تفسير قوله تعالى: {..الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ}

وقال ابنُ أبي حاتم: حدثنا أبي: حدثنا يوسف بن موسى القطان: حدثنا مهران ابن أبي عمر: حدثنا علي بن عبدالله، عن أبيه، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباسٍ قال: كنا مع رسول الله ﷺ في مسيرٍ ساره، إذ عرض له أعرابي فقال: يا رسول الله، والذي بعثك بالحقِّ، لقد خرجتُ من بلادي وتلادي ومالي لأهتدي بهداك، وآخذ من قولك، وما بلغتك حتى ما لي طعام إلا من خضر الأرض، فاعرض عليَّ. فعرض عليه رسولُ الله ﷺ، فقبل، فازدحمنا حوله، فدخل خفُّ بكره في بيت جرذان، فتردى الأعرابي فانكسرت عنقُه، فقال رسولُ الله ﷺ: صدق والذي بعثني بالحقِّ، لقد خرج من بلاده وتلاده وماله ليهتدي بهداي، ويأخذ من قولي، وما بلغني حتى ما له طعام إلا من خضر الأرض، أسمعتم بالذي عمل قليلًا وأُجر كثيرًا؟ هذا منهم، أسمعتم بـالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ [الأنعام:82]؟ فإنَّ هذا منهم.

الشيخ: وهذا يدلّ على أنَّ مَن مات على الإيمان صادقًا مُخلصًا كفّر اللهُ سيئاته ولو في لحظةٍ قليلةٍ، كالذي يُسلم ثم يموت أو يُقتل، فهذا مصيره: عمل قليلًا، وأُجر كثيرًا.

فالإسلام يجُبّ ما قبله، والتوبة تجُبّ ما قبلها، والهجرة تجُبّ ما قبلها، هذا من رحمة الله وفضله: أنَّ توبة العبد وصدقه وإخلاصه وإيمانه الصَّادق يمحو اللهُ به خطاياه، ويُكفّر به سيئاته، فإذا أسلم إسلامًا صحيحًا ثم مات في الحال بقتلٍ أو بغيره كفَّر اللهُ سيئاته، فالإسلام يجُبّ ما قبله، قال تعالى: قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ [الأنفال:38]، وقال تعالى: قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا [الزمر:53]، أجمع العلماء على أنَّ هذه الآية في التَّائبين، وأنَّهم متى تابوا غفر اللهُ لهم ذنوبهم جميعًا، نعم.

مُداخلة: في زيادةٍ، قال هنا: وروى ابنُ مردويه من حديث محمد بن المعلى -وكان نزل الري-: حدثنا زياد بن خيثمة، عن أبي داود، عن عبدالله بن عمر قال: قال رسولُ الله ﷺ: مَن أُعطي فشكر، ومُنع فصبر، وظَلم فاستغفر، وظُلم فغفر وسكت، قال: فقالوا: يا رسول الله، ما له؟ قال: أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ.

الشيخ: حطّ نسخة، نعم.

وقوله: وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ [الأنعام:83] أي: وجهنا حُجّته عليهم.

قال مجاهد وغيره: يعني بذلك قوله: وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ الآية [الأنعام:81]، وقد صدقه اللهُ وحكم له بالأمن والهداية فقال: الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ، ثم قال بعد ذلك كله: وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ [الأنعام:83] قُرئ بالإضافة وبلا إضافةٍ، كما في سورة يوسف، وكلاهما قريبٌ في المعنى.

وقوله: إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ [الأنعام:83] أي: حكيم في أقواله وأفعاله، عَلِيمٌ أي: بمَن يهديه، ومَن يُضلّه، وإن قامت عليه الحجج والبراهين، كما قال: إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ ۝ وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ [يونس:96-97]؛ ولهذا قال هاهنا: إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ.

الشيخ: وهكذا أقام الحجّة على جميع أعداء الرسل بما بعث اللهُ به الرسل، وقد أوضحت الرسل وبيّنت، فقامت الحجّة على أقوامهم، فمنهم مَن هدى الله، ومنهم مَن استمرّ في الضَّلالة، وهم الأكثرون، والله هو الحكيم العليم، يُبين الأدلة، ويهدي مَن يشاء، ويُضلّ مَن يشاء.

فالواجب على المكلّف أن يأخذ بالأدلة، وأن يتبع الرسل، وأن يحذر اتِّباع الهوى، فالهوى يُعمي ويهلك: وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ [ص:26]، فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ [القصص:50].

ويجب على كل مكلّف أن يتبع الحقّ، وأن ينقاد للحقِّ، وأن يحذر اتباع الهوى لمالٍ أو عرضٍ آخر، فالواجب هو إيثار الآخرة، وإيثار ما جاءت به الرسل، والصبر، والصدق، وإن جرت عليه محنٌ، وإن جرت عليه خطوبٌ، وإن تكلّف، وإن أُوذي: وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ [النحل:127]، قال الله لنبيه: فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلَا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ [الأحقاف:35]، فالأنبياء أفضل الخلق، والرسل أفضل الخلق، وقد أُوذوا وصبروا، فلك فيهم أسوة: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ [الأحزاب:21].

فلا ينبغي للعاقل أن يميل مع الباطل لأدنى أذى، أو أدنى شُبهة، بل ينبغي له أن يكون صبورًا، قويًّا: قوي القلب، قوي الإيمان، صبورًا عند المحن حتى يلقى ربَّه، هذه الدار دار الابتلاء، كما قال تعالى: وَنَبْلُوكُمْ [الأنبياء:35]، فهذه الدار دار ابتلاء، قال تعالى: وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ [الأعراف:168]، وقال تعالى: أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ ۝ وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ [العنكبوت:2-3]، فهذه دار الابتلاء والامتحان والاختبار، نعم.

وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ۝ وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ ۝ وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلًّا فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ ۝ وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ۝ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ۝ أُولَئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلَاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ ۝ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ [الأنعام:84-90].

يذكر تعالى أنَّه وهب لإبراهيم إسحاق بعد أن طعن في السن، وأيس هو وامرأته سارة من الولد، فجاءته الملائكةُ وهم ذاهبون إلى قوم لوط، فبشّروهما بإسحاق، فتعجبت المرأةُ من ذلك، و قَالَتْ يَا وَيْلَتَا أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ ۝ قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ [هود:72-73]، فبشّروهما مع وجوده بنبوته، وبأنَّ له نسلًا وعقبًا، كما قال تعالى: وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ [الصافات:112]، وهذا أكمل في البشارة وأعظم في النِّعمة، وقال: فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ [هود:71] أي: ويُولد لهذا المولود ولد في حياتكما، فتقرّ أعينكما به، كما قرّت بوالده، فإنَّ الفرح بولد الولد شديد؛ لبقاء النَّسل والعقب، ولما كان ولد الشيخ والشّيخة قد يُتوهم أنَّه لا يعقب؛ لضعفه، وقعت البشارةُ به وبولده باسم يعقوب الذي فيه اشتقاق العقب والذّرية.

وكان هذا مُجازاةً لإبراهيم عليه السلام حين اعتزل قومه وتركهم ونزح عنهم، وهاجر من بلادهم ذاهبًا إلى عبادة الله في الأرض، فعوّضه الله عن قومه وعشيرته بأولادٍ صالحين من صلبه على دينه؛ لتقرّ بهم عينه، كما قال تعالى: فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلًّا جَعَلْنَا نَبِيًّا [مريم:49]، وقال هاهنا: وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنَا.

وقوله: وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ أي: من قبله هديناه كما هديناه، ووهبنا له ذُريةً صالحةً، وكلّ منهما له خصوصية عظيمة: أما نوح عليه السلام فإنَّ الله تعالى لما أغرق أهل الأرض إلا مَن آمن به، وهم الذين صحبوه في السَّفينة، جعل الله ذُريته هم الباقين، فالناس كلّهم من ذُريته.

وأما الخليل إبراهيم عليه السلام فلم يبعث الله بعده نبيًّا إلا من ذُريته، كما قال تعالى: وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ الآية [العنكبوت:27]، وقال تعالى: وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ [الحديد:26]، وقال تعالى: أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا [مريم:58].

وقوله في هذه الآية الكريمة: وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ أي: وهدينا من ذُريته داود وسليمان، وعود الضَّمير إلى نوحٍ لأنَّه أقرب المذكورين ظاهر، لا إشكالَ فيه، وهو اختيار ابن جرير.

وعوده إلى إبراهيم لأنَّه الذي سيق الكلامُ من أجله حسن، لكن يُشكل عليه لوط، فإنَّه ليس من ذُرية إبراهيم، بل هو ابن أخيه هاران بن آزر، اللهم إلا أن يُقال: إنَّه دخل في الذّرية تغليبًا، وكما قال في قوله: أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ [البقرة:133]، فإسماعيل عمّه دخل في آبائه تغليبًا.

وكما قال في قوله: فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ ۝ إِلَّا إِبْلِيسَ [الحجر:30-31]، فدخل إبليسُ في أمر الملائكة بالسجود، وذمّ على المخالفة لأنَّه كان في تشبّه بهم، فعُومل مُعاملتهم، ودخل معهم تغليبًا، وإلا فهو كان من الجنِّ، وطبيعته من النار، والملائكة من النور.

وفي ذكر عيسى عليه السلام في ذُرية إبراهيم أو نوح على القول الآخر دلالة على دخول ولد البنات في ذُرية الرجل؛ لأنَّ عيسى عليه السلام إنما يُنسب إلى إبراهيم عليه السلام بأمّه مريم عليها السلام، فإنَّه لا أبَ له.

قال ابنُ أبي حاتم: حدثنا سهل بن يحيى العسكري.

الشيخ: قف على ابن أبي حاتم.

س: إذا أُطلقت الذُّرية يدخل فيها أولاد البنات؟

ج: نعم.

س: ..............؟

ج: الأمر واسع، ظاهر السياق على نوح، الأقرب فالأقرب.