تعليق حول تعرض الإيمان للقلق والشك

الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، أما بعد:
فقد نشرت مجلة الراية في عددها الثاني رسالة للمركز الإسلامي في جنيف، والتي ورد فيها أسئلة، أولها عن الإيمان، وتعرضه عند عدد كبير لكثير من القلق والشك، هل هذا القول صحيح؟ إلخ.. وكانت الكلمة بقلم الأخ الدكتور سعيد رمضان.
فبعد حمد الله نقول: لا ريب أن الله سبحانه وتعالى قد فطر العباد على الإيمان به ربًّا وإلهًا ومدبرًا يُخاف ويُرجى ويتقرب إليه بأنواع القرب، كما قال: فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا [الروم:30] وفي الحديث الصحيح عن النبي ﷺ أنه قال: يقول الله تعالى: إني خلقت عبادي حنفاء، فاجتالتهم الشياطين عن دينهم، وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطانًا.. رواه مسلم في صحيحه.
 والإيمان الشرعي هو الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وبالقدر خيره وشره، كما قد فسره النبي ﷺ بذلك في جوابه لسؤال جبريل-عليه السلام، وهو بضع وسبعون شعبة، أفضلها قول لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية كما دلت على ذلك الآيات القرآنية والأحاديث النبوية ودرج عليه سلف الأمة، وبعد هذه المقدمة وتعريف الإيمان نقول: إن هذا الإيمان يتعرض للشك والقلق وذلك لأسباب عدة:
  1. أعظمها الجهل بمقتضى الإيمان وأدلته.
  2. عدم العمل بمقتضى العلم؛ فيضعف الإيمان شيئًا بعد شيء حتى يزول، ويحل محله الشك والقلق، كما يدل عليه الواقع وتقتضيه النصوص.
  3. وجود المؤمن في بيئة غير مؤمنة، فتملي عليه شكوكها وشبهاتها؛ فيتزعزع إيمانه ويضعف أمام المغريات ودواعي الانحراف، لاسيما إذا كان قليل العلم وفقد المُجَالس الصالح الذي يثبته ويعينه، ويدل على هذا ما جاء في الحديث الصحيح عن الرسول الكريم ﷺ أنه قال: بادروا بالأعمال فتنًا كقطع الليل المظلم، يصبح الرجل فيها مسلمًا ويمسي كافرًا، ويمسي مسلمًا ويصبح كافرًا، يبيع دينه بعرض من الدنيا.
وهذا الحديث يرشد إلى أن البدار بالأعمال الصالحات من أسباب ثبات الإيمان وأن عدمها من عوامل الشك والتأثر بالفتن، وهذه الفتن يدخل فيها فتن الشهوات والشبهات وفتن الحروب، وأعظمها فتن الشهوات، إذ هي أكثر إغراء وأقرب إلى النفوس الضعيفة، فينخدع المؤمن أول الأمر ثم يتورط فيها حتى تسوخ قدمه في الباطل ويذهب إيمانه.
 وطريق السلامة والنجاة أن يتباعد المؤمن عن أسباب الفتن وأن يحذرها غاية الحذر، ويجتهد في سؤال الله الثبات على الإيمان، ويقبل على كتاب الله تاليًا ومتدبرًا للآيات الدالة على الله والإيمان به، المشتملة على الحجج العقلية والبراهين النظرية المرشدة إلى وجوده سبحانه ووحدانيته واستقلاله بتدبير الأمور كلها واستحقاقه أن يعظم ويطاع باتباع شريعته والوقوف عند حدوده.
 ومتى رسخ الإيمان في القلوب وذاقت حلاوته واستنارت بأدلته، صعب اقتلاعه منها، وندر رجوع صاحبه عنه واستبداله بغيره، كما قال هرقل لأبي سفيان حين سأله عن مسائل تتعلق بدعوة الرسول-ﷺ: (هل يرتد أحد من أصحاب محمد بعد دخوله في دينه سخطة له؟ فأجاب أبو سفيان بالسلب، فقال هرقل: وكذلك الإيمان حين تخالط بشاشته القلوب) والواقع يشهد بما قال هرقل، ولهذا لم يرو أن الرسول أنكر عليه هذا الجواب، أما التجربة العملية لهذا فقد ذكر ابن القيم في قصيدته النونية أنه وقع له شيء من الشك والقلق بسبب النظر في كتب أهل الكلام وشبهاتهم، حتى أتاح الله له شيخ الإسلام ابن تيمية فأرشده إلى الآيات والأحاديث المعرفة بالله وكمال عظمته وأسمائه واستقلاله بتدبير الأمور، فاستقام إيمانه وزال عن نفسه ما ساورها من أنواع الشكوك والقلق. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه[1].

  1. نشرت بمجلة راية الإسلام العدد 6 جمادى الآولى سنة 1380هـ من صـ 7-8. (مجموع فتاوى ومقالات الشيخ ابن باز 3/ 146)