التأسي بالنبي ﷺ في الحج وسائر الأعمال

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، أما بعد:
فيسرني كثيرًا في مستهل أعداد مجلة التوعية الإسلامية التي تصدرها في مثل هذه الأيام الأمانة العامة للتوعية الإسلامية في الحج لعامها السادس مساهمة في توجيه وتبصير ضيوف الرحمن بمناسك حجهم وعمرتهم وأمور دينهم ودنياهم، نفع الله بها كل من يطلع عليها.
يسرني أن أرحب بكم في بلد الله الحرام، الذي قصدتموه من أماكن بعيدة وجهات نائية، امتثالًا لأمر الله القائل: وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا [آل عمران:97]، وتلبية لنداء إبراهيم خليل الرحمن، الذي قال له ربه: وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ ۝ لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ [الحج:27، 28]، ولهذا فأنتم تلبون منذ أحرمتم من مواقيتكم قائلين: "لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك".
وإني أسأل الله تعالى أن يتم لكم حجكم وعمرتكم في يسر وقبول ويجعله حجًا مبرورًا وسعيًا مشكورًا وذنبًا مغفورًا، تعودون بعده وقد خرجتم من ذنوبكم كيوم ولدتكم أمهاتكم، إن ربي سميع الدعاء.
وأحب بهذه المناسبة الكريمة أن أذكركم وأذكر نفسي بأنه يجب علينا أن نحسن نياتنا في كل أعمالنا، ونخلص القصد فيها لله رب العالمين ابتغاء مرضاته وطمعًا في ثوابه وخوفًا من عقابه، فإن الله تعالى لا يقبل عملًا حجًا أو غيره إلا إذا كان صاحبه مخلصًا فيه لربه الذي خلقه ورزقه والذي يُحييه ويميته وإليه النشور، قال تعالى: وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاء [البينة:5]. وقال تعالى: فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَّهُ الدِّينَ [الزمر:2].
كما يجب علينا أن نتأسى برسول الله ﷺ في كل أعمالنا وأحوالنا في الحج وفي غيره؛ لأن الله أمرنا بطاعته ومتابعته والاقتداء به، ووعد على ذلك محبته وجنته ورضوانه، قال تعالى: قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ [آل عمران:31]، وقال سبحانه: قُلْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَالرَّسُولَ فإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ الْكَافِرِينَ [آل عمران:32]، وقال تعالى: مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللّهَ وَمَن تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا [النساء:80]، وقال سبحانه: وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ [الحشر:7].
وقد حذرنا الله تعالى من مخالفة أمره فقال تعالى: فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ  [النور:63].
فإن بيان المشروع من العبادات والأعمال لا يعرف إلا من طريق رسول الله ﷺ، الذي أمره الله أن يبين للناس ما نزل إليهم من ربهم، فقال تعالى: وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ [النحل:44].
 لذلك أمرنا الرسول ﷺ أن نأخذ عنه مناسكنا، كما أمرنا أن نصلي كما كان يصلي، وقد قال الله تعالى: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا [الأحزاب:21].
فاحرصوا يا حجاج بيت الله أن يكون حجكم وجميع عبادتكم خالصة لله وموافقة لهدي رسول الله ﷺ.
وما جهلتم من ذلك فاسألوا أهل العلم، لتكونوا على بينة من أمركم عملًا بقول الله تعالى: فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ [النحل:43].
واعلموا أنكم خرجتم من دياركم وأموالكم وفارقتم أوطانكم وأهليكم تبتغون فضلًا من ربكم وتطمعون في أجره وثوابه، فاحرصوا على ذلك، ولا تضيعوا أوقاتكم سدى، وحافظوا على أداء الصلوات في أوقاتها جماعة، ما استطعتم إلى ذلك سبيلًا، ومروا بالمعروف وانهوا عن المنكر وابذلوا النصيحة لإخوانكم في رفق ولين، وبالحكمة والموعظة الحسنة فالدال على الخير كفاعله، والله يقول: وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [آل عمران:104].
وخير الناس أنفعهم للناس فابذلوا من أنفسكم ومالكم ونصحكم وعونكم لإخوانكم وخاصة رفقتكم، واحذروا الخصام والجدال وإيذاء المسلمين بأي نوع من أنواع الإيذاء ولو بالمزاحمة عند الحجر الأسود وفي رمي الجمرات وفي كل موطن يشتد فيه الزحام، فالمسلم حقًا من سلم المسلمون من لسانه ويده، والله تعالى يقول: الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللّهُ وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ [البقرة:197].
فراقبوا الله في السر والعلن في أنفسكم وفي أعمالكم وفي إخوانكم عملًا بقول الله تعالى: وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ [المائدة:2].
ولا تنسوا وأنتم في هذا الموقف العظيم موقف الاستجابة لله وتلبية ندائه، لا تنسوا إخوانًا لكم هم الآن يقاتلون عدو الله وعدوكم في كثير من بلاد المسلمين، أجلب عليهم العدو بخيله ورجاله ومؤامراته ومكره وشرد نساءهم وأطفالهم، وهم في حاجة إلى كل عون فلا تبخلوا عليهم بما تستطيعون، واعلموا أن لهم حقًا في أموالكم فلا تمنعوا عنهم حقهم، قال الله تعالى: وَأَن تَصَدَّقُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ [البقرة:280]. 
وإن فاتكم شرف الجهاد بالنفس فلا يفوتنكم أجر الجهاد بالمال والدعاء والإنفاق في سبيل الله، فمن جهز غازيًا فقد غزا، ومن خلف غازيًا في أهله بخير فقد غزا، قال تعالى: وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا [المزمل:20]، والله تعالى يقول: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ ۝ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ [الصف:10، 11].
وإن في بلاد المسلمين صحوة شبابية إسلامية رغم الكبت والضيق الذي يعانونه من كثير من الحكام، هم كذلك في حاجة ماسة إلى تشجيعكم وتأييدكم المادي والمعنوي فلا تضنوا عليهم بذلك، فما أحوجنا إلى شباب مسلم بصير بدينه متمسك به؛ لأن معركتنا مع أعداء الإسلام طويلة ضارية ونحن فيها محتاجون لكل طاقة من طاقات المسلمين، وأنتم تعلمون بما حل بالقدس الشريف والمسجد الأقصى نعم نحن محتاجون في هذه المعركة إلى مال الأغنياء وجهد الفقراء، محتاجون فيها إلى حكمة الشيوخ وعزم الشباب، محتاجون فيها إلى إقدام الرجال وعون النساء، والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه.
وقد قضى الله تعالى أن لا ينتصر الإسلام إلا بجهاد أتباعه ضد أعدائه، كما قال تعالى: ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاء اللَّهُ لَانتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِن لِّيَبْلُوَ بَعْضَكُم بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَن يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ ۝ سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ ۝ وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ ۝ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ [محمد:4-7]، ومن أصدق من الله قولًا ومن أوفى من الله وعدًا؟
وفقنا الله وإياكم لما فيه صلاح ديننا ودنيانا وهيأ لنا من أمرنا رشدًا ونصرنا على أنفسنا وأعدائنا، كما نسأله أن يوفق حكام المسلمين لما فيه سعادتهم وعزهم ونجاتهم ونجاة شعوبهم في الدنيا والآخرة ويرزقهم البطانة الصالحة، إنه نعم المولى ونعم النصير.
وصلى الله على سيدنا محمد عبده ورسوله وآله وصحبه والتابعين لهم بإحسان، وسلم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين[1].
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
 
  1. نشر في مجلة التوعية الإسلامية في (الحج) العدد الأول في 10/11/1400هـ. (مجموع فتاوى ومقالات ابن باز 16/ 249).