شرح كتاب التبصير في معالم الدين للطبري 3

القول في الاختلاف الأول:

قال أبو جعفر: ونحن مُبتدئون القول الآن فيما تنازعت فيه الأئمَّة مما لا يُدرك علمه إلا سماعًا وخبرًا.

فأول ذلك أمر الخلافة: فإنَّ أول اختلافٍ حدث بعد رسول الله ﷺ بين الأمة فيما هو من أمر الدِّين مما ليس بتوحيدٍ، ولا هو من أسبابه مما ثبت الاختلافُ فيه بين الناس من لدن اختلفوا فيه إلى يومنا هذا: الاختلاف في أمر الخلافة وعقد الإمامة.

وكان الاختلافُ الذي اختلفوا فيه من ذلك بعد فراق رسول الله ﷺ إياهم: الاختلاف الذي كان بين الأنصار وقريشٍ عند اجتماعهم في السَّقيفة -سقيفة بني ساعدة- قبل دفن رسول الله ﷺ وبعد وفاته، فقالت الأنصارُ لقريشٍ: "منا أميرٌ، ومنكم أمير"، فقال خطيب قريشٍ: "نحن الأمراء، وأنتم الوزراء"، فأقرت الأنصارُ بذلك، وسلَّموا الأمر لقريشٍ، ورأوا أنَّ الذي قال خطيبُ قريشٍ صوابٌ، ثم لم يُنازع ذلك قريشًا أحدٌ من الأنصار بعد ذلك إلى يومنا هذا.

فإذا كان ذلك كذلك، وكان تسليمُ الإمرة من جميع الصحابة من المُهاجرين والأنصار يومئذٍ لقريشٍ عن رضًا منهم، وتصديقٍ من جميعهم خطيبهم القائل: "نحن الأمراء، وأنتم الوزراء"، إلا مَن شذَّ منهم عن جميعهم الذين كان التَّسليمُ لقولهم به أولى، وكان الحقُّ إنما يُدرك علمه ويُوصل إلى المعرفة به مما كان من العلوم لا تُدرك حقيقته إلا بحُجَّة السمع:

(أ) إما بسماعٍ شفاهًا من الرسول ﷺ.

(ب) وإما بخبرٍ مُتواترٍ يقوم في وجوب الحُجَّة به مقام السماع من الرسول ﷺ قولًا، أو بنقل الحُجَّة ذلك عملًا.

وكان الخبر قد تواتر بالذي ذكرناه من فعل المُهاجرين والأنصار، وتسليمهم الخلافة والإمرة لقريشٍ، وتصديقهم خطيبهم: "نحن الأمراء، وأنتم الوزراء" من غير إنكارٍ منهم، إلا مَن شذَّ وانفرد بما كان عليه التَّسليم لما نقلته الحُجَّة عن رسول الله ﷺ من أنَّ الإمارة لقريشٍ دون غيرها، كان معلومًا بذلك أن لا حظَّ لغيرها فيها.

فإذا كان صحيحًا أن ذلك كذلك، فلا شكَّ أنَّ مَن ادَّعى الإمارة، وحاول ابتزاز جميع قريشٍ الخلافة، فهو للحقِّ في ذلك مُخالفٌ، ولقريشٍ ظالمٌ، وأنَّ على المسلمين معونة المظلوم على الظالم إذا دعاهم إلى الحقِّ؛ لمعونة المظلوم ودفع الظالم عنه ما أطاقوا.

وإذا كان ذلك كذلك، فلا شكَّ أن الخوارج من غير قريشٍ.

وأما ما كان بين قريشٍ من منازعةٍ في الإمارة، وادِّعاء بعضهم على بعضٍ أنه أولى منه بالخلافة، ومُناصبته له على ذلك المُحاربة بعد تسليمهم الأمر له العامَّة فيها، يجب على أهل الإسلام معونة المظلوم منهما على الظالم.

فأما ما كان من مُنازعة غير القرشي الذي قد عقد له أهلُ الإسلام عقد البيعة، وسلموا له الخلافة والإمرة على وجهٍ طلبها إياها لنفسه، أو لمَن لم يكن من قريشٍ؛ فذلك ظالمٌ، وخروجٌ عن إمام المسلمين، يجب على المسلمين معونة إمامهم القرشي وقتال الخارج عليه؛ إذ لم يكن هناك أمرٌ دعاه إلى الخروج عليه إلا ادعاؤه بأنه أحق بالإمارة منه من أجل أنه من غير قريشٍ، إلا أن يكون خروجه عليه بظلمٍ، ركب منه في نفسٍ أو أهلٍ أو مالٍ؛ فطلب الإنصافَ فلم يُنصف؛ فيجب على المسلمين حينئذٍ الأخذ على يد إمامهم المرضية إمرته عليهم؛ لإنصافه من نفسه إن كان هو الذي ناله بالظلم، أو أخذ عامله بإنصافه إن كان الذي ناله بالظلم عاملًا له، ثم يكون على الخارج عليه لما وصفنا أن يفيء إلى الطاعة -طاعة إمامه- بعد إنصافه إياه من نفسه أو من عامله، فإن لم يفيء إلى طاعته حينئذٍ كان على المسلمين هنالك معونة إمامهم العادل عليه حتى يؤوب إلى طاعته.

وقد بينا أحكام الخوارج في كتابنا "كتاب أهل البغي" بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع.

الشيخ: عبارة المؤلف فيها بعض النقص، والواجب هو طاعة ولي الأمر ولو عصى، ولكن يُوجَّه إلى الخير، وأن يُبين له أن ينصر المظلوم، ولا يجب عليه الخروج من أجل هذا، ولكن يُبين له وينصح: الأئمة من قريشٍ كما قال النبي ﷺ، إذا وُجدوا وعدلوا، أما إذا لم يُوجدوا، أو تغلب غيرهم؛ فلا حرج، إذا تغلب غيرُهم تمَّت له البيعة ولو كان من غير قريشٍ، في بيعة أمور المسلمين إذا تيسر قريشي فهو المشروع، إذا تيسر قريشي يصلح للإمامة كما بايع الصحابةُ الصديقَ، ثم عمر، ثم عثمان، ثم عليًّا، أما إذا لم يتيسر ذلك فإنه يتولى غيره، وهكذا لو غلب بسيفه غير القرشي، ودان له الناس؛ فإنه تجب له البيعة، ويجب له السمع والطاعة بالمعروف: وإن تأمَّر عليكم عبدٌ كما قال النبي ﷺ؛ وجب السمع والطاعة لولي الأمر ولو كان من غير قريشٍ، ولكن إذا كان بالاختيار عند البيعة يختارون الأصحَّ من قريشٍ، أما عند التَّغلب على الأمور وأخذها بالقوة فهذا يجب السمع والطاعة ولو كان من غير قريشٍ إن استتبَّ الأمرُ له، ولو كان عبدًا حبشيًّا.

س: حديث: قدموا قريشًا ولا تقدموها هل هو صحيح؟

ج: ما أعرف حاله، لكن في الأحاديث الصحيحة ما يكفي ويُغني، مثل حديث: الأئمة من قريشٍ.

س: ما تقول في الأخذ على يد الإمام بظلمه أو بسبب ظلم عامله؟

ج: هذا كلام ليس بطيبٍ إطلاقًا، ولكن المناصحة والمناصحة، إذا وُجد من الإمام ظلمٌ أو تقصيرٌ يُناصح، ولا يجوز الخروج عليه، على العباد السمع والطاعة بالمعروف، وعدم الخروج عليهم بظلمهم أو معصيتهم، هذا لا يجوز، ولكن المناصحة والتَّوجيه إلى الخير؛ لأنَّ بالخروج يحصل الشر العظيم، وهذا دين الخوارج؛ الخروج على السَّلاطين، وهو دين الخوارج والمعتزلة. أما أهل السنة والجماعة فيرون السمع والطاعة لهم -لولاة الأمور- وإن عصوا، وإن جرت منهم معصية يجب لهم السمع والطاعة: ما لم تروا كفرًا بواحًا عندكم من الله فيه برهان مع القُدرة أيضًا، كلام المؤلف في هذا فيه نقصٌ وضعفٌ رحمه الله.

وأما الذين نقموا على أهل المعاصي معاصيهم، وشهدوا على المسلمين -بمعصيةٍ أتوها، وخطيئةٍ فيما بينهم وبين ربِّهم تعالى ذكره ركبوها- بالكفر، واستحلوا دماءهم وأموالهم من الخوارج.

والذين تبرأوا من بعض أنبياء الله ورسله بزعمهم أنَّهم عصوا الله، فاستحقوا بذلك من الله جلَّ ثناؤه العداوة.

والذين جحدوا من الفرائض ما جاءت به الحُجَّة من أهل النَّقل بنقله عن رسول الله ﷺ ظاهرًا مُستفيضًا قاطعًا للعذر، كالذي أنكروا من وجوب صلاة الظهر والعصر.

والذين جحدوا رجم الزَّاني المُحصن الحرّ من أهل الإسلام، وأوجبوا على الحائض الصلاة في أيام حيضها، ونحو ذلك من الفرائض؛ فإنَّهم عندي بما دانوا به من ذلك مرقةٌ من الإسلام، خرجوا على إمام المسلمين أولم يخرجوا عليه. إذا دانوا بذلك بعد نقل الحُجَّة لهم الجماعة التي لا يجوز في خبرها الخطأ، ولا السَّهو والكذب.

الشيخ: وهذه قاعدة: مَن جحد ما أوجب الله، أو جحد ما حرَّم الله، مع إقامة الدليل يكفر، فجحد الصلاة، أو جحد وجوب الصوم، أو جحد إفطار الحائض في حال حيضها، وأن ليس لها صوم، أو ما أشبه ذلك يُقام عليه الحجَّة، فإذا جحد ما أوجب الله وقال: الصلاة غير واجبةٍ، أو الزكاة غير واجبة، أو جحد ما حرَّم الله من الزنا وغيره وهو جاهل يُعلَّم، فإذا أصرَّ كفر، نسأل الله العافية.

س: هل الحائض تقضي الصلاة؟ وقد قال بهذا بعضُ العلماء.

ج: لا، ليس بشيءٍ، أجمع العلماءُ على أنها لا تُصلي، وليس عليها قضاء، وليس لها الصوم، ولكن تقضي الصوم.

وعلى إمام المسلمين استتابتهم مما أظهروا أنَّهم يدينون به بعد أن يُظهروا الدِّيانة به والدّعاء إليه، فمَن تاب منهم خلَّى سبيله، ومَن لم يتب من ذلك منهم قتله على الردة؛ لأنَّ مَن دان بذلك فهو لدين الله –الذي أمر به عباده بما لا نعذر بالجهل به ناشئًا نشأ في أرض الإسلام- جاحدٌ.

ومَن جحد من فرائض الله شيئًا بعد قيام الحُجَّة عليه به فهو من ملة الإسلام خارج.

القول في الاختلاف الثاني:

قال أبو جعفر: ثم كان الاختلافُ الآخر الذي حدث في مُنتحلي الإسلام بعد الذي ذكرت من الاختلاف في أمر الإمارة: الاختلاف في الحُجَّة التي هي لله حُجَّة على خلقه فيما لا يُدرك علمه إلا سماعًا، ولا يُدرك استدلالًا ولا استنباطًا.

(أ) فقال بعضهم: لا يُدرى علم شيءٍ من ذلك إلا سماعًا من الله تبارك وتعالى عمَّا قالوا من ذلك علوًّا كبيرًا.

فزعموا أنَّ الأرض لا تخلو منه، غير أنه يظهر لخلقه في صورٍ مختلفةٍ، في كل زمانٍ في صورةٍ غير الصورة التي ظهر بها في الزمان الذي قبله، وفي الزمان الذي بعده.

وهو قولٌ يُذكر عن عبدالله بن سبأ وأصحابٍ له تبعوه على ذلك، فقالوا لعليٍّ : "أنت، أنت"، فقال لهم عليُّ: "مَن أنا؟" قالوا: "أنت ربهم!" فقتلهم رضوان الله عليه، ثم حرقهم بالنار.

قال أبو جعفر: وقد بقي في غمار المسلمين ممن ينتحل هذا المذهب خلقٌ كثيرٌ.

الشيخ: يعني: أصحاب وحدة الوجود -نسأل الله العافية- وقد يحتمل أنَّ مراده الرافضة، والأقرب أنه أراد من الرافضة، نسأل الله العافية

(ب) وقال آخرون: لا يُدرك علم شيءٍ من ذلك إلا من واسطةٍ بين الله وبين خلقه، زعموا أنه من القديم مكان وزير الملك من الملك.

وقد استكفاه الأمور كلها فكفاه إياها.

(ج) وقال آخرون: لا يُدرك علم ذلك إلا من رسول الله ﷺ إلى خلقه، لا تخلو الأرض منه. وقالوا: لن يموت منهم أحدٌ حتى يخلفه آخر.

(د) وقال آخرون: لا يُدرك علم ذلك إلا من وصيٍّ لرسول الله ﷺ، أو من وصي وصيٍّ. قالوا: وذلك كذلك إلى قيام الساعة.

قال أبو جعفر: وكل هذه الأقوال عندنا ضلالٌ وخروجٌ من الملة، وقد بينا فساد كل ما قالوا واعتلوا به لمذاهبهم في غير هذا الموضع بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع.

الشيخ: والمعنى أنه كله باطل، وأنَّ الله ختم المرسلين بمحمدٍ ﷺ، وأن شريعته كاملة: القرآن والسنة، فليس هناك وصي يُشرع للناس، لا علي، ولا غيره، وليس هناك رسل بعد محمدٍ ﷺ، ولا أوصياء، بل كل ذلك يرجع إلى كتاب الله وسنة رسوله: وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ [الشورى:10]، فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ [النساء:59]، قد أحسن المؤلفُ في بيان بطلان هذه المذاهب الخبيثة الباطلة.

(هـ) وقال آخرون: لا يُدرك علم شيءٍ من ذلك إلا ضرورةً. ثم اختلفوا في الأسباب التي تضطر القلوب إلى علمه بما يطول بحكايته الكتاب.

(و) وقال آخرون: لا يُدرك علم شيءٍ من ذلك إلا اكتسابًا. قالوا: وإذا كان ذلك كذلك علم أنَّ الذي يكتب من ذلك هو ما جرت به عادات الخلق بينهم، ولم يزل عليه نشوؤهم وفطرهم، وذلك الخبر المُستفيض الذي لم تزل العادات بالسكون إليه جارية، وبالطمأنينة إليه ماضية مضيها بأنَّ النيران محرقةٌ، والثلج مبردٌ.

قالوا: وكل مُدَّعٍ ادَّعى أنَّ ما لا تُدرك حقيقة علمه إلا سماعًا، تُدرك حقيقته وصحته بغير ذلك؛ فقد ادَّعى خلاف الجاري من العادات، وغير المعروف في الفطر، كالمُدعي نارًا غير مُسخنةٍ، وثلجًا غير مُبردٍ، فمُدعي غير الذي جرت به العادات وغير المعروف في الفطرة.

الشيخ: لأنها باطلة، كل هذه الأقوال باطلة، وأنَّ هذه الأمور كلها مخالفة لما بيَّنه الله في كتابه، وبيَّنه رسوله ﷺ، الواجب هو الأخذ بالكتاب والسنة، فمَن ادَّعى خلاف ذلك فهو بمثابة مَن يدعي أن هناك نارًا غير مُسخنة، وهناك ثلجًا غير مبرد، يعني: خلاف مُكابر للعقول، مكابرة.

قال أبو جعفر: وهذا القول أولى الأقوال عندنا بالصحة، وقد بينا العلَّة المُوجبة صحته في غير هذا الموضع بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع.

فأمَّا خبر الواحد العدل فإنه معنًى مخالفٌ هذا النوع، وقد بيَّناه في موضعه.

الشيخ: خبر العدل حُجَّة، إذا ثبت حُجَّة لما يرد عن الرسول ﷺ وعن الأمور الأخرى.