تفسير سورة (التغابن)

بعد تلاوة سورة (التغابن) قال: أما بعد:
فقد سمعنا جميعًا هذه السورة العظيمة -سورة (التغابن)- وقوله تعالى: يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [التغابن:1] إلى آخر هذه السورة العظيمة، وكل سور القرآن عظيمة.
بيّن الله فيها سبحانه أن الخلائق تسبحه جل وعلا كما بين في سور كثيرة وآيات كثيرة ذلك، فقال في سورة (الصف): سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [الصف:1]، وقال في سورة (التغابن): يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [التغابن:1]، وقال في سورة (الجمعة): يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ [الجمعة:1]، وقال في سورة (بني إسرائيل):  تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ وَلَكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا [الإسراء:44]. وهذا يدل على أنه جل وعلا يسبحه كل شيء؛ لكمال ملكه وكمال إحسانه وهو الخلاق العليم، وهو الرزاق العليم والمالك لكل شيء، وهو المحسن لعباده جل وعلا؛ ولهذا قال سبحانه: يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ [التغابن:4]، من جامد ومتحرك، جميع ما في السماوات والأرض.
ثم قال: لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وهو المالك لكل شيء، وهو المستحق للثناء وهو على كل شيء قدير؛ ولهذا قال جل وعلا: تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ وَلَكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ [الإسراء:44]؛ لا تفهمونه وهو يعلمه فالملائكة والطيور وجميع الحيوانات وجميع المخلوقات تسبحه سبحانه تسبيحًا يعلمه هو وإن كنا لا نعلم أكثره.
فجدير بنا -أيها العقلاء- جدير ببني آدم الذين وهبهم الله العقل، وأرسل إليهم الرسل، جدير بهم أن يسبحوا الله، وأن يقدسوه وينزهوه عن كل ما لا يليق به ، وأن يشهدوا له بأنه سبحانه له الأسماء الحسنى والصفات العلى، وأنه كامل في ذاته وصفاته وأفعاله، وأنه مستحق لأن يعبد دون كل ما سواه؛ فهو المالك لكل شيء، وهو القادر على كل شيء، وهو الخلاق العليم، الذي خلق الخلق من عدم، وغذاهم بالنعم، وخلق الثقلين ليعبدوه، وأرسل إليهم الرسل وأنزل الكتب؛ فضلًا منه وإحسانًا.
ثم قال: هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنكُمْ كَافِرٌ وَمِنكُم مُّؤْمِنٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ [التغابن:2]. فقد سبق في علمه أن أمة بني آدم، وهكذا الجن، ينقسمون إلى كافر ومؤمن لحكمة بالغة، فهذا يعصي ويكفر ويتعدى الحدود، وهذا يطيعه ويتبع شريعته وينقاد لأمره، والله بما تعملون بصير.
 خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ [التغابن:3]. خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ: ما خلقها عبثًا ولا سدى، بل خلقها لحكمة عظيمة، وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ، صوركم عقلاء تمشون على أقدامكم، ما جعلكم كالبهائم تمشون على أربع، جعلكم تمشون على قدمين رافعي الرؤوس، مستقيمي البدن، وجعل لكم في الوجه: العينين والأنف والفم واللسان، وجعلكم تنطقون وتعبرون عن حاجاتكم، لا كالبهائم، هذه من نعمه العظيمة.
وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ، فهو خلقكم في هذه الدار، وصوركم وأحسن صوركم، وعلمكم، وأرسل الرسل، وأنزل الكتب لحكمة بالغة؛ لتعبدوه وتعظموه، وتستقيموا على أمره وتنتهوا عن نهيه .
فالواجب على العاقل المكلف التنبه لهذا الأمر، وأن يعدَّ العدة للقاء ربه؛ فهو لم يخلق عبثًا، قال تعالى: أَيَحْسَبُ الْإِنسَانُ أَن يُتْرَكَ سُدًى [القيامة:36]؛ يعني مهملًا معطلًا، لا يؤمر ولا ينهى، كلاّ بل خُلِق لأمر عظيم، وأُمِر بأمر عظيم، وأُرسِلت له الرسل وأُنزلِت الكتب؛ حتى يعلم حق الله وحق عباده، وحتى يؤدي ما عليه من حق لله ولعباده.
فهو لن يهمل، قال سبحانه منكرًا على من ظن ذلك: أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ ۝ فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ [المؤمنون:115-116] أن يكون خلقهم عبثًا، بل خُلِقوا لأمر عظيم، خُلِق هذان الثقلان لأمر عظيم الجن والإنس:  وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات:56]، يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ [البقرة:21]، يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ [الحج:1]؛ هم مخلوقون لأمر عظيم بينه الله في كتابه، وبينه رسوله عليه الصلاة والسلام وهذا الأمر العظيم: أن يعبدوه، ويطيعوا أمره، ويتبعوا رسله، ويعظموا ما عظم، ويذلوا من أذل، وينقادوا للأمر ويطيعوه، ويقفوا عند الحدود.
ثم قال: وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ؛ إليه المرجع، ليس لأحد الفرار منه بل إليه ترجع الأمور، وإليه يصير الناس، وإليه الجزاء والحكم فيهم بعدله، فريق في الجنة، وفريق في السعير.
ثم قال : يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ [التغابن:4]، يعلم كل شيء يعلم ما في السماوات؛ من دقيقه وجليّه، من ملك وغيره، ويعلم ما في الأرض وطبقاتها، وما تحتها وما فيها، ولا يخفى عليه خافية ويعلم ما تسرون في قلوبكم وما تعلنونه للناس، لا يخفى عليه خافية جل وعلا، إنه عليم بذات الصدور .
فيا أخي: إذا كنت تؤمن بهذا، فإياك أن تضمر ما يضر إخوانك أو يضرك، فاحرص على أن تكون سريرتك طيبة؛ تحب الله ورسوله، وتحب إخوانك المؤمنين، وتنصح لله ولعباده، لا تضمر سوءًا لنفسك، بل حاسب نفسك وجاهدها لله، والله يعلم ما تسرون وما تعلنون، يعلم السر وأخفى، يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور .
فالواجب على العاقل من ذكر وأنثى، أن يحذر كوامن هذه النفوس، وما تسره من خبث وشر، وأن يحذرها ما حذرها الله منه، وأن يضمر الخير لنفسه، وأن يكون حريصًا على طاعة الله ورسوله، وعلى نفع عباده، وعلى النصح لهم، وعلى إيصال الخير إليهم، وعلى دفع الشر عنهم، هكذا المؤمن، وهو يعلم السر وأخفى. ثم يقول جل وعلا: أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن قَبْلُ [التغابن:5]، ألم تأتكم الأخبار عن الماضين، وما جرى عليهم لما غيَّروا أو بدَّلوا، وما أصابهم من العقوبات؟
قد جاءتكم الأنباء الواضحة في القرآن -أصدق الكلام-: وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللّهِ قِيلًا [النساء:122]، فيقول سبحانه: نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ [يوسف:3]، وهو أحسن القصص وأصدق القصص، وهو أحسن الحديث: اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُّتَشَابِهًا [الزمر:23]، يعني: يشبه بعضه بعضًا ويصدق بعضه بعضًا.
فقد نبأنا عمن مضى من الأمم؛ نبأنا عن آدم وما جرى عليه مع إبليس عدو الله، وما حصل له من الكرامة بإسجاد الملائكة، وأن الله خلقه ونفخ فيه من روحه، وأخبرنا عما أصاب غيره من الأمم، كما أصاب قوم هود، وقوم صالح، وقوم نوح، وقوم شعيب، وقوم لوط، وفرعون وقومه.
لذلك أخبرنا، لماذا؟ للعبر لنعتبر، ولقد ذاقوا وبال أمرهم، ذاقوا شر أمرهم ولهم عذاب أليم، يعني: ذلك الذي فعلوه من الشر ذاقوا وباله في الدنيا قبل الآخرة، وعذاب الآخرة أكبر.
أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن قَبْلُ؛ أي: خبر من قبلكم: فَذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [التغابن:5]. ذَلِكَ بِأَنَّهُ كَانَت تَّأْتِيهِمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا [التغابن:6]. هذا حالهم لما كفروا وعاندوا أصابهم العقاب المعجل؛ فأصابهم ما أصابهم أخذهم بالريح العقيم حتى هلكوا: قوم صالح أخذتهم الصيحة فأصبحوا في دارهم جاثمين، وقوم لوط أصابهم ما أصابهم من الخسف وقلب مدائنهم عليهم، وأمطرهم ما أمطرهم من الحجارة، وهذا من العذاب المعجل غير عذاب الآخرة؛ النار -نسأل الله العافية- وقوم شعيب أصابهم ما أصابهم من الرجفة والصيحة حتى هلكوا، وهكذا فرعون أصابه وقومه ما أصابهم من الغرق.
كل هذا عبر وعقوبات: فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنبِهِ [العنكبوت:40]، هكذا كل واحد أُخذ بذنبه، عُجلوا بالعقوبات، وآخرون أمهلوا وأنذروا، وعقوبة الله في الآخرة أشد.
ثم يبين سبحانه بعض كفرهم، فقال تعالى: زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَن لَّن يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ [التغابن:7]. هكذا الكفرة؛ كذبوا بالبعث والنشور، وقالوا: لا جنة ولا نار ولا بعث ولا نشور، ولا جزاء ولا عقاب، وليس هناك حياة أخرى، إنما هي هذه الدنيا، فمنهم من عاجله الله بالعقوبة، ومنهم من أُمهل إلى يوم القيامة. وردّ الله عليهم بقوله: قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ، قل يا محمد، يا رسول الله: بلى وربي، حلف بربه لهم عليه الصلاة والسلام وأمره بأن يحلف لهم معظمًا ربه: قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ يوم القيامة ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ؛ لتخبرن بما عملتم وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ، وهو لابد منه، كلٌ ينبأ بما قدم وأخر، وكل إنسان يعطى جزاءه.
فالعاقل يُعد العدَّة لهذا اليوم، فلا يتساهل، ويعلم أنه ميت وأنه مجازى، قال تعالى: قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ. وقال سبحانه: فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنزَلْنَا وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ [التغابن:8]؛ فيؤمرون بالإيمان بالله ورسوله، والإيمان بالله أنه ربهم، وإلههم الحق المستحق للعبادة، لا يدعى سواه ولا يستغاث بغيره، ولا ينذر إلا له ولا يذبح إلا له، كل العبادات له سبحانه كما قال جل وعلا: وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ [الإسراء:23]، وقال: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة:5].
فآمنوا بالله وبرسوله محمد عليه الصلاة والسلام وأنه رسول الله حقًا، بعثه الله للناس كافة من جن وإنس، من تبعه وانقاد لشرعه وصدقه فهو السعيد الناجي، ومن حاد عن ذلك فهو الهالك الشقي.
وَالنُّورِ الَّذِي أَنزَلْنَا المراد: ما بعثه الله من النور، وهو القرآن العظيم والسنة المطهرة.
والنور: ما بعثه الله من الهدى والعلم النافع الذي جاء في القرآن العظيم والسنة المطهرة، هذا هو النور، من أخذ هذا النور واستضاء به واتبعه فهو السعيد، ومن حاد عن هذا النور فهو الهالك نعوذ بالله من ذلك.
ثم ذكرهم بيوم القيامة فقال تعالى: يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ، هذا يوم الجمع يوم القيامة، يبعث الله فيه الأولين والآخرين، ثم قال في سورة الواقعة: قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ. لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَّعْلُومٍ [الواقعة:49-50]، كلهم مجمعون؛ أولهم وآخرهم، جنهم وإنسهم. يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ.
هذا يوم التغابن، وهو يوم القيامة؛ حين تغبن في سيارة أو في أرض أو في عمارة بمائة ألف أو بمليون أو أكثر أو أقل، هذا غبن، لكنه يسير بالنسبة إلى من غُبن يوم القيامة وصار إلى النار -نعوذ بالله من هذا المصير-.
هذا هو الغبن؛ أن ترى خادمك وجارك وابن عمك إلى الجنة، وأنت تساق إلى النار، هذا هو الغبن -نعوذ بالله- وأن ترى أناسًا تحقرهم في الدنيا، وتراهم فقراء في الدنيا ضعفاء، وتراهم إلى الجنة وإلى الكرامة والمنازل العالية، وأنت وأشباهك تساق إلى النار؛ باستكبارك وعصيانك، هذا هو الغبن العظيم، هذا هو الخسران الكبير.
يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ؛ أهل النار يغبنون أهل الجنة إلى ما فازوا به من النعيم العظيم والخير الكريم: يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ، هذا اليوم العظيم هذا يوم التغابن.
ثم فصَّل ذلك سبحانه: وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ [التغابن:9]، هذه حالة السعداء من آمن بالله واليوم الآخر وعمل الصالحات فله الجنة وأنجاه من النار وهو السعيد: وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ، ثم يقول جل وعلا في جزاء المعاندين المكذبين بآيات الله: وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ خَالِدِينَ فِيهَا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ [التغابن:10].
ينبغي للعاقل أن يتنبه لهذا اليوم، ويعد له العدة؛ بماذا؟
بطاعة الله ورسوله، بتوحيد الله والإخلاص له، وموالاة أوليائه، ومعاداة أعدائه، والبراءة من الكفر وأهله، وإقامة أمر الله وترك ما نهى الله عنه، والمحافظة على الصلوات كما أمر الله، وأداء الزكاة كما أمر الله، وصوم رمضان كما أمر الله، والحج كما أمر الله، والجهاد كما أمر الله، وصدق الحديث، وبر الوالدين وصلة الرحم، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وترك ما حرم الله.
وعليك أن تجتهد في أداء ما أوجب الله والبعد عما حرم الله، هذا هو الطريق، وهذا هو الصراط المستقيم، وهذا هو سبيل الله، الذي أنت تسأله أن يهديك إليه في قراءتك الفاتحة تقول: اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ هذا هو الصراط المستقيم، الصراط المستقيم هو: دين الله الإسلام، وهو طاعة الله ورسوله، والانقياد لأمر الله تعالى وترك ما نهى الله عنه.
هذا هو الصراط المستقيم الذي قال الله فيه جل وعلا: اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ ۝ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ [الفاتحة:6-7] الرسل وأتباعهم أنعم الله عليهم، فهداهم ووفقهم، فعلموا وعملوا؛ علموا الحق وصدّقوا به، وعملوا بذلك وانقادوا لأمر الله، هؤلاء هم الذين أنعم الله عليهم، الذين عرفوا الحق في كتاب الله وسنة الرسول عليه الصلاة والسلام، وانقادوا له، ووالوا عليه، وعادوا عليه، وأحبوا فيه، وأبغضوا فيه، حتى ماتوا عليه، هؤلاء هم أهل الصراط المستقيم الذين أنعم الله عليهم.
وهو الصراط الذي قال الله فيه في حق محمد ﷺ: وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ [الشورى:52]، وهو الذي قال فيه: وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ [الأنعام:153]، السبل: ما خالف الصراط من البدع والمعاصي والمخالفات.
فأنت مأمور باتباع صراط الله وسبيله، وهو دينه الذي بعث الله به نبيه محمدًا عليه الصلاة والسلام وتوحيده والإخلاص له، وطاعة أوامره وترك نواهيه، والوقوف عند حدوده، والموالاة في ذلك والمناصحة في ذلك، والمعاداة في ذلك والبغضاء في ذلك، هكذا المؤمن في هذه الدار حتى يلقى ربه، وهذا هو الصراط المستقيم.
أسأل الله بأسمائه الحسنى وصفاته العلا، أن يوفقنا وإياكم لما يرضيه، وأن يرزقنا وإياكم العلم النافع والعمل الصالح، وأن يصلح قلوبنا وأعمالنا.
وهذا من منافع الحج: لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ من المنافع: أن تشهد نصيحة تُنصح بها، أو موعظة توعظ بها، أو كلمة تنفعك، هذه هي المنافع؛ لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ؛ بأن يسمع المؤمن كلمة تنفعه أو موعظة توجه إليه أو نصيحة توجه إليه، في منى أو في مزدلفة أو في عرفات أو في المسجد الحرام، أو في أي مكان، ثم يبلغها غيره يسمعها وينتفع بها، ويبلغها غيره، هذه من المنافع العظيمة.
وأنتم منصرفون من هذا المكان بعد مدة يسيرة، فاتقوا الله في أنفسكم وحاسبوها، ولا ترجعوا إلى المعاصي بعد هذا الحج الذي منَّ الله عليكم به؛ فالحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة؛ فاحرص يا أخي أن ترجع إلى الخبائث بعدما طهرك الله منها، فاحرص أن تستمر على التوبة والعمل الصالح أينما كنت -في بلادك وفي غير بلادك- واحرص أن تقطع العهد الذي أنت عاهدت الله عليه، وأن تستقيم على دينه، وأن تدع ما نهاك عنه، وأن تقف عند حدوده حتى تلقاه. ولا تقل: أنا شاب سوف أتوب، كم من شاب أخذه الموت قبل أن يشيب! وكم من زارع أصابه الهلاك قبل أن يحصد زرعه! فالموت يأتي بغتة، والعمل الصالح ينفعك في الدنيا والآخرة، ولو عشت ألف عام وأنت في طاعة الله فأنت على خير، لا تغتر بالشباب والقوة والمال، احذر وأعد العدة شابًا أو كهلًا أو شيخًا حتى تلقى ربك.
فاحذر أسباب الهلاك، واسأل ربك التوفيق والإعانة؛ فهو سبحانه الهادي والموفق جل وعلا، فاضرع إليه أن يهديك، وأن يثبتك، وأن يعينك على ذكره وشكره وحسن عبادته.
وهذا اليوم يسمى يوم القَرِّ، وأن الحجاج قارُّون في منى ليس فيه نفير، هذا هو أول أيام منى وهو أولها، هذا اليوم الحادي عشر، وأول أيام منى هو يوم القر. وغدًا يوم النفر، يوم الخميس -غدًا- وهو النفر الأول لمن تعجل يوم الثاني عشر لمن تعجل، وهو يوم الخميس في هذه السنة؛ إذا زالت الشمس ورمى الجمرات الثلاث فله التعجل إذا شاء، فيتعجل إلى مكة ويطوف الوداع ويسافر، وله البقاء في مكة -إذا أراد- ما يشاء من الأيام، ثم يودع البيت ويسافر، فيقال له يوم النفر الأول وهو اليوم الثاني عشر وهو غدًا يوم الخميس.
ويوم الجمعة هو النفر الثاني وهو الثالث عشر، يقال له: النفر الثاني لمن استكمل الإقامة في منى، والنبي ﷺ استكملها وأقام اليوم الثالث عشر عليه الصلاة والسلام ثم نفر.
والأمر -بحمد الله- واسع، قال تعالى: وَاذْكُرُواْ اللّهَ فِي أَيَّامٍ مَّعْدُودَاتٍ يعني هذه الثلاثة يعني الحادي عشر والثاني عشر والثالث عشر: وَاذْكُرُواْ اللّهَ فِي أَيَّامٍ مَّعْدُودَاتٍ فَمَن تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَن تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى [البقرة:203]، قال النبي ﷺ: أيام منى ثلاثة؛ من تعجل في يومين فلا إثم عليه، ومن تأخر فلا إثم عليه[1]. فبعض الناس يغلط، فيظن يوم العيد منها، لا، ليس يوم العيد منها، أولها: هذا اليوم -الحادي عشر- وثانيها: غدًا يوم الخميس، وهو النفر الأول، وثالثها: يوم الجمعة، وهو النفر الثاني، وليس لأحد أن ينفر إلا بعد طواف الوداع، قال ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي ﷺ: لا ينفرن أحدكم حتى يكون آخر عهده بالبيت[2]، قال ابن عباس رضي الله عنهما أيضًا: "وأمر الناس أن يكون آخر عهدهم البيت، إلا أنه خفف عن المرأة الحائض".
فالمرأة التي معها الحيض أو النفاس ليس عليهما وداع، إذا كانتا طافتا طواف الإفاضة طواف الحج يوم العيد أو بعده فليس عليهما طواف الوداع، إذا كانتا عند السفر حائضًا أو نفساء، أما غيرهما فعليه الوداع إن استطاع ماشيًا أو راكبًا أو محمولًا.
وفقنا الله وإياكم لما يحبه ويرضى، وتقبل الله من الجميع حجهم.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين[3].
 

 
  1. أخرجه الإمام أحمد في (أول مسند الكوفيين)، (من حديث عبدالرحمن بن يعمر-رضي الله عنه -)، برقم: 18022.
  2. أخرجه مسلم في كتاب (الحج)، برقم: 2350، باب (وجوب الوداع وسقوطه عن الحائض) 3061
  3. كلمة وعظية لسماحته في مخيمه بمنى، في 11/ 12/ 1407هـ. (مجموع فتاوى ومقالات الشيخ ابن باز 24/ 291).