الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، ﷺ، وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداه، أما بعد:
فلقد شاع بين كثير من الناس من الكتاب وغيرهم ما يسمى بعلم تحضير الأرواح، وزعموا أنهم يستحضرون أرواح الموتى بطريقة اخترعها المشتغلون بهذه الشعوذة يسألونها عن أخبار الموتى من نعيم وعذاب وغير ذلك من الشؤون التي يظن أن عند الموتى علمًا بها في حياتهم. ولقد تأملت هذا الموضوع كثيرًا فاتضح لي أنه علم باطل، وأنه شعوذة شيطانية يراد منها إفساد العقائد والأخلاق والتلبيس على المسلمين والتوصل إلى دعوى علم الغيب في أشياء كثيرة.
ولهذا رأيت أن أكتب في ذلك كلمة موجزة لإيضاح الحق والنصح للأمة وكشف التلبيس عن الناس، فأقول: لا ريب أن هذه المسألة مثل جميع المسائل، يجب ردها إلى كتاب الله وسنة رسوله ﷺ فما أثبتاه أو أحدهما أثبتناه، وما نفياه أو أحدهما نفيناه، كما قال الله عز وجل: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا [النساء:59].
ومسألة (الروح) من الأمور الغيبية التي اختص الله سبحانه وتعالى بعلمها ومعرفة كنهها، فلا يصح الخوض فيها إلا بدليل شرعي، قال الله تعالى: عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا إِلا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا [الجن:26-27] وقال سبحانه في سورة النمل: قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلا اللَّهُ الآية [النمل:65].
وقد اختلف العلماء-رحمهم الله-في المراد بالروح في قوله تعالى في سورة الإسراء: وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلا قَلِيلًا [الإسراء:85] فقال بعضهم: إنه الروح الذي في الأبدان، وعلى هذا فالآية دليل على أن الروح أمر من أمر الله، لا يعلم الناس عنه شيئًا إلا ما علمهم الله إياه؛ لأن ذلك أمر من الأمور التي اختص الله سبحانه بعلمها وحجب ذلك عن الخلق، وقد دل القران الكريم والأحاديث الصحيحة عن رسول الله ﷺ على أن أرواح الموتى تبقى بعد موت الأبدان، ومما يدل على ذلك قوله تعالى: اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى الآية [الزمر:42].
وثبت: (أن نبي الله ﷺ أمر يوم بدر بأربعة وعشرين رجلًا من صناديد قريش، فقذفوا في طوي من أطواء بدر خبيث مخبث، وكان إذا ظهر على قوم أقام بالعرصة ثلاث ليال، فلما كان ببدر اليوم الثالث أمر براحلته فشد عليها رحلها، ثم مشى واتبعه أصحابه، وقالوا: ما نراه انطلق إلا لبعض حاجته، حتى قام على شفة الركي، فجعل يناديهم بأسمائهم وأسماء آبائهم، يا فلان بن فلان، ويا فلان بن فلان: أيسركم أنكم أطعتم الله ورسوله، فإنا قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقًا، فهل وجدتم ما وعد ربكم حقًا؟ قال: فقال عمر: يا رسول الله، ما تكلم من أجساد لا أرواح لها؟ فقال رسول اللهﷺ: والذي نفس محمد بيده، ما أنتم بأسمع لما أقول منهم، ولكنهم لا يستطيعون أن يجيبوا وثبت عنهﷺ: (أن الميت يسمع قرع نعال المشيعين له إذا انصرفوا عنه).
قال العلامة ابن القيم-رحمه الله: (والسلف مجمعون على هذا، وقد تواترت الآثار عنهم بأن الميت يعرف زيارة الحي له ويستبشر به) ونقل ابن القيم أن ابن عباس-رضي الله عنهما-قال في تفسير قوله تعالى: اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى [الزمر:42]: (بلغني أن أرواح الأحياء والأموات تلتقي في المنام، فيتساءلون بينهم، فيمسك الله أرواح الموتى، ويرسل أرواح الأحياء إلى أجسادها) ثم قال ابن القيم-رحمه الله: (وقد دل على التقاء أرواح الأحياء والأموات أن الحي يرى الميت في منامه فيستخبره، ويخبره الميت بما لا يعلم الحي، فيصادف خبره كما أخبر).
فهذا هو الذي عليه السلف من أن أرواح الأموات باقية إلى ما شاء الله وتسمع، ولكن لم يثبت أنها تتصل بالأحياء في غير المنام، كما أنه لا صحة لما يدعيه المشعوذون من قدرتهم على تحضير أرواح من يشاءون من الأموات ويكلمونها ويسألونها، فهذه ادعاءات باطلة ليس لها ما يؤيدها من النقل ولا من العقل، بل إن الله سبحانه وتعالى هو العالم بهذه الأرواح والمتصرف فيها، وهو القادر على ردها إلى أجسامها متى شاء ذلك، فهو المتصرف وحده في ملكه وخلقه لا ينازعه منازع، أما من يدعي غير ذلك فهو يدعي ما ليس له به علم، ويكذب على الناس فيما يروجه من أخبار الأرواح؛ إما لكسب مال، أو لإثبات قدرته على ما لا يقدر عليه غيره، أو للتلبيس على الناس لإفساد الدين والعقيدة.
وما يدعيه هؤلاء الدجالون من تحضير الأرواح إنما هي أرواح شياطين، يخدمها بعبادتها وتحقيق مطالبها، وتخدمه بما يطلب منها كذبا وزورا في انتحالها أسماء من يدعونه من الأموات، كما قال الله تعالى: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ [الأنعام:112، 113] وقال تعالى: وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنََ الْإِنْسِ وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنََّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ [الأنعام:128]
وذكر علماء التفسير أن استمتاع الجن بالإنس بعبادتهم إياهم بالذبائح والنذور والدعاء، وأن استمتاع الإنس بالجن قضاء حوائجهم التي يطلبونها منهم، وإخبارهم ببعض المغيبات التي يطلع عليها الجن في بعض الجهات النائية، أو يسترقونها من السمع أو يكذبونه، وهو الأكثر، ولو فرضنا أن هؤلاء الإنس لا يتقربون إلى الأرواح التي يستحضرونها بشيء من العبادة، فإن ذلك لا يوجب حل ذلك وإباحته، لأن سؤال الشياطين والعرافين والكهنة والمنجمين ممنوع شرعًا، وتصديقهم فما يخبرون به أعظم تحريمًا وأكبر إثمًا، بل هو من شعب الكفر؛ لقول النبيﷺ: من أتى عرافًا فسأله عن شيء، لم تقبل له صلاة أربعين ليلة وفي مسند أحمد والسنن عن النبي ﷺ أنه قال: من أتى كاهنا فصدقه بما يقول، فقد كفر بما أنزل على محمد ﷺ.
وقد جاء في هذا المعنى أحاديث وآثار كثيرة، ولا شك أن هذه الأرواح التي يستحضرونها بزعمهم داخلة فيما منع منه النبيﷺ؛ لأنها من جنس الأرواح التي تقترن بالكهان والعرافين من أصناف الشياطين فيكون لها حكمها، فلا يجوز سؤالها ولا استحضارها ولا تصديقها، بل كل ذلك محرم ومنكر بل وباطل، لما سمعت من الأحاديث والآثار في ذلك، ولأن ما ينقلونه عن هذه الأرواح يعتبر من علم الغيب، وقد قال الله سبحانه: قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلا اللَّهُ [النمل:65].
وقد تكون هذه الأرواح هي الشياطين المقترنة بالأموات الذين طلبوا أرواحهم، فتخبر بما تعلمه من حال الميت في حياته، مدعية أنها روح الميت الذي كانت مقترنة به، فلا يجوز تصديقها ولا استحضارها ولا سؤالها كما تقدم الدليل على ذلك. وما يحضِّره ليس إلا الشياطين والجن يستخدمهم مقابل ما يتقرب به إليهم من العبادة التي لا يجوز صرفها لغير الله، فيصل بذلك إلى حد الشرك الأكبر الذي يخرج صاحبه من الملة-نعوذ بالله من ذلك.
ولقد أصدرت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء في دار الإفتاء السعودية فتوى عن التنويم المغناطيسي الذي هو أحد أنواع تحضير الأرواح هذا نصها: (التنويم المغناطيسي ضرب من ضروب الكهانة باستخدام جني يسلطه المنوِّم على المنوَّم، فيتكلم بلسانه ويكسبه قوة على بعض الأعمال بسيطرته عليه إن صدق مع المنوم وكان طوعًا له مقابل ما يتقرب به المنوِّم إليه، ويجعل ذلك الجني المنوَّم طوع إرادة المنوِّم يقوم بما يطلبه منه من الأعمال بمساعدة الجني له إن صدق ذلك الجني مع المنوم، وعلى ذلك يكون استغلال التنويم المغناطيسي واتخاذه طريقًا أو وسيلة للدلالة على مكان سرقة أو ضالة أو علاج مريض، أو القيام بأي عمل آخر بواسطة المنوِّم غير جائز بل هو شرك لما تقدم، ولأنه التجاء إلى غير الله فيما هو من وراء الأسباب العادية التي جعلها الله سبحانه إلى المخلوقات وأباحها لهم) انتهى كلام اللجنة[1].
وممن كشف حقيقة هذه الدعوى الباطلة الدكتور محمد محمد حسين في كتابه [الروحية الحديثة حقيقتها وأهدافها] وكان ممن خدع بهذه الشعوذة زمنًا طويلًا، ثم هداه الله إلى الحق وكشف زيف تلك الدعوى بعد أن توغل فيها ولم يجد فيها سوى الخرافات والدجل، وقد ذكر أن المشتغلين بتحضير الأرواح يسلكون طرقًا مختلفة، منهم المبتدئون الذين يعتمدون على كوب صغير أو فنجان يتنقل بين حروف قد رسمت فوق منضدة، وتتكون إجابات الأرواح المستحضرة-حسب زعمهم-من مجموع الحروف بحسب ترتيب تنقله فيها، ومنهم من يعتمد على طريقة السلة يوضع في طرفها قلم يكتب الإجابات على أسئلة السائلين، ومنهم من يعتمد على وسيط كوسيط التنويم المغناطيسي.
وذكر أنه يشك في مدعي تحضير الأرواح، وأن وراءهم من يدفعهم بدليل الدعاية التي عملت لهم، فتسابقت إلى تتبع أخبارهم ونشر ادعاءاتهم صحف ومجلات لم تكن من قبل تنشط لشيء يمس الروح أو الحياة الآخرة، ولم تكن في يوم من الأيام داعية إلى الدين أو الإيمان بالله. وذكر أنهم يهتمون بإحياء الدعوة الفرعونية وغيرها من الدعوات الجاهلية، كما ذكر أن الذين روجوا لأصل هذه الفكرة هم أناس فقدوا عزيزًا عليهم فيعزون أنفسهم بالأوهام، وأن أشهر من روج لهذه البدعة السيد أوليفر لودج الذي فقد ابنه في الحرب العالمية الأولى، ومثله مؤسس الروحية في مصر أحمد فهمي أبو الخير الذي مات ابنه عام 1937 م، وكان رزق به بعد طول انتظار.
وذكر الدكتور محمد محمد حسين أنه مارس هذه البدعة، فبدأ بطريقة الفنجان والمنضدة فلم يجد فيها ما يبعث على الاقتناع، وانتهى إلى مرحلة الوسيط، وحاول مشاهدة ما يدعونه من تجسيد الروح أو الصوت المباشر ويرونه دليل دعواهم، فلم ينجح هو ولا غيره؛ لأنه لا وجود لذلك في حقيقة الأمر، وإنما هي ألاعيب محكمة تقوم على حيل خفية بارعة ترمي إلى هدم الأديان، وأصبحت الصهيونية العالمية الهدامة ليست بعيدة عنها، ولما لم يقتنع بتلك الأفكار الفاسدة وكشف حقيقتها انسحب منها وعزم على توضيح الحقيقة للناس ويقول: (إن هؤلاء المنحرفين لا يزالون بالناس حتى يستلوا من صدورهم الإيمان، وما استقر في نفوسهم من عقيدة، ويسلمونهم إلى خليط مضطرب من الظنون والأوهام.
ومدعو تحضير الأرواح لا يثبتون للرسل - صلوات الله وسلامه عليهم - إلا صفة الوساطة الروحية كما قال زعيمهم أرثر فندلاي في كتابه [على حافة العالم الأثري] عن الأنبياء هم: وسطاء في درجة عالية من درجات الوساطة والمعجزات التي جرت على أيديهم ليست إلا ظواهر روحية، كالظواهر التي تحدث في حجرة تحضير الأرواح).
ويقول الدكتور حسين: (إنهم إذا فشلوا في تحضير الأرواح قالوا: الوسيط غير ناجح، أو مجهد، أو إن شهود الجلسة غير متوافقين، أو إن بينهم من حضر إلى الاجتماع شاكًا أو متحديًا). ومن بين مزاعمهم الباطلة أنهم زعموا أن جبريل-عليه السلام-يحضر جلساتهم ويباركها-قبحهم الله-انتهى المقصود من كلام الدكتور محمد محمد حسين.
ومما ذكرناه في أول الجواب وما ذكرته اللجنة والدكتور محمد محمد حسين في التنويم المغناطيسي يتضح بطلان ما يدعيه محادثو الأرواح من كونهم يحضرون أرواح الموتى ويسألونهم عما أرادوه، ويعلم أن هذه كلها أعمال شيطانية وشعوذة باطلة داخلة فيما حذر منه النبي ﷺ من سؤال الكهنة والعرافين وأصحاب التنجيم ونحوهم، والواجب على المسئولين في الدول الإسلامية منع هذا الباطل والقضاء عليه، وعقوبة من يتعاطاه حتى يكف عنه، كما أن الواجب على رؤساء تحرير الصحف الإسلامية أن لا ينقلوا هذا الباطل وأن لا يدنسوا به صحفهم، وإذا كان لابد من نقل فليكن نقل الرد والتزييف والإبطال والتحذير من ألاعيب الشياطين من الإنس والجن ومكرهم وخداعهم وتلبيسهم على الناس.
والله يقول الحق وهو يهدي السبيل، وهو المسئول سبحانه أن يصلح أحوال المسلمين، ويمنحهم الفقه في الدين، ويعيذهم من خداع المجرمين، وتلبيس أولياء الشياطين، إنه ولي ذلك والقادر عليه، وصلى الله وسلم على نبينا محمد[2].
فلقد شاع بين كثير من الناس من الكتاب وغيرهم ما يسمى بعلم تحضير الأرواح، وزعموا أنهم يستحضرون أرواح الموتى بطريقة اخترعها المشتغلون بهذه الشعوذة يسألونها عن أخبار الموتى من نعيم وعذاب وغير ذلك من الشؤون التي يظن أن عند الموتى علمًا بها في حياتهم. ولقد تأملت هذا الموضوع كثيرًا فاتضح لي أنه علم باطل، وأنه شعوذة شيطانية يراد منها إفساد العقائد والأخلاق والتلبيس على المسلمين والتوصل إلى دعوى علم الغيب في أشياء كثيرة.
ولهذا رأيت أن أكتب في ذلك كلمة موجزة لإيضاح الحق والنصح للأمة وكشف التلبيس عن الناس، فأقول: لا ريب أن هذه المسألة مثل جميع المسائل، يجب ردها إلى كتاب الله وسنة رسوله ﷺ فما أثبتاه أو أحدهما أثبتناه، وما نفياه أو أحدهما نفيناه، كما قال الله عز وجل: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا [النساء:59].
ومسألة (الروح) من الأمور الغيبية التي اختص الله سبحانه وتعالى بعلمها ومعرفة كنهها، فلا يصح الخوض فيها إلا بدليل شرعي، قال الله تعالى: عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا إِلا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا [الجن:26-27] وقال سبحانه في سورة النمل: قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلا اللَّهُ الآية [النمل:65].
وقد اختلف العلماء-رحمهم الله-في المراد بالروح في قوله تعالى في سورة الإسراء: وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلا قَلِيلًا [الإسراء:85] فقال بعضهم: إنه الروح الذي في الأبدان، وعلى هذا فالآية دليل على أن الروح أمر من أمر الله، لا يعلم الناس عنه شيئًا إلا ما علمهم الله إياه؛ لأن ذلك أمر من الأمور التي اختص الله سبحانه بعلمها وحجب ذلك عن الخلق، وقد دل القران الكريم والأحاديث الصحيحة عن رسول الله ﷺ على أن أرواح الموتى تبقى بعد موت الأبدان، ومما يدل على ذلك قوله تعالى: اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى الآية [الزمر:42].
وثبت: (أن نبي الله ﷺ أمر يوم بدر بأربعة وعشرين رجلًا من صناديد قريش، فقذفوا في طوي من أطواء بدر خبيث مخبث، وكان إذا ظهر على قوم أقام بالعرصة ثلاث ليال، فلما كان ببدر اليوم الثالث أمر براحلته فشد عليها رحلها، ثم مشى واتبعه أصحابه، وقالوا: ما نراه انطلق إلا لبعض حاجته، حتى قام على شفة الركي، فجعل يناديهم بأسمائهم وأسماء آبائهم، يا فلان بن فلان، ويا فلان بن فلان: أيسركم أنكم أطعتم الله ورسوله، فإنا قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقًا، فهل وجدتم ما وعد ربكم حقًا؟ قال: فقال عمر: يا رسول الله، ما تكلم من أجساد لا أرواح لها؟ فقال رسول اللهﷺ: والذي نفس محمد بيده، ما أنتم بأسمع لما أقول منهم، ولكنهم لا يستطيعون أن يجيبوا وثبت عنهﷺ: (أن الميت يسمع قرع نعال المشيعين له إذا انصرفوا عنه).
قال العلامة ابن القيم-رحمه الله: (والسلف مجمعون على هذا، وقد تواترت الآثار عنهم بأن الميت يعرف زيارة الحي له ويستبشر به) ونقل ابن القيم أن ابن عباس-رضي الله عنهما-قال في تفسير قوله تعالى: اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى [الزمر:42]: (بلغني أن أرواح الأحياء والأموات تلتقي في المنام، فيتساءلون بينهم، فيمسك الله أرواح الموتى، ويرسل أرواح الأحياء إلى أجسادها) ثم قال ابن القيم-رحمه الله: (وقد دل على التقاء أرواح الأحياء والأموات أن الحي يرى الميت في منامه فيستخبره، ويخبره الميت بما لا يعلم الحي، فيصادف خبره كما أخبر).
فهذا هو الذي عليه السلف من أن أرواح الأموات باقية إلى ما شاء الله وتسمع، ولكن لم يثبت أنها تتصل بالأحياء في غير المنام، كما أنه لا صحة لما يدعيه المشعوذون من قدرتهم على تحضير أرواح من يشاءون من الأموات ويكلمونها ويسألونها، فهذه ادعاءات باطلة ليس لها ما يؤيدها من النقل ولا من العقل، بل إن الله سبحانه وتعالى هو العالم بهذه الأرواح والمتصرف فيها، وهو القادر على ردها إلى أجسامها متى شاء ذلك، فهو المتصرف وحده في ملكه وخلقه لا ينازعه منازع، أما من يدعي غير ذلك فهو يدعي ما ليس له به علم، ويكذب على الناس فيما يروجه من أخبار الأرواح؛ إما لكسب مال، أو لإثبات قدرته على ما لا يقدر عليه غيره، أو للتلبيس على الناس لإفساد الدين والعقيدة.
وما يدعيه هؤلاء الدجالون من تحضير الأرواح إنما هي أرواح شياطين، يخدمها بعبادتها وتحقيق مطالبها، وتخدمه بما يطلب منها كذبا وزورا في انتحالها أسماء من يدعونه من الأموات، كما قال الله تعالى: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ [الأنعام:112، 113] وقال تعالى: وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنََ الْإِنْسِ وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنََّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ [الأنعام:128]
وذكر علماء التفسير أن استمتاع الجن بالإنس بعبادتهم إياهم بالذبائح والنذور والدعاء، وأن استمتاع الإنس بالجن قضاء حوائجهم التي يطلبونها منهم، وإخبارهم ببعض المغيبات التي يطلع عليها الجن في بعض الجهات النائية، أو يسترقونها من السمع أو يكذبونه، وهو الأكثر، ولو فرضنا أن هؤلاء الإنس لا يتقربون إلى الأرواح التي يستحضرونها بشيء من العبادة، فإن ذلك لا يوجب حل ذلك وإباحته، لأن سؤال الشياطين والعرافين والكهنة والمنجمين ممنوع شرعًا، وتصديقهم فما يخبرون به أعظم تحريمًا وأكبر إثمًا، بل هو من شعب الكفر؛ لقول النبيﷺ: من أتى عرافًا فسأله عن شيء، لم تقبل له صلاة أربعين ليلة وفي مسند أحمد والسنن عن النبي ﷺ أنه قال: من أتى كاهنا فصدقه بما يقول، فقد كفر بما أنزل على محمد ﷺ.
وقد جاء في هذا المعنى أحاديث وآثار كثيرة، ولا شك أن هذه الأرواح التي يستحضرونها بزعمهم داخلة فيما منع منه النبيﷺ؛ لأنها من جنس الأرواح التي تقترن بالكهان والعرافين من أصناف الشياطين فيكون لها حكمها، فلا يجوز سؤالها ولا استحضارها ولا تصديقها، بل كل ذلك محرم ومنكر بل وباطل، لما سمعت من الأحاديث والآثار في ذلك، ولأن ما ينقلونه عن هذه الأرواح يعتبر من علم الغيب، وقد قال الله سبحانه: قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلا اللَّهُ [النمل:65].
وقد تكون هذه الأرواح هي الشياطين المقترنة بالأموات الذين طلبوا أرواحهم، فتخبر بما تعلمه من حال الميت في حياته، مدعية أنها روح الميت الذي كانت مقترنة به، فلا يجوز تصديقها ولا استحضارها ولا سؤالها كما تقدم الدليل على ذلك. وما يحضِّره ليس إلا الشياطين والجن يستخدمهم مقابل ما يتقرب به إليهم من العبادة التي لا يجوز صرفها لغير الله، فيصل بذلك إلى حد الشرك الأكبر الذي يخرج صاحبه من الملة-نعوذ بالله من ذلك.
ولقد أصدرت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء في دار الإفتاء السعودية فتوى عن التنويم المغناطيسي الذي هو أحد أنواع تحضير الأرواح هذا نصها: (التنويم المغناطيسي ضرب من ضروب الكهانة باستخدام جني يسلطه المنوِّم على المنوَّم، فيتكلم بلسانه ويكسبه قوة على بعض الأعمال بسيطرته عليه إن صدق مع المنوم وكان طوعًا له مقابل ما يتقرب به المنوِّم إليه، ويجعل ذلك الجني المنوَّم طوع إرادة المنوِّم يقوم بما يطلبه منه من الأعمال بمساعدة الجني له إن صدق ذلك الجني مع المنوم، وعلى ذلك يكون استغلال التنويم المغناطيسي واتخاذه طريقًا أو وسيلة للدلالة على مكان سرقة أو ضالة أو علاج مريض، أو القيام بأي عمل آخر بواسطة المنوِّم غير جائز بل هو شرك لما تقدم، ولأنه التجاء إلى غير الله فيما هو من وراء الأسباب العادية التي جعلها الله سبحانه إلى المخلوقات وأباحها لهم) انتهى كلام اللجنة[1].
وممن كشف حقيقة هذه الدعوى الباطلة الدكتور محمد محمد حسين في كتابه [الروحية الحديثة حقيقتها وأهدافها] وكان ممن خدع بهذه الشعوذة زمنًا طويلًا، ثم هداه الله إلى الحق وكشف زيف تلك الدعوى بعد أن توغل فيها ولم يجد فيها سوى الخرافات والدجل، وقد ذكر أن المشتغلين بتحضير الأرواح يسلكون طرقًا مختلفة، منهم المبتدئون الذين يعتمدون على كوب صغير أو فنجان يتنقل بين حروف قد رسمت فوق منضدة، وتتكون إجابات الأرواح المستحضرة-حسب زعمهم-من مجموع الحروف بحسب ترتيب تنقله فيها، ومنهم من يعتمد على طريقة السلة يوضع في طرفها قلم يكتب الإجابات على أسئلة السائلين، ومنهم من يعتمد على وسيط كوسيط التنويم المغناطيسي.
وذكر أنه يشك في مدعي تحضير الأرواح، وأن وراءهم من يدفعهم بدليل الدعاية التي عملت لهم، فتسابقت إلى تتبع أخبارهم ونشر ادعاءاتهم صحف ومجلات لم تكن من قبل تنشط لشيء يمس الروح أو الحياة الآخرة، ولم تكن في يوم من الأيام داعية إلى الدين أو الإيمان بالله. وذكر أنهم يهتمون بإحياء الدعوة الفرعونية وغيرها من الدعوات الجاهلية، كما ذكر أن الذين روجوا لأصل هذه الفكرة هم أناس فقدوا عزيزًا عليهم فيعزون أنفسهم بالأوهام، وأن أشهر من روج لهذه البدعة السيد أوليفر لودج الذي فقد ابنه في الحرب العالمية الأولى، ومثله مؤسس الروحية في مصر أحمد فهمي أبو الخير الذي مات ابنه عام 1937 م، وكان رزق به بعد طول انتظار.
وذكر الدكتور محمد محمد حسين أنه مارس هذه البدعة، فبدأ بطريقة الفنجان والمنضدة فلم يجد فيها ما يبعث على الاقتناع، وانتهى إلى مرحلة الوسيط، وحاول مشاهدة ما يدعونه من تجسيد الروح أو الصوت المباشر ويرونه دليل دعواهم، فلم ينجح هو ولا غيره؛ لأنه لا وجود لذلك في حقيقة الأمر، وإنما هي ألاعيب محكمة تقوم على حيل خفية بارعة ترمي إلى هدم الأديان، وأصبحت الصهيونية العالمية الهدامة ليست بعيدة عنها، ولما لم يقتنع بتلك الأفكار الفاسدة وكشف حقيقتها انسحب منها وعزم على توضيح الحقيقة للناس ويقول: (إن هؤلاء المنحرفين لا يزالون بالناس حتى يستلوا من صدورهم الإيمان، وما استقر في نفوسهم من عقيدة، ويسلمونهم إلى خليط مضطرب من الظنون والأوهام.
ومدعو تحضير الأرواح لا يثبتون للرسل - صلوات الله وسلامه عليهم - إلا صفة الوساطة الروحية كما قال زعيمهم أرثر فندلاي في كتابه [على حافة العالم الأثري] عن الأنبياء هم: وسطاء في درجة عالية من درجات الوساطة والمعجزات التي جرت على أيديهم ليست إلا ظواهر روحية، كالظواهر التي تحدث في حجرة تحضير الأرواح).
ويقول الدكتور حسين: (إنهم إذا فشلوا في تحضير الأرواح قالوا: الوسيط غير ناجح، أو مجهد، أو إن شهود الجلسة غير متوافقين، أو إن بينهم من حضر إلى الاجتماع شاكًا أو متحديًا). ومن بين مزاعمهم الباطلة أنهم زعموا أن جبريل-عليه السلام-يحضر جلساتهم ويباركها-قبحهم الله-انتهى المقصود من كلام الدكتور محمد محمد حسين.
ومما ذكرناه في أول الجواب وما ذكرته اللجنة والدكتور محمد محمد حسين في التنويم المغناطيسي يتضح بطلان ما يدعيه محادثو الأرواح من كونهم يحضرون أرواح الموتى ويسألونهم عما أرادوه، ويعلم أن هذه كلها أعمال شيطانية وشعوذة باطلة داخلة فيما حذر منه النبي ﷺ من سؤال الكهنة والعرافين وأصحاب التنجيم ونحوهم، والواجب على المسئولين في الدول الإسلامية منع هذا الباطل والقضاء عليه، وعقوبة من يتعاطاه حتى يكف عنه، كما أن الواجب على رؤساء تحرير الصحف الإسلامية أن لا ينقلوا هذا الباطل وأن لا يدنسوا به صحفهم، وإذا كان لابد من نقل فليكن نقل الرد والتزييف والإبطال والتحذير من ألاعيب الشياطين من الإنس والجن ومكرهم وخداعهم وتلبيسهم على الناس.
والله يقول الحق وهو يهدي السبيل، وهو المسئول سبحانه أن يصلح أحوال المسلمين، ويمنحهم الفقه في الدين، ويعيذهم من خداع المجرمين، وتلبيس أولياء الشياطين، إنه ولي ذلك والقادر عليه، وصلى الله وسلم على نبينا محمد[2].
- أعضاء اللجنة هم: عبدالعزيز بن عبدالله بن باز (رئيسًا)-عبدالرزاق عفيفي (نائبًا للرئيس)-عبدالله بن عبدالرحمن الغديان (عضوًا)-عبدالله بن سليمان المنيع (عضوًا)
- [- كلمة من سماحته نشرت بالصحف المحلية والإسلامية في حدود عام 1395هـ] (مجموع فتاوى ومقالات الشيخ ابن باز 3/ 309)