حق الله على عباده

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على عبده ورسوله، نبينا محمد وعلى آله وأصحابه، ومن سلك سبيله واهتدى بهداه إلى يوم الدين.

أما بعد:

أيها المستمعون الكرام، حديثي معكم اليوم في بيان حق الله على عباده، والحكمة التي خلق الله الثقلين من أجلها، يقول الله سبحانه في كتابه المبين وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ۝ مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ ۝ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ [الذاريات:56-58]. 

يبين في هذه الآية الكريمة أنه خلق الثقلين ليعبد وحده لا شريك له، وأنه سبحانه هو الرزاق، لا يطلب من عباده الرزق، بل هو الرازق لهم جل وعلا، وهذه الحكمة هي التي خلق الله من أجلها الثقلين، وأرسل من أجلها الرسل، كما قال : وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ [النحل:36]، وقال : وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ [الأنبياء:25].

فالواجب على جميع الثقلين العناية بهذه الحكمة، وهي عبادة الله وحده لا شريك له، والمحافظة عليها، والتفقه فيها، والاستقامة عليها حتى يلقى ربه، والعبادة: هي طاعة الله ورسوله، ورأسها وأساسها توحيد الله بجميع العبادات، وترك الإشراك به سبحانه، وموالاة أوليائه ومعاداة أعدائه، والبراءة من كل ما يعبد من دونه، كما قال : فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [البقرة:256].

فأصل الدين وأساسه هو إخلاص العبادة لله وحده، والبراءة من عبادة ما سواه، وترك الإشراك به سبحانه، وهذا هو معنى لا إله إلا الله، فإن معناها لا معبود حق إلا الله، فهي نفي وإثبات، تنفي العبادة عن غير الله، وتثبت العبادة لله وحده، كما قال : ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ [الحج:62]. 

فالعبادة هي حق الله ، ليس لغيره فيها حق، لا ملك مقرب ولا نبي مرسل ولا غيرهما، ولهذا قال : وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا [الجن:18]، وقال: وَلَا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ [يونس:106]، وقال سبحانه: وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ [المؤمنون:117]، وقال : ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ ۝ إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ [فاطر:13، 14].

فالواجب على جميع الثقلين أن يعرفوا قدر هذه العبادة، وأن يتبصروا فيها، وأن يخصوا الله بها دون كل ما سواه، وهذا هو الأمر العظيم الذي أمروا به وخلقوا من أجله، كما قال في هذه الآية سبحانه: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات:56]، وقال جل وعلا: وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ [البينة:5].

وثبت عن رسول الله عليه الصلاة والسلام من حديث معاذ أنه قال: حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا فهذا هو حق الله على عباده، وهو الأمر الذي خلقهم من أجله، وأرسل به الرسل، وأنزل به الكتب، وقد أضاعه الأكثرون، وعبدوا مع الله غيره من الأشجار والأحجار والأنبياء والأولياء والكواكب والجن وغير ذلك، وهذا هو الضلال البعيد والشرك الوخيم، قال الله : إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لقمان:13]، وقال : إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ [المائدة:72]، وقال : إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ [النساء:48] فبين أن الشرك لا يغفر، وأما ما دونه من المعاصي فهو تحت مشيئة الله .

وهذه آية عظيمة محكمة أنزلها الله لبيان عظم شأن الشرك، وأنه الذنب الأعظم الذي لا يغفر إلا بالتوبة، ولهذا قال في هذه الآية: إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا [النساء:48]، وفي الآية الثانية: وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا [النساء:116] والشرك هو صرف بعض العبادة لغير الله كدعاء بعض الموتى، أو الأصنام، أو الشجر، أو الحجر، أو الملائكة، أو الجن، أو أشباه ذلك، أو الذبح لهم، أو النذر لهم، أو ما أشبه ذلك.

وكل من صرف شيئا من العبادة لغير الله كائنا من كان فقد أشرك بالله وعبد معه سواه، والواجب عليه أن يتوب إلى الله من ذلك توبة صادقة، وأن يخص الله دون كل ما سواه، وهذا هو معنى قوله جل وعلا: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات:56]، وقوله : وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ [البينة:5]، وقوله : وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا [الإسراء:23]، وقوله : فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ ۝ أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ [الزمر:2، 3].

وسبق لنا أن هذا هو معنى لا إله إلا الله، وأن معناها إخلاص العبادة لله وحده، وترك عبادة ما سواه جل وعلا، فهي تثبت العبادة لله وحده وتنفيها عما سواه، ومعناها لا معبود حق إلا الله، فلا بدّ في حق كل إنسان أن يخص الله بالعبادة، وأن يحقق معنى هذه الكلمة، وهي: لا إله إلا الله، فإن لم يفعل ذلك وصرف بعض العبادة لغير الله من صنم أو وثن أو ملك أو نبي أو جني أو كوكب أو غير ذلك فإن ذلك يبطل هذه الكلمة وينقضها، وهي لا إله إلا الله، وهو أيضًا يبطل جميع العبادات كما قال : وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [الأنعام:88]، وقال : وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ [الزمر:65].

فعلينا جميعا أن ننتبه لهذا الأمر، وأن نخص الله بالعبادة دون كل ما سواه، وأن نستقيم على ذلك، ونحافظ على ذلك، ونتواصى بذلك، ولا صحة لعباداتنا من صلاة وصوم وغير ذلك إلا بعد صحة هذا الأصل، فالأصل هو توحيد الله والإخلاص له وترك عبادة ما سواه كائنا من كان، وعدم الإشراك به هذا هو الأصل الأصيل الذي هو معنى لا إله إلا الله، فلا تصح أي عبادة إلا بعد صحة هذا الأصل، وعلينا أن نحافظ على ذلك، ونستقيم على ذلك، وندعو إلى ذلك، ونحذر من خلاف ذلك، كما فعله رسول الله عليه الصلاة والسلام، وفعله صحابته المرضيون، ثم أتباعهم بإحسان إلى يومنا هذا.

ومن أهم المهمات الحذر أيضا من الوسائل والذرائع التي توصل إلى هذا الشرك، مثل بناء المساجد على القبور، واتخاذ القباب عليها، وفرشها وتطييبها، فإن هذا من وسائل الشرك، وهكذا الحلف بغير الله كالحلف بالأمانة والنبي والكعبة وحياة فلان ونحو ذلك، فإن هذا من الشرك، وهو من الشرك الأصغر، وقد يكون أكبر، وهو من وسائل الشرك الأكبر الذي هو التعلق على غير الله وعبادة غير الله ، قال النبي عليه الصلاة والسلام: من كان حالفا فليحلف بالله أو ليصمت، وقال عليه الصلاة والسلام: من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك، وقال: من حلف بالأمانة فليس منا.

فالواجب على جميع المسلمين المحافظة على دينهم، والحرص على صيانته من أنواع الشرك والبدع، مع الحذر كل الحذر من وسائل الشرك وذرائعه التي توصل إليه وتقرب منه، والله المسؤول أن يوفقنا والمسلمين لما فيه رضاه، وأن يحفظ علينا ديننا جميعا، وأن يمن علينا بالفقه في ديننا والثبات عليه، والسلامة من جميع ما يغضبه من الشرك وما دونه، إنه جواد كريم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه.