01 من قوله: (أول ما نستفتح المقالا)

بسم الله الرحمن الرحيم

أول ما نستفتح المقالا بذكر حمد ربِّنا تعالى
فالحمد لله على ما أنعما حمدًا به يجلو عن القلب العمى
ثم الصَّلاة بعد والسَّلام على نبيٍّ دينه الإسلام
محمد خاتم رسل ربه وآله من بعده وصحبه
ونسأل الله لنا الإعانة فيما توخينا من الإبانة
عن مذهب الإمام زيد الفرضي إذ كان ذاك من أهم الغرض
علمًا بأنَّ العلم خير ما سُعِي فيه وأولى ما له العبدُ دُعي
وأنَّ هذا العلم مخصوص بما قد شاع فيه عند كلِّ العُلما
بأنَّه أول علمٍ يُفقد في الأرض حتى لا يكاد يُوجد
وأنَّ زيد خُصَّ لا محالة بما حباه خاتمُ الرساله
من قوله في فضله مُنَبِّهًا أفرضكم زيد وناهيك بها
فكان أولى باتِّباع التَّابعي لا سيما وقد نحاه الشَّافعي
فهاك فيه القولُ عن إيجاز مُبَرَّأً عن وصمة الألغاز

الشيخ: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله، وصلَّى الله وسلم على رسول الله، وعلى آله وأصحابه ومَن اهتدى بهداه.

أما بعد: فيقول المؤلفُ رحمه الله، وهو محمد بن محمد بن علي بن الحسين الرَّحبي رحمه الله، يقول: (أول ما نفتتح المقالا) هذه أرجوزة للمؤلف، للرحبي، جيدة نافعة في علم الفرائض، أبياتها مُيسرة، ومعانيها واضحة، قد نفع الله بها الجمَّ الغفير، وشرحها الشَّنشوري، وعليها حواشٍ.

المقصود أنَّ هذه الأرجوزة نافعة، وقد لخصنا ما فيها من الفوائد، وزدنا على ما فيها من الفوائد في كتاب "الفوائد الجلية في المباحث الفرضية" لخصتُ ما في هذه الأرجوزة من علم الفرائض، مع الزيادة من الأدلة وكلام أهل العلم في ذلك.

يقول رحمه الله: (أول ما نفتتح المقالا) يعني: القول، مقال مصدر ميمي، يقال: مقال وقول.

(أول ما نفتتح المقالا * بذكر حمد ربنا تعالى) يعني: أول شيءٍ نفتتح به الحمد؛ لما رُوي عنه ﷺ أنه قال: كل أمرٍ ذي بالٍ لا يُبدأ فيه بالحمد الله فهو أجذم، وفي روايةٍ: لا يُبدأ فيه ببسم الله فهو أجذم، وفي لفظٍ: بذكر الله فهو أجذم، وفي بعضها: أبتر يعني: ناقص البركة.

(فالحمد لله على ما أنعما) والحمد هو الثناء على المحمود مع حبِّه وتعظيمه وإجلاله، يقال له: الحمد، الثناء على الله، مع محبَّته وتعظيمه، يقال له: حمد، كما قال تعالى: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الفاتحة:2].

حمدًا (على ما أنعما) يعني: على إنعامه. (حمدًا به) بهذا الحمد (يجلو عن القلب العمى) يجلو الله عن القلب عماه، ويرزقه العلم والبصيرة، يعني: أن الثناء على الله وسؤاله والضَّراعة إليه من أسباب صفاء القلب وبصيرته وذهاب العمى عنه.

فالمؤمن يلجأ إلى الله، ويسأله، ويستغيث به أن يُبصره، وأن يُبصر قلبه، وأن يجلو عنه العمى، وأن يمنحه العلم النافع، والعمل الصالح، والحمد لله والذكر والدعاء كله من أسباب ذلك.

ثم الصلاة بعد والسلام على نبيٍّ دينه الإسلام
محمد خاتم رسل ربه وآله من بعده وصحبه

هذا فيه بعد الحمد التَّثنية والصَّلاة على النبي ﷺ مثلما جاء في الحديث: إذا دعا أحدكم فليبدأ بتحميد ربِّه والثناء عليه، ثم يُصلي على النبي، ثم يدعو بما شاء، فالمؤلف سلك هذا المسلك؛ بدأ بالحمد، ثم الصلاة على النبي، ثم الدعاء، عملًا بحديث فضالة بن عبيد: يقول النبي ﷺ: إذا دعا أحدُكم فليبدأ بتحميد ربِّه والثناء عليه، وليُصل على نبيه، ثم يدع بما شاء.

والصلاة من الله: ثناؤه على عبده في الملإ الأعلى وسلامه: تسليمه عليه، قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].

(ثم الصلاة بعد والسلام على نبيٍّ) نبي من النبأ، أصله نبيء، فسُهلت؛ لأنه يُنبئ عن الله، ويُخبر عن الله بما شرع وبما أمر به ونهى عنه، والأنبياء كثيرون.

والنبي هو الذي يُوحى إليه بشرعٍ، يقال له: نبي، إذا أُوحي إليه بشرعٍ يُقال له: نبي، فإذا أُمر بالتبليغ يقال له: رسول، كل رسول نبي، ولا ينعكس.

وقال بعضهم: النبي يُطلق على مَن كان تابعًا لغيره، رسالته تابعة: كأنبياء بني إسرائيل بعد موسى يقال لهم: أنبياء، ويُسمون: رسلًا، والرسول على الإطلاق هو المستقل: كموسى وإبراهيم وهود وصالح ونوح ونبينا محمد ﷺ.

والأول هو المشهور: النبي هو الذي يُوحى إليه بشرعٍ ولا يُؤمر بالتبليغ، والرسول الذي يُوحى إليه بشرعٍ ويُؤمر بالتبليغ؛ قال تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ [الحج:52] جعل هنا رسول ونبي.

(على نبيٍّ دينه الإسلام) وهو محمد عليه الصلاة والسلام، دينه الإسلام، قال تعالى: إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ [آل عمران:19]، وقال تعالى: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا [المائدة:3]، وقال تعالى: وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ [آل عمران:85].

وهو دين الأنبياء جميعًا، دين الإسلام هو دين الأنبياء جميعًا من أولهم آدم ونوح إلى آخرهم دينهم الإسلام، وهو توحيد الله وطاعته والإيمان برسله، هذا هو دين الأنبياء جميعًا، يُقال له: إسلام، والشرائع مختلفة؛ قال تعالى: لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا [المائدة:48]، لكن دينهم جميعًا الإسلام، وهو توحيد الله وطاعته والإيمان برسله وتعظيم شرعه، هذا هو دين المرسلين جميعًا، لكن شرائعهم متنوعة، وختمهم الله بمحمدٍ ﷺ، فشريعته خاتمة الشرائع، ليس بعده نبي عليه الصلاة والسلام ولا رسول، هو خاتم الأنبياء كما قال الله سبحانه: مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ [الأحزاب:40]، فشريعته نسخت الشرائعَ كلها، شريعته نسخت جميع الشَّرائع.

(على نبيٍّ دينه الإسلام محمد) هذا اسمه المشهور العظيم: محمد، وله أسماء: أحمد والحاشر والماحي والمقفي ونبي التوبة ونبي الرحمة، لكن هذا اسمه الذي سمَّاه به أهله: محمد، فجاء به القرآنُ: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ [الفتح:29]، وجاء أيضًا: وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ [الصف:6] عليه الصلاة والسلام.

(محمد خاتم رسل ربه) هو خاتم النَّبيين، قال تعالى: مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ، فهو خاتم الأنبياء والرسل جميعًا، ليس بعده نبي ولا رسول، ومَن زعم أنَّ هناك نبيًّا بعده فقد كذب وكفر، نسأل الله العافية، ومن هذا طائفة الأحمدية في الهند الذين يزعمون أنَّ غلام أحمد نبي بعد محمد، هؤلاء ضلال كفَّار، نعوذ بالله.

(محمد خاتم رسل ربه * وآله من بعده وصحبه) يعني: ونُصلي على آله من بعده وصحبه، آله هم أهل بيته، ويُطلق الآل على أتباعه جميعًا من أهل بيته وغيرهم؛ قال تعالى: أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ يعني: أتباع فرعون أَشَدَّ الْعَذَابِ [غافر:46].

وصحبهم جمع صاحب، والصحابي هو الذي لقي النبيَّ ﷺ وآمن به ومات على الإسلام، يقال له: صحابي، كل مَن لقي النبيَّ ﷺ ولو صغيرًا، ولو تابعًا لغيره يُسمَّى: صحابيًّا إذا مات على الإسلام، من رجال ونساء، وهم أفضل الخلق، الصحابة هم أفضل الناس بعد الأنبياء؛ قال ﷺ -كما في الحديث الصحيح: خير أمتي قرني، خير الناس قرني، وقال ﷺ في أصحابه: لا تسبُّوا أصحابي، فوالذي نفسي بيده، لو أنفق أحدُكم مثل أحدٍ ذهبًا ما بلغ مُدَّ أحدهم ولا نصيفه رضي الله عنهم وأرضاهم، هم أفضل الناس بعد الأنبياء.

(ونسأل الله لنا الإعانة) وآله مثلما تقدم: هم أهل بيته، وهم بنو هاشم، ويُطلق الآل على جميع الأتباع –أتباعه- والمراد هنا: أهل بيته وجميع الأتباع من سائر الأمة.

(ونسأل الله لنا الإعانة) الإعانة مصدر: أعان إعانة، وهو بمعنى العون.

(ونسأل الله لنا الإعانة * فيما توخينا) تحرينا وقصدنا، (من الإبانة) من الكشف والإظهار.

(عن مذهب الإمام زيد الفرضي) مذهب الإمام زيد في الفرائض، يعني: اعتقاده في الفرائض وما كان يقوله ويُفتي به زيد، وهو زيد بن ثابتٍ الأنصاري الخزرجي ، أحد كتاب الوحي، كان مشهورًا بعلم الفرائض، وقد دعا له النبيُّ بذلك وقال: أفرضكم زيد، فالمؤلف يتوخَّى الكشف عن مذهب زيد بن ثابتٍ المتوفى سنة 45 من الهجرة، توفي سنة 45 في خلافة معاوية، وقيل: سنة 48، وقيل غير ذلك، لكن المشهور أنه توفي سنة 45.

(عن مذهب الإمام زيد الفرضي) يعني: المنسوب إلى الفرائض، العالم بالفرائض يقال له: الفرضي، العالم بالفرائض نسبة إلى الفريضة، مثلما يقال: حنفي نسبة إلى حنيفة.

(إذ كان ذاك) يعني: لأن "إذ" تعليلية، (إذ كان ذاك من أهم الغرض) يعني: لأنَّ البحث عن مذهب زيد من أهم الأغراض، يعني: من أهم مقاصد المؤلف أن يُبين مذهب زيد في الفرائض، ومذهبه أرجح المذاهب في المسائل المختلف فيها، إلا في مسائل قليلة الصواب فيها خلاف قوله رضي الله عنه، كما يأتي التَّنبيه على ذلك، فيها مسائل قليلة الصواب فيها أن قول زيد مرجوح: كالمشركة، وتوريث الإخوة مع الجدِّ، الصواب أنَّ الجدَّ يحجبهم، خلافًا لزيدٍ، وأن الإخوة الأشقاء يسقطون في المشركة، خلافًا لزيدٍ؛ لأدلة تأتي إن شاء الله، يأتي بيانها.

(علمًا بأنَّ العلم) يعني: لأجل أن العلم، (علمًا) مفعول لأجله.

(علمًا بأنَّ العلم خير ما سُعي * فيه وأولى ما له العبد دُعي) يعني: نعلم أنَّ العلم هو أفضل ما سعى فيه السَّاعون، وطلبه الطَّالبون؛ علم الشرع يعني: علم الشريعة، يقول النبيُّ ﷺ في الحديث الصحيح: خيركم مَن تعلم القرآنَ وعلَّمه، ويقول: مَن سلك طريقًا يلتمس فيه علمًا سهَّل الله له به طريقًا إلى الجنة.

فالعلم له فضله العظيم، والجدير بكل مؤمنٍ أن يعتني بالعلم من الرجال والنساء؛ لأن بالعلم تُعرف العبادة التي خُلقنا لها، وبالعلم تُعرف أسماء الله وصفاته، وبالعلم يُعرف حقّه وحقّ عباده، الله خلق الناس للعبادة: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات:56]، وهذه العبادة هي دين الإسلام، وهي الإيمان بالله ورسوله، وهي البر والتقوى والهدى، ولا تُعرف إلا بالعلم، هذه العبادة لا تُعرف إلا بالعلم، لا يُعرف تفصيلها إلا بالعلم: قال الله، وقال رسوله.

فالواجب على المكلفين أن يعرفوا هذه العبادة بأدلتها، وهي الإسلام، وهي الإيمان والهدى، وهي توحيد الله وطاعته، هذه العبادة التي أنت مخلوق لها مأمور بها، قال تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ [البقرة:21]، بعث الله بها الرسلَ؛ قال تعالى: وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ [النحل:36].

(علمًا بأنَّ العلم خير ما سُعي * فيه وأولى ما له العبد دُعي) أول شيءٍ على العبد أن يتعلم؛ حتى يعرف دينَ الله، حتى يعرف ما يجب عليه، وما يحرم عليه، وحتى يعبد ربَّه على بصيرةٍ.

(وأن زيدًا خُصَّ لا محالة * بما حباه خاتم الرسالة) يعني: خُصَّ بمزيد فضلٍ (بما حباه خاتم الرسالة) محمد عليه الصلاة والسلام.

(من قوله في فضله مُنبهًا * أفرضكم زيد) وهو حديث صحيح؛ رواه أحمد وأهل السنن عن أنسٍ : أن النبي قال: أفرضكم زيد بن ثابت.

(من قوله.. أفرضكم زيد وناهيك بها) يعني: ناهيك منقبة عظيمة كافية لزيدٍ .

(فكان أولى) يعني: كان زيد أولى باتباع التَّابعين؛ لقول النبي فيه: أفرضكم زيد.

(لا سيَّما وقد نحاه الشافعي) يعني: يؤُكده أنَّ الشافعي الإمام المعروف -أحد الأئمة الأربعة- قد سار على مذهبه، وهكذا أحمد، وهكذا مالك في الأغلب، وأبو حنيفة، لكن خالفوه في بعض المسائل، خالفه بعضُهم في بعض المسائل.

(لا سيما وقد نحاه الشافعي) يعني: سلك مسلكه، فصار تأييد الشافعي وسلوك مسلكه مما يُؤيد الأخذ بهذا المذهب.

(فهاك فيه القول) يعني: خذ القول، هاك بمعنى: خذ، خذ القول فيه (عن إيجاز) يعني: الموجز ما قلَّ لفظه وتمَّت فائدته، يقال له: موجزًا، الكلام الموجز هو المفيد، مع قلَّة الألفاظ، يقال له: موجزًا.

(مبرأً) مخلصًا (عن وصمة الألغاز) عن عيب الألغاز، الوصمة: العيب، وصم بكذا: عيب بكذا، واللغز: هو الكلام غير الواضح، يُؤتى به لمسألةٍ، وأمر غير واضحٍ يقال: لغز، أما هذه الأرجوزة فهي واضحة، بعيدة عن الألغاز، معانيها واضحة، وقد صدق رحمه الله في هذا الكلام، فإن هذه الأرجوزة واضحة بينة ليس فيها خفاء، كما يأتي البيانُ إن شاء الله في ذلك.

وقد شاع في هذا العلم أنه أول ما يُؤخذ في الأرض حتى لا يكاد يُوجد، يعني: شاع عند العلماء، وجاء في بعض الأحاديث التي فيها مقال: أنه أول علمٍ يُفقد، كما روى ابنُ ماجه والدَّارقطني والحاكم عن أبي هريرة، عن النبي ﷺ أنه قال: تعلموا الفرائض وعلِّموها الناس، فإنها نصف العلم، وهو أول ما يُفقد من أمتي، فإنه يعني: علم الفرائض نصف العلم، وهو أول علمٍ يُفقد من أمتي رواه ابن ماجه والدَّارقطني بإسنادٍ فيه ضعف.

وله شاهد من حديث ابن مسعودٍ عند النَّسائي وغيره: تعلموا الفرائضَ وعلِّموها الناس؛ فإني امرؤ مقبوض، وإن العلم يُقبض، وتظهر الفتن، حتى يختلف الاثنان في الفريضة لا يجدانِ مَن يفصل بينهما.

فهذا العلم يقلّ أهله في آخر الزمان، وهو الواقع؛ قلَّ أهله، فجدير بطلبة العلم العناية به، والحرص على تعلمه ما دام يُوجد مَن يُعلمه من الناس؛ لأن الناس في حاجةٍ إليه.

وقوله وهو نصف العلم قال بعضُهم: لأنه يُبتلى به الناس، كلهم يُبتلى به، الناس كلهم، كل إنسانٍ يموت عنده ميت، ويكون ورثة، وقال بعضُهم: وجه كونه نصف العلم أنَّ العلوم قسمان: قسم يتعلق بالحياة، وقسم يتعلق بالموت، والمواريث تتعلق بالموت، فصارت نصفًا بهذا المعنى لقسمين: قسم يتعلق بالحياة: من الفرائض والصَّلوات والصيام والحج والبيع والشراء وغير ذلك مما يتعلق بالحياة، وقسم يتعلق بالموت، وهو قسم المواريث، فصار نصفًا بهذا المعنى.

فجدير بطلبة العلم أن يعتنوا به، وأن يدرسوا عليه؛ حتى ينفعوا الناسَ، ويُوضحوا للناس مواريثهم.

وينبغي أن يُعلم قبل الشروع فيما ذكره المؤلفُ من أسبابٍ وما بعدها أمور تتعلق بهذا الفن وبغيره:

الأمر الأول: حدَّ هذا الفن، والثاني: موضوعه، والثالث: ثمرته، والرابع: أركانه، والخامس: شروطه -شروط الإرث- وكذلك أول شيءٍ يبدأ به من الأمور بعد الموت، ما هي الأمور التي يبدأ بها قبل المواريث؛ حتى يعرفها طالبُ العلم فيُنفذها قبل قسم المواريث.

أما حدّ هذا الفن: فهو العلم بفقه المواريث وما ضمّ إليه من حسابها، هذا حدّه، حدّ هذا الفن هو العلم بفقه المواريث، يعني: بأحكام المواريث وما يُحتاج إليه من الحساب، هذا يُقال له: علم المواريث، ويقال له: الفرائض، حدّها هو هذا، حدّ هذا العلم هو العلم بفقه المواريث وما يُضم إلى ذلك من الحساب، يقال له: فرائض، يقال لها: مواريث، ما يتعلق بأحكام المواريث يقال له: علم الفرائض، ومعنى فقه المواريث يعني: أحكام المواريث، كون هذا يُعطى النصف، وهذا يُعطى السدس، هذا يُعطى تعصيبًا، هذا يرث، هذا يسقط، هذه أحكام المواريث.

موضوعه: التركات، موضوعه الذي يبحث فيه ويشتغل به: التركات، فإذا كان ما هناك تركة ما يحتاج مواريث، إذا كان الميتُ ما ترك شيئًا، ما له شيء يُقسم بين المواريث ما في عمل، إنما يُحتاج لعلم المواريث إذا كان هناك تركة؛ حتى تُقسم بين الورثة، هذا موضوعه: التركات.

ثمرته: إيصال ذوي الحقوق حقوقهم، المقصود إيصال ذوي الحقوق حقوقهم، هذا هو المقصود من المواريث؛ أن يُعطى كل ذي حقٍّ حقَّه من زوجةٍ وزوجٍ وغير ذلك، هذا المقصود، هذه الثمرة، والمقصود من العلم أن يُعطى كل ذي حقٍّ حقَّه، حدّه في الشرع مثلما تقدم: هو العلم بفقه المواريث وما يُضمّ إليها.

وأما حكمه في الشرع فهو فرض كفايةٍ، إذا قام به مَن يكفي سقط عن الباقين، هذا حكمه في الشرع: فرض كفايةٍ، إذا قام به مَن يكفي من أهل العلم سقط عن الباقين.

أركانه ثلاثة: وارث، ومُورّث، وحقّ موروث.

وارث هو الحي، والمورث هو الميت، وحق موروث هو التركة.

السادس شروطه: ثلاثة:

الأول: تحقق حياة الوارث حين موت المورث، أو إلحاقه بالأحياء حكمًا، إما أن يُعلم أنه حي بالمشاهدة والبينة، أو يُلحق بالأحياء حكمًا: كالجنين –الحمل- فإنه يرث من قريبه بشرطين: أحدهما: تحقق وجوده في الرحم حين موت المورث، والثاني: انفصاله حيًّا حياةً مُستقرةً، ويُعلم أنه موجود إذا وُلد بعده بأقل من ستة أشهر، إذا وُلد بأقل من ستة أشهر عُلم أنه موجود حين موت المورث ولو نطفة؛ لأنَّ أقل مدة الحمل ستة أشهر، فإذا وُلد قبلها عُلم أنه موجود حين موت المورث، وانفصل حيًّا؛ للحديث: إذا استهلَّ المولود ورث يعني: إذا صرخ وتحققت حياته.

الثاني: التَّحقق من موت المورث، كونه يعلم أنه مات المورث، مات زيد، مات عمرو، إما بالمشاهدة، أو الاستفاضة، أو شهادة عدلين أنه مات، أو إلحاقه بالأموات حكمًا: كالمفقود إذا حكم الحاكم بموته، أو تقديرًا: كالجنين إذا مات في بطن أمه، يُحكم بأنه حيٌّ ثم مات، إذا مات بعد نفخ الروح فيه؛ لأنه تجب فيه غرَّة عبدٍ أو أمةٍ، فتورث عنه، إذا جنى عليه جانٍ في حملٍ وهو قد دخل في الخامس من الشهور وسقط ميتًا تجب فيه غرَّة عبدٍ أو أمةٍ، تكون للورثة -لورثة الجنين.

الثالث: العلم بمُقتضي التَّوارث، الشرط الثالث: أن يكون المفتي أو القاضي عنده علم، لا يُفتي بالجهل، أن يكون عنده علم بالمقتضي للتوارث، بالموجب للتوارث، والمسبب للتوارث، يكون القاضي أو المفتي عنده علم، ولا يُفتي بالجهالة، إذا عرف حياة الوارث وموت المورث فلا بدَّ من شرطٍ ثالثٍ وهو أن يكون المفتي أو القاضي عنده علم بموجب التَّوارث ومُقتضي التوارث، عنده علم بأحكام المواريث.

والأمر السابع: معرفة أكثر ما يرد في التركة إذا مات الميت؛ ما هي الحقوق التي ترد في التركة؟ ما هي الحقوق؟ خمسة تتعلق بالتركة بعد الموت، خمسة:

الأول: مؤونة التَّجهيز: يبدأ بها، مؤنة تجهيز الميت مثل: كفنه من التركة، أجرة الغسال الذي يُغسله، أجرة الذي يحفر القبر تُؤخذ من التركة، يبدأ بها، يُقال لها: مؤنة التَّجهيز، يُجهزه حتى يُوضع في قبره ويُدفن.

الثاني: الدُّيون المتعلقة بعين التركة، مثل: الدَّين الذي فيه رهن يبدأ به، هو أحق بالرهن، صاحب الدَّين له رهن هو أحق بالرهن. والأرش المتعلق برقبة العبد الجاني، إذا جنى وتعلَّق برقبته الأرش فإنه يبدأ به قبل حقِّ السيد.

الثالث: الدُّيون المطلقة التي في الذمة: ما فيها رهن عليه، دين، لكن ما فيه رهن يُعطوا من التركة حقوقهم، مقدم على الوصية وعلى الإرث، الديون الثابتة يبدأ بها قبل الورثة وقبل الوصايا، يُعطون حقوقهم من تركته.

الرابع: الوصايا بالثلث فأقل لأجنبيٍّ قبل المواريث: إذا أوصى بالثلث أو بالربع أو بالخمس أو بأقل يبدأ بذلك، ينزع، أو بشيءٍ معين: بالبيت الفلاني، أو بالدكان الفلاني، أو بالسيارة الفلانية، يُنزع من التركة للوصية إذا كان الثلث فأقل، ما للورثة فيه حقّ؛ للحديث الصحيح من حديث سعدٍ لما أوصى بشطر ماله قال النبيٌّ: كثير، أوصى بالنصف، قال: كثير، فأوصى بالثلث قال: الثلث والثلث كثير، وأقرَّ الثلث، فالثلث لا بأس به، وإذا أوصى بالربع أو بالخمس فلا بأس، كله حسن، يُنزع من التركة قبل المواريث، فإذا كان للورثة مثلًا خمسون ألفًا، وأوصى بالخمس، تُنزع عشرة من الخمسين، هذه للوصية، سواء الوصية للفقراء، أو لتعمير المساجد، أو للجهاد في سبيل الله، أو ما أشبه ذلك، تُنزع العشرة، ويبقى أربعون تُقسم بين الورثة، أو أوصى بالثلث والتركة ستون، وأوصى بالثلث، يُعزل منها عشرون للثلث، ما لهم بها حق الورثة، والباقي أربعون تُقسم بين الورثة.

وفَّق الله الجميع لمراضيه، ورزقنا وإياكم العلم النافع والعمل الصَّالح.