوف العالم من تزايد السكان في كل مكان، وصار الخبراء يعدون ذلك منذرًا له بالويل والثبور وعظائم الأمور) ثم قال في آخر الفتوى ما نصه: (إذا قررت الحكومة هذا، فإن العمل به يكون لازمًا؛ لأن من المتفق عليه أن ولي الأمر إذا أخذ بقول ضعيف يكون حتمًا) انتهى المقصود من كلام المفتي.
وكل من تأمل ما اعتمده المفتي في هذه الفتوى من ذوي العلم والبصيرة، يعلم أنه أبعد النجعة وخالف الصواب ورمى في غير مرمى، وتحقق بأن ما ذكره من الأدلة لا يدل على ما ذهب إليه بوجه من الوجوه، بل هي في جانب والفتوى في جانب آخر، كما قال الشاعر:
أما الآية الكريمة فقد ذكرها الله سبحانه بعد قوله عز وجل: وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ [النور:32] ثم قال تعالى: وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ [النور:33] فأمر الله تعالى بالنكاح ورغب فيه، ووعد المتزوج بالغنى إن كان فقيرًا؛ ترغيبًا له في النكاح، وتشجيعًا له على الإقدام عليه، واثقًا بالله معتمدًا على فضله وسعة جوده وعلمه بأحوال عباده، ولذا ختم الله سبحانه وتعالى الآية بقوله: وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ثم أمر من لا حيلة له في النكاح أن يستعفف حتى يغنيه الله من فضله، فأي حجة في هذه الآية على قطع النسل أو تحديده؟ وقد زعم فضيلة المفتي أن أمر الله بالاستعفاف لمن لا يستطع النكاح يدل على جواز القطع والتحديد؛ لأن تأخير النكاح بسبب العجز يفضي إلى تأخير النسل أو قطعه إن مات قبل أن يتزوج، وهذا احتجاج غريب واستدلال نادر الوجود لا يمت إلى الآية بصلة! بل هو من غرائب الاستدلالات ونوادر الاحتجاج! فالله المستعان.
قال الحافظ ابن كثير -رحمه الله- في تفسير هاتين الآيتين ما نصه: (هذا أمر بالتزويج، وقد ذهب طائفة من العلماء إلى وجوبه على كل من قدر، واحتجوا بظاهر قوله-عليه الصلاة والسلام: يا معشر الشباب، من استطاع منكم الباءة فليتزوج، فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء أخرجاه في الصحيحين من حديث ابن مسعود.
وقد جاء في السنن من غير وجه أن رسول الله ﷺ قال: تزوجوا الولود تناسلوا، فإني مباه بكم الأمم يوم القيامة وفي رواية حتى بالسقط والأيامى جمع أيم، ويقال ذلك للمرأة التي لا زوج لها وللرجل الذي لا زوجة له، وسواء كان قد تزوج ثم فارق أو لم يتزوج واحد منهما، حكاه الجوهري عن أهل اللغة، يقال رجل أيم وامرأة أيم.
وقوله تعالى: إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ [النور:32] قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس-رضي الله عنهما-رغبهم الله في التزويج، وأمر به الأحرار والعبيد، ووعدهم عليه الغنى فقال: إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وقال ابن أبي حاتم حدثنا أبي حدثنا محمود بن خالد الأزرق حدثنا عمر بن عبدالواحد عن سعيد يعني ابن عبدالعزيز قال: بلغني أن أبا بكر الصديق -رضي الله عنه- قال: (أطيعوا الله فيما أمركم به من النكاح ينجز لكم ما وعدكم من الغنى) قال تعالى: إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ رواه ابن جرير وذكر البغوي عن عمر نحوه.
وعن الليث عن محمد بن عجلان عن سعيد المقبري عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول اللهﷺ: ثلاثة حق علىى الله عونهم: الناكح يريد العفاف، والمكاتب يريد الأداء، والغازي في سبيل الله رواه الإمام أحمد والترمذي والنسائي وابن ماجه.
وقد زوج النبي ﷺ ذلك الرجل الذي لم يجد عليه إلا إزاره، ولم يقدر على خاتم من حديد، ومع هذا فزوجه بتلك المرأة، وجعل صداقها على أن يعلمها ما معه من القرآن، والمعهود من كرم الله تعالى ولطفه أن يرزقه ما فيه كفاية لها وله، وأما ما يورده كثير من الناس على أنه حديث: تزوجوا فقراء يغنكم الله، فلا أصل له، ولم أره بإسناد قوي ولا ضعيف إلى الآن، وفي القرآن غنية عنه، وكذا هذه الأحاديث التي أوردناها ولله الحمد والمنة، وقوله تعالى: وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ [النور:33] هذا أمر من الله تعالى لمن لا يجد تزويجًا بالتعفف عن الحرام كما قالﷺ: يا معشر الشباب، من استطاع منكم الباءء فليتزوج، فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء انتهى المقصود.
وبما ذكرناه آنفًا وما نقلناه عن الحافظ ابن كثير -رحمه الله- في تفسير الآيتين يتضح للقراء حقيقة معناهما، وأنهما يدلان على شرعية النكاح والحث عليه؛ لما فيه من المصالح العظيمة التي منها: قضاء الوطر، وعفة الفرج، وغض البصر، وتكثير النسل. أما الاستدلال بهما على جواز قطع الحمل وتحديد النسل، ففي غاية من الغرابة والبعد عن الصواب!
وأما حديث ابن مسعود -رضي الله عنه- أن النبي ﷺ قال: يا معشر الشباب، من استطاع منكم الباءة فليتزوج، فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء فهو دال على ما دلت عليه الآيتان من الحث على النكاح والترغيب فيه وبيان بعض حكمه وأسراره، ودال أيضًا على أن من عجز عن النكاح يشرع له الاشتغال بالصوم؛ لأنه يضعف الشهوة ويضيق مجاري الشيطان، فهو من أسباب العفة وغض البصر، وليس فيه حجة بوجه ما على إباحة قطع الحمل أو تحديد النسل، وإنما فيه تأخير عند العجز إلى زمن القدرة، وشرعية تعاطي أسباب العفة حتى لا يقع في الحرام.
وأما الاحتجاج بأحاديث العزل على تحديد النسل فهو من جنس ما قبله، بعيد عن الصواب مخالف لمقاصد الشرع؛ لأن العزل هو إراقة المني خارج الفرج لئلا تحمل المرأة، وهذا إنما يفعله الإنسان عند الحاجة إليه، مثل كون المرأة مريضة أو مرضعة، فيخشى أن يضرها الحمل أو يضر طفلها، فيعزل لهذا الغرض أو نحوه من الأغراض المعقولة الشرعية إلى وقت ما، ثم يترك ذلك، وليس في هذا قطع للحمل ولا تحديد للنسل، وإنما فيه تعاطي بعض الأسباب المؤخرة للحمل لغرض شرعي، وهذا لا محذور فيه في أصح الأقوال عند العلماء، كما دلت عليه أحاديث العزل، ثم إن العزل لا يلزم منه عدم الحمل فقد يسبقه المني أو بعضه فتحمل المرأة بإذن الله؛ ولهذا قال النبي ﷺ في بعض الأحاديث الواردة في العزل: ليس من نفس مخلوقة إلا الله خالقها وروي عنه ﷺ أنه قال: ليس من كل الماء يكون الحمل فأي حجة في أحاديث العزل على تحديد النسل لمن تأمل المقام وأعطاه حقه من النظر وتجرد عن العوامل الأخرى، نسأل الله لنا ولفضيلة المفتي العام في الأردن ولسائر إخواننا التوفيق لإصابة الحق والعافية من خطأ الفهم، إنه خير مسئول.
ومن تأمل ما ذكرناه وما نقلناه عن أهل العلم يعلم أن القول بإباحة تحديد النسل قول مخالف للشريعة الكاملة التي جاءت بتحصيل المصالح وتكميلها، وتعطيل المفاسد وتقليلها، ومخالف للفطرة السليمة، فإن الله سبحانه فطر العباد علي محبة الأولاد، وبذل الأسباب في تكثير النسل، وقد امتن الله بذلك في كتابه، وجعله من زينة الدنيا فقال تعالى: وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ [النمل:72] وقال تعالى: الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا [الكهف:46].
من تأمل المقام أيضًا عرف أن القول بتحديد النسل مخالف لمصالح الأمة، فإن كثرة النسل من أسباب قوة الأمة وعزتها ومنعتها وهيبتها، وتحديد النسل بضد ذلك يفضي إلي قلتها وضعفها، بل إلى فنائها وانقراضها، وهذا واضح لجميع العقلاء، لا يحتاج إلى تدليل، وأما تخوف المفتي من كثرة السكان وقول الخبراء: إن ذلك ينذر بالويل والثبور، فهذا شيء لا ينبغي للعاقل فضلًا عن العالم أن يلتفت إليه بأن يعلق به أحكامًا تخالف الشريعة، وعلم الغيب إلى الله سبحانه هو خالق العباد ورازقهم، وهو القائل في كتابه الكريم: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ [الذاريات:56- 58] وهو القائل عز وجل: وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا [هود:6] والقائل: وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لا تَحْمِلُُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ والقائل: فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [العنكبوت:60]
وقد صح عن النبي ﷺ في أحاديث كثيرة: (أن الله سبحانه إذا خلق الجنين أمر الملك أن يكتب رزقه وأجله وعمله) فكل مخلوق له رزقه المقدر على حسب ما يسر الله من الأسباب، فكيف يليق بالعاقل أن يستحسن أو يبيح تحديد النسل خوفًا من ضيق العيش؟ والله سبحانه المتكفل بالرزق والقادر على كل شيء، وإذا كان السكان قد تزايدوا في كل مكان فأسباب الإنتاج والرزق قد كثرت أيضًا في كل مكان، وقد تسهلت وتنوعت أكثر مما كانت قبل وأحسن مما كانت قبل، وهذا من دلائل حكمة الله سبحانه وكمال قدرته وعظيم عنايته بمصالح عباده، ثم كيف يليق بمسلم أن يسيء ظنه بربه، حتى يبيح للأمة تحديد النسل، وحتى يلزم بذلك إذا قررته الدولة خوفًا من ضيق العيش وعدم حصول الرزق؟! فأين الإيمان بالله وأين الثقة بخبره؟! وأين التوكل عليه؟! ثم في هذا الظن السيء مشابهة للكفرة الذين كانوا يقتلون أولادهم خشية الفقر، فأنكر الله عليهم ذلك وعابهم به في قوله سبحانه: وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ [الأنعام:151] وقال سبحانه في آية الإسراء: وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنََّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا [الإسراء:31].
وأما قول المفتي في آخر الفتوى: (وإذا قررت الدولة ذلك يكون العمل به لازمًا؛ لأن من المتفق عليه أن ولي الأمر إذا أخذ بقول ضعيف يكون حتمًا) فهذا القول في غاية السقوط، بل هو ظاهر البطلان؛ لأن الحكومة إنما تطاع في المعروف، لا فيما يضر الأمة ويخالف الشرع المطهر، والقول لتحديد النسل مخالف للشرع ومصلحة الأمة، فكيف تلزم طاعتها فيه؟! قال الله عز وجل في حق نبيهﷺ: وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ [الممتحنة:12] وهو ﷺ لا يأمر إلا بالمعروف، ولكن الله عز وجل أراد إعلام الأمة وإرشادها إلى أن طاعة ولاة الأمور إنما تكون في المعروف، وصح عن النبي ﷺ أنه قال: إنما الطاعة في المعروف وقال-عليه الصلاة والسلام: لا طاعة للمخلوق في معصية الخالق والأحاديث في هذا المعنى كثيرة، وهذه كلمة موجزة أردنا بها إظهار الحق وكشف اللبس وإرشاد المسلمين إلى ما نعلم من شرع الله سبحانه في هذه المسألة.
ونسأل الله أن يوفقنا وسائر المسلمين لما فيه رضاه، وأن يمن على الجميع بالفقه في دينه والثبات عليه، وأن يعيذ الجميع من مضلات الفتن ونزغات الشيطان، إنه على كل شيء قدير. وصلى وسلم على عبده ورسوله محمد وآله وصحبه[1].
فقد نشرت بعض الصحف المحلية منذ أمد قريب خبرًا مفاده أن فضيلة المفتي العام في الأردن قد أفتى بإباحة تحديد النسل، وأن الحكومة إذا قررته لزم العمل به، واشتهر هذا الخبر بين الناس، وصار حديث المجالس لاستغرابه واستنكار المسلمين له، ومن أجل ذلك كثر السؤال عن حكم هذه المسألة، وهل هذه الفتوى صواب أم خطأ، فرأيت أن من الواجب على أمثالي بيان ما يدل عليه شرع الله عز وجل في هذه المسألة فأقول:
اعلم أيها القارئ وفقني الله وإياك لإصابة الحق أني اطلعت على الفتوى المذكورة، وتأملت ما اعتمد عليه فضيلة المفتي العام في الأردن في إصداره هذه الفتوى المشتملة على القول بإباحة تحديد النسل، وأن الحكومة إذا قررته كان العمل به لازمًا، فألفيته قد ركز فتواه على قوله عز وجل: وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ [النور:33] وعلى قول النبيﷺ: يا معشرر الشباب، من استطاع منكم الباءة فليتزوج، فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء وعلى الأحاديث الدالة على إباحة العزل، هذه أدلة المفتي التي اعتمد عليها في هذه الفتوى العظيمة.
وهناك أمر آخر مهد به الفتوى وهو قوله بالحرف الواحد في أول الفتوى: (لقد عظمت مخاوف العالم من تزايد السكان في كل مكان، وصار الخبراء يعدون ذلك منذرًا له بالويل والثبور وعظائم الأمور) ثم قال في آخر الفتوى ما نصه: (إذا قررت الحكومة هذا، فإن العمل به يكون لازمًا؛ لأن من المتفق عليه أن ولي الأمر إذا أخذ بقول ضعيف يكون حتمًا) انتهى المقصود من كلام المفتي.
وكل من تأمل ما اعتمده المفتي في هذه الفتوى من ذوي العلم والبصيرة، يعلم أنه أبعد النجعة وخالف الصواب ورمى في غير مرمى، وتحقق بأن ما ذكره من الأدلة لا يدل على ما ذهب إليه بوجه من الوجوه، بل هي في جانب والفتوى في جانب آخر، كما قال الشاعر:
سارت مشرقة وسرت مغربًا | شتان بين مشرق ومغرب |
قال الحافظ ابن كثير -رحمه الله- في تفسير هاتين الآيتين ما نصه: (هذا أمر بالتزويج، وقد ذهب طائفة من العلماء إلى وجوبه على كل من قدر، واحتجوا بظاهر قوله-عليه الصلاة والسلام: يا معشر الشباب، من استطاع منكم الباءة فليتزوج، فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء أخرجاه في الصحيحين من حديث ابن مسعود.
وقد جاء في السنن من غير وجه أن رسول الله ﷺ قال: تزوجوا الولود تناسلوا، فإني مباه بكم الأمم يوم القيامة وفي رواية حتى بالسقط والأيامى جمع أيم، ويقال ذلك للمرأة التي لا زوج لها وللرجل الذي لا زوجة له، وسواء كان قد تزوج ثم فارق أو لم يتزوج واحد منهما، حكاه الجوهري عن أهل اللغة، يقال رجل أيم وامرأة أيم.
وقوله تعالى: إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ [النور:32] قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس-رضي الله عنهما-رغبهم الله في التزويج، وأمر به الأحرار والعبيد، ووعدهم عليه الغنى فقال: إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وقال ابن أبي حاتم حدثنا أبي حدثنا محمود بن خالد الأزرق حدثنا عمر بن عبدالواحد عن سعيد يعني ابن عبدالعزيز قال: بلغني أن أبا بكر الصديق -رضي الله عنه- قال: (أطيعوا الله فيما أمركم به من النكاح ينجز لكم ما وعدكم من الغنى) قال تعالى: إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ رواه ابن جرير وذكر البغوي عن عمر نحوه.
وعن الليث عن محمد بن عجلان عن سعيد المقبري عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول اللهﷺ: ثلاثة حق علىى الله عونهم: الناكح يريد العفاف، والمكاتب يريد الأداء، والغازي في سبيل الله رواه الإمام أحمد والترمذي والنسائي وابن ماجه.
وقد زوج النبي ﷺ ذلك الرجل الذي لم يجد عليه إلا إزاره، ولم يقدر على خاتم من حديد، ومع هذا فزوجه بتلك المرأة، وجعل صداقها على أن يعلمها ما معه من القرآن، والمعهود من كرم الله تعالى ولطفه أن يرزقه ما فيه كفاية لها وله، وأما ما يورده كثير من الناس على أنه حديث: تزوجوا فقراء يغنكم الله، فلا أصل له، ولم أره بإسناد قوي ولا ضعيف إلى الآن، وفي القرآن غنية عنه، وكذا هذه الأحاديث التي أوردناها ولله الحمد والمنة، وقوله تعالى: وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ [النور:33] هذا أمر من الله تعالى لمن لا يجد تزويجًا بالتعفف عن الحرام كما قالﷺ: يا معشر الشباب، من استطاع منكم الباءء فليتزوج، فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء انتهى المقصود.
وبما ذكرناه آنفًا وما نقلناه عن الحافظ ابن كثير -رحمه الله- في تفسير الآيتين يتضح للقراء حقيقة معناهما، وأنهما يدلان على شرعية النكاح والحث عليه؛ لما فيه من المصالح العظيمة التي منها: قضاء الوطر، وعفة الفرج، وغض البصر، وتكثير النسل. أما الاستدلال بهما على جواز قطع الحمل وتحديد النسل، ففي غاية من الغرابة والبعد عن الصواب!
وأما حديث ابن مسعود -رضي الله عنه- أن النبي ﷺ قال: يا معشر الشباب، من استطاع منكم الباءة فليتزوج، فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء فهو دال على ما دلت عليه الآيتان من الحث على النكاح والترغيب فيه وبيان بعض حكمه وأسراره، ودال أيضًا على أن من عجز عن النكاح يشرع له الاشتغال بالصوم؛ لأنه يضعف الشهوة ويضيق مجاري الشيطان، فهو من أسباب العفة وغض البصر، وليس فيه حجة بوجه ما على إباحة قطع الحمل أو تحديد النسل، وإنما فيه تأخير عند العجز إلى زمن القدرة، وشرعية تعاطي أسباب العفة حتى لا يقع في الحرام.
وأما الاحتجاج بأحاديث العزل على تحديد النسل فهو من جنس ما قبله، بعيد عن الصواب مخالف لمقاصد الشرع؛ لأن العزل هو إراقة المني خارج الفرج لئلا تحمل المرأة، وهذا إنما يفعله الإنسان عند الحاجة إليه، مثل كون المرأة مريضة أو مرضعة، فيخشى أن يضرها الحمل أو يضر طفلها، فيعزل لهذا الغرض أو نحوه من الأغراض المعقولة الشرعية إلى وقت ما، ثم يترك ذلك، وليس في هذا قطع للحمل ولا تحديد للنسل، وإنما فيه تعاطي بعض الأسباب المؤخرة للحمل لغرض شرعي، وهذا لا محذور فيه في أصح الأقوال عند العلماء، كما دلت عليه أحاديث العزل، ثم إن العزل لا يلزم منه عدم الحمل فقد يسبقه المني أو بعضه فتحمل المرأة بإذن الله؛ ولهذا قال النبي ﷺ في بعض الأحاديث الواردة في العزل: ليس من نفس مخلوقة إلا الله خالقها وروي عنه ﷺ أنه قال: ليس من كل الماء يكون الحمل فأي حجة في أحاديث العزل على تحديد النسل لمن تأمل المقام وأعطاه حقه من النظر وتجرد عن العوامل الأخرى، نسأل الله لنا ولفضيلة المفتي العام في الأردن ولسائر إخواننا التوفيق لإصابة الحق والعافية من خطأ الفهم، إنه خير مسئول.
ومن تأمل ما ذكرناه وما نقلناه عن أهل العلم يعلم أن القول بإباحة تحديد النسل قول مخالف للشريعة الكاملة التي جاءت بتحصيل المصالح وتكميلها، وتعطيل المفاسد وتقليلها، ومخالف للفطرة السليمة، فإن الله سبحانه فطر العباد علي محبة الأولاد، وبذل الأسباب في تكثير النسل، وقد امتن الله بذلك في كتابه، وجعله من زينة الدنيا فقال تعالى: وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ [النمل:72] وقال تعالى: الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا [الكهف:46].
من تأمل المقام أيضًا عرف أن القول بتحديد النسل مخالف لمصالح الأمة، فإن كثرة النسل من أسباب قوة الأمة وعزتها ومنعتها وهيبتها، وتحديد النسل بضد ذلك يفضي إلي قلتها وضعفها، بل إلى فنائها وانقراضها، وهذا واضح لجميع العقلاء، لا يحتاج إلى تدليل، وأما تخوف المفتي من كثرة السكان وقول الخبراء: إن ذلك ينذر بالويل والثبور، فهذا شيء لا ينبغي للعاقل فضلًا عن العالم أن يلتفت إليه بأن يعلق به أحكامًا تخالف الشريعة، وعلم الغيب إلى الله سبحانه هو خالق العباد ورازقهم، وهو القائل في كتابه الكريم: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ [الذاريات:56- 58] وهو القائل عز وجل: وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا [هود:6] والقائل: وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لا تَحْمِلُُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ والقائل: فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [العنكبوت:60]
وقد صح عن النبي ﷺ في أحاديث كثيرة: (أن الله سبحانه إذا خلق الجنين أمر الملك أن يكتب رزقه وأجله وعمله) فكل مخلوق له رزقه المقدر على حسب ما يسر الله من الأسباب، فكيف يليق بالعاقل أن يستحسن أو يبيح تحديد النسل خوفًا من ضيق العيش؟ والله سبحانه المتكفل بالرزق والقادر على كل شيء، وإذا كان السكان قد تزايدوا في كل مكان فأسباب الإنتاج والرزق قد كثرت أيضًا في كل مكان، وقد تسهلت وتنوعت أكثر مما كانت قبل وأحسن مما كانت قبل، وهذا من دلائل حكمة الله سبحانه وكمال قدرته وعظيم عنايته بمصالح عباده، ثم كيف يليق بمسلم أن يسيء ظنه بربه، حتى يبيح للأمة تحديد النسل، وحتى يلزم بذلك إذا قررته الدولة خوفًا من ضيق العيش وعدم حصول الرزق؟! فأين الإيمان بالله وأين الثقة بخبره؟! وأين التوكل عليه؟! ثم في هذا الظن السيء مشابهة للكفرة الذين كانوا يقتلون أولادهم خشية الفقر، فأنكر الله عليهم ذلك وعابهم به في قوله سبحانه: وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ [الأنعام:151] وقال سبحانه في آية الإسراء: وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنََّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا [الإسراء:31].
وأما قول المفتي في آخر الفتوى: (وإذا قررت الدولة ذلك يكون العمل به لازمًا؛ لأن من المتفق عليه أن ولي الأمر إذا أخذ بقول ضعيف يكون حتمًا) فهذا القول في غاية السقوط، بل هو ظاهر البطلان؛ لأن الحكومة إنما تطاع في المعروف، لا فيما يضر الأمة ويخالف الشرع المطهر، والقول لتحديد النسل مخالف للشرع ومصلحة الأمة، فكيف تلزم طاعتها فيه؟! قال الله عز وجل في حق نبيهﷺ: وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ [الممتحنة:12] وهو ﷺ لا يأمر إلا بالمعروف، ولكن الله عز وجل أراد إعلام الأمة وإرشادها إلى أن طاعة ولاة الأمور إنما تكون في المعروف، وصح عن النبي ﷺ أنه قال: إنما الطاعة في المعروف وقال-عليه الصلاة والسلام: لا طاعة للمخلوق في معصية الخالق والأحاديث في هذا المعنى كثيرة، وهذه كلمة موجزة أردنا بها إظهار الحق وكشف اللبس وإرشاد المسلمين إلى ما نعلم من شرع الله سبحانه في هذه المسألة.
ونسأل الله أن يوفقنا وسائر المسلمين لما فيه رضاه، وأن يمن على الجميع بالفقه في دينه والثبات عليه، وأن يعيذ الجميع من مضلات الفتن ونزغات الشيطان، إنه على كل شيء قدير. وصلى وسلم على عبده ورسوله محمد وآله وصحبه[1].
- مقال نشر في حدود عام 1385 هـ عندما كان سماحة الشيخ نائبا لرئيس الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة. (مجموع فتاوى ومقالات الشيخ ابن باز 3/ 326).