الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداه.
أما بعد:
إلى أن قالت:
هكذا توجه هذه الكاتبة نداءها واستغاثتها إلى الرسول ﷺ طالبة منه إدراك الأمة بتعجيل النصر، ناسية أو جاهلة أن النصر بيد الله وحده ليس ذلك بيد النبي ﷺ ولا غيره من المخلوقات كما قال الله سبحانه في كتابه المبين: وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ [آل عمران:126] وقال عز وجل: إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ [آل عمران:160]
وقد علم بالنص والإجماع أن الله سبحانه خلق الخلق ليعبدوه وأرسل الرسل وأنزل الكتب لبيان تلك العبادة والدعوة إليها كما قال سبحانه: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات:56] وقال تعالى: وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُواا الطَّاغُوتَ [النحل:36] وقال تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ [الأنبياء:25] وقال عز وجل: الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ [هود:1، 2]
فأوضح سبحانه في هذه الآيات المحكمات أنه لم يخلق الثقلين إلا ليعبدوه وحده لا شريك له، وبين أنه أرسل الرسل عليهم الصلاة والسلام للأمر بهذه العبادة والنهي عن ضدها، وأخبر عز وجل أنه أحكم آيات كتابه وفصلها لئلا يعبد غيره سبحانه، والعبادة: هي توحيده وطاعته بامتثال أوامره وترك نواهيه، وقد أمر الله بذلك في آيات كثيرات منها، قوله سبحانه: وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ [البينة:5] الآية، وقوله عز وجل: وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ [الإسراء:23] وقوله سبحانه: فَاعْبُدِ اللَّهََ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ [الزمر:2، 3] والآيات في هذا المعنى كثيرة، كلها تدل على وجوب إخلاص العبادة لله وحده وترك عبادة ما سواه من الأنبياء وغيرهم.
ولا ريب أن الدعاء من أهم أنواع العبادة وأجمعها فوجب إخلاصه لله وحده، كما قال عز وجل: فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ [غافر:14] وقال عز وجل: وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا [الجن:18] وهذا يعم جميع المخلوقات من الأنبياء وغيرهم؛ لأن (أحدا) نكرة في سياق النهي فتعم كل من سوى الله سبحانه. وقال تعالى: وَلَا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكَ وَلَاا يَضُرُّكَ [يونس:106] وهذا خطاب للنبي ﷺ، ومعلوم أن الله سبحانه قد عصمه من الشرك وإنما المراد من ذلك تحذير غيره.
ثم قال عز وجل: فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ [يونس:106] فإذا كان سيد ولد آدم عليه الصلاة والسلام لو دعا غير الله يكون من الظالمين فكيف بغيره، والظلم إذا أطلق يراد به الشرك الأكبر، كما قال الله سبحانه: وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ [البقرة:254] وقال تعالى: إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لقمان:13] فعلم بهذه الآيات وغيرها أن دعاء غير الله من الأموات والأشجار والأصنام وغيرها شرك بالله عز وجل، ينافي العبادة التي خلق الله الثقلين من أجلها، وأرسل الرسل وأنزل الكتب لبيانها والدعوة إليها، وهذا هو معنى لا إله إلا الله فإن معناها لا معبود حق إلا الله، فهي تنفي العبادة عن غير الله وتثبتها لله وحده، كما قال الله سبحانه: ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ [الحج:62] وهذا هو أصل الدين وأساس الملة ولا تصح العبادات إلا بعد صحة هذا الأصل كما قال تعالى: وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ بَلِ اللَّهََ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ [الزمر:65-66] وقال سبحانه: وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [الأنعام:88].
ودين الإسلام مبني على أصلين عظيمين:
أحدهما: أن لا يعبد إلا الله وحده.
والثاني: أن لا يعبد إلا بشريعة نبيه ورسوله محمد ﷺ.
وهذا معنى شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، فمن دعا الأموات من الأنبياء وغيرهم، أو دعا الأصنام أو الأشجار أو الأحجار، أو غير ذلك من المخلوقات، أو استغاث بهم أو تقرب إليهم بالذبائح والنذور أو صلى لهم أو سجد لهم، فقد اتخذهم أربابا من دون الله وجعلهم أندادا له سبحانه، وهذا يناقض هذا الأصل وينافي معنى لا إله إلا الله، كما أن من ابتدع في الدين ما لم يأذن به الله لم يحقق معنى شهادة أن محمدا رسول الله، وقد قال الله عز وجل: وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا [الفرقان:23] وهذه هي أعمال من مات على الشرك بالله عز وجل، وهكذا الأعمال المبتدعة التي لم يأذن بها الله فإنها تكون يوم القيامة هباء منثورا؛ لكونها لم توافق شرعه المطهر، كما قال النبي ﷺ: من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد متفق على صحته.
وهذه الكاتبة قد وجهت استغاثتها ودعاءها للرسول ﷺ وأعرضت عن رب العالمين الذي بيده النصر والضر والنفع وليس بيد غيره شيء من ذلك، ولا شك أن هذا ظلم عظيم وشرك وخيم، وقد أمر الله عز وجل بدعائه سبحانه ووعد من يدعوه بالاستجابة وتوعد من استكبر عن ذلك بدخول جهنم، كما قال عز وجل: وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ [غافر:60] أي: صاغرين ذليلين، وقد دلت هذه الآية الكريمة على أن الدعاء عبادة، وعلى أن من استكبر عنه فمأواه جهنم. فإذا كانت هذه حال من استكبر عن دعاء الله فكيف تكون حال من دعا غيره وأعرض عنه وهو سبحانه القريب المجيب، المالك لكل شيء، والقادر على كل شيء، كما قال سبحانه: وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ [البقرة:186]
وقد أخبر الرسول ﷺ في الحديث الصحيح أن الدعاء: هو العبادة، وقال لابن عمه عبدالله بن عباس رضي الله عنهم احفظ الله يحفظك احفظ الله تجده تجاهك إذا سألت فاسأل الله وإذا استعنت فاستعن بالله أخرجه الترمذي وغيره، وقال ﷺ: من مات وهو يدعو لله ندا دخل النار رواه البخاري، وفي الصحيحين عن النبي ﷺ أنه سئل أي الذنب أعظم؟ قال: أن تجعل لله ندا وهو خلقك والند: هو النظير والمثيل لكل من دعا غير الله، أو استغاث به، أو نذر له، أو ذبح له، أو صرف له شيئا من العبادة سوى ما تقدم فقد اتخذه ندا لله سواء كان نبيا أو وليا أو ملكا أو جنيا أو صنما أو غير ذلك من المخلوقات.
أما سؤال الحي الحاضر ما يقدر عليه والاستعانة به في الأمور الحسية التي يقدر عليها، فليس ذلك من الشرك، بل ذلك من الأمور العادية الجائزة بين المسلمين، كما قال تعالى في قصة موسى: فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ [القصص:15] وكما قال تعالى في قصة موسى أيضا: فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ [القصص:21] وكما يستغيث الإنسان بأصحابه في الحرب وغيرها من الأمور التي تعرض للناس ويحتاجون فيها إلى أن يستعين بعضهم ببعض، وقد أمر الله نبيه ﷺ أن يبلغ الناس أنه لا يملك لأحد نفعا ولا ضرا فقال في سورة الجن: قُلْ إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِهِ أَحَدًا قُلْ إِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا رَشَدًا [الجن:20، 21] وقال تعالى في سورة الأعراف: قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنََ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ [الأعراف:188] والآيات في هذا المعنى كثيرة.
وهو ﷺ لا يدعو إلا ربه ولا يستغيث إلا به، وكان يوم بدر يستغيث بالله ويستنصره على عدوه ويلح في ذلك، ويقول: يا رب انجز لي ما وعدتني حتى قال الصديق الأكبر أبو بكر رضي الله عنه: (حسبك يا رسول الله فإن الله منجز لك ما وعدك) وأنزل الله سبحانه في ذلك قوله تعالى: إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [الأنفال:9، 10] فذكرهم سبحانه في هذه الآيات استغاثتهم به وأخبر أنه استجاب لهم بإمدادهم بالملائكة، ثم بين سبحانه أن النصر ليس من الملائكة وإنما أمدهم بهم للتبشير بالنصر والطمأنينة وبين أن النصر من عنده فقال: وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ [الأنفال:10] وقال عز وجل في سورة آل عمران: وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهََ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [آل عمران:123] فبين في هذه الآية أنه سبحانه هو الناصر لهم يوم بدر فعلم بذلك أن ما أعطاهم من السلاح والقوة، وما أمدهم به من الملائكة كل ذلك من أسباب النصر والتبشير والطمأنينة وليس النصر منها، بل هو من عند الله وحده، فكيف يجوز لهذه الكاتبة أو غيرها أن توجه استغاثتها وطلبها النصر إلى النبي ﷺ وتعرض عن رب العالمين المالك لكل شيء والقادر على كل شيء.
لا شك أن هذا من أقبح الجهل، بل من أعظم الشرك، فالواجب على الكاتبة أن تتوب إلى الله سبحانه توبة نصوحا وذلك بالندم على ما وقع منها والإقلاع منه والعزم على عدم العود إليه، تعظيما لله، سبحانه توبة نصوحا وذلك بالندم على ما وقع منها والإقلاع منه والعزم على عدم العود إليه، تعظيما لله، وإخلاصا له، وامتثالا لأمره، وحذرا مما نهى عنه، هذه هي التوبة النصوح، وإذا كانت من حق المخلوقين وجب في التوبة أمر رابع هو رد الحق إلى مستحقه أو تحلله منه، وقد أمر الله سبحانه عباده بالتوبة ووعدهم قبولها كما قال تعالى: وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [النور:31] وقال في حق النصارى: أَفَلَا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [المائدة:74] وقال تعالى: وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكََ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا [الفرقان:68-70] وقال تعالى: وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ [الشورى:25] وصح عن رسول الله ﷺ أنه قال: الإسلام يهدم ما كان قبله والتوبة تجب ما كان قبلها ولعظم خطر الشرك وكونه أعظم الذنوب وخشية الاغترار بما صدر من هذه الكاتبة، ولوجوب النصح لله ولعباده حررت هذه الكلمة الموجزة.
واسأل الله عز وجل أن ينفع بها، وأن يصلح أحوالنا وأحوال المسلمين جميعا، وأن يمن علينا جميعا بالفقه في الدين والثبات عليه، وأن يعيذنا وجميع المسلمين من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا إنه ولي ذلك والقادر عليه، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وآله وصحبه[1].
أما بعد:
نشرت صحيفة المجتمع الكويتية في عددها 15 الصادر في 19/ 4/ 1390هـ. أبياتا تحت عنوان (في ذكرى المولد النبوي الشريف) تتضمن الاستغاثة بالنبي
فقد نشرت صحيفة المجتمع الكويتية في عددها 15 الصادر في 19/ 4/ 1390هـ. أبياتا تحت عنوان (في ذكرى المولد النبوي الشريف) تتضمن الاستغاثة بالنبي ﷺ والاستنصار به لإدراك الأمة ونصرها وتخليصها مما وقعت فيه من التفرق والاختلاف بإمضاء من سمت نفسها (آمنة) وهذا نص الأبيات المشار إليها:
يا رسول الله أدرك عالما | يشعل الحرب ويصلى من لظاها |
يــا رســول الله أدرك أمــة | فــي ظـلام الشرك قد طال سراها |
يــا رســول الله أدرك أمـة | في متاهات الأسى ضاعت رؤاها |
يـــا رســـــول الله أدرك أمــة | في ظلام الشك قد طال سراها |
عـــجــل الــنصـــر كمـا عجلته | يــوم بــــدر حيــن ناديــت الإله |
فــاستحــال الذل نصــرا رائعـــا | إن لله جـــــنــــودا لا تـــراهـــا |
وقد علم بالنص والإجماع أن الله سبحانه خلق الخلق ليعبدوه وأرسل الرسل وأنزل الكتب لبيان تلك العبادة والدعوة إليها كما قال سبحانه: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات:56] وقال تعالى: وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُواا الطَّاغُوتَ [النحل:36] وقال تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ [الأنبياء:25] وقال عز وجل: الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ [هود:1، 2]
فأوضح سبحانه في هذه الآيات المحكمات أنه لم يخلق الثقلين إلا ليعبدوه وحده لا شريك له، وبين أنه أرسل الرسل عليهم الصلاة والسلام للأمر بهذه العبادة والنهي عن ضدها، وأخبر عز وجل أنه أحكم آيات كتابه وفصلها لئلا يعبد غيره سبحانه، والعبادة: هي توحيده وطاعته بامتثال أوامره وترك نواهيه، وقد أمر الله بذلك في آيات كثيرات منها، قوله سبحانه: وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ [البينة:5] الآية، وقوله عز وجل: وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ [الإسراء:23] وقوله سبحانه: فَاعْبُدِ اللَّهََ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ [الزمر:2، 3] والآيات في هذا المعنى كثيرة، كلها تدل على وجوب إخلاص العبادة لله وحده وترك عبادة ما سواه من الأنبياء وغيرهم.
ولا ريب أن الدعاء من أهم أنواع العبادة وأجمعها فوجب إخلاصه لله وحده، كما قال عز وجل: فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ [غافر:14] وقال عز وجل: وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا [الجن:18] وهذا يعم جميع المخلوقات من الأنبياء وغيرهم؛ لأن (أحدا) نكرة في سياق النهي فتعم كل من سوى الله سبحانه. وقال تعالى: وَلَا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكَ وَلَاا يَضُرُّكَ [يونس:106] وهذا خطاب للنبي ﷺ، ومعلوم أن الله سبحانه قد عصمه من الشرك وإنما المراد من ذلك تحذير غيره.
ثم قال عز وجل: فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ [يونس:106] فإذا كان سيد ولد آدم عليه الصلاة والسلام لو دعا غير الله يكون من الظالمين فكيف بغيره، والظلم إذا أطلق يراد به الشرك الأكبر، كما قال الله سبحانه: وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ [البقرة:254] وقال تعالى: إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لقمان:13] فعلم بهذه الآيات وغيرها أن دعاء غير الله من الأموات والأشجار والأصنام وغيرها شرك بالله عز وجل، ينافي العبادة التي خلق الله الثقلين من أجلها، وأرسل الرسل وأنزل الكتب لبيانها والدعوة إليها، وهذا هو معنى لا إله إلا الله فإن معناها لا معبود حق إلا الله، فهي تنفي العبادة عن غير الله وتثبتها لله وحده، كما قال الله سبحانه: ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ [الحج:62] وهذا هو أصل الدين وأساس الملة ولا تصح العبادات إلا بعد صحة هذا الأصل كما قال تعالى: وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ بَلِ اللَّهََ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ [الزمر:65-66] وقال سبحانه: وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [الأنعام:88].
ودين الإسلام مبني على أصلين عظيمين:
أحدهما: أن لا يعبد إلا الله وحده.
والثاني: أن لا يعبد إلا بشريعة نبيه ورسوله محمد ﷺ.
وهذا معنى شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، فمن دعا الأموات من الأنبياء وغيرهم، أو دعا الأصنام أو الأشجار أو الأحجار، أو غير ذلك من المخلوقات، أو استغاث بهم أو تقرب إليهم بالذبائح والنذور أو صلى لهم أو سجد لهم، فقد اتخذهم أربابا من دون الله وجعلهم أندادا له سبحانه، وهذا يناقض هذا الأصل وينافي معنى لا إله إلا الله، كما أن من ابتدع في الدين ما لم يأذن به الله لم يحقق معنى شهادة أن محمدا رسول الله، وقد قال الله عز وجل: وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا [الفرقان:23] وهذه هي أعمال من مات على الشرك بالله عز وجل، وهكذا الأعمال المبتدعة التي لم يأذن بها الله فإنها تكون يوم القيامة هباء منثورا؛ لكونها لم توافق شرعه المطهر، كما قال النبي ﷺ: من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد متفق على صحته.
هذه الكاتبة قد وجهت استغاثتها ودعاءها للرسول ﷺ وأعرضت عن رب العالمين الذي بيده النصر والضر والنفع وليس بيد غيره شيء من ذلك، ولا شك أن هذا ظلم عظيم وشرك وخيم
وهذه الكاتبة قد وجهت استغاثتها ودعاءها للرسول ﷺ وأعرضت عن رب العالمين الذي بيده النصر والضر والنفع وليس بيد غيره شيء من ذلك، ولا شك أن هذا ظلم عظيم وشرك وخيم، وقد أمر الله عز وجل بدعائه سبحانه ووعد من يدعوه بالاستجابة وتوعد من استكبر عن ذلك بدخول جهنم، كما قال عز وجل: وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ [غافر:60] أي: صاغرين ذليلين، وقد دلت هذه الآية الكريمة على أن الدعاء عبادة، وعلى أن من استكبر عنه فمأواه جهنم. فإذا كانت هذه حال من استكبر عن دعاء الله فكيف تكون حال من دعا غيره وأعرض عنه وهو سبحانه القريب المجيب، المالك لكل شيء، والقادر على كل شيء، كما قال سبحانه: وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ [البقرة:186]
وقد أخبر الرسول ﷺ في الحديث الصحيح أن الدعاء: هو العبادة، وقال لابن عمه عبدالله بن عباس رضي الله عنهم احفظ الله يحفظك احفظ الله تجده تجاهك إذا سألت فاسأل الله وإذا استعنت فاستعن بالله أخرجه الترمذي وغيره، وقال ﷺ: من مات وهو يدعو لله ندا دخل النار رواه البخاري، وفي الصحيحين عن النبي ﷺ أنه سئل أي الذنب أعظم؟ قال: أن تجعل لله ندا وهو خلقك والند: هو النظير والمثيل لكل من دعا غير الله، أو استغاث به، أو نذر له، أو ذبح له، أو صرف له شيئا من العبادة سوى ما تقدم فقد اتخذه ندا لله سواء كان نبيا أو وليا أو ملكا أو جنيا أو صنما أو غير ذلك من المخلوقات.
أما سؤال الحي الحاضر ما يقدر عليه والاستعانة به في الأمور الحسية التي يقدر عليها، فليس ذلك من الشرك، بل ذلك من الأمور العادية الجائزة بين المسلمين، كما قال تعالى في قصة موسى: فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ [القصص:15] وكما قال تعالى في قصة موسى أيضا: فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ [القصص:21] وكما يستغيث الإنسان بأصحابه في الحرب وغيرها من الأمور التي تعرض للناس ويحتاجون فيها إلى أن يستعين بعضهم ببعض، وقد أمر الله نبيه ﷺ أن يبلغ الناس أنه لا يملك لأحد نفعا ولا ضرا فقال في سورة الجن: قُلْ إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِهِ أَحَدًا قُلْ إِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا رَشَدًا [الجن:20، 21] وقال تعالى في سورة الأعراف: قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنََ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ [الأعراف:188] والآيات في هذا المعنى كثيرة.
وهو ﷺ لا يدعو إلا ربه ولا يستغيث إلا به، وكان يوم بدر يستغيث بالله ويستنصره على عدوه ويلح في ذلك، ويقول: يا رب انجز لي ما وعدتني حتى قال الصديق الأكبر أبو بكر رضي الله عنه: (حسبك يا رسول الله فإن الله منجز لك ما وعدك) وأنزل الله سبحانه في ذلك قوله تعالى: إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [الأنفال:9، 10] فذكرهم سبحانه في هذه الآيات استغاثتهم به وأخبر أنه استجاب لهم بإمدادهم بالملائكة، ثم بين سبحانه أن النصر ليس من الملائكة وإنما أمدهم بهم للتبشير بالنصر والطمأنينة وبين أن النصر من عنده فقال: وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ [الأنفال:10] وقال عز وجل في سورة آل عمران: وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهََ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [آل عمران:123] فبين في هذه الآية أنه سبحانه هو الناصر لهم يوم بدر فعلم بذلك أن ما أعطاهم من السلاح والقوة، وما أمدهم به من الملائكة كل ذلك من أسباب النصر والتبشير والطمأنينة وليس النصر منها، بل هو من عند الله وحده، فكيف يجوز لهذه الكاتبة أو غيرها أن توجه استغاثتها وطلبها النصر إلى النبي ﷺ وتعرض عن رب العالمين المالك لكل شيء والقادر على كل شيء.
لا شك أن هذا من أقبح الجهل، بل من أعظم الشرك، فالواجب على الكاتبة أن تتوب إلى الله سبحانه توبة نصوحا وذلك بالندم على ما وقع منها والإقلاع منه والعزم على عدم العود إليه، تعظيما لله، سبحانه توبة نصوحا وذلك بالندم على ما وقع منها والإقلاع منه والعزم على عدم العود إليه، تعظيما لله، وإخلاصا له، وامتثالا لأمره، وحذرا مما نهى عنه، هذه هي التوبة النصوح، وإذا كانت من حق المخلوقين وجب في التوبة أمر رابع هو رد الحق إلى مستحقه أو تحلله منه، وقد أمر الله سبحانه عباده بالتوبة ووعدهم قبولها كما قال تعالى: وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [النور:31] وقال في حق النصارى: أَفَلَا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [المائدة:74] وقال تعالى: وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكََ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا [الفرقان:68-70] وقال تعالى: وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ [الشورى:25] وصح عن رسول الله ﷺ أنه قال: الإسلام يهدم ما كان قبله والتوبة تجب ما كان قبلها ولعظم خطر الشرك وكونه أعظم الذنوب وخشية الاغترار بما صدر من هذه الكاتبة، ولوجوب النصح لله ولعباده حررت هذه الكلمة الموجزة.
واسأل الله عز وجل أن ينفع بها، وأن يصلح أحوالنا وأحوال المسلمين جميعا، وأن يمن علينا جميعا بالفقه في الدين والثبات عليه، وأن يعيذنا وجميع المسلمين من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا إنه ولي ذلك والقادر عليه، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وآله وصحبه[1].
- نشرت بمجلة الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة، العدد الرابع، السنة الثانية في ربيع الثاني سنة 1390هـ كما نشرت ضمن الرسائل الثلاث المطبوعة سنة 1414هـ انظر ج1 ص156- 162، (مجموع فتاوى ومقالات متنوعة للشيخ ابن باز 2/ 108).