وجوب الاستقامة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله، وخيرته من خلقه، نبينا وإمامنا محمد بن عبدالله، وعلى آله وأصحابه، ومن سلك سبيله واهتدى بهداه إلى يوم الدين.

أما بعد:

أيها المستمعون الكرام حديثي معكم اليوم في بيان وجوب الاستقامة، يقول الله سبحانه: إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ ۝ نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ ۝ نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ [فصلت:30-32]

يبين سبحانه أن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا على طاعته تبشرهم الملائكة عند الموت بالجنة والكرامة والسعادة، وأنه لا خوف عليهم ولا حزن، ويا لها من نعمة عظيمة وفضل كبير، ومعنى قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ يعني قالوا إلهنا وخالقنا ورازقنا ومدبر أمورنا هو الله وحده، فهو الخلاق سبحانه، وهو رب الجميع، وهو رازق العباد، وهو المستحق لأن يعبد بطاعة أمره وترك نهيه، عن إيمان به سبحانه وإيمان برسله عليهم الصلاة والسلام، وعن إخلاص له في العمل، وعن خوف ورجاء، خوفا من غضبه ورجاء لرحمته وثوابه، ثُمَّ اسْتَقَامُوا على طاعة الله، يعني قالوا وعملوا، لأن بعض الناس قد يقول ويتكلم ويدعي ولكنه لا يعمل، وهذه حال من ضعف إيمانه، أو عدم إيمانه كالمنافقين، أما الكمل من أهل الإيمان فإنهم يقولون ويفعلون. 

وقد عاب الله على بعض المسلمين لما قالوا ولم يفعلوا، فقال : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ ۝ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ [الصف: 2-3] فتبين بهذا أنه لا يليق بالمؤمن ولا بالمؤمنة أن يقول الخير ثم لا يعمل، أو ينهى عن الشر ثم يقدم عليه، هذا لا يليق بالمؤمن ولا بالمؤمنات، بل من صفات المؤمنين والمؤمنات المسابقة إلى الخيرات، والمسارعة إلى الطاعات، فالمؤمن يسارع ويسابق إلى ما يؤمر به، ويبتعد عن كل ما ينهى عنه، هكذا المؤمن وهكذا المؤمنة كما قال الله سبحانه: إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ ۝ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ ۝ وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ ۝ وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ ۝ أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ [المؤمنون:57-61] هذه حالهم يسارعون في الخيرات بسبب إيمانهم العظيم وخوفهم من الله ، وهم لها سابقون بأدائها والحرص عليها والمبادرة إليها والحذر مما يضادها.

يروى عن عائشة رضي الله عنها أنها سألت النبي ﷺ عن قوله في هذه الآيات: وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ [المؤمنون: 60] قالت: يا رسول الله أهو الرجل يسرق ويزني ويشرب الخمر؟ قال: لا، ولكنه الرجل يصوم ويصلي ويتصدق ويخاف ألا يقبل منه هكذا المؤمن يؤدي الطاعات ويسارع إليها، وهو مع ذلك خائف وجل يخشى أن ترد عليه أعماله، يخشى ألا تقبل بسبب تقصيره في بعض الواجبات، أو بسبب انتهاكه لبعض المحرمات. 

فالمؤمن والمؤمنة من شأنهما الحفاظ على الطاعات والمسارعة إلى الخيرات والحذر من السيئات والاستقامة على ذلك والاستمرار، ولهذا قال : إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا [فصلت:30] يعني استمروا على الطاعة وصبروا عليها، فأدوا فرائض الله من صلاة وغيرها، وتباعدوا عن محارم الله، ووقفوا عند حدود الله، واستقاموا على ذلك في الحياة حتى جاءهم الأجل، هؤلاء هم أهل الصدق وهم أهل الاستقامة، وهم المذكورون في قوله سبحانه: وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [التوبة: 71] هذه أعمال أهل الصدق والأمانة، هذه أعمال أهل الاستقامة، ولهذا وعدهم الله بالرحمة، فالرحمة معلقة بالعمل الصالح إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ [الأعراف: 56].

وفي هذه الآية لما ذكر أعمالهم من الولاية فيما بينهم وأنهم يتحابون في الله ويتناصحون ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويطيعون الله وسوله، لما ذكر هذه الأعمال عنهم قال: أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ [التوبة: 71] فعلمنا بذلك أن الرحمة أسبابها طاعة الله ورسوله، وأن النقمة والعذاب أسبابهما عصيان الله ورسوله، ثم ذكر سبحانه هذه الرحمة وفسرها فقال: وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ في جنات إقامة وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ [التوبة: 72] هذا هو جزاء المؤمن والمؤمنة اللذين استقاما على طاعة الله وتباعدا عن محارم الله ووقفا عند حدود الله وصار هواهما تبعا لما يرضي الله جل وعلا، وهذا هو الاستقامة المذكورة في قوله جل وعلا: إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ [فصلت: 30] يعني عند الموت تبشرهم بالرحمة والرضوان، فالمؤمن والمؤمنة عند الموت تأتيه الملائكة وتبشره برحمة الله ورضوانه. 

أما الكافر عند الموت يبشر بالعذاب والنار وغضب الله نعوذ بالله من ذلك تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا [فصلت: 30] تقول لهم: لا تخافوا ولا تحزنوا، المعنى لا تخافوا مما أمامكم فأنتم على خير وعلى هدى وأنتم إلى الجنة والسعادة، ولا تحزنوا يعني على ما خلفتم في الدنيا، فما عند الله خير وأبقى جل وعلا، ما عند الله للمؤمن من الجنات والكرامات والقصور العاليات والأنهار الجاريات والثمار العظيمة والخير الكثير والنعيم المقيم الدائم لأهل الإيمان من الذكور والإناث ما عند الله لهم خير وأبقى من هذه الدنيا ولو أعطوا فيها مثل ملوك أهلها، فما عند الله خير لهم، فإن أدنى أهل الجنة منزلة من يعطى من الخير والنعيم أمثال ملك ملوك الدنيا مرات كثيرة.

ثم قال بعدها جل وعلا: وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ [فصلت:30] يعني تقول لهم الملائكة وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ [فصلت:30] التي وعدكم الله في الدنيا على أعمالكم الصالحة، وعلى تقواكم لله، وعلى ترككم محارم الله، وعلى المسارعة إلى مراضي الله، أبشروا بالجنة وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ ۝ نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ [فصلت:30-31] تقول لهم الملائكة نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ [فصلت:31] فالملائكة أولياء المؤمنين يسددونهم ويرشدونهم ويلقون في قلوبهم من الخير والتشجيع على الطاعة والتثبيط عن المعصية ما يعينهم الله به على طاعته، فالملائكة دعاة خير وحملة هدى ودعاة صلاح، فلهذا تقول لأهل الإيمان نحن أولياؤكم في الحياة الدنيا وفي الآخرة، وفي الآخرة هم أولياؤهم أيضا حتى يصلوا إلى الجنة، وحتى يفوزوا بالكرامة.

وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ [فصلت:31] يعني في الجنة من أنواع النعيم، وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ [فصلت:31] مما تطلبون من النعيم المقيم والخير الكثير، نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ [فصلت:32] يعني هذا النعيم والخير والكثير نزلا من الله جل وعلا، يعني ضيافة وقرى، ونعيم مقدم من ربنا ، وهو نعيم لا يفنى ولا يزول، بل هو نعيم دائم ومستقر، ومن ذلك أنهم يرون ربهم جل وعلا في أوقات يحددها الله على حسب منازلهم في التقوى، فلهم موعد مع الله للنظر إلى وجه الكريم، وهو أعلى نعيم أهل الجنة.

فعليك يا عبدالله، وعليك يا أمة المسارعة إلى هذا الخير العظيم، فالدنيا ساعة وتنقضي، متاع قليل، فعليك يا عبدالله أن تصبر على طاعة ربك وأن تحذر معصيته، وعليك يا أمة الله أن تصبري على طاعة الله وأن تحذري معاصيه سبحانه، وعلينا جميعا أن نتذكر الوقوف بين يدي الله ... يوم القيامة، إما إلى الجنة، وإما إلى النار.

نسأل الله أن يوفقنا وسائر المسلمين لما فيه رضاه، وأن يصلح قلوبنا وأعمالنا، وأن يهدينا جميعا صراطه المستقيم، إنه جل وعلا جواد كريم، وصلى الله وسلم على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وأصحابه وأتباعه بإحسان.